الباحث القرآني

الحُكْمُ الرّابِعُ: حُكْمُ اللِّعانِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهم ولَمْ يَكُنْ لَهم شُهَداءُ إلّا أنْفُسُهم فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿والخامِسَةُ أنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كانَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ أنْ تَشْهَدَ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الكاذِبِينَ﴾ ﴿والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ وأنَّ اللَّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا ذَكَرَ أحْكامَ قَذْفِ الأجْنَبِيّاتِ عَقَّبَهُ بِأحْكامِ قَذْفِ الزَّوْجاتِ، ثُمَّ هَذِهِ الآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلى أبْحاثٍ: البَحْثُ الأوَّلُ: في سَبَبِ نُزُولِهِ وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَحِمَهُما اللَّهُ: «”لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ قالَ عاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ الأنْصارِيُّ إنْ دَخَلَ مِنّا رَجُلٌ بَيْتَهُ فَوَجَدَ رَجُلًا عَلى بَطْنِ امْرَأتِهِ فَإنْ جاءَ بِأرْبَعَةِ رِجالٍ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ فَقَدْ قَضى الرَّجُلُ حاجَتَهُ وخَرَجَ، وإنْ قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ، وإنْ قالَ وجَدْتُ فُلانًا مَعَ تِلْكَ المَرْأةِ ضُرِبَ وإنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى غَيْظٍ. اللَّهُمَّ افْتَحْ. وكانَ لِعاصِمٍ هَذا ابْنُ عَمٍّ يُقالُ لَهُ عُوَيْمِرٌ ولَهُ امْرَأةٌ يُقالُ لَها خَوْلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، فَأتى عُوَيْمِرٌ عاصِمًا فَقالَ: لَقَدْ رَأيْتُ شَرِيكَ بْنَ سَحْماءَ عَلى بَطْنِ امْرَأتِي خَوْلَةَ فاسْتَرْجَعَ عاصِمٌ وأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ يا رَسُولَ اللَّهِ ما أسْرَعَ ما ابْتُلِيتُ بِهَذا في أهْلِ بَيْتِي، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وما ذاكَ ؟ فَقالَ أخْبَرَنِي عُوَيْمِرٌ ابْنُ عَمِّي بِأنَّهُ رَأى شَرِيكَ بْنَ سَحْماءَ عَلى بَطْنِ امْرَأتِهِ خَوْلَةَ وكانَ عُوَيْمِرٌ وخَوْلَةُ وشَرِيكٌ كُلُّهم بَنُو عَمِّ عاصِمٍ فَدَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِهِمْ جَمِيعًا، وقالَ لِعُوَيْمِرٍ اتَّقِ اللَّهَ في زَوْجَتِكَ وابْنَةِ عَمِّكَ ولا تَقْذِفْها، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أُقْسِمُ بِاللَّهِ أنِّي رَأيْتُ شَرِيكًا عَلى بَطْنِها (p-١٤٤)وأنِّي ما قَرَبْتُها مُنْذُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، وأنَّها حُبْلى مِن غَيْرِي، فَقالَ لَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ اتَّقِي اللَّهَ ولا تُخْبِرِي إلّا بِما صَنَعْتِ، فَقالَتْ يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عُوَيْمِرًا رَجُلٌ غَيُورٌ، وإنَّهُ رَأى شَرِيكًا يُطِيلُ النَّظَرَ إلَيَّ ويَتَحَدَّثُ، فَحَمَلَتْهُ الغَيْرَةُ عَلى ما قالَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ فَأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتّى نُودِيَ: الصَّلاةُ جامِعَةٌ فَصَلّى العَصْرَ ثم قال لِعُوَيْمِرٍ قُمْ وقُلْ أشْهَدُ بِاللَّهِ أنَّ خَوْلَةَ لَزانِيَةٌ وإنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ. ثم قال في الثّانِيَةِ قُلْ أشْهَدُ بِاللَّهِ أنِّي رَأيْتُ شَرِيكًا عَلى بَطْنِها وإنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ، ثم قال في الثّالِثَةِ قُلْ أشْهَدُ بِاللَّهِ أنَّها حُبْلى مِن غَيْرِي وإنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ، ثم قال في الرّابِعَةِ قُلْ أشْهَدُ بِاللَّهِ أنَّها زانِيَةٌ وأنِّي ما قَرَبْتُها مُنْذُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ وإنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ. ثم قال في الخامِسَةِ قُلْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى عُوَيْمِرٍ يَعْنِي نَفْسَهُ إنْ كانَ مِنَ الكاذِبِينَ فِيما قالَ. ثم قال: اقْعُدْ، وقالَ لِخَوْلَةَ قُومِي، فَقامَتْ وقالَتْ أشْهَدُ بِاللَّهِ ما أنا بِزانِيَةٍ وإنَّ زَوْجِي عُوَيْمِرًا لَمِنَ الكاذِبِينَ، وقالَتْ في الثّانِيَةِ أشْهَدُ بِاللَّهِ ما رَأى شَرِيكًا عَلى بَطْنِي وإنَّهُ لَمِنَ الكاذِبِينَ، وقالَتْ في الثّالِثَةِ أشْهَدُ بِاللَّهِ أنِّي حُبْلى مِنهُ وإنَّهُ لَمِنَ الكاذِبِينَ، وقالَتْ في الرّابِعَةِ أشْهَدُ بِاللَّهِ أنَّهُ ما رَآنِي عَلى فاحِشَةٍ قَطُّ وإنَّهُ لَمِنَ الكاذِبِينَ، وقالَتْ في الخامِسَةِ غَضَبُ اللَّهِ عَلى خَوْلَةَ إنْ كانَ عُوَيْمِرٌ مِنَ الصّادِقِينَ في قَوْلِهِ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُما“» . وثانِيها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في رِوايَةِ الكَلْبِيِّ: ”«أنَّ عاصِمًا ذاتَ يَوْمٍ رَجَعَ إلى أهْلِهِ فَوَجَدَ شَرِيكَ بْنَ سَحْماءَ عَلى بَطْنِ امْرَأتِهِ فَأتى رَسُولَ اللَّهِ» ﷺ “ وتَمامُ الحَدِيثِ كَما تَقَدَّمَ. وثالِثُها: ما رَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «”لَمّا نَزَلَ ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ قالَ سَعْدُ بْنُ عُبادَةَ وهو سَيِّدُ الأنْصارِ لَوْ وجَدْتُ رَجُلًا عَلى بَطْنِها فَإنِّي إنْ جِئْتُ بِأرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهَداءِ يَكُونُ قَدْ قَضى حاجَتَهُ وذَهَبَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يا مَعْشَرَ الأنْصارِ أما تَسْمَعُونَ ما يَقُولُ سَيِّدُكم ؟ فَقالُوا يا رَسُولَ اللَّهِ لا تَلُمْهُ فَإنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، فَقالَ سَعْدٌ يا رَسُولَ اللَّهِ واللَّهِ إنِّي لَأعْرِفُ أنَّها مِنَ اللَّهِ وأنَّها حَقٌّ، ولَكِنِّي عَجِبْتُ مِنهُ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْبى إلّا ذَلِكَ، قالَ فَلَمْ يَلْبَثُوا إلّا يَسِيرًا حَتّى جاءَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ يُقالُ لَهُ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ وهو أحَدُ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقالَ يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي وجَدْتُ مَعَ امْرَأتِي رَجُلًا رَأيْتُ بِعَيْنِي وسَمِعْتُ بِأُذُنِي، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ما جاءَ بِهِ. فَقالَ هِلالٌ واللَّهِ يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَأرى الكَراهَةَ في وجْهِكَ مِمّا أخْبَرْتُكَ بِهِ، واللَّهُ يَعْلَمُ أنِّي لَصادِقٌ، وما قَلْتُ إلّا حَقًّا، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:“ إمّا البَيِّنَةُ وإمّا إقامَةُ الحَدِّ عَلَيْكَ ”فاجْتَمَعَتِ الأنْصارُ فَقالُوا: ابْتُلِينا بِما قالَ سَعْدٌ، فَبَيْنا هم كَذَلِكَ إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، وكانَ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ ارْبَدَّ وجْهُهُ، وعَلا جَسَدَهُ حُمْرَةٌ، فَلَمّا سُرِّيَ عَنْهُ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: أبْشِرْ يا هِلالُ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا، قالَ قَدْ كُنْتُ أرْجُو ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعالى فَقَرَأ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآياتِ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ادْعُوها، فَدُعِيَتْ فَكَذَّبَتْ هِلالًا، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كاذِبٌ، فَهَلْ مِنكُما تائِبٌ، وأمَرَ بِالمُلاعَنَةِ، فَشَهِدَ هِلالٌ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَهُ عِنْدَ الخامِسَةِ: اتَّقِ اللَّهَ يا هِلالُ، فَإنَّ عَذابَ الدُّنْيا أهْوَنُ مِن عَذابِ الآخِرَةِ، فَقالَ واللَّهِ لا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْها كَما لَمْ يَجْلِدْنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وشَهِدَ الخامِسَةَ. ثم قال رَسُولُ اللَّهِ أتَشْهَدِينَ، فَشَهِدَتْ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ أنَّهُ لَمِنَ الكاذِبِينَ، فَلَمّا أخَذَتْ في الخامِسَةِ، قالَ لَها اتَّقِي اللَّهَ، فَإنَّ الخامِسَةَ هي المُوجِبَةُ، فَتَفَكَّرَتْ ساعَةً، وهَمَّتْ بِالِاعْتِرافِ ثُمَّ قالَتْ واللَّهِ لا أفْضَحُ قَوْمِي، وشَهِدَتِ الخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُما، ثم قال: انْظُرُوها إنْ جاءَتْ بِهِ أُثَيْبِجَ أصْهَبَ أحْمَشَ السّاقَيْنِ فَهو لِهِلالٍ، وإنْ جاءَتْ بِهِ خَدَلَّجَ السّاقَيْنِ أوْرَقَ جَعْدًا فَهو لِصاحِبِهِ، فَجاءَتْ بِهِ أوْرَقَ خَدَلَّجَ السّاقَيْنِ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: لَوْلا الأيْمانُ لَكانَ لِي ولَها شَأْنٌ“» قالَ عِكْرِمَةُ لَقَدْ رَأيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أمِيرَ مِصْرَ مِنَ الأمْصارِ ولا يَدْرِي مَن أبُوهُ ! . * * * (p-١٤٥)البَحْثُ الثّانِي: ما يَتَعَلَّقُ بِالقِراءَةِ قُرِئَ ولَمْ تَكُنْ بِالتّاءِ لِأنَّ الشُّهَداءَ جَماعَةٌ، أوْ لِأنَّهم في مَعْنى الأنْفُسِ، ووَجْهُ مَن قَرَأ أرْبَعَ أنْ يَنْصِبَ؛ لِأنَّهُ في حُكْمِ المَصْدَرِ، والعامِلُ فِيهِ المَصْدَرُ الَّذِي هو فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ، وهي مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ، فَتَقْدِيرُهُ فَواجِبُ شَهادَةِ أحَدِهِمْ أرْبَعَ شَهاداتٍ، وقُرِئَ أنْ لَعْنَةُ اللَّهِ وأنْ غَضَبُ اللَّهِ عَلى تَخْفِيفِ أنْ ورَفْعِ ما بَعْدَها، وقُرِئَ أنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلى فِعْلِ الغَضَبِ، وقُرِئَ بِنَصْبِ الخامِسَتَيْنِ عَلى مَعْنى ويَشْهَدُ الخامِسَةَ. * * * البَحْثُ الثّالِثُ: ما يَتَعَلَّقُ بِالأحْكامِ، والنَّظَرُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِأطْرافٍ: الطَّرَفُ الأوَّلُ: في مُوجِبِ اللِّعانِ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ إذا رَمى الرَّجُلُ امْرَأتَهُ بِالزِّنا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ إنْ كانَتْ مُحْصَنَةً، والتَّعْزِيرُ إنْ لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً، كَما في رَمْيِ الأجْنَبِيَّةِ لا يَخْتَلِفُ مُوجِبُهُما غَيْرَ أنَّهُما يَخْتَلِفانِ في المُخَلِّصِ، فَفي قَذْفِ الأجْنَبِيِّ لا يَسْقُطُ الحَدُّ عَنِ القاذِفِ إلّا بِإقْرارِ المَقْذُوفِ، أوْ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلى زِناها، وفي قَذْفِ الزَّوْجَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الحَدُّ بِأحَدِ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ أوْ بِاللِّعانِ، وإنَّما اعْتَبَرَ الشَّرْعُ اللِّعانَ في هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الأجْنَبِيّاتِ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ لا مَعَرَّةَ عَلَيْهِ في زِنا الأجْنَبِيَّةِ، والأوْلى لَهُ سَتْرُهُ، أمّا إذا زَنى بِزَوْجَتِهِ فَيَلْحَقُهُ العارُ والنَّسَبُ الفاسِدُ، فَلا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وتَوْقِيفُهُ عَلى البَيِّنَةِ كالمُعْتَذِرِ، فَلا جَرَمَ خَصَّ الشَّرْعُ هَذِهِ الصُّورَةَ بِاللِّعانِ. الثّانِي: أنَّ الغالِبَ في المُتَعارَفِ مِن أحْوالِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأتِهِ أنَّهُ لا يَقْصِدُها بِالقَذْفِ إلّا عَنْ حَقِيقَةٍ، فَإذا رَماها فَنَفْسُ الرَّمْيِ يَشْهَدُ بِكَوْنِهِ صادِقًا، إلّا أنَّ شَهادَةَ الحالِ لَيْسَتْ بِكامِلَةٍ فَضُمَّ إلَيْها ما يُقَوِّيها مِنَ الأيْمانِ، كَشَهادَةِ المَرْأةِ لَمّا ضَعُفَتْ قَوِيَتْ بِزِيادَةِ العَدَدِ والشّاهِدُ الواحِدُ يَتَقَوّى بِاليَمِينِ عَلى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الفُقَهاءِ. المسألة الثّانِيَةُ: قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ كانَ حَدُّ قاذِفِ الأجْنَبِيّاتِ والزَّوْجاتِ الجَلْدَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ «قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْماءَ ”ائْتِنِي بِأرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ لَكَ، وإلّا فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ“» فَثَبَتَ بِهَذا أنَّ حَدَّ قاذِفِ الزَّوْجاتِ كانَ كَحَدِّ قاذِفِ الأجْنَبِيّاتِ إلّا أنَّهُ نُسِخَ عَنِ الأزْواجِ الجَلْدُ بِاللِّعانِ، ورَوى نَحْوَ ذَلِكَ في الرَّجُلِ الَّذِي قالَ أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ رَجُلًا وجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلًا فَإنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، وإنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ، وإنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى غَيْظٍ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الأخْبارُ عَلى أنَّ حَدَّ قاذِفِ الزَّوْجَةِ كانَ الجَلْدَ وأنَّ اللَّهَ نَسَخَهُ بِاللِّعانِ. المسألة الثّالِثَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذا قَذَفَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ فالواجِبُ هو الحَدُّ ولَكِنَّ المُخَلِّصَ مِنهُ بِاللِّعانِ، كَما أنَّ الواجِبَ بِقَذْفِ الأجْنَبِيَّةِ الحَدُّ والمُخَلِّصَ مِنهُ بِالشُّهُودِ، فَإذا نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعانِ يَلْزَمُهُ الحَدُّ لِلْقَذْفِ، فَإذا لاعَنَ ونَكَلَتْ عَنِ اللِّعانِ يَلْزَمُها حَدُّ الزِّنا، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إذا نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعانِ حُبِسَ حَتّى يُلاعِنَ، وكَذا المَرْأةُ إذا نَكَلَتْ حُبِسَتْ حَتّى لا تُلاعِنَ، حُجَّةُ الشّافِعِيِّ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ في أوَّلِ السُّورَةِ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ يَعْنِي غَيْرَ الزَّوْجاتِ ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ حُكْمَ الأزْواجِ فَقالَ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهم ولَمْ يَكُنْ لَهم شُهَداءُ إلّا أنْفُسُهم فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ﴾ الآيَةَ فَكَما أنَّ مُقْتَضى قَذْفِ الأجْنَبِيّاتِ الإتْيانُ بِالشُّهُودِ أوِ الجَلَدُ فَكَذا مُوجِبُ قَذْفِ الزَّوْجاتِ الإتْيانُ بِاللِّعانِ أوِ الحَدُّ. وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ أنْ تَشْهَدَ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ﴾ والألِفُ واللّامُ الدّاخِلانِ عَلى العَذابِ لا يُفِيدانِ العُمُومَ لِأنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْها جَمِيعُ أنْواعِ العَذابِ فَوَجَبَ صَرْفُهُما إلى (p-١٤٦)المَعْهُودِ السّابِقِ والمَعْهُودُ السّابِقُ هو الحَدُّ؛ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في أوَّلِ السُّورَةِ ﴿ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ والمُرادُ مِنهُ الحَدُّ، وإذا ثَبَتَ أنَّ المُرادَ مِنَ العَذابِ في قَوْلِهِ: ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ﴾ هو الحَدُّ، ثَبَتَ أنَّها لَوْ لَمْ تَلاعِنْ لَحُدَّتْ، وأنَّها بِاللِّعانِ دَفَعَتِ الحَدَّ، فَإنْ قِيلَ المُرادُ مِنَ العَذابِ هو الحَبْسُ. قُلْنا قَدْ بَيَّنّا أنَّ الألِفَ واللّامَ لِلْمَعْهُودِ المَذْكُورِ، وأقْرَبُ المَذْكُوراتِ في هَذِهِ السُّورَةِ العَذابُ بِمَعْنى الحَدِّ، وأيْضًا فَلَوْ حَمَلْناهُ عَلى الحَدِّ لا تَصِيرُ الآيَةُ مُجْمَلَةً. أمّا لَوْ حَمَلْناهُ عَلى الحَبْسِ تَصِيرُ الآيَةُ مُجْمَلَةً لَأنَّ مِقْدارَ الحَبْسِ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وثالِثُها: قالَ الشّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- ومِمّا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ الحَبْسِ في حَقِّ المَرْأةِ أنَّها تَقُولُ إنْ كانَ الرَّجُلُ صادِقًا فَحُدُّونِي، وإنْ كانَ كاذِبًا فَخَلُّونِي فَما بالِي والحَبْسُ ولَيْسَ حَبْسِي في كِتابِ اللَّهِ ولا سُنَّةِ رَسُولِهِ ولا الإجْماعِ ولا القِياسِ. ورابِعُها: أنَّ الزَّوْجَ قَذَفَها، ولَمْ يَأْتِ بِالمُخْرِجِ مِن شَهادَةِ غَيْرِهِ أوْ شَهادَةِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الحَدُّ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهُمْ﴾ وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ في حَقِّ الرَّجُلِ ثَبَتَ في حَقِّ المَرْأةِ؛ لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ. وخامِسُها: «قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِخَوْلَةَ: ”فالرَّجْمُ أهْوَنُ عَلَيْكِ مِن غَضَبِ اللَّهِ“» وهو نَصٌّ في البابِ، حُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، أمّا في حَقِّ المَرْأةِ فَلِأنَّها ما فَعَلَتْ سِوى أنَّها تَرَكَتِ اللِّعانَ، وهَذا التَّرْكُ لَيْسَ بَيِّنَةً عَلى الزِّنا ولا إقْرارًا مِنها بِهِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ رَجْمُها، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ» “ الحَدِيثَ. وإذا لَمْ يَجِبِ الرَّجْمُ إذا كانَتْ مُحْصَنَةً لَمْ يَجِبِ الجَلْدُ في غَيْرِ المُحْصَنِ لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ، وأيْضًا فالنُّكُولُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ في الإقْرارِ فَلَمْ يَجُزْ إثْباتُ الحَدِّ بِهِ كاللَّفْظِ المُحْتَمِلِ لِلزِّنا ولِغَيْرِهِ. المسألة الرّابِعَةُ: قالَ الجُمْهُورُ إذا قالَ لَها يا زانِيَةُ وجَبَ اللِّعانُ. وقالَ مالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ- لا يُلاعِنُ إلّا أنْ يَقُولَ رَأيْتُكِ تَزْنِي أوْ يَنْفِي حَمْلًا لَها أوْ ولَدًا مِنها، حُجَّةُ الجُمْهُورِ أنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ يَتَناوَلُ الكُلَّ، ولِأنَّهُ لا تَفاوُتَ في قَذْفِ الأجْنَبِيَّةِ بَيْنَ الكُلِّ، فَكَذا في حَقِّ قَذْفِ الزَّوْجَةِ. * * * الطَّرَفُ الثّانِي: المُلاعِنُ قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَن صَحَّ يَمِينُهُ صَحَّ لِعانُهُ، فَيَجْرِي اللِّعانُ بَيْنَ الرَّقِيقَيْنِ والذِّمِّيَّيْنِ والمَحْدُودَيْنِ، وكَذا إذا كانَ أحَدُهُما رَقِيقًا أوْ كانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا والمَرْأةُ ذِمِّيَّةً، قالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لا يَصِحُّ في صُورَتَيْنِ إحْداهُما: أنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ لا يَجِبُ عَلى قاذِفِها الحَدُّ إذا كانَ أجْنَبِيًّا نَحْوَ أنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً أوْ ذِمِّيَّةً. والثّانِي: أنْ يَكُونَ أحَدُهُما مِن غَيْرِ أهْلِ الشَّهادَةِ بِأنْ يَكُونَ مَحْدُودًا في قَذْفٍ أوْ عَبْدًا أوْ كافِرًا، ثُمَّ زَعَمَ أنَّ الفاسِقَ والأعْمى مَعَ أنَّهُما لَيْسا مِن أهْلِ الشَّهادَةِ يَصِحُّ لِعانُهُما، وجْهُ قَوْلِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهُمْ﴾ يَتَناوَلُ الكُلَّ ولا مَعْنى لِلتَّخْصِيصِ، والقِياسُ أيْضًا ظاهِرٌ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ المَقْصُودَ دَفْعُ العارِ عَنِ النَّفْسِ، ودَفْعُ ولَدِ الزِّنا عَنِ النَّفْسِ، وكَما يَحْتاجُ غَيْرُ المَحْدُودِ إلَيْهِ فَكَذا المَحْدُودُ مُحْتاجٌ إلَيْهِ. والثّانِي: أجْمَعْنا عَلى أنَّهُ يَصِحُّ لِعانُ الفاسِقِ والأعْمى، وإنْ لَمْ يَكُونا مِن أهْلِ الشَّهادَةِ فَكَذا القَوْلُ في غَيْرِهِما، والجامِعُ هو الحاجَةُ إلى دَفْعِ عارِ الزِّنا، ووَجْهُ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ النَّصُّ والمَعْنى، أمّا النَّصُّ فَما رَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«أرْبَعٌ مِنَ النِّساءِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ وبَيْنَ أزْواجِهِنَّ مُلاعَنَةٌ اليَهُودِيَّةُ والنَّصْرانِيَّةُ تَحْتَ المُسْلِمِ والحُرَّةُ تَحْتَ المَمْلُوكِ والمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الحُرِّ» “ . أمّا المَعْنى فَنَقُولُ أمّا في الصُّورَةِ الأُولى فَلِأنَّهُ كانَ الواجِبُ عَلى قاذِفِ الزَّوْجَةِ والأجْنَبِيَّةِ الحَدَّ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنِ الأزْواجِ وأُقِيمَ اللِّعانُ مَقامَهُ فَلَمّا كانَ اللِّعانُ مَعَ الأزْواجِ قائِمًا مَقامَ الحَدِّ في الأجْنَبِيّاتِ لَمْ يَجِبِ اللِّعانُ عَلى مَن لا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ لَوْ قَذَفَها أجْنَبِيٌّ، وأمّا في الصُّورَةِ (p-١٤٧)الثّانِيَةِ فالوجه فِيهِ أنَّ اللِّعانَ شَهادَةٌ، فَوَجَبَ أنْ لا يَصِحَّ إلّا مِن أهْلِ الشَّهادَةِ، وإنَّما قُلْنا إنَّ اللِّعانَ شَهادَةٌ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهم شُهَداءُ إلّا أنْفُسُهم فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ﴾ فَسَمّى اللَّهُ تَعالى لِعانَهُما شَهادَةً كَما قالَ: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وقالَ: ﴿فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾ [النساء: ١٥] . الثّانِي: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ لاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أمَرَهُما بِاللِّعانِ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ، ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلى لَفْظِ اليَمِينِ، إذا ثَبَتَ أنَّ اللِّعانَ شَهادَةٌ وجَبَ أنْ لا تُقْبَلَ مِنَ المَحْدُودِ في القَذْفِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ [النور: ٤] وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ في المَحْدُودِ ثَبَتَ في العَبْدِ والكافِرِ، إمّا لِلْإجْماعِ عَلى أنَّهُما لَيْسا مِن أهْلِ الشَّهادَةِ أوْ لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ. أجابَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأنَّ اللِّعانَ لَيْسَ شَهادَةً في الحَقِيقَةِ بَلْ هو يَمِينٌ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَشْهَدَ الإنْسانُ لِنَفْسِهِ، ولِأنَّهُ لَوْ كانَ شَهادَةً لَكانَتِ المَرْأةُ تَأْتِي بِثَمانِ شَهاداتٍ، لِأنَّها عَلى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ، ولِأنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الأعْمى والفاسِقِ ولا يَجُوزُ شَهادَتُهُما، فَإنْ قِيلَ الفاسِقُ والفاسِقَةُ قَدْ يَتُوبانِ قُلْنا وكَذَلِكَ العَبْدُ قَدْ يُعْتَقُ فَتَجُوزُ شَهادَتُهُ، ثُمَّ أكَّدَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأنَّ العَبْدَ إذا عُتِقَ تُقْبَلُ شَهادَتُهُ في الحالِ والفاسِقَ إذا تابَ لا تُقْبَلُ شَهادَتُهُ في الحالِ، ثُمَّ ألْزَمَ أبا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأنَّ شَهادَةَ أهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ، فَيَنْبَغِي أنْ يَجُوزَ اللِّعانُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ والذِّمِّيَّةِ، وهَذا كُلُّهُ كَلامُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. ثم قال بَعْدَ ذَلِكَ: وتَخْتَلِفُ الحُدُودُ بِمَن وقَعَتْ لَهُ، ومَعْناهُ أنَّ الزَّوْجَ إنْ لَمْ يُلاعِنْ تَنَصَّفَ حَدُّ القَذْفِ عَلَيْهِ لِرِقِّهِ، وإنْ لاعَنَ ولَمْ تُلاعِنِ اخْتَلَفَ حَدُّها بِإحْصانِها وعَدَمِ إحْصانِها وحُرِّيَّتِها ورِقِّها. * * * الطَّرَفُ الثّالِثُ: الأحْكامُ المُرَتَّبَةُ عَلى اللِّعانِ. قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَعَلَّقُ بِاللِّعانِ خَمْسَةُ أحْكامٍ: دَرْءُ الحَدِّ، ونَفْيُ الوَلَدِ، والفُرْقَةُ، والتَّحْرِيمُ المُؤَبَّدُ، ووُجُوبُ الحَدِّ عَلَيْها، وكُلُّها تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ لِعانِهِ ولا يُفْتَقَرُ فِيهِ إلى لِعانِها ولا إلى حُكْمِ الحاكِمِ، فَإنَّ حُكْمَ الحاكِمِ بِهِ كانَ تَنْفِيذًا مِنهُ لا إيقاعًا لِلْفُرْقَةِ. فَلْنَتَكَلَّمْ في هَذِهِ المَسائِلِ: المسألة الأُولى: اخْتَلَفَ المُجْتَهِدُونَ في وُقُوعِ الفُرْقَةِ بِاللِّعانِ عَلى أرْبَعَةِ أقْوالٍ: أحَدُها: قالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: لا أرى مُلاعَنَةَ الزَّوْجِ امْرَأتَهُ تَقْتَضِي شَيْئًا يُوجِبُ أنْ يُطَلِّقَها، وثانِيها: قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ لا تَقَعُ الفُرْقَةُ بِفَراغِهِما مِنَ اللِّعانِ حَتّى يُفَرِّقَ الحاكِمُ بَيْنَهُما. وثالِثُها: قالَ مالِكٌ واللَّيْثُ وزُفَرُ -رَحِمَهُمُ اللَّهُ- إذا فَرَغا مِنَ اللِّعانِ وقَعَتِ الفُرْقَةُ وإنْ لَمْ يُفَرِّقِ الحاكِمُ. ورابِعُها: قالَ الشّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إذا أكْمَلَ الزَّوْجُ الشَّهادَةَ والِالتِعانَ فَقَدْ زالَ فِراشُ امْرَأتِهِ، ولا تَحِلُّ لَهُ أبَدًا التَعَنَتْ أوْ لَمْ تَلْتَعِنْ، حُجَّةُ عُثْمانَ البَتِّيِّ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ اللِّعانَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ ولا كِنايَةٍ عَنِ الفُرْقَةِ، فَوَجَبَ أنْ لا يُفِيدَ الفُرْقَةَ كَسائِرِ الأقْوالِ الَّتِي لا إشْعارَ لَها بِالفُرْقَةِ؛ لِأنَّ أكْثَرَ ما فِيهِ أنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صادِقًا في قَوْلِهِ، وهو لا يُوجِبُ تَحْرِيمًا، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ قامَتِ البَيِّنَةُ عَلَيْها لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمًا، فَإذا كانَ كاذِبًا والمَرْأةُ صادِقَةً يَثْبُتُ أنَّهُ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى التَّحْرِيمِ. وثانِيها: لَوْ تَلاعَنا فِيما بَيْنَهُما لَمْ يُوجِبِ الفُرْقَةَ فَكَذا لَوْ تَلاعَنا عِنْدَ الحاكِمِ. وثالِثُها: أنَّ اللِّعانَ قائِمٌ مَقامَ الشُّهُودِ في قَذْفِ الأجْنَبِيّاتِ، فَكَما أنَّهُ لا فائِدَةَ في إحْضارِ الشُّهُودِ هُناكَ إلّا إسْقاطُ الحَدِّ، فَكَذا اللِّعانُ لا تَأْثِيرَ لَهُ إلّا إسْقاطُ الحَدِّ. ورابِعُها: إذا أكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ في قَذْفِهِ إيّاها ثُمَّ حُدَّ، لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فُرْقَةً، فَكَذا إذا لاعَنَ؛ لِأنَّ اللِّعانَ قائِمٌ مَقامَ دَرْءِ الحَدِّ، قالَ: وأمّا تَفْرِيقُ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ فَكانَ ذَلِكَ في قِصَّةِ العَجْلانِيِّ، وكانَ قَدْ طَلَّقَها ثَلاثًا بَعْدَ اللِّعانِ، فَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُما، وأمّا قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ، وهو أنَّ الحاكِمَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُما فَلا بُدَّ مِن بَيانِ أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ يَجِبُ عَلى الحاكِمِ أنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُما، ودَلِيلُهُ ما رَوى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ في قِصَّةِ العَجْلانِيِّ (p-١٤٨)مَضَتِ السُّنَّةُ في المُتَلاعِنَيْنِ أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُما ثُمَّ لا يَجْتَمِعانِ أبَدًا. والثّانِي: أنَّ الفُرْقَةَ لا تَحْصُلُ إلّا بِحُكْمِ الحاكِمِ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: رُوِيَ في قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ أنَّهُما لَمّا فَرَغا ”«قالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْها يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أمْسَكْتُها، هي طالِقٌ ثَلاثًا“ فَطَلَّقَها ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ» ﷺ، والِاسْتِدْلالُ بِهَذا الخَبَرِ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ لَوْ وقَعَتِ الفُرْقَةُ بِاللِّعانِ لَبَطَلَ قَوْلُهُ: ”كَذَبْتُ عَلَيْها إنْ أمْسَكْتُها“؛ لِأنَّ إمْساكَها غَيْرُ مُمْكِنٍ. وثانِيها: ما رُوِيَ في هَذا الخَبَرِ أنَّهُ طَلَّقَها ثَلاثَ تَطْلِيقاتٍ فَأنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وتَنْفِيذُ الطَّلاقِ إنَّما يُمْكِنُ لَوْ لَمْ تَقَعِ الفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعانِ. وثالِثُها: ما قالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ في هَذا الخَبَرِ مَضَتِ السُّنَّةُ في المُتَلاعِنَيْنِ أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُما ولا يَجْتَمِعانِ أبَدًا، ولَوْ كانَتِ الفُرْقَةُ واقِعَةً بِاللِّعانِ اسْتَحالَ التَّفْرِيقُ بَعْدَها. وثانِيها: قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ قَوْلُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلافُ الآيَةِ، لِأنَّهُ لَوْ وقَعَتِ الفُرْقَةُ بِلِعانِ الزَّوْجِ لَلاعَنَتِ المَرْأةُ وهي أجْنَبِيَّةٌ وذَلِكَ خِلافُ الآيَةِ لَأنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما أوْجَبَ اللِّعانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وثالِثُها: أنَّ اللِّعانَ شَهادَةٌ لا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلّا عِنْدَ الحاكِمِ فَوَجَبَ أنْ لا يُوجِبَ الفُرْقَةَ إلّا بِحُكْمِ الحاكِمِ كَما لا يَثْبُتُ المَشْهُودُ بِهِ إلّا بِحُكْمِ الحاكِمِ. ورابِعُها: اللِّعانُ تَسْتَحِقُّ بِهِ المَرْأةُ نَفْسَها كَما يَسْتَحِقُّ المُدَّعِي بِالبَيِّنَةِ، فَلَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يَسْتَحِقَّ المُدَّعِي مُدَّعاهُ إلّا بِحُكْمِ الحاكِمِ وجَبَ مِثْلُهُ في اسْتِحْقاقِ المَرْأةِ نَفْسَها. وخامِسُها: أنَّ اللِّعانَ لا إشْعارَ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأنَّ أكْثَرَ ما فِيهِ أنَّها زَنَتْ، ولَوْ قامَتِ البَيِّنَةُ عَلى زِناها أوْ هي أقَرَّتْ بِذَلِكَ فَذاكَ لا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، فَكَذا اللِّعانُ، وإذا لَمْ يُوجَدْ فِيها دَلالَةٌ عَلى التَّحْرِيمِ وجَبَ أنْ لا تَقَعَ الفُرْقَةُ بِهِ، فَلا بُدَّ مِن إحْداثِ التَّفْرِيقِ، إمّا مِن قِبَلِ الزَّوْجِ أوْ مِن قِبَلِ الحاكِمِ، أمّا قَوْلُ مالِكٍ وزُفَرَ فَحُجَّتُهُ أنَّهُما لَوْ تَراضَيا عَلى البَقاءِ عَلى النِّكاحِ لَمْ يُخَلَّيا بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُما، فَدَلَّ عَلى أنَّ اللِّعانَ قَدْ أوْجَبَ الفُرْقَةَ، أمّا قَوْلُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَهُ دَلِيلانِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ أنْ تَشْهَدَ﴾ الآيَةَ. فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهُ لا تَأْثِيرَ لِلِعانِ المَرْأةِ إلّا في دَفْعِ العَذابِ عَنْ نَفْسِها، وأنَّ كُلَّ ما يَجِبُ بِاللِّعانِ مِنَ الأحْكامِ فَقَدْ وقَعَ بِلِعانِ الزَّوْجِ. الثّانِي: أنَّ لِعانَ الزَّوْجِ وحْدَهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْيِ الوَلَدِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الِاعْتِبارُ بِقَوْلِهِ في الإلْحاقِ لا بِقَوْلِها، ألا تَرى أنَّها في لِعانِها تُلْحِقُ الوَلَدَ بِهِ، ونَحْنُ نَنْفِيهِ عَنْهُ، فَيُعْتَبَرُ نَفْيُ الزَّوْجِ لا إلْحاقُ المَرْأةِ، ولِهَذا إذا أكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ أُلْحِقَ بِهِ الوَلَدُ، وما دامَ يَبْقى مُصِرًّا عَلى اللِّعانِ فالوَلَدُ مَنفِيٌّ عَنْهُ، إذا ثَبَتَ أنَّ لِعانَهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْيِ الوَلَدِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِوُقُوعِ الفُرْقَةِ، لِأنَّ الفُرْقَةَ لَوْ لَمْ تَقَعْ لَمْ يَنْتِفِ الوَلَدُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«الوَلَدُ لِلْفِراشِ» “ فَما دامَ يَبْقى الفِراشُ التَحَقَ بِهِ، فَلَمّا انْتَفى الوَلَدُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ لِعانِهِ وجَبَ أنَّهُ يَزُولُ الفِراشُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ لِعانِهِ، وأمّا الأخْبارُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِها أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فالمُرادُ بِهِ أنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ أخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الفُرْقَةِ وحَكَمَ بِها وذَلِكَ لا يُنافِي أنْ يَكُونَ المُؤَثِّرُ في الفُرْقَةِ شَيْئًا آخَرَ. وأمّا الأقْيِسَةُ الَّتِي ذَكَرَها فَمَدارُها عَلى أنَّ اللِّعانَ شَهادَةٌ ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ بَلْ هو يَمِينٌ عَلى ما بَيَّنّا، وأمّا قَوْلُهُ: اللِّعانُ لا إشْعارَ فِيهِ بِوُقُوعِ الحُرْمَةِ. قُلْنا بَيِّنَتُهُ عَلى نَفْيِ الوَلَدِ مَقْبُولَةٌ ونَفْيُ الوَلَدِ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ حِلْيَةِ النِّكاحِ واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّانِيَةُ: قالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ وأبُو يُوسُفَ والثَّوْرِيُّ وإسْحاقُ والحَسَنُ: المُتَلاعِنانِ لا يَجْتَمِعانِ أبَدًا، وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وعُمَرَ وابْنِ مَسْعُودٍ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٌ إذا أكْذَبَ نَفْسَهُ وحُدَّ زالَ تَحْرِيمُ العَقْدِ وحَلَّتْ لَهُ بِنِكاحٍ جَدِيدٍ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أُمُورٌ: أحَدُها: «قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلْمُلاعِنِ بَعْدَ اللِّعانِ ”لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْها“» ولَمْ يُقَلْ حَتّى تُكَذِّبَ نَفْسَكَ ولَوْ كانَ الإكْذابُ غايَةً لِهَذِهِ الحُرْمَةِ لَرَدَّها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى هَذِهِ الغايَةِ، كَما قالَ في المُطَلَّقَةِ بِالثَّلاثِ ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] . وثانِيها: (p-١٤٩)ما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وعُمَرَ وابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهم قالُوا «لا يَجْتَمِعُ المُتَلاعِنانِ أبَدًا»، وهَذا قَدْ رُوِيَ أيْضًا مَرْفُوعًا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وثالِثُها: ما رَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ في قِصَّةِ العَجْلانِيِّ ”مَضَتِ السُّنَّةُ أنَّهُما إذا تَلاعَنا فُرِّقَ بَيْنَهُما ثُمَّ لا يَجْتَمِعانِ أبَدًا“ حُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ﴾ . المسألة الثّالِثَةُ: اتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ عَلى أنَّ الوَلَدَ قَدْ يُنْفى عَنِ الزَّوْجِ بِاللِّعانِ، وحُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَن شَذَّ أنَّهُ لِلزَّوْجِ، ولا يَنْتَفِي نَسَبَهُ بِاللِّعانِ، واحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«الوَلَدُ لِلْفِراشِ» “ وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الأخْبارَ الدّالَّةَ عَلى أنَّ النَّسَبَ يَنْتَفِي بِاللِّعانِ كالمُتَواتِرَةِ فَلا يُعارِضُها هَذا الواحِدُ. المسألة الرّابِعَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ أتى أحَدُهُما بِبَعْضِ كَلِماتِ اللِّعانِ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ الحُكْمُ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أكْثَرُ كَلِماتِ اللِّعانِ تَعْمَلُ عَمَلَ الكُلِّ إذا حَكَمَ بِهِ الحاكِمُ، والظّاهِرُ مَعَ الشّافِعِيِّ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّها لا تَدْرَأُ العَذابَ عَنْ نَفْسِها إلّا بِتَمامِ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى، ومَن قالَ بِخِلافِ ذَلِكَ فَإنَّما يَقُولُهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. * * * الطَّرَفُ الرّابِعُ: في كَيْفِيَّةِ اللِّعانِ والآيَةُ دالَّةٌ عَلَيْها صَرِيحًا، فالرَّجُلُ يَشْهَدُ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ بِأنْ يَقُولَ: أشْهَدُ بِاللَّهِ إنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ فِيما رَمَيْتُها بِهِ مِنَ الزِّنا، ثُمَّ يَقُولُ مِن بَعْدُ: وعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ إنْ كانَ مِنَ الكاذِبِينَ. ويَتَعَلَّقُ بِلِعانِ الزَّوْجِ تِلْكَ الأحْكامُ الخَمْسَةُ عَلى قَوْلِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ المَرْأةُ إذا أرادَتْ إسْقاطَ حَدِّ الزِّنا عَنْ نَفْسِها عَلَيْها أنْ تُلاعِنَ ولا يَتَعَلَّقُ بِلِعانِها إلّا هَذا الحُكْمُ الواحِدُ، ثُمَّ هاهُنا فُرُوعٌ: الفَرْعُ الأوَّلُ: أجْمَعُوا عَلى أنَّ اللِّعانَ كالشَّهادَةِ، فَلا يَثْبُتُ إلّا عِنْدَ الحاكِمِ، الثّانِي: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقامُ الرَّجُلُ حَتّى يَشْهَدَ والمَرْأةُ قاعِدَةٌ، وتُقامُ المَرْأةُ حَتّى تَشْهَدَ والرَّجُلُ قاعِدٌ، ويَأْمُرَ الإمامُ مَن يَضَعُ يَدَهُ عَلى فِيهِ عِنْدَ الِانْتِهاءِ إلى اللَّعْنَةِ والغَضَبِ ويَقُولُ لَهُ إنِّي أخافُ إنْ لَمْ تَكُ صادِقًا أنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ، الثّالِثُ: اللِّعانُ بِمَكَّةَ بَيْنَ المَقامِ والرُّكْنِ وبِالمَدِينَةِ عِنْدَ المِنبَرِ وبَيْتِ المَقْدِسِ في مَسْجِدِهِ وفي غَيْرِها في المَواضِعِ المُعَظَّمَةِ ولِعانُ المُشْرِكِ كَغَيْرِهِ في الكَيْفِيَّةِ، وأمّا الزَّمانُ فَيَوْمُ الجُمُعَةِ بَعْدَ العَصْرِ، ولا بُدَّ مِن حُضُورِ جَماعَةٍ مِنَ الأعْيانِ أقَلُّهم أرْبَعَةٌ. * * * الطَّرَفُ الخامِسُ: في سائِرِ الفَوائِدِ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ الخَوارِجِ في أنَّ الزِّنا والقَذْفَ كُفْرٌ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الرّامِيَ إنْ صَدَقَ فَهي زانِيَةٌ، وإنْ كَذَبَ فَهو قاذِفٌ فَلا بُدَّ عَلى قَوْلِهِمْ مِن وُقُوعِ الكُفْرِ مِن أحَدِهِما، وذَلِكَ يَكُونُ رِدَّةً فَيَجِبُ عَلى هَذا أنْ تَقَعَ الفُرْقَةُ ولا لِعانَ أصْلًا، وأنْ تَكُونَ فُرْقَةَ الرِّدَّةِ حَتّى لا يَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ تَوارُثٌ البَتَّةَ. الثّانِي: أنَّ الكُفْرَ إذا ثَبَتَ عَلَيْها بِلِعانِهِ، فالواجِبُ أنْ تُقْتَلَ لا أنْ تُجْلَدَ أوْ تُرْجَمَ، لِأنَّ عُقُوبَةَ المُرْتَدِّ مُبايِنَةٌ لِلْحَدِّ في الزِّنا. المسألة الثّانِيَةُ: الآيَةُ دالَّةٌ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ وُقُوعَ الزِّنا يُفْسِدُ النِّكاحَ، وذَلِكَ لِأنَّهُ يَجِبُ إذا رَماها بِالزِّنا أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هَذا كَأنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِفَسادِ النِّكاحِ حَتّى يَكُونَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ مَن يُقِرُّ بِأنَّها أُخْتُهُ مِنَ الرَّضاعِ أوْ بِأنَّها كافِرَةٌ، ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أنْ تَقَعَ الفُرْقَةُ بِنَفْسِ الرَّمْيِ مِن قَبْلِ اللِّعانِ وقَدْ ثَبَتَ بِالإجْماعِ فَسادُ ذَلِكَ. (p-١٥٠)المسألة الثّالِثَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ القاذِفَ مُسْتَحِقٌّ لَلَعْنِ اللَّهِ تَعالى إذا كانَ كاذِبًا وأنَّهُ قَدْ فَسَقَ، وكَذَلِكَ الزّانِي والزّانِيَةُ يَسْتَحِقّانِ غَضَبَ اللَّهِ تَعالى وعِقابَهُ، وإلّا لَمْ يَحْسُنْ مِنهُما أنْ يَلْعَنا أنْفُسَهُما، كَما لا يَجُوزُ أنْ يَدْعُوَ أحَدٌ رَبَّهُ أنْ يَلْعَنَ الأطْفالَ والمَجانِينَ، وإذا صَحَّ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحَقَّ العِقابَ، والعِقابُ يَكُونُ دائِمًا كالثَّوابِ ولا يَجْتَمِعانِ فَثَوابُهُما أيْضًا مُحْبَطٌ، فَلا يَجُوزُ إذا لَمْ يَتُوبا أنْ يَدْخُلا الجَنَّةَ، لِأنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلى أنَّ مَن دَخَلَ الجَنَّةَ مِنَ المُكَلَّفِينَ فَهو مُثابٌ عَلى طاعاتِهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى خُلُودِ الفُسّاقِ في النّارِ، قالَ أصْحابُنا لا نُسَلِّمُ أنَّ كَوْنَهُ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ بِفِسْقِهِ يُنافِي كَوْنَهُ مَرْضِيًّا عَنْهُ لِجِهَةِ إيمانِهِ، ثُمَّ لَوْ سَلَّمْناهُ فَلَمْ نُسَلِّمْ أنَّ الجَنَّةَ لا يَدْخُلُها إلّا مُسْتَحِقُّ الثَّوابِ. والإجْماعُ مَمْنُوعٌ. المسألة الرّابِعَةُ: إنَّما خُصَّتِ المُلاعَنَةُ بِأنْ تُخَمَّسَ بِغَضَبِ اللَّهِ تَغْلِيظًا عَلَيْها لِأنَّها هي أصْلُ الفُجُورِ ومَنبَعُهُ بِخُيَلائِها وأطْماعِها ولِذَلِكَ كانَتْ مُقَدَّمَةً في آيَةِ الجَلْدِ. واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا بَيَّنَ حُكْمَ الرّامِي لِلْمُحْصَناتِ والأزْواجِ عَلى ما ذَكَرْنا وكانَ في ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ والنِّعْمَةِ ما لا خَفاءَ فِيهِ، لِأنَّهُ تَعالى جَعَلَ بِاللِّعانِ لِلْمَرْءِ سَبِيلًا إلى مُرادِهِ، ولَها سَبِيلًا إلى دَفْعِ العَذابِ عَنْ نَفْسِها، ولَهُما السَّبِيلَ إلى التَّوْبَةِ والإنابَةِ، فَلِأجْلِ هَذا بَيَّنَ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ﴾ [النور: ١٤] عِظَمَ نِعَمِهِ فِيما بَيَّنَهُ مِن هَذِهِ الأحْكامِ وفِيما أمْهَلَ وأبْقى ومَكَّنَ مِنَ التَّوْبَةِ ولا شُبْهَةَ في أنَّ في الكَلامِ حَذْفًا إذْ لا بُدَّ مِن جَوابٍ، إلّا أنَّ تَرْكَهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أمْرٌ عَظِيمٌ لا يُكْتَنَهُ، ورُبَّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ أبْلَغُ مِن مَنطُوقٍ بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب