الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ أنْ تَشْهَدَ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ﴾ الآيَةَ: فَجَعَلَ لِعانَها دارِئًا لِلْعَذابِ عَنْها. وعِنْدَهم أنَّ اللِّعانَ حَدٌّ، والحَدُّ يَدْرَأُ العَذابَ، وهي لا عَذابَ عَلَيْها، وهي لا تُحْبَسُ لِعَيْنِ الحَبْسِ، وإنَّما تُحْبَسُ لِلِّعانِ، فَلِعانُها يَدْرَأُ لِعانَها عَلى هَذا التَّقْدِيرِ. فانْظُرْ كَيْفَ تَوالَتْ غَلَطاتُ الخَصْمِ في فَهْمِ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ. وقالَ: لَوْ أتى بِمُعْظَمِ كَلِماتِ اللِّعانِ، قامَ مَقامَ الكُلِّ، وهو خِلافُ القُرْآنِ، وخِلافُ قِياسِ الحَدِّ أيْضًا، فَإنَّهُ لا يَكْتَفِي فِيهِ بِالأكْثَرِ، وإذا ثَبَتَ فَسادٌ نَظَرَ مَن يُخالِفُ، فَنَذْكُرُ ما رَآهُ الشّافِعِيُّ، قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى شَرَعَ اللِّعانَ، وعَلَّمَنا يَقِينًا أنَّ شَرْعَ اللِّعانِ رُخْصَةٌ لِمَكانِ الحاجَةِ، فَلَمّا تَأمَّلْنا الحاجَةَ، قُلْنا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الأصْلُ في تِلْكَ الحاجَةِ هي والنَّسَبُ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِلثُّبُوتِ، ولا طَرِيقَ إلى نَفْيِهِ إلّا بِاللِّعانِ، فَكانَ اللِّعانُ مَوْضُوعًا أصْلِيًّا لِهَذا المَعْنى، وإنَّما جُوِّزَ اللِّعانُ في النِّكاحِ، مَعَ إمْكانِ (p-٣٠٥)قَطْعِ النِّكاحِ بِطَرِيقٍ آخَرَ، لِأنَّ الزَّوْجَ لَمّا أرادَ أنْ يُعَيِّرَها ويَفْضَحَها بِما صَدَرَ مِنها. فَجَعَلَ الشَّرْعُ اللِّعانَ مَشْرُوعًا في النِّكاحِ دُونَ النَّسَبِ، وهَذا المَقْصُودُ قَرِيبٌ، بِالإضافَةِ إلى مَقْصُودِ رَفْعِ النَّسَبِ. وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ وجَبَ شَرْعُ اللِّعانِ دُونَ النِّكاحِ لِأجْلِ الوَلَدِ، حَتّى إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا وادَّعَتْ حَمْلًا، فَلِلزَّوْجِ أنْ يُلاعِنَ، وعَلى هَذا اللِّعانِ في النِّكاحِ والوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، فَإنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهِمَ أمْرًا آخَرَ فَقالَ: إذا قَذَفَ امْرَأتَهُ بِأجْنَبِيٍّ وسَمّاهُ في اللِّعانِ، فَلا حَدَّ عَلَيْهِ لِلْأجْنَبِيِّ، فَإنَّهُ صارَ مُصَدَّقًا شَرْعًا في تِلْكَ الواقِعَةِ، فَصارَ ذَلِكَ شُبْهَةً في دَرْءِ الحَدِّ عَنْهُ، فَهَذا نَوْعٌ مِنَ القِياسِ فَهِمَهُ في مَوْضِعِ الرُّخْصَةِ لِفَهْمِ خُصُوصِ الحاجَةِ. وأبُو حَنِيفَةَ رَأى أنَّ اللِّعانَ حُجَّةً خاصَّةً شُرِعَتْ في النِّكاحِ، فَلا يَثْبُتُ إلّا في النِّكاحِ، ولا شَكَّ أنَّ الَّذِي قالَهُ إعْراضٌ عَنِ المَعْنى الخاصِّ المَفْهُومِ مِن وضْعِ اللِّعانِ، عَلى أنَّهُ ناقِصٌ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾ [الطلاق: ١] . وقالَ: ﴿وإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣١] . فَحَكَمَ بِطَلاقِ النِّساءِ، ثُمَّ إنَّهُ صارَ إلى طَلاقِ البائِنَةِ المُخْتَلِفَةِ مِن غَيْرِ نِكاحٍ، مَعَ أنَّ الطَّلاقَ مِن خاصَّةِ النِّكاحِ، فَهَلّا كانَ كَذَلِكَ، بَلْ هَذا إلى تَرْجِيحٍ، وذَلِكَ أنَّهُ لَيْسَ في إيقاعِ الطَّلاقِ عَلى المُخْتَلِفَةِ حاجَةٌ مَعْقُولَةٌ شُرِعَ الطَّلاقُ لِأجْلِها في الأصْلِ، بَلِ الحاجَةُ الَّتِي شُرِعَ الطَّلاقُ لِأجْلِها مَعْدُومَةٌ في (p-٣٠٦)حَقِّ المُخْتَلِفَةِ، فَأمّا هاهُنا، فالحاجَةُ الَّتِي شُرِعَ اللِّعانُ لِأجَلِّها الَّتِي لا تُدْفَعُ لَها إلّا بِاللِّعانِ مُتَحَقِّقَةٌ في النِّكاحِ الفاسِدِ وبَعْدَ الطَّلاقِ، فَأوْلى بِصِحَّةِ اللِّعانِ. والوَجْهُ الآخَرُ في التَّرْجِيحِ، هو أنّا إذا شَرَعْنا اللِّعانَ في حَقِّ المُطَلَّقَةِ، لَمْ يُخَصَّصْ ولَمْ يُناقَضْ، وقُلْنا الوَلَدُ بِنَفْيِ اللِّعانِ دُونَ النِّكاحِ مُطْلَقًا. وأبُو حَنِيفَةَ إذا أوْقَعَ الطَّلاقَ بَعْدَ البَيْنُونَةِ، لَمْ يُمْكِنْهُ إخْراجُ الطَّلاقِ عَنْ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِالنِّكاحِ، فَإنَّهُ لا يَقَعُ الطَّلاقُ في النِّكاحِ الفاسِدِ خِلافًا لِأحْمَدَ، ولا بَعْدَ البَيْنُونَةِ وانْقِضاءِ العِدَّةِ، وإنْ بَقِيَتْ لَهُ طَلْقَتانِ عَلَيْها، واعْتَقَدَ في ذَلِكَ أنّا لَوْ نَفَّذْنا الطَّلاقَ عَلَيْها، صارَ المَحَلُّ يَنْقادُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مُبْتَذَلًا مِن غَيْرِ وِلايَةٍ لَهُ عَلَيْهِ، وذَلِكَ في غايَةِ البُعْدِ، إذا لَمْ يَكُنِ المَحَلُّ بِالتَّصَرُّفِ مُتَأثِّرًا، ولا يَزُولُ بِالتَّصَرُّفِ عَنِ المَحَلِّ حُكْمُ وصْفِهِ، وإذا جَوَّزُوا تَصَرُّفَ الأجْنَبِيِّ مَوْقُوفًا مِن حَيْثُ إنَّ المَحَلَّ لا يَتَأثَّرُ بِهِ، والطَّلاقُ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ ظاهِرٌ في المَحَلِّ، فَيَجِبُ أنْ يَقَعَ عَلى الأجْنَبِيَّةِ، وإنْ هم زَعَمُوا أنَّهُ يَفُوتُ حَلَّ المَحَلُّ، وذَلِكَ تَأْثِيرًا يَظْهَرُ في المَحَلِّ، فَيَقْتَضِي هَذا أنْ يَكُونَ حُكْمُ الطَّلاقِ الَّذِي هو خاصِّيَّةُ النِّكاحِ تَفْوِيتُ ما يُسْتَفادُ بِأصْلِ الوِلادَةِ، غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِالنِّكاحِ، وذَلِكَ جَهْلٌ مُفْرِطٌوَعَلى أنَّ الَّذِي ذُكِرَ مِن جَوازِ الِابْتِذالِ في مُدَّةِ العِدَّةِ، إنَّما يُفْعَلُ إذا كانَ جِنْسُ العِدَّةِ مُقْتَضًى ونِيَّةً، فَأمّا إذا كانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا يَثْبُتُ حَيْثُ لا نِكاحَ كالنِّكاحِ الفاسِدِ، فَلا يَنْبَغِي أنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلاقُ أصْلًا، وهَذا كَلامٌ مُعْتَرِضٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِمَقْصُودِنا ولا مَحِيصَ لَهم عَنْهُ. وناقَضُوا أيْضًا وقالُوا: لَوْ قَذَفَ امْرَأتَهُ وماتَتْ بَعْدَ القَذْفِ بِطَلاقٍ أوْ غَيْرِهِ، فَلا حَدَّ عَلَيْهِ ولا لِعانَ، وقالُوا: لا يَنْتَفِي الحَمْلُ بِاللِّعانِ، مَعَ أنَّ الخَبَرَ إنَّما ورَدَ في الحَمْلِ وحْدَهُ. (p-٣٠٧)ولَمّا رَأى الشّافِعِيُّ اللِّعانَ حُجَّةً خاصَّةً قالَ: قَذْفُ الزَّوْجَةِ مِثْلُ قَذْفِ الأجْنَبِيَّةِ، لِأنَّها مُحْصَنَةٌ عَفِيفَةٌ مِثْلُ الأجْنَبِيَّةِ، ويَجِبُ عَلى غَيْرِهِ الحَدُّ بِقَذْفِها، ويَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ بِقَذْفِ مِثْلِها، إلّا أنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ اللِّعانَ مُخَلِّصًا، فَإذا امْتَنَعَ مِنَ اللِّعانِ، كانَ عَلى قِياسِ الأجْنَبِيِّ يَقْذِفُ الأجْنَبِيَّةَ، وهَذا بَيِّنٌ مَعْلُومٌ مِنَ القُرْآنِ. وإذا كانَ اللِّعانُ خاصًّا في حَقِّ الأزْواجِ، فالشّافِعِيُّ يَقُولُ: جَعَلَهُ الشَّرْعُ حُجَّةً وصَدَّقَهُ فِيها، وجَعَلَ لَها طَرِيقًا إلى مُدافَعَةِ حُجَّتِهِ فَقالَ: ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ أنْ تَشْهَدَ﴾، فَلا بُدَّ مِن إثْباتِ عَذابٍ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ العَذابُ سَجْنًا، فَإنَّ الحَبْسَ لا يُرادُ لِعَيْنِهِ، وإنَّما يُرادُ لِغَيْرِهِ، فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ الحَبْسُ لِطَلَبِ أمْرٍ وراءَ الحَبْسِ يُحْبَسُ لِأجْلِهِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الأمْرُ هو اللِّعانَ، فَإنَّها رُبَّما كانَتْ كاذِبَةً في لِعانِها، فَكَيْفَ يَجُوزُ إجْبارُها عَلى اللِّعانِ، وقَدْ قالَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ: إنَّ العَذابَ في عُرْفِ الشَّرْعِ عِبارَةٍ عَنِ الحَدِّ، سِيَّما إذا عُرِّفَ بِالألِفِ واللّامِ، وذَلِكَ يَنْصَرِفُ إلى المَعْهُودِ، وهَذا لا بَأْسَ بِهِ، وإنْ كانَ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِأنَّ العَذابَ قَدْ لا يَخْتَصُّ بِالحَدِّ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إلا أنْ يُسْجَنَ أوْ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٥] ولَمْ يُرَدَّ الحَدُّ. وقالَ تَعالى: ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا﴾ [النمل: ٢١]، ولَمْ يُرَدَّ بِهِ الحَدُّ. ويَهُونُ الجَوابُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، ولَيْسَ في التَّقَصِّي عَنْهُ كَبِيرُ فائِدَةٍ، فَإنَّ الغَرَضَ يَحْصُلُ دُونَهُ. (p-٣٠٨)إذا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَقَدْ قالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: لا أرى مُلاعَبَةَ الزَّوْجِ امْرَأتَهُ يُنْقِصُ شَيْئًا، وأُحِبُّ أنْ يُطَلِّقَ. والَّذِي ذَكَرَهُ قَوِيٌّ مِن حَيْثُ المَعْنى والتَّوْقِيفِ، إذْ لَيْسَ في كِتابِ اللَّهِ أنَّهُ إذا لاعَنَ ولاعَنَتْ يَجِبُ وُقُوعُ الفُرْقَةِ، ووَرَدَ في الأخْبارِ الصِّحاحِ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَرَّقَ بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ، وألْحَقَ الوَلَدَ بِالِابْنِوَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «المُتَلاعِنانِ لا يَجْتَمِعانِ». ” ولَوْ بَقِيَ النِّكاحُ إلى وقْتِ التَّفْرِيقِ فَهُما مُجْتَمِعانِ “.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب