الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِن دُونِي أوْلِياءَ إنّا أعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا﴾ ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا﴾ ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ولِقائِهِ فَحَبِطَتْ أعْمالُهم فَلا نُقِيمُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ وزْنًا﴾ ﴿ذَلِكَ جَزاؤُهم جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا واتَّخَذُوا آياتِي ورُسُلِي هُزُوًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ مِن حالِ الكافِرِينَ أنَّهم أعْرَضُوا عَنِ الذِّكْرِ وعَنِ اسْتِماعِ ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِن دُونِي أوْلِياءَ﴾ والمُرادُ: أفَظَنُّوا أنَّهم يَنْتَفِعُونَ بِما عَبَدُوهُ مَعَ إعْراضِهِمْ عَنْ تَدَبُّرِ الآياتِ وتَمَرُّدِهِمْ عَنْ قَبُولِ أمْرِهِ وأمْرِ رَسُولِهِ ؟ وهو اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ أبُو بَكْرٍ ولَمْ يَرْفَعْهُ إلى عاصِمٍ: (أفَحَسْبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بِسُكُونِ السِّينِ ورَفْعِ الباءِ. وهي مِنَ الأحْرُفِ الَّتِي خالَفَ فِيها عاصِمًا، وذَكَرَ أنَّهُ قِراءَةُ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: حَسْبُ مُبْتَدَأٌ، أنْ يَتَّخِذُوا خَبَرٌ، والمَعْنى أفَكافِيهِمْ وحَسْبُهم أنْ يَتَّخِذُوا كَذا وكَذا، وأمّا الباقُونَ (p-١٤٨)فَقَرَءُوا أفَحَسِبَ عَلى لَفْظِ الماضِي، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ حَذْفٌ والمَعْنى: أفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا اتِّخاذَ عِبادِي أوْلِياءَ نافِعًا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في العِبادِ أقْوالٌ قِيلَ: أرادَ عِيسى والمَلائِكَةَ، وقِيلَ: هُمُ الشَّياطِينُ يُوالُونَهم ويُطِيعُونَهم، وقِيلَ: هي الأصْنامُ سَمّاهم عِبادًا كَقَوْلِهِ: ﴿عِبادٌ أمْثالُكُمْ﴾، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنّا أعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا﴾ وفي النُّزُلِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: إنَّهُ المَأْوى والمَنزِلُ. والثّانِي: أنَّهُ الَّذِي يُقامُ لِلنَّزِيلِ وهو الضَّيْفُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى ما نَبَّهَ بِهِ عَلى جَهْلِ القَوْمِ فَقالَ: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا﴾ ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا﴾ قِيلَ إنَّهم هُمُ الرُّهْبانُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عامِلَةٌ ناصِبَةٌ﴾ وعَنْ مُجاهِدٍ: أهْلُ الكِتابِ، وعَنْ عَلِيٍّ أنَّ ابْنَ الكَوّاءِ سَألَهُ عَنْهم فَقالَ: هم أهْلُ حَرُوراءَ، والأصْلُ أنْ يُقالَ: هو الَّذِي يَأْتِي بِالأعْمالِ يَظُنُّها طاعاتٍ وهي في أنْفُسِها مَعاصِي، وإنْ كانَتْ طاعاتٍ لَكِنَّها لا تُقْبَلُ مِنهم لِأجْلِ كُفْرِهِمْ فَأُولَئِكَ إنَّما أتَوْا بِتِلْكَ الأعْمالِ لِرَجاءِ الثَّوابِ، وإنَّما أتْعَبُوا أنْفُسَهم فِيها لِطَلَبِ الأجْرِ والفَوْزِ يَوْمَ القِيامَةِ؛ فَإذا لَمْ يَفُوزُوا بِمَطالِبِهِمْ بَيَّنَ أنَّهم كانُوا ضالِّينَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ صُنْعَهم فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ولِقائِهِ فَحَبِطَتْ أعْمالُهُمْ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: لِقاءُ اللَّهِ عِبارَةٌ عَنْ رُؤْيَتِهِ بِدَلِيلِ أنَّهُ يُقالُ: لَقِيتُ فُلانًا أيْ رَأيْتُهُ، فَإنْ قِيلَ: اللِّقاءُ عِبارَةٌ عَنِ الوُصُولِ، قالَ تَعالى: ﴿فالتَقى الماءُ عَلى أمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القَمَرِ: ١٢] وذَلِكَ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى لِقاءِ ثَوابِ اللَّهِ، والجَوابُ أنَّ لَفْظَ اللِّقاءِ، وإنْ كانَ في الأصْلِ عِبارَةً عَنِ الوُصُولِ والمُلاقاةِ إلّا أنَّ اسْتِعْمالَهُ في الرُّؤْيَةِ مَجازٌ ظاهِرٌ مَشْهُورٌ، والَّذِي يَقُولُونَهُ مِن أنَّ المُرادَ مِنهُ لِقاءُ ثَوابِ اللَّهِ فَهو لا يَتِمُّ إلّا بِالإضْمارِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلى المَجازِ المُتَعارَفِ المَشْهُورِ أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى ما يَحْتاجُ مَعَهُ إلى الإضْمارِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَحَبِطَتْ أعْمالُهُمْ﴾ عَلى أنَّ القَوْلَ بِالإحْباطِ والتَّكْفِيرِ حَقٌّ، وهَذِهِ المَسْألَةُ قَدْ ذَكَرْناها بِالِاسْتِقْصاءِ في سُورَةِ البَقَرَةِ فَلا نُعِيدُها، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلا نُقِيمُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ وزْنًا﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنّا نَزْدَرِي بِهِمْ ولَيْسَ لَهم عِنْدَنا وزْنٌ ومِقْدارٌ. الثّانِي: لا نُقِيمُ لَهم مِيزانًا لِأنَّ المِيزانَ إنَّما يُوضَعُ لِأهْلِ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ مِنَ المُوَحِّدِينَ لِتَمْيِيزِ مِقْدارِ الطّاعاتِ ومِقْدارِ السَّيِّئاتِ. الثّالِثُ: قالَ القاضِي: إنَّ مَن غَلَبَتْ مَعاصِيهِ صارَ ما في فِعْلِهِ مِنَ الطّاعَةِ كَأنْ لَمْ يَكُنْ فَلا يَدْخُلُ في الوَزْنِ شَيْءٌ مِن طاعَتِهِ. وهَذا التَّفْسِيرُ بِناءً عَلى قَوْلِهِ بِالإحْباطِ والتَّكْفِيرِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ جَزاؤُهم جَهَنَّمُ﴾ فَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ﴾ أيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْناهُ وفَصَّلْناهُ مِن أنْواعِ الوَعِيدِ هو جَزاؤُهم عَلى أعْمالِهِمُ الباطِلَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿جَهَنَّمُ﴾ عَطْفُ بَيانٍ لِقَوْلِهِ: ﴿جَزاؤُهُمْ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ ذَلِكَ الجَزاءَ جَزاءٌ عَلى مَجْمُوعِ أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: كُفْرُهم. الثّانِي: أنَّهم أضافُوا إلى الكُفْرِ أنِ اتَّخَذُوا آياتِ اللَّهِ واتَّخَذُوا رُسُلَهُ هُزُوًا، فَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وتَكْذِيبِهِمْ، حَتّى اسْتَهْزَءُوا بِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب