الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمّا رَزَقْناهم تاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ ﴿ويَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَناتِ سُبْحانَهُ ولَهم ما يَشْتَهُونَ﴾ ﴿وإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِالأُنْثى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ﴾ ﴿يَتَوارى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أمْ يَدُسُّهُ في التُّرابِ ألا ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ ﴿لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ولِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ بِالدَّلائِلِ القاهِرَةِ فَسادَ أقْوالِ أهْلِ الشِّرْكِ والتَّشْبِيهِ، شَرَحَ في هَذِهِ الآيَةِ تَفاصِيلَ أقْوالِهِمْ وبَيَّنَ فَسادَها وسَخافَتَها.
فالنوع الأوَّلُ مِن كَلِماتِهِمُ الفاسِدَةِ: أنَّهم يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المسألة الأُولى: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ﴿لِما لا يَعْلَمُونَ﴾ إلى ماذا يَعُودُ ؟ فِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ عائِدٌ إلى المُشْرِكِينَ المَذْكُورِينَ في قَوْلِهِ: ﴿إذا فَرِيقٌ مِنكم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ والمَعْنى أنَّ المُشْرِكِينَ لا يَعْلَمُونَ.
والثّانِي: أنَّهُ عائِدٌ إلى الأصْنامِ أيْ: لا يَعْلَمُ الأصْنامُ ما يَفْعَلُ عُبّادُها.
قالَ بَعْضُهم: الأوَّلُ أوْلى لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ نَفْيَ العِلْمِ عَنِ الحَيِّ حَقِيقَةٌ وعَنِ الجَمادِ مَجازٌ.
وثانِيها: أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿ويَجْعَلُونَ﴾ عائِدٌ إلى المُشْرِكِينَ، فَكَذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿لِما لا يَعْلَمُونَ﴾ يَجِبُ أنْ يَكُونَ عائِدًا إلَيْهِمْ.
وثالِثُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِما لا يَعْلَمُونَ﴾ جُمِعَ بِالواوِ والنُّونِ، وهو بِالعُقَلاءِ ألْيَقُ مِنهُ بِالأصْنامِ الَّتِي هي جَماداتٌ.
ومِنهم مَن قالَ: بَلِ القَوْلُ الثّانِي أوْلى لِوُجُوهٍ.
الأوَّلُ: أنّا إذا قُلْنا إنَّهُ عائِدٌ إلى المُشْرِكِينَ افْتَقَرْنا إلى إضْمارٍ، فَإنَّ التَّقْدِيرَ: ويَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ إلَهًا، أوْ لِما لا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ نافِعًا ضارًّا، وإذا قُلْنا: إنَّهُ عائِدٌ إلى الأصْنامِ، لَمْ نَفْتَقِرْ إلى الإضْمارِ لِأنَّ التَّقْدِيرَ: ويَجْعَلُونَ (p-٤٤)لِما لا عِلْمَ لَها ولا فَهْمَ.
والثّانِي: أنَّهُ لَوْ كانَ العِلْمُ مُضافًا إلى المُشْرِكِينَ لَفَسَدَ المَعْنى؛ لَأنَّ مِنَ المُحالِ أنْ يَجْعَلُوا نَصِيبًا مِن رِزْقِهِمْ لِما لا يَعْلَمُونَهُ، فَهَذا ما قِيلَ في تَرْجِيحِ أحَدِ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ عَلى الآخَرِ.
واعْلَمْ أنّا إذا قُلْنا بِالقَوْلِ الأوَّلِ افْتَقَرْنا فِيهِ إلى الإضْمارِ، وذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا:
أحَدُها: ويَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ لَهُ حَقًّا، ولا يَعْلَمُونَ في طاعَتِهِ نَفْعًا ولا في الإعْراضِ عَنْهُ ضَرَرًا، قالَ مُجاهِدٌ: يَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ خَلَقَهم ويَضُرُّهم ويَنْفَعُهم، ثُمَّ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ أنَّهُ يَنْفَعُهم ويَضُرُّهم نَصِيبًا.
وثانِيها: ويَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ إلَهِيَّتَها.
وثالِثُها: ويَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ السَّبَبَ في صَيْرُورَتِها مَعْبُودَةً.
ورابِعُها: المُرادُ اسْتِحْقارُ الأصْنامِ حَتّى كَأنَّها لِقِلَّتِها لا تَعْلَمُ.
المسألة الثّانِيَةُ: في تَفْسِيرِ ذَلِكَ النَّصِيبِ احْتِمالاتٌ:
الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ أنَّهم جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ يَتَقَرَّبُونَ إلى اللَّهِ تَعالى بِهِ، ونَصِيبًا إلى الأصْنامِ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَيْها، وقَدْ شَرَحْنا ذَلِكَ في آخِرِ سُورَةِ الأنْعامِ.
والثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن هَذا النَّصِيبِ: البَحِيرَةُ والسّائِبَةُ والوَصِيلَةُ والحامُ، وهي قَوْلُ الحَسَنِ.
والثّالِثُ: رُبَّما اعْتَقَدُوا في بَعْضِ الأشْياءِ أنَّهُ إنَّما حَصَلَ بِإعانَةِ بَعْضِ تِلْكَ الأصْنامِ، كَما أنَّ المُنَجِّمِينَ يُوَزِّعُونَ مَوْجُوداتِ هَذا العالَمِ عَلى الكَواكِبِ السَّبْعَةِ، فَيَقُولُونَ لِزُحَلَ كَذا مِنَ المَعادِنِ والنَّباتِ والحَيَواناتِ، ولِلْمُشْتَرِي أشْياءُ أُخْرى فَكَذا هَهُنا.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنِ المُشْرِكِينَ هَذا المَذْهَبَ قالَ: ﴿تاللَّهِ لَتُسْألُنَّ﴾ وهَذا في هَؤُلاءِ الأقْوامِ خاصَّةً بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: ٩٢] وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَأقْسَمَ اللَّهُ تَعالى بِنَفْسِهِ أنَّهُ يَسْألُهم، وهَذا تَهْدِيدٌ مِنهُ شَدِيدٌ؛ لِأنَّ المُرادَ أنَّهُ يَسْألُهم سُؤالَ تَوْبِيخٍ وتَهْدِيدٍ.
وفِي وقْتِ هَذا السُّؤالِ احْتِمالانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ يَقَعُ ذَلِكَ السُّؤالُ عِنْدَ القُرْبِ مِنَ المَوْتِ ومُعايَنَةِ مَلائِكَةِ العَذابِ، وقِيلَ: عِنْدَ عَذابِ القَبْرِ.
والثّانِي: أنَّهُ يَقَعُ ذَلِكَ في الآخِرَةِ، وهَذا أوْلى لِأنَّهُ تَعالى قَدْ أخْبَرَ بِما يَجْرِي هُناكَ مِن ضُرُوبِ التَّوْبِيخِ عِنْدَ المسألة، فَهو إلى الوَعِيدِ أقْرَبُ.
النوع الثّانِي مِن كَلِماتِهِمُ الفاسِدَةِ: أنَّهم يَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَناتِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ [الزخرف: ١٩] كانَتْ خُزاعَةُ وكِنانَةُ تَقُولُ: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ. أقُولُ: أظُنُّ أنَّ العَرَبَ إنَّما أطْلَقُوا لَفْظَ البَناتِ لِأنَّ المَلائِكَةَ لَمّا كانُوا مُسْتَتِرِينَ عَنِ العُيُونِ أشْبَهُوا النِّساءَ في الِاسْتِتارِ، فَأطْلَقُوا عَلَيْهِمْ لَفْظَ البَناتِ. وأيْضًا قُرْصُ الشَّمْسِ يَجْرِي مَجْرى المُسْتَتِرِ عَنِ العُيُونِ بِسَبَبِ ضَوْئِهِ الباهِرِ ونُورِهِ القاهِرِ فَأطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ التَّأْنِيثِ، فَهَذا ما يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ في سَبَبِ إقْدامِهِمْ عَلى هَذا القَوْلِ الفاسِدِ والمَذْهَبِ الباطِلِ.
ولَمّا حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهم هَذا القَوْلَ قالَ: ﴿سُبْحانَهُ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ.
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ تَنْزِيهَ ذاتِهِ عَنْ نِسْبَةِ الوَلَدِ إلَيْهِ.
والثّانِي: تَعْجِيبُ الخَلْقِ مِن هَذا الجَهْلِ القَبِيحِ، وهو وصْفُ المَلائِكَةِ بِالأُنُوثَةِ، ثُمَّ نِسْبَتُها بِالوَلَدِيَّةِ إلى اللَّهِ تَعالى.
والثّالِثُ: قِيلَ في التَّفْسِيرِ: مَعْناهُ مَعاذَ اللَّهِ، وذَلِكَ مُقارِبٌ لِلْوَجْهِ الأوَّلِ.
ثم قال تَعالى: ﴿ولَهم ما يَشْتَهُونَ﴾ أجازَ الفَرّاءُ في ”ما“ وجْهَيْنِ:
الأوَّلَ: أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى مَعْنى: ويَجْعَلُونَ لِأنْفُسِهِمْ ما يَشْتَهُونَ.
والثّانِي: أنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلى الِابْتِداءِ كَأنَّهُ تَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَهُ﴾ ثُمَّ ابْتَدَأ فَقالَ ﴿ولَهم ما يَشْتَهُونَ﴾ يَعْنِي: البَنِينَ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿أمْ لَهُ البَناتُ ولَكُمُ البَنُونَ﴾ [الطور: ٣٩] ثُمَّ اخْتارَ الوجه الثّانِيَ وقالَ: لَوْ كانَ نَصِيبًا لَقالَ: ولِأنْفُسِهِمْ ما يَشْتَهُونَ، لِأنَّكَ تَقُولُ: جَعَلْتَ لِنَفْسِكَ كَذا (p-٤٥)وكَذا، ولا تَقُولُ: جَعَلْتَ لَكَ، وأبى الزَّجّاجُ إجازَةَ الوجه الأوَّلِ، وقالَ: ”ما“ في مَوْضِعِ رَفْعٍ لا غَيْرُ، والتَّقْدِيرُ: ولَهُمُ الشَّيْءُ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ، ولا يَجُوزُ النَّصْبُ؛ لِأنَّ العَرَبَ تَقُولُ: جَعَلَ لِنَفْسِهِ ما تَشْتَهِي، ولا تَقُولُ: جَعَلَ لَهُ ما يَشْتَهِي وهو يَعْنِي نَفْسَهُ.
* * *
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أنَّ الواحِدَ مِن هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ لا يَرْضى بِالوَلَدِ البِنْتِ لِنَفْسِهِ، فَما لا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ كَيْفَ يَنْسُبُهُ لِلَّهِ تَعالى فَقالَ: ﴿وإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِالأُنْثى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: التَّبْشِيرُ في عُرْفِ اللُّغَةِ مُخْتَصٌّ بِالخَبَرِ الَّذِي يُفِيدُ السُّرُورَ، إلّا أنَّهُ بِحَسَبِ أصْلِ اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ الخَبَرِ الَّذِي يُؤَثِّرُ في تَغَيُّرِ بَشَرَةِ الوجه، ومَعْلُومٌ أنَّ السُّرُورَ كَما يُوجِبُ تَغَيُّرَ البَشَرَةِ فَكَذَلِكَ الحُزْنُ يُوجِبُهُ. فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ لَفْظَةُ التَّبْشِيرِ حَقِيقَةً في القِسْمَيْنِ، ويَتَأكَّدُ هَذا بِقَوْلِهِ: ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١] ومِنهم مَن قالَ: المُرادُ بِالتَّبْشِيرِ هَهُنا الإخْبارُ، والقَوْلُ الأوَّلُ أدْخَلُ في التَّحْقِيقِ.
أما قوله ﴿ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ فالمَعْنى أنَّهُ يَصِيرُ مُتَغَيِّرًا تَغَيُّرَ مُغْتَمٍّ، ويُقالُ لِمَن لَقِيَ مَكْرُوهًا: قَدِ اسْوَدَّ وجْهُهُ غَمًّا وحَزَنًا، وأقُولُ: إنَّما جَعَلَ اسْوِدادَ الوجه كِنايَةً عَنِ الغَمِّ، وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ إذا قَوِيَ فَرَحُهُ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وانْبَسَطَ رُوحُ قَلْبِهِ مِن داخِلِ القَلْبِ، ووَصَلَ إلى الأطْرافِ، ولا سِيَّما إلى الوجه لِما بَيْنَهُما مِنَ التَّعَلُّقِ الشَّدِيدِ، وإذا وصَلَ الرُّوحُ إلى ظاهِرِ الوجه أشْرَقَ الوجه وتَلَأْلَأ واسْتَنارَ، وأمّا إذا قَوِيَ غَمُّ الإنْسانِ احْتَقَنَ الرُّوحُ في باطِنِ القَلْبِ، ولَمْ يَبْقَ مِنهُ أثَرٌ قَوِيٌّ في ظاهِرِ الوجه، فَلا جَرَمَ يُرَبَّدُ الوجه ويَصْفَرُّ ويَسْوَدُّ، ويَظْهَرُ فِيهِ أثَرُ الأرْضِيَّةِ والكَثافَةِ، فَثَبَتَ أنَّ مِن لَوازِمِ الفَرَحِ اسْتِنارَةَ الوجه وإشْراقَهُ، ومِن لَوازِمَ الغَمِّ كُمُودَةَ الوجه وغُبْرَتَهُ وسَوادَهُ، فَلِهَذا السَّبَبِ جُعِلَ بَياضُ الوجه وإشْراقُهُ كِنايَةً عَنِ الفَرَحِ، وغُبْرَتُهُ وكُمُودَتُهُ وسَوادُهُ كِنايَةً عَنِ الغَمِّ والحَزَنِ والكَراهِيَةِ، ولِهَذا المَعْنى قالَ: ﴿ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ﴾ أيْ: مُمْتَلِئٌ غَمًّا وحَزَنًا.
ثم قال تَعالى: ﴿يَتَوارى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ﴾ أيْ: يَخْتَفِي ويَتَغَيَّبُ مِن سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ، قالَ المُفَسِّرُونَ: كانَ الرَّجُلُ في الجاهِلِيَّةِ إذا ظَهَرَ آثارُ الطَّلْقِ بِامْرَأتِهِ تَوارى واخْتَفى عَنِ القَوْمِ إلى أنْ يَعْلَمَ ما يُولَدُ لَهُ، فَإنْ كانَ ذَكَرًا ابْتَهَجَ بِهِ، وإنْ كانَ أُنْثى حَزِنَ ولَمْ يَظْهَرْ لِلنّاسِ أيّامًا يُدَبِّرُ فِيها أنَّهُ ماذا يَصْنَعُ بِها ؟ وهو قَوْلُهُ: ﴿أيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أمْ يَدُسُّهُ في التُّرابِ﴾ والمَعْنى: أيَحْبِسُهُ ؟ والإمْساكُ هَهُنا بِمَعْنى الحَبْسِ كَقَوْلِهِ: ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ [الأحزاب: ٣٧] وإنَّما قالَ: ﴿أيُمْسِكُهُ﴾ ذَكَرَهُ بِضَمِيرِ الذُّكْرانِ؛ لِأنَّ هَذا الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى ”ما“ في قَوْلِهِ: ﴿بُشِّرَ بِهِ﴾ والهُونُ الهَوانُ قالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: يُقالُ: إنَّهُ أهْوَنُ عَلَيْهِ هُونًا وهَوانًا، وأهَنْتُهُ هُونًا وهَوانًا، وذَكَرْنا هَذا في سُورَةِ الأنْعامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿عَذابَ الهُونِ﴾ وفي أنَّ هَذا الهُونَ صِفَةُ مَن ؟ قَوْلانِ:
الأوَّلُ أنَّهُ صِفَةُ المَوْلُودَةِ، ومَعْناهُ أنَّهُ يُمْسِكُها عَنْ هُونٍ مِنهُ لَها.
والثّانِي قالَ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: إنَّهُ صِفَةٌ لِلْأبِ، ومَعْناهُ أنَّهُ يُمْسِكُها مَعَ الرِّضا بِهَوانِ نَفْسِهِ وعَلى رَغْمِ أنْفِهِ.
ثم قال ﴿أمْ يَدُسُّهُ في التُّرابِ﴾ والدَّسُّ إخْفاءُ الشَّيْءِ في الشَّيْءِ. يُرْوى أنَّ العَرَبَ كانُوا يَحْفِرُونَ حَفِيرَةً ويَجْعَلُونَها فِيها حَتّى تَمُوتَ. «ورُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عاصِمٍ أنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي وارَيْتُ ثَمانِيَ بَناتٍ في الجاهِلِيَّةِ فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ ”أعْتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ رَقَبَةً“ فَقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، إنِّي ذُو إبِلٍ، فَقالَ: ”اهْدِ عَنْ كُلِّ واحِدَةٍ هَدْيًا» “ «ورُوِيَ أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ما أجِدُ حَلاوَةَ الإسْلامِ مُنْذُ أسْلَمْتُ، فَقَدْ كانَتْ لِي في الجاهِلِيَّةِ ابْنَةٌ، فَأمَرْتُ امْرَأتِي أنْ تُزَيِّنَها، فَأخْرَجَتْها إلَيَّ فانْتَهَيْتُ بِها إلى وادٍ بَعِيدِ القَعْرِ فَألْقَيْتُها فِيهِ، فَقالَتْ: يا (p-٤٦)أبَتِ قَتَلْتَنِي، فَكُلَّما ذَكَرْتُ قَوْلَها لَمْ يَنْفَعْنِي شَيْءٌ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”ما كانَ في الجاهِلِيَّةِ فَقَدْ هَدَمَهُ الإسْلامُ وما كانَ في الإسْلامِ يَهْدِمُهُ الِاسْتِغْفارُ» “ واعْلَمْ أنَّهم كانُوا مُخْتَلِفِينَ في قَتْلِ البَناتِ، فَمِنهم مَن يَحْفِرُ الحَفِيرَةَ ويَدْفِنُها فِيها إلى أنْ تَمُوتَ، ومِنهم مَن يَرْمِيها مِن شاهِقِ جَبَلٍ، ومِنهم مَن يُغْرِقُها، ومِنهم مَن يَذْبَحُها، وهم كانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تارَةً لِلْغَيْرَةِ والحَمِيَّةِ، وتارَةً خَوْفًا مِنَ الفَقْرِ والفاقَةِ ولُزُومِ النَّفَقَةِ، ثُمَّ إنَّهُ قالَ: ﴿ألا ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّهم بَلَغُوا مِنَ الِاسْتِنْكافِ مِنَ البِنْتِ إلى أعْظَمِ الغاياتِ:
فَأوَّلُها: أنْ يَسْوَدَّ وجْهُهُ.
وثانِيها: أنَّهُ يَخْتَفِي عَنِ القَوْمِ مِن شِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنِ البِنْتِ.
وثالِثُها: أنَّ الوَلَدَ مَحْبُوبٌ بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، ثُمَّ إنَّهُ بِسَبَبِ شِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنْها يُقْدِمُ عَلى قَتْلِها، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّفْرَةَ عَنِ البِنْتِ والِاسْتِنْكافَ عَنْها قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا لا يَزْدادُ عَلَيْهِ. إذا ثَبَتَ هَذا فالشَّيْءُ الَّذِي بَلَغَ الِاسْتِنْكافُ مِنهُ إلى هَذا الحَدِّ العَظِيمِ كَيْفَ يَلِيقُ بِالعاقِلِ أنْ يَنْسُبَهُ لِإلَهِ العالِمِ المُقَدِّسِ العالِي عَنْ مُشابَهَةِ جَمِيعِ المَخْلُوقاتِ ؟ ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ ﴿تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزى﴾ [ النَّجْمِ:٢١ - ٢٢] .
المسألة الثّانِيَةُ: قالَ القاضِي: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى بُطْلانِ الخَبَرِ؛ لِأنَّهم يُضِيفُونَ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ الظُّلْمِ والفَواحِشِ ما إذا أُضِيفَ إلى أحَدِهِمْ أجْهَدَ نَفْسَهُ في البَراءَةِ مِنهُ والتَّباعُدِ عَنْهُ، فَحُكْمُهم في ذَلِكَ مُشابِهٌ لِحُكْمِ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ، ثم قال: بَلْ أعْظَمُ؛ لِأنَّ إضافَةَ البَناتِ إلَيْهِ إضافَةُ قُبْحٍ واحِدٍ، وذَلِكَ أسْهَلُ مِن إضافَةِ كُلِّ القَبائِحِ والفَواحِشِ إلى اللَّهِ تَعالى. فَيُقالُ لِلْقاضِي: إنَّهُ لَمّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ اسْتِحالَةُ الصّاحِبَةِ والوَلَدِ عَلى اللَّهِ تَعالى أرْدَفَهُ اللَّهُ تَعالى بِذِكْرِ هَذا الوجه الإقْناعِيِّ، وإلّا فَلَيْسَ كُلُّ ما قَبُحَ مِنّا في العُرْفِ قَبُحَ مِنَ اللَّهِ تَعالى. ألا تَرى رَجُلًا زَيَّنَ إماءَهُ وعَبِيدَهُ وبالَغَ في تَحْسِينِ صُوَرِهِنَّ، ثُمَّ بالَغَ في تَقْوِيَةِ الشَّهْوَةِ فِيهِمْ وفِيهِنَّ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ الكُلِّ وأزالَ الحائِلَ والمانِعَ، فَإنَّ هَذا بِالِاتِّفاقِ حَسَنٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وقَبِيحٌ مِن كُلِّ خَلْقٍ، فَعَلِمْنا أنَّ التَّعْوِيلَ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ المَبْنِيَّةِ عَلى العُرْفِ، فَلا جَرَمَ حَسُنَتْ تَقْوِيَتُها بِهَذِهِ الوُجُوهِ الإقْناعِيَّةِ. أمّا أفْعالُ العِبادِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلائِلِ اليَقِينِيَّةِ القاطِعَةِ أنَّ خالِقَها هو اللَّهُ تَعالى، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إلْحاقُ أحَدِ البابَيْنِ بِالآخَرِ لَوْلا شِدَّةُ التَّعَصُّبِ ؟ واللَّهُ أعْلَمُ.
ثم قال تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ولِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى﴾ والمَثَلُ السَّوْءُ عِبارَةٌ عَنِ الصِّفَةِ السَّوْءِ، وهي احْتِياجُهم إلى الوَلَدِ، وكَراهَتُهُمُ الإناثَ خَوْفَ الفَقْرِ والعارِ: ﴿ولِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى﴾ أيِ: الصِّفَةُ العالِيَةُ المُقَدَّسَةُ، وهي كَوْنُهُ تَعالى مُنَزَّهًا عَنِ الوَلَدِ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ جاءَ ﴿ولِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى﴾ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ﴾ [النحل: ٧٤] ؟
قُلْنا: المَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُهُ اللَّهُ حَقٌّ وصِدْقٌ والَّذِي يَذْكُرُهُ غَيْرُهُ فَهو الباطِلُ، واللَّهُ أعْلَمُ
{"ayahs_start":56,"ayahs":["وَیَجۡعَلُونَ لِمَا لَا یَعۡلَمُونَ نَصِیبࣰا مِّمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡۗ تَٱللَّهِ لَتُسۡـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَفۡتَرُونَ","وَیَجۡعَلُونَ لِلَّهِ ٱلۡبَنَـٰتِ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَلَهُم مَّا یَشۡتَهُونَ","وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدࣰّا وَهُوَ كَظِیمࣱ","یَتَوَ ٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦۤۚ أَیُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ یَدُسُّهُۥ فِی ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَاۤءَ مَا یَحۡكُمُونَ","لِلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوۡءِۖ وَلِلَّهِ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"],"ayah":"وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدࣰّا وَهُوَ كَظِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق