الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ ﴿والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ﴾ ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ ﴿والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهُ أنَّهُ اسْتَثْنى رَبَّ العالَمِينَ، حَكى عَنْهُ أيْضًا ما وصَفَهُ بِهِ مِمّا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ لِأجْلِهِ، ثُمَّ حَكى عَنْهُ ما سَألَهُ عَنْهُ، أمّا الأوْصافُ فَأرْبَعَةٌ: أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ أثْنى عَلى نَفْسِهِ بِهَذَيْنِ الأمْرَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى﴾ ﴿والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى﴾ [الأعلى: ٢، ٣] واعْلَمْ أنَّ الخَلْقَ والهِدايَةَ بِهِما يَحْصُلُ جَمِيعُ المَنافِعِ لِكُلِّ مَن يَصِحُّ الِانْتِفاعُ عَلَيْهِ، فَلْنَتَكَلَّمْ في الإنْسانِ فَنَقُولُ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ، فَمِنهم مَن قالَ: هو مِن عالَمِ الخَلْقِ والجُسْمانِيّاتِ، ومَن قالَ: هو مِن عالَمِ الأمْرِ والرُّوحانِيّاتِ، وتَرْكِيبُ البَدَنِ الَّذِي هو مِن عالَمِ الخَلْقِ مُقَدَّمٌ عَلى إعْطاءِ القَلْبِ الَّذِي هو مِن عالَمِ الأمْرِ عَلى ما أخْبَرَ عَنْهُ سُبْحانَهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ [الحجر: ٢٩] فالتَّسْوِيَةُ إشارَةٌ إلى تَعْدِيلِ المِزاجِ وتَرْكِيبِ الأمْشاجِ، ونَفْخُ الرُّوحِ إشارَةٌ إلى اللَّطِيفَةِ الرَّبّانِيَّةِ النُّورانِيَّةِ الَّتِي هي مِن عالَمِ الأمْرِ، وأيْضًا قالَ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] ولَمّا تَمَّمَ مَراتِبَ تَغَيُّراتِ الأجْسامِ قالَ: ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤] وذَلِكَ إشارَةٌ إلى الرُّوحِ الَّذِي هو مِن عالَمِ المَلائِكَةِ، ولا شَكَّ أنَّ الهِدايَةَ إنَّما تَحْصُلُ مِنَ الرُّوحِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الآياتِ أنَّ الخَلْقَ مُقَدَّمٌ عَلى الهِدايَةِ. أمّا تَحْقِيقُهُ بِحَسَبِ المَباحِثِ الحَقِيقِيَّةِ، فَهو أنَّ بَدَنَ الإنْسانِ إنَّما يَتَوَلَّدُ عِنْدَ امْتِزاجِ المَنِيِّ بِدَمِ الطَّمْثِ، وهُما إنَّما يَتَوَلَّدانِ مِنَ الأغْذِيَةِ المُتَوَلِّدَةِ مَن تَرَكُّبِ العَناصِرِ الأرْبَعَةَ وتَفاعُلِها، فَإذا امْتَزَجَ المَنِيُّ بِالدَّمِ فَلا يَزالُ ما فِيها مِنَ الحارِّ والبارِدِ والرَّطْبِ واليابِسِ مُتَفاعِلًا، وما في كُلِّ واحِدٍ مِنها مِنَ القُوى كاسِرًا سَوْرَةَ كَيْفِيَّةِ الآخَرِ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ مِن تَفاعُلِهِما كَيْفِيَّةً مُتَوَسِّطَةً تَسْتَحِرُّ بِالقِياسِ إلى البارِدِ وتَسْتَبْرِدُ بِالقِياسِ إلى الحارِّ، وكَذا القَوْلُ في الرَّطْبِ واليابِسِ، وحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الِاسْتِعْدادُ لِقَبُولِ قُوًى مُدَبِّرَةٍ لِذَلِكَ المُرَكَّبِ فَبَعْضُها قُوًى نَباتِيَّةٌ وهي الَّتِي (p-١٢٥)تَجْذِبُ الغِذاءَ، ثُمَّ تُمْسِكُهُ ثُمَّ تَهْضِمُهُ ثُمَّ تَدْفَعُ الفَضْلَةَ المُؤْذِيَةَ، ثُمَّ تُقِيمُ تِلْكَ الأجْزاءَ بَدَلَ ما تَحَلَّلَ مِنها، ثُمَّ تَزِيدُ في جَوْهَرِ الأعْضاءِ طُولًا وعَرْضًا، ثُمَّ يَفْضُلُ عَنْ تِلْكَ المَوادِّ فَضْلَةٌ يُمْكِنُ أنْ يَتَوَلَّدَ عَنْها مِثْلُ ذَلِكَ، ومِنها قُوًى حَيَوانِيَّةٌ بَعْضُها مُدْرِكَةٌ كالحَواسِّ الخَمْسِ والخَيالِ والحِفْظِ والذِّكْرِ، وبَعْضُها فاعِلَةٌ: إمّا آمِرَةٌ: كالشَّهْوَةِ والغَضَبِ أوْ مَأْمُورَةٌ: كالقُوى المَرْكُوزَةِ في العَضَلاتِ، ومِنها قُوًى إنْسانِيَّةٌ وهي إمّا مُدْرِكَةٌ أوْ عامِلَةٌ، والقُوى المُدْرِكَةُ هي القُوى القَوِيَّةُ عَلى إدْراكِ حَقائِقِ الأشْياءِ الرُّوحانِيَّةِ والجُسْمانِيَّةِ والعُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ، ثُمَّ إنَّكَ إذا فَتَّشْتَ عَنْ كُلِّ واحِدَةٍ مِن مُرَكَّباتِ هَذا العالِمِ الجُسْمانِيِّ ومُفْرَداتِها وجَدْتَ لَها أشْياءَ تُلائِمُها وتُكْمِلُ حالَها وأشْياءَ تُنافِرُها وتُفْسِدُ حالَها، ووَجَدْتَ فِيها قُوًى جَذّابَةً لِلْمُلائِمِ دافِعَةً لِلْمُنافِي، فَقَدْ ظَهَرَ أنَّ صَلاحَ الحالِ في هَذِهِ الأشْياءِ لا يَتِمُّ إلّا بِالخَلْقِ والهِدايَةِ. أمّا الخَلْقُ فَبِتَصْيِيرِهِ مَوْجُودًا بَعْدَ أنْ كانَ مَعْدُومًا، وأمّا الهِدايَةُ فَبِتِلْكَ القُوى الجَذّابَةِ لِلْمَنافِعِ والدّافِعَةِ لِلْمَضارِّ فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ كَلِمَةٌ جامِعَةٌ حاوِيَةٌ لِجَمِيعِ المَنافِعِ في الدُّنْيا والدِّينِ، ثُمَّ هَهُنا دَقِيقَةٌ وهو أنَّهُ قالَ: ﴿خَلَقَنِي﴾ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الماضِي وقالَ: ﴿يَهْدِينِ﴾ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ المُسْتَقْبَلِ، والسَّبَبُ في ذَلِكَ أنَّ خَلْقَ الذّاتِ لا يَتَجَدَّدُ في الدُّنْيا، بَلْ لَمّا وقَعَ بَقِيَ إلى الأمَدِ المَعْلُومِ. أمّا هِدايَتُهُ تَعالى فَهي مِمّا يَتَكَرَّرُ كُلَّ حِينٍ وأوانٍ سَواءً كانَ ذَلِكَ هِدايَةً في المَنافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وذَلِكَ بِأنَّ تَحَكُّمَ الحَواسِّ بِتَمْيِيزِ المَنافِعِ عَنِ المَضارِّ أوْ في المَنافِعِ الدِّينِيَّةِ وذَلِكَ بِأنْ يَحْكُمَ العَقْلِ بِتَمْيِيزِ الحَقِّ عَنِ الباطِلِ والخَيْرِ عَنِ الشَّرِّ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أنَّهُ سُبْحانَهُ هو الَّذِي خَلَقَهُ بِسائِرِ ما تَكامَلَ بِهِ خَلْقُهُ في الماضِي دُفْعَةً واحِدَةً، وأنَّهُ يَهْدِيهِ إلى مَصالِحِ الدِّينِ والدُّنْيا بِضُرُوبِ الهِداياتِ في كُلِّ لَحْظَةٍ ولَمْحَةٍ. وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ﴾ وقَدْ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ ما يَتَّصِلُ بِمَنافِعِ الرِّزْقِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ إذا خَلَقَ لَهُ الطَّعامَ ومَلَّكَهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ما يَتَمَكَّنُ بِهِ مِن أكْلِهِ والِاغْتِذاءِ بِهِ نَحْوَ الشَّهْوَةِ والقُوَّةِ والتَّمْيِيزِ لَمْ تَكْمُلْ هَذِهِ النِّعْمَةُ، وذَكَرَ الطَّعامَ والشَّرابَ ونَبَّهَ بِذِكْرِهِما عَلى ما عَداهُما. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ وفِيهِ سُؤالٌ وهو أنَّهُ لِمَ قالَ: ﴿مَرِضْتُ﴾ دُونَ أمْرَضَنِي ؟ وجَوابُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ كَثِيرًا مِن أسْبابِ المَرَضِ يَحْدُثُ بِتَفْرِيطٍ مِنَ الإنْسانِ في مَطاعِمِهِ ومَشارِبِهِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ومِن ثَمَّ قالَتِ الحُكَماءُ: لَوْ قِيلَ لَأكْثَرِ المَوْتى ما سَبَبُ آجالِكم ؟ لَقالُوا التُّخَمُ. الثّانِي: أنَّ المَرَضَ إنَّما يَحْدُثُ بِاسْتِيلاءِ بَعْضِ الأخْلاطِ عَلى بَعْضٍ، وذَلِكَ الِاسْتِيلاءُ إنَّما يَحْصُلُ بِسَبَبِ ما بَيْنَها مِنَ التَّنافُرِ الطَّبِيعِيِّ. أمّا الصِّحَّةُ فَهي إنَّما تَحْصُلُ عِنْدَ بَقاءِ الأخْلاطِ عَلى اعْتِدالِها، وبَقاؤُها عَلى اعْتِدالِها إنَّما يَكُونُ بِسَبَبٍ قاهِرٍ يَقْهَرُها عَلى الِاجْتِماعِ، وعَوْدُها إلى الصِّحَّةِ إنَّما يَكُونُ أيْضًا بِسَبَبٍ قاهِرٍ يَقْهَرُها عَلى العَوْدِ إلى الِاجْتِماعِ والِاعْتِدالِ بَعْدَ أنْ كانَتْ بِطابَعِها مُشْتاقَةً إلى التَّفَرُّقِ والنِّزاعِ، فَلِهَذا السَّبَبِ أضافَ الشِّفاءَ إلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وما أضافَ المَرَضَ إلَيْهِ. وثالِثُها: وهو أنَّ الشِّفاءَ مَحْبُوبٌ وهو مِن أُصُولِ النِّعَمِ، وكانَ مَقْصُودُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ تَعْدِيدَ النِّعَمِ، ولَمّا لَمْ يَكُنِ المَرَضُ مِنَ النِّعَمِ لا جَرَمَ لَمْ يُضِفْهُ إلَيْهِ تَعالى، فَإنْ نَقَضْتَهُ بِالإماتَةِ فَجَوابُهُ: أنَّ المَوْتَ لَيْسَ بِضَرَرٍ، لِأنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ ضَرَرًا وُقُوعُ الإحْساسِ بِهِ، وحالَ حُصُولِ المَوْتِ لا يَقَعُ الإحْساسُ بِهِ، إنَّما الضَّرَرُ في مُقَدِّماتِهِ وذَلِكَ هو عَيْنُ المَرَضِ، وأيْضًا فَلِأنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أنَّ الأرْواحَ إذا كَمُلَتْ في العُلُومِ والأخْلاقِ كانَ بَقاؤُها في هَذِهِ الأجْسادِ عَيْنَ الضَّرَرِ وخُلاصَتُها عَنْها عَيْنَ السَّعادَةِ بِخِلافِ المَرَضِ. ورابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ والمُرادُ مِنهُ الإماتَةُ في الدُّنْيا والتَّخَلُّصُ عَنْ آفاتِها وعُقُوباتِها، والمُرادُ مِنَ الإحْياءِ المُجازاةُ. وخامِسُها: قَوْلُهُ: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ فَهو إشارَةٌ إلى (p-١٢٦)ما هو مَطْلُوبُ كُلِّ عاقِلٍ مِنَ الخَلاصِ عَنِ العَذابِ والفَوْزِ بِالثَّوابِ. واعْلَمْ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ جَمَعَ في هَذِهِ الألْفاظِ جَمِيعَ نِعَمِ اللَّهِ تَعالى مِن أوَّلِ الخَلْقِ إلى آخِرِ الأبَدِ في الدّارِ الآخِرَةِ. * * * ثُمَّ هَهُنا أسْئِلَةٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لِمَ قالَ: ﴿والَّذِي أطْمَعُ﴾ والطَّمَعُ عِبارَةٌ عَنِ الظَّنِّ والرَّجاءِ، وإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ قاطِعًا بِذَلِكَ ؟ جَوابُهُ: أنَّ هَذا الكَلامَ لا يَسْتَقِيمُ إلّا عَلى مَذْهَبِنا، حَيْثُ قُلْنا: إنَّهُ لا يَجِبُ عَلى اللَّهِ لِأحَدٍ شَيْءٌ، وأنَّهُ يَحْسُنُ مِنهُ كُلُّ شَيْءٍ ولا اعْتِراضَ لِأحَدٍ عَلَيْهِ في فِعْلِهِ، وأجابَ الجُبّائِيُّ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾ أرادَ بِهِ سائِرَ المُؤْمِنِينَ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يَطْمَعُونَ ولا يَقْطَعُونَ بِهِ. الثّانِي: المُرادُ مِنَ الطَّمَعِ اليَقِينُ، وهو مَرْوِيٌّ عَنِ الحَسَنِ وأجابَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: بِأنَّهُ إنَّما ذَكَرَهُ عَلى هَذا الوجه تَعْلِيمًا مِنهُ لِأُمَّتِهِ كَيْفِيَّةَ الدُّعاءِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ ضَعِيفَةٌ: أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّ اللَّهَ تَعالى حَكى عَنْهُ الثَّناءَ أوَّلًا والدُّعاءَ ثانِيًا، ومِن أوَّلِ المَدْحِ إلى آخِرِ الدُّعاءِ كَلامُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَجَعَلَ الشَّيْءَ الواحِدَ وهو قَوْلُهُ: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ كَلامَ غَيْرِهِ مِمّا يُبْطِلُ نَظْمَ الكَلامِ ويُفْسِدُهُ. وأمّا الثّانِي: وهو أنَّ الطَّمَعَ هو اليَقِينُ فَهَذا عَلى خِلافِ اللُّغَةِ. وأمّا الثّالِثُ: وهو أنَّ الغَرَضَ مِنهُ تَعْلِيمُ الأُمَّةِ فَباطِلٌ أيْضًا لِأنَّ حاصِلَهُ يَرْجِعُ إلى أنَّهُ كَذَبَ عَلى نَفْسِهِ لِغَرَضِ تَعْلِيمِ الأُمَّةِ، وهو باطِلٌ قَطْعًا. السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ أسْنَدَ إلى نَفْسِهِ الخَطِيئَةَ مَعَ أنَّ الأنْبِياءَ مُنَزَّهُونَ عَنِ الخَطايا قَطْعًا ؟ وفي جَوابِهِ ثَلاثَةُ وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى كَذِبِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ: ﴿فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٣] وقَوْلِهِ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩] وقَوْلِهِ لِسارَّةَ: ”إنَّها أُخْتِي“ وهو ضَعِيفٌ لِأنَّ نِسْبَةَ الكَذِبِ إلَيْهِ غَيْرُ جائِزَةٍ. وثانِيها: أنَّهُ ذَكَرَهُ عَلى سَبِيلِ التَّواضُعِ وهَضْمِ النَّفْسِ وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّهُ إنْ كانَ صادِقًا في هَذا التَّواضُعِ فَقَدْ لَزِمَ الإشْكالُ، وإنْ كانَ كاذِبًا فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ حاصِلُ الجَوابِ إلى إلْحاقِ المَعْصِيَةِ بِهِ لِأجْلِ تَنْزِيهِهِ عَنِ المَعْصِيَةِ. وثالِثُها: وهو الجَوابُ الصَّحِيحُ أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى تَرْكِ الأوْلى، وقَدْ يُسَمّى ذَلِكَ خَطَأً فَإنَّ مَن مَلَكَ جَوْهَرَةً وأمْكَنَهُ أنْ يَبِيعَها بِألْفِ ألْفِ دِينارٍ فَإنْ باعَها بِدِينارٍ، قِيلَ إنَّهُ أخْطَأ، وتَرْكُ الأوْلى عَلى الأنْبِياءِ جائِزٌ. السُّؤالُ الثّالِثُ: لِمَ عَلَّقَ مَغْفِرَةَ الخَطِيئَةِ بِيَوْمِ الدِّينِ، وإنَّما تُغْفَرُ في الدُّنْيا ؟ جَوابُهُ: لِأنَّ أثَرَها يَظْهَرُ يَوْمَ الدِّينِ وهو الآنَ خَفِيٌّ لا يُعْلَمُ. السُّؤالُ الرّابِعُ: ما فائِدَةُ ”لِي“ في قَوْلِهِ: ﴿يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾ ؟ وجَوابُهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ الأبَ إذا عَفا عَنْ ولَدِهِ والسَّيِّدَ عَنْ عَبْدِهِ والزَّوْجَ عَنْ زَوْجَتِهِ فَذَلِكَ في أكْثَرِ الأمْرِ إنَّما يَكُونُ طَلَبًا لِلثَّوابِ وهَرَبًا عَنِ العِقابِ أوْ طَلَبًا لِحُسْنِ الثَّناءِ والمَحْمَدَةِ أوْ دَفْعًا لِلْألَمِ الحاصِلِ مِنَ الرِّقَّةِ الجِنْسِيَّةِ وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ العَفْوِ رِعايَةَ جانِبِ المَعْفُوِّ عَنْهُ بَلْ رِعايَةَ جانِبِ نَفْسِهِ، إمّا لِتَحْصِيلِ ما يَنْبَغِي أوْ لِدَفْعِ ما لا يَنْبَغِي، أمّا الإلَهُ سُبْحانَهُ فَإنَّهُ كامِلٌ لِذاتِهِ فَيَسْتَحِيلُ أنْ تَحْدُثَ لَهُ صِفاتُ كَمالٍ لَمْ تَكُنْ أوْ يَزُولَ عَنْهُ نُقْصانٌ كانَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَفْوُهُ إلّا رِعايَةً لِجانِبِ المَعْفُوِّ عَنْهُ فَقَوْلُهُ: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي﴾ يَعْنِي: هو الَّذِي إذا غَفَرَ كانَ غُفْرانُهُ لِي ولِأجْلِي لا لِأجْلِ أمْرٍ عائِدٍ إلَيْهِ البَتَّةَ. وثانِيها: كَأنَّهُ قالَ: خَلَقْتَنِي لا لِي فَإنَّكَ حِينَ خَلَقْتَنِي ما كُنْتُ مَوْجُودًا وإذا لَمْ أكُنْ مَوْجُودًا اسْتَحالَ تَحْصِيلُ شَيْءٍ لِأجْلِي ثُمَّ مَعَ هَذا فَأنْتَ خَلَقْتَنِي، أمّا لَوْ عَفَوْتَ كانَ (p-١٢٧)ذَلِكَ العَفْوُ لَأجْلِي، فَلَمّا خَلَقْتَنِي أوَّلًا مَعَ أنِّي كُنْتُ مُحْتاجًا إلى ذَلِكَ الخَلْقِ فَلِأنْ تَغْفِرَ لِي وتَعْفُوَ عَنِّي حالَ ما أكُونُ في أشَدِّ الحاجَةِ إلى العَفْوِ والمَغْفِرَةِ كانَ أوْلى. وثالِثُها: أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ لِشِدَّةِ اسْتِغْراقِهِ في بَحْرِ المَعْرِفَةِ شَدِيدَ الفِرارِ عَنِ الِالتِفاتِ إلى الوَسائِطِ، ولِذَلِكَ لَمّا قالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”ألَكَ حاجَةٌ ؟ قالَ: أمّا إلَيْكَ فَلا“ فَهَهُنا قالَ: ﴿أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ أيْ لِمُجَرَّدِ عُبُودِيَّتِي لَكَ واحْتِياجِي إلَيْكَ تَغْفِرُ لِي خَطِيئَتِي لا أنْ تَغْفِرَها لِي بِواسِطَةِ شَفاعَةِ شافِعٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب