الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ولَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِنًا ثُمَّ جَعَلْنا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ ﴿ثُمَّ قَبَضْناهُ إلَيْنا قَبْضًا يَسِيرًا﴾ ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباسًا والنَّوْمَ سُباتًا وجَعَلَ النَّهارَ نُشُورًا﴾ ﴿وهُوَ الَّذِي أرْسَلَ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا﴾ ﴿لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ونُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أنْعامًا وأناسِيَّ كَثِيرًا﴾ . (p-٧٧)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ جَهْلَ المُعْرِضِينَ عَنْ دَلائِلِ اللَّهِ تَعالى وفَسادِ طَرِيقِهِمْ في ذَلِكَ ذَكَرَ بَعْدَهُ أنْواعًا مِنَ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ: النوع الأوَّلُ: الِاسْتِدْلالُ بِحالِ الظِّلِّ في زِيادَتِهِ ونُقْصانِهِ وتَغَيُّرِهِ مِن حالٍ إلى حالٍ، وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿ألَمْ تَرَ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مِن رُؤْيَةِ العَيْنِ. والثّانِي: أنَّهُ مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ، يَعْنِي العِلْمَ، فَإنْ حَمَلْناهُ عَلى رُؤْيَةِ العَيْنِ فالمَعْنى: ألَمْ تَرَ إلى الظِّلِّ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ، وإنْ كانَ تَخْرِيجُ لَفْظِهِ عَلى عادَةِ العَرَبِ أفْصَحَ. وإنْ حَمَلْناهُ عَلى العِلْمِ، وهو اخْتِيارُ الزَّجّاجِ، فالمَعْنى: ألَمْ تَعْلَمْ، وهَذا أوْلى، وذَلِكَ أنَّ الظِّلَّ إذا جَعَلْناهُ مِنَ المُبْصَراتِ فَتَأْثِيرُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى في تَمْدِيدِهِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ بِالِاتِّفاقِ، ولَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِن حَيْثُ إنَّ كُلَّ مُتَغَيِّرٍ جائِزٌ وكُلُّ جائِزٍ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ، فَحَمْلُ هَذا اللَّفْظِ عَلى رُؤْيَةِ القَلْبِ أوْلى مِن هَذا الوجه. المسألة الثّانِيَةُ: المُخاطَبُ بِهَذا الخِطابِ، وإنْ كانَ هو الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِحَسَبِ ظاهِرِ اللَّفْظِ، ولَكِنَّ الخِطابَ عامٌّ في المَعْنى؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الآيَةِ بَيانُ نِعَمِ اللَّهِ تَعالى بِالظِّلِّ، وجَمِيعُ المُكَلَّفِينَ مُشْتَرِكُونَ في أنَّهُ يَجِبُ تَنَبُّهُهم لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وتَمَكُّنُهم مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِها عَلى وُجُودِ الصّانِعِ. المسألة الثّالِثَةُ: النّاسُ أكْثَرُوا في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، والكَلامُ المُلَخَّصُ يَرْجِعُ إلى وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الظِّلَّ هو الأمْرُ المُتَوَسِّطُ بَيْنَ الضَّوْءِ الخالِصِ وبَيْنَ الظُّلْمَةِ الخالِصَةِ، وهو ما بَيْنَ ظُهُورِ الفَجْرِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وكَذا الكَيْفِيّاتُ الحاصِلَةُ داخِلَ السَّقْفِ وأفْنِيَةِ الجُدْرانِ، وهَذِهِ الحالَةُ أطْيَبُ الأحْوالِ؛ لِأنَّ الظُّلْمَةَ الخالِصَةَ يَكْرَهُها الطَّبْعُ ويَنْفِرُ عَنْها الحِسُّ، وأمّا الضَّوْءُ الخالِصُ، وهو الكَيْفِيَّةُ الفائِضَةُ مِنَ الشَّمْسِ، فَهي لِقُوَّتِها تَبْهَرُ الحِسَّ البَصَرِيَّ، وتُفِيدُ السُّخُونَةَ القَوِيَّةَ، وهي مُؤْذِيَةٌ، فَإذَنْ أطْيَبُ الأحْوالِ هو الظِّلُّ، ولِذَلِكَ وصَفَ الجَنَّةَ بِهِ فَقالَ: ﴿وظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقِعَةِ: ٣٠] وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ أنَّهُ مِنَ النِّعَمِ العَظِيمَةِ والمَنافِعِ الجَلِيلَةِ، ثُمَّ إنَّ النّاظِرَ إلى الجِسْمِ المُلَوَّنِ وقْتَ الظِّلِّ كَأنَّهُ لا يُشاهِدُ شَيْئًا سِوى الجِسْمِ وسِوى اللَّوْنِ، ونَقُولُ: الظِّلُّ لَيْسَ أمْرًا ثالِثًا، ولا يُعْرَفُ بِهِ إلّا إذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ ووَقَعَ ضَوْءُها عَلى الجِسْمِ زالَ ذَلِكَ الظِّلُّ، فَلَوْلا الشَّمْسُ ووُقُوعُ ضَوْئِها عَلى الأجْرامِ لَما عُرِفَ أنَّ لِلظِّلِّ وُجُودًا وماهِيَّةً؛ لِأنَّ الأشْياءَ إنَّما تُعْرَفُ بِأضْدادِها، فَلَوْلا الشَّمْسُ لَما عُرِفَ الظِّلُّ، ولَوْلا الظُّلْمَةُ لَما عُرِفَ النُّورُ، فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا طَلَعَ الشَّمْسُ عَلى الأرْضِ وزالَ الظِّلُّ، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ أنَّ الظِّلَّ كَيْفِيَّةٌ زائِدَةٌ عَلى الجِسْمِ واللَّوْنِ، فَلِهَذا قالَ سُبْحانَهُ: ﴿ثُمَّ جَعَلْنا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ أيْ خَلَقْنا الظِّلَّ أوَّلًا بِما فِيهِ مِنَ المَنافِعِ واللَّذّاتِ، ثُمَّ إنّا هَدَيْنا العُقُولَ إلى مَعْرِفَةِ وجُودِهِ بِأنْ أطْلَعْنا الشَّمْسَ، فَكانَتِ الشَّمْسُ دَلِيلًا عَلى وُجُودِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، ثُمَّ قَبَضْناهُ؛ أيْ: أزَلْنا الظِّلَّ لا دَفْعَةً بَلْ يَسِيرًا يَسِيرًا، فَإنَّ كُلَّما ازْدادَ ارْتِفاعُ الشَّمْسِ ازْدادَ نُقْصانُ الظِّلِّ في جانِبِ المَغْرِبِ، ولَمّا كانَتِ الحَرَكاتُ المَكانِيَّةُ لا تُوجَدُ دَفْعَةً، بَلْ يَسِيرًا يَسِيرًا، فَكَذا زَوالُ الإظْلالِ لا يَكُونُ دَفْعَةً، بَلْ يَسِيرًا يَسِيرًا، ولِأنَّ قَبْضَ الظِّلِّ لَوْ حَصَلَ دَفْعَةً لاخْتَلَّتِ المَصالِحُ، ولَكِنَّ قَبْضَها يَسِيرًا يَسِيرًا يُفِيدُ مَعَهُ أنْواعَ مَصالِحِ العالَمِ، والمُرادُ بِالقَبْضِ الإزالَةُ والإعْدامُ، هَذا أحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ. التَّأْوِيلُ الثّانِي: وهو أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا خَلَقَ الأرْضَ والسَّماءَ وخَلَقَ الكَواكِبَ والشَّمْسَ والقَمَرَ، وقَعَ الظِّلُّ عَلى الأرْضِ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ الشَّمْسَ دَلِيلًا عَلَيْهِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ بِحَسَبِ حَرَكاتِ الأضْواءِ تَتَحَرَّكُ الأظْلالُ فَإنَّهُما مُتَعاقِبانِ مُتَلازِمانِ، لا واسِطَةَ بَيْنَهُما، فَبِمِقْدارِ ما يَزْدادُ أحَدُهُما يَنْقُصُ الآخَرُ، وكَما أنَّ المُهْتَدِيَ (p-٧٨)يَهْتَدِي بِالهادِي والدَّلِيلِ ويُلازِمُهُ، فَكَذا الأظْلالُ كَأنَّها مُهْتَدِيَةٌ ومُلازِمَةٌ لِلْأضْواءِ، فَلِهَذا جَعَلَ الشَّمْسَ دَلِيلًا عَلَيْها. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ قَبَضْناهُ إلَيْنا قَبْضًا يَسِيرًا﴾ فَإمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ انْتِهاءَ الأظْلالِ يَسِيرًا يَسِيرًا إلى غايَةِ نُقْصاناتِها، فَسَمّى إزالَةَ الأظْلالِ قَبْضًا لَها، أوْ يَكُونُ المُرادُ مِن قَبْضِها يَسِيرًا قَبْضَها عِنْدَ قِيامِ السّاعَةِ، وذَلِكَ بِقَبْضِ أسْبابِها، وهي الأجْرامُ الَّتِي تُلْقِي الأظْلالَ. وقَوْلُهُ: ﴿يَسِيرًا﴾ هو كَقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ﴾ [ق: ٤٤]، فَهَذا هو التَّأْوِيلُ المُلَخَّصُ. المسألة الرّابِعَةُ: وجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ المُحْسِنِ أنَّ حُصُولَ الظِّلِّ أمْرٌ نافِعٌ لِلْأحْياءِ والعُقَلاءِ، وأمّا حُصُولُ الضَّوْءِ الخالِصِ، أوِ الظُّلْمَةِ الخالِصَةِ، فَهو لَيْسَ مِن بابِ المَنافِعِ، فَحُصُولُ ذَلِكَ الظِّلِّ إمّا أنْ يَكُونَ مِنَ الواجِباتِ أوْ مِنَ الجائِزاتِ، والأوَّلُ باطِلٌ، وإلّا لَما تَطَرَّقَ التَّغَيُّرُ إلَيْهِ؛ لِأنَّ الواجِبَ لا يَتَغَيَّرُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مِنَ الجائِزاتِ، فَلا بُدَّ لَهُ في وُجُودِهِ بَعْدَ العَدَمِ، وعَدَمِهِ بَعْدَ الوُجُودِ، مِن صانِعٍ قادِرٍ مُدَبِّرٍ مُحْسِنٍ يُقَدِّرُهُ بِالوجه النّافِعِ، وما ذاكَ إلّا مَن يَقْدِرُ عَلى تَحْرِيكِ الأجْرامِ العُلْوِيَّةِ وتَدْبِيرِ الأجْسامِ الفَلَكِيَّةِ وتَرْتِيبِها عَلى الوَصْفِ الأحْسَنِ والتَّرْتِيبِ الأكْمَلِ، وما هو إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى. فَإنْ قِيلَ: الظِّلُّ عِبارَةٌ عَنْ عَدَمِ الضَّوْءِ عَمّا شَأْنُهُ أنْ يُضِيءَ، فَكَيْفَ اسْتَدَلَّ بِالأمْرِ العَدَمِيِّ عَلى ذاتِهِ، وكَيْفَ عَدَّهُ مِنَ النِّعَمِ ؟ قُلْنا: الظِّلُّ لَيْسَ عَدَمًا مَحْضًا، بَلْ هو أضْواءٌ مَخْلُوطَةٌ بِظُلَمٍ، والتَّحْقِيقُ أنَّ الظِّلَّ عِبارَةٌ عَنِ الضَّوْءِ الثّانِي، وهو أمْرٌ وُجُودِيٌّ، وفي تَحْقِيقِهِ وبَسْطِهِ كَلامٌ دَقِيقٌ يُرْجَعُ فِيهِ إلى كُتُبِنا العَقْلِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب