الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنِ القَوْمِ أنَّهم أنْكَرُوا كَوْنَهُ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأمْرَيْنِ:
الأوَّلُ: شَهادَةُ اللَّهِ عَلى نُبُوَّتِهِ، والمُرادُ مِن تِلْكَ الشَّهادَةِ أنَّهُ تَعالى أظْهَرَ المُعْجِزاتِ الدّالَّةَ عَلى كَوْنِهِ صادِقًا في ادِّعاءِ الرِّسالَةِ، وهَذا أعْلى مَراتِبِ الشَّهادَةِ؛ لِأنَّ الشَّهادَةَ قَوْلٌ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِأنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ، أمّا المُعْجِزُ فَإنَّهُ فِعْلٌ مَخْصُوصٌ يُوجِبُ القَطْعَ بِكَوْنِهِ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، فَكانَ إظْهارُ المُعْجِزَةِ أعْظَمَ مَراتِبِ الشَّهادَةِ.
والثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ وفِيهِ قِراءَتانِ:
إحْداهُما: القِراءَةُ المَشْهُورَةُ: ﴿ومَن عِنْدَهُ﴾ يَعْنِي والَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ.
والثّانِيَةُ: [ومِن عِنْدِهِ عِلْمُ الكِتابِ] وكَلِمَةُ ”مِن“ هاهُنا لِابْتِداءِ الغايَةِ أيْ ومِن عِنْدِ اللَّهِ حَصَلَ عِلْمُ الكِتابِ، أمّا عَلى القِراءَةِ الأُولى، فَفي تَفْسِيرِ الآيَةِ أقْوالٌ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ شَهادَةُ أهْلِ الكِتابِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهم: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ، وسَلْمانُ (p-٥٦)الفارِسِيُّ، وتَمِيمٌ الدّارِيُّ، ويُرْوى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أنَّهُ كانَ يُبْطِلُ هَذا الوجه، ويَقُولُ: السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فَلا يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ ابْنُ سَلامٍ وأصْحابُهُ؛ لِأنَّهم آمَنُوا في المَدِينَةِ بَعْدَ الهِجْرَةِ، وأُجِيبَ عَنْ هَذا السُّؤالِ بِأنْ قِيلَ: هَذِهِ السُّورَةُ وإنْ كانَتْ مَكِّيَّةً إلّا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وأيْضًا فَإثْباتُ النُّبُوَّةِ بِقَوْلِ الواحِدِ والِاثْنَيْنِ مَعَ كَوْنِهِما غَيْرَ مَعْصُومَيْنِ عَنِ الكَذِبِ لا يَجُوزُ، وهَذا السُّؤالُ واقِعٌ.
القَوْلُ الثّانِي: أرادَ بِالكِتابِ القُرْآنَ، أيْ أنَّ الكِتابَ الَّذِي جِئْتُكم بِهِ مُعْجِزٌ قاهِرٌ وبُرْهانٌ باهِرٌ، إلّا أنَّهُ لا يَحْصُلُ العِلْمُ بِكَوْنِهِ مُعْجِزًا إلّا لِمَن عَلِمَ ما في هَذا الكِتابِ مِنَ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ، واشْتِمالَهُ عَلى الغُيُوبِ وعَلى العُلُومِ الكَثِيرَةِ، فَمَن عَرَفَ هَذا الكِتابَ عَلى هَذا الوجه عَلِمَ كَوْنَهُ مُعْجِزًا، فَقَوْلُهُ: ﴿ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ أيْ ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ القُرْآنِ، وهو قَوْلُ الأصَمِّ.
القَوْلُ الثّالِثُ: ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ المُرادُ بِهِ: الَّذِي حَصَلَ عِنْدَهُ عِلْمُ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، يَعْنِي: أنَّ كُلَّ مَن كانَ عالِمًا بِهَذَيْنِ الكِتابَيْنِ عَلِمَ اشْتِمالَهُما عَلى البِشارَةِ بِمَقْدِمِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَإذا أنْصَفَ ذَلِكَ العالِمُ ولَمْ يَكْذِبْ كانَ شاهِدًا عَلى أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَسُولُ حَقٍّ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى.
القَوْلُ الرّابِعُ: ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ هو اللَّهُ تَعالى، وهو قَوْلُ الحَسَنِ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، والزَّجّاجِ، قالَ الحَسَنُ: لا واللَّهِ ما يَعْنِي إلّا اللَّهَ، والمَعْنى: كَفى بِالَّذِي يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ وبِالَّذِي لا يَعْلَمُ عِلْمَ ما في اللَّوْحِ إلّا هو شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم، وقالَ الزَّجّاجُ: الأشْبَهُ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَسْتَشْهِدُ عَلى صِحَّةِ حُكْمِهِ بِغَيْرِهِ، وهَذا القَوْلُ مُشْكِلٌ؛ لِأنَّ عَطْفَ الصِّفَةِ عَلى المَوْصُوفِ، وإنْ كانَ جائِزًا في الجُمْلَةِ إلّا أنَّهُ خِلافُ الأصْلِ، لا يُقالُ: شَهِدَ بِهَذا زَيْدٌ والفَقِيهُ، بَلْ يُقالُ: شَهِدَ بِهِ زَيْدٌ الفَقِيهُ، وأما قوله: إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَسْتَشْهِدُ بِغَيْرِهِ عَلى صِدْقِ حُكْمِهِ فَبَعِيدٌ؛ لِأنَّهُ لَمّا جازَ أنْ يُقْسِمَ اللَّهُ تَعالى عَلى صِدْقِ قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿والتِّينِ والزَّيْتُونِ﴾ [التِّينِ: ١] فَأيُّ امْتِناعٍ فِيما ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ.
وأمّا القِراءَةُ الثّانِيَةُ: وهي قَوْلُهُ: [ومِن عِنْدِهِ عِلْمُ الكِتابِ] عَلى مِنَ الجارَّةِ، فالمَعْنى: ومِن لَدُنْهُ عِلْمُ الكِتابِ؛ لِأنَّ أحَدًا لا يَعْلَمُ الكِتابَ إلّا مِن فَضْلِهِ وإحْسانِهِ وتَعْلِيمِهِ، ثُمَّ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ فَفِيهِ أيْضًا قِراءَتانِ: ومِن عِنْدِهِ عِلْمُ الكِتابِ، والمُرادُ العِلْمُ الَّذِي هو ضِدُّ الجَهْلِ، أيْ هَذا العِلْمُ إنَّما حَصَلَ مِن عِنْدِ اللَّهِ.
والقِراءَةُ الثّالِثَةُ: ومِن عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتابُ بِضَمِّ العَيْنِ وبِكَسْرِ اللّامِ وفَتْحِ المِيمِ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَهادَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى ما ذَكَرْناهُ، وكانَ لا مَعْنى لِشَهادَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى نُبُوَّتِهِ إلّا إظْهارُ القُرْآنِ عَلى وفْقِ دَعْواهُ، ولا يُعْلَمُ كَوْنُ القُرْآنِ مُعْجِزًا إلّا بَعْدَ الإحاطَةِ بِما في القُرْآنِ وأسْرارِهِ، بَيَّنَ تَعالى أنَّ هَذا العِلْمَ لا يَحْصُلُ إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ، والمَعْنى: أنَّ الوُقُوفَ عَلى كَوْنِ القُرْآنِ مُعْجِزًا لا يَحْصُلُ إلّا إذا شَرَّفَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ العَبْدَ بِأنْ يُعَلِّمَهُ عِلْمَ القُرْآنِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الأحَدِ الثّامِنَ عَشَرَ مِن شَعْبانَ سَنَةَ إحْدى وسِتِّمِائَةٍ، وأنا ألْتَمِسُ مِن كُلِّ مَن نَظَرَ كِتابِي هَذا وانْتَفَعَ بِهِ أنْ يَخُصَّ ولَدِي مُحَمَّدًا بِالرَّحْمَةِ والغُفْرانِ، وأنْ يَذْكُرَنِي بِالدُّعاءِ. وأقُولُ في مَرْثِيَّةِ ذَلِكَ الوَلَدِ شِعْرًا:
؎أرى مَعالِمَ هَذا العالَمِ الفانِي مَمْزُوجَةً بِمَخافاتٍ وأحْزانِ
؎خَيْراتُهُ مِثْلُ أحْلامٍ مُفَزِّعَةٍ ∗∗∗ وشَرُّهُ في البَرايا دائِمٌ دانِي
{"ayah":"وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَسۡتَ مُرۡسَلࣰاۚ قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِیدَۢا بَیۡنِی وَبَیۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَـٰبِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق