الباحث القرآني

﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا﴾ قِيلَ: قالَهُ رُؤَساءُ اليَهُودِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «قَدِمَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أُسْقُفٌ مِنَ اليَمَنِ فَقالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: هَلْ تَجِدُنِي في الإنْجِيلِ رَسُولًا قالَ: لا فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الآيَةَ» فالمُرادُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى هَذا هَذا ومَن وافَقَهُ ورَضِيَ بِقَوْلِهِ وصِيغَةُ الِاسْتِقْبالِ لِاسْتِحْضارِ صُورَةِ كَلِمَتِهِمُ الشَّنْعاءِ تَعْجِيبًا مِنها أوْ لِلدَّلالَةِ عَلى تَجَدُّدِ ذَلِكَ مِنهم واسْتِمْرارِهِ ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ فَإنَّهُ جَلَّ وعَلا قَدْ أظْهَرَ عَلى رِسالَتِي مِنَ الأدِلَّةِ والحُجَجِ ما فِيهِ غِنًى عَنْ شَهادَةِ شاهِدٍ آخَرَ وتَسْمِيَةُ ذَلِكَ شَهادَةً مَعَ أنَّهُ فِعْلٌ وهي قَوْلٌ مَجازٌ مِن حَيْثُ أنَّهُ يُغْنِي غِناها بَلْ هو أقْوى مِنها ﴿ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ . (43) . أيْ عِلْمُ القُرْآنِ وما عَلَيْهِ مِنَ النَّظْمِ المُعْجِزِ قِيلَ: والشَّهادَةُ إنْ أُرِيدَ بِها تُحَمُّلُها فالأمْرُ ظاهِرٌ وإنْ أُرِيدَ أداؤُها فالمُرادُ بِالمَوْصُولِ المُتَّصِفُ بِذَلِكَ العُنْوانِ مَن تَرَكَ العِنادَ وآمَنَ. وفِي الكَشْفِ أنَّ المَعْنى كَفى هَذا العالَمُ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ولا يَلْزَمُ مِن كِفايَتِهِ في الشَّهادَةِ أنْ يُؤَدِّيَها فَمَن أدّاها فَهو شاهِدٌ أمِينٌ ومَن لَمْ يُؤَدِّها فَهو خائِنٌ وفِيهِ تَعْرِيضٌ بَلِيغٌ بِأنَّهم لَوْ أنْصَفُوا شَهِدُوا وقِيلَ: المُرادُ بِالكِتابِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ والمُرادُ بِمَن عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ الَّذِينَ أسْلَمُوا مِن أهْلِ الكِتابَيْنِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وأضْرابِهِ فَإنَّهم يَشْهَدُونَ بِنَعْتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في كِتابِهِمْ وإلى هَذا ذَهَبَ قَتادَةُ فَقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: كانَ مِن أهْلِ الكِتابِ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ بِالحَقِّ ويَعْرِفُونَهُ مِنهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ والجارُودُ وتَمِيمٌ الدّارِيُّ وسَلْمانُ الفارِسِيُّ وجاءَ عَنْ مُجاهِدٍ وغَيْرِهِ وهي رِوايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ ولَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ مِن طَرِيقِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ جُنْدُبٍ قالَ: جاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ حَتّى أخَذَ بِعِضادَتَيْ بابِ المَسْجِدِ ثُمَّ قالَ: أنْشُدُكم بِاللَّهِ تَعالى أتَعْلَمُونَ أنِّي الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ ﴿ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ قالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ وأنْكَرَ ابْنُ جُبَيْرٍ ذَلِكَ فَقَدْ أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وجَماعَةٌ عَنْهُ أنَّهُ سُئِلَ أهَذا الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ فَقالَ: كَيْفَ وهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ والشَّعْبِيُّ أنْكَرَ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ نَزَلَ فِيهِ (p-176)وهَذا لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فَمَن حَفِظَ حُجَّةٌ عَلى مَن لَمْ يَحْفَظْ وأُجِيبَ عَنْ شُبْهَةِ ابْنِ جُبَيْرٍ بِأنَّهم قَدْ يَقُولُونَ: إنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وبَعْضُ آياتِها مَدَنِيَّةٌ فَلْتَكُنْ هَذِهِ مِن ذَلِكَ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لا بُدَّ لِهَذا مِن نَقْلٍ. وفِي البَحْرِ أنَّ ما ذُكِرَ لا يَسْتَقِيمُ إلّا أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ مَدَنِيَّةً والجُمْهُورُ عَلى أنَّها مَكِّيَّةٌ وأُجِيبَ بِأنَّ ذَلِكَ لا يُنافِي كَوْنَ الآيَةِ مَكِّيَّةً بِأنْ يَكُونَ الكَلامُ إخْبارًا عَمّا سَيَشْهَدُ بِهِ ولَكَ أنْ تَقُولَ إذا كانَ المَعْنى عَلى طُرُزِ ما في الكَشْفِ وأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن كِفايَةِ مَن ذُكِرَ في الشَّهادَةِ أداؤُها لَمْ يَضُرَّ كَوْنُ الآيَةِ مَكِّيَّةً وعَدَمَ إسْلامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ حِينَ نُزُولِها بَلْ ولا عَدَمَ حُضُورِهِ ولا مانِعَ أنْ تَكُونَ الآيَةُ مَكِّيَّةً والمُرادُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أهْلُ مَكَّةَ ﴿ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ اليَهُودُ والنَّصارى كَما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِن طَرِيقِ العَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ويَكُونُ حاصِلُ الجَوابِ بِذَلِكَ إنَّكم لَسْتُمْ بِأهْلِ كِتابٍ فاسْألُوا أهْلَهُ فَإنَّهم في جِوارِكم نَعَمْ قالَ شَيْخُ الإسْلامِ: إنَّ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ وكَأنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلى الخِلافِ وقِيلَ: المُرادُ بِالكِتابِ اللَّوْحُ و( مَن ) عِبارَةٌ عَنْهُ تَعالى ورُوِيَ هَذا عَنْ مُجاهِدٍ والزَّجّاجِ وعَنِ الحَسَنِ لا واللَّهِ ما يَعْنِي إلّا اللَّهَ تَعالى والمَعْنى كَما في الكَشّافِ كَفى بِالَّذِي يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ وبِالَّذِي لا يَعْلَمُ عِلْمَ ما في اللَّوْحِ إلّا هو شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم وبِهَذا التَّأْوِيلِ صارَ العَطْفُ مِثْلَهُ في قَوْلِهِ: . ؎إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحِمِ فَلا مَحْذُورَ في العَطْفِ والحَصْرُ إمّا مِنَ الخارِجِ لِأنَّ عِلْمَ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ تَعالى أوْ لِلذَّهابِ إلى أنَّ الظَّرْفَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ فَيُفِيدُ الحَصْرَ وقَسَمُ الحَسَنِ لِلْمُبالَغَةِ في رَدِّ ما زَعَمُوا عَلى ما قِيلَ: وفي الكَشْفِ إنَّما بالَغَ الحَسَنُ لِما قَدَّمْنا مِن بِناءِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ عَلى ما بُنِيَ وجَعَلَ السّابِقَةَ مِثْلَ الخاتِمَةِ وما في العَطْفِ مِنَ النُّكْتَةِ ولِهَذا فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: كَفى بِالَّذِي .. إلَخْ عَطَفَهُ عَطْفَ ذاتٍ عَلى ذاتٍ إشارَةً إلى الِاسْتِقْلالِ بِالشَّهادَةِ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنَ الوَصْفَيْنِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى الآخِرِ فالَّذِي يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ قَدْ شَهِدَ بِما شَحَنَ الكِتابَ مِنَ الدَّعْوَةِ إلى عِبادَتِهِ وبِما أيَّدَ عَبْدَهُ مَن عِنْدَهُ بِأنْواعِ التَّأْيِيدِ والَّذِي لا يَعْلَمُ عِلْمَ ما في اللَّوْحِ أيْ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ إلّا هو قَدْ شَهِدَ بِما ضَمَّنَ الكِتابَ مِنَ المَعارِفِ وأنْزَلَهُ عَلى أُسْلُوبٍ فائِقٍ عَلى المُتَعارَفِ ويُعَضِّدُ ذَلِكَ القَوْلَ أنَّهُ قَرَأ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وأُبَيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ وابْنُ جُبَيْرٍ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي بَكْرَةَ والضَّحّاكُ وسالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وابْنُ أبِي إسْحاقَ ومُجاهِدٌ والحَكَمُ والأعْمَشُ ( ومِن عِنْدِهِ عِلْمُ الكِتابِ ) بِجَعْلِ مِن حَرْفَ جَرٍّ والجارُّ والمَجْرُورُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وعِلَمُ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. وقَرَأ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أيْضًا وابْنُ السَّمَيْقَعِ والحَسَنُ بِخِلافٍ عَنْهُ ( ومِن ) عِنْدِهِ بِحَرْفِ الجَرِّ و( عُلِمَ الكِتابُ ) عَلى أنَّ عُلِمَ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ و( الكِتابُ ) نائِبُ الفاعِلِ فَإنَّ ضَمِيرَ ( عِنْدَهُ ) عَلى القِراءَتَيْنِ راجِعٌ لِلَّهِ تَعالى كَما في القِراءَةِ السّابِقَةِ عَلى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ والأصْلُ تَوافُقُ القِراءاتِ وقِيلَ: المُرادُ بِالكِتابِ اللَّوْحُ وبِمَن جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وأخْرَجَ تَفْسِيرُ ( مَن ) بِذَلِكَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وهو كَما تَرى. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ والباقِرُ كَما في البَحْرِ: المُرادُ بِـ ( مَن ) عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالكِتابِ حِينَئِذٍ القُرْآنُ ولَعَمْرِي أنَّ عِنْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عِلْمَ الكِتابِ كامِلًا لَكِنَّ الظّاهِرَ أنَّهُ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ غَيْرُ مُرادٍ والظّاهِرُ أنَّ ( مَن ) في قِراءَةِ الجُمْهُورِ في مَحَلِّ جَرٍّ بِالعَطْفِ عَلى لَفْظِ الِاسْمِ الجَلِيلِ ويُؤَيِّدُهُ أنَّهُ قُرِئَ بِإعادَةِ الباءِ في الشَّواذِّ وقِيلَ: إنَّهُ في مَحَلِّ رَفْعٍ بِالعَطْفِ عَلى مَحَلِّهِ لِأنَّ الباءَ زائِدَةٌ وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (p-177)يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أعْدَلُ أوْ أمْضى قَوْلًا أوْ نَحْوَ هَذا مِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ ﴿شَهِيدًا﴾ ويُرادُ بِذَلِكَ اللَّهُ تَعالى وفِيهِ مِنَ البُعْدِ ما لا يَخْفى والعِلْمُ في القِراءَةِ الَّتِي وقَعَ ﴿عِنْدَهُ﴾ فِيها صِلَةُ مَرْفُوعٍ بِالمُقَدَّرِ في الظَّرْفِ فَيَكُونُ فاعِلًا لِأنَّ الظَّرْفَ إذا وقَعَ صِلَةً أوْغَلَ في شِبْهِ الفِعْلِ لِاعْتِمادِهِ عَلى المَوْصُولِ فَعَمِلَ عَمَلَ الفِعْلِ كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِالَّذِي في الدّارِ أخُوهُ فَأخُوهُ فاعِلٌ كَما تَقُولُ: بِالَّذِي اسْتَقَرَّ في الدّارِ أخُوهُ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ ولَيْسَ بِالمُتَحَتَّمِ لِأنَّ الظَّرْفَ وشِبْهَهُ إذا وقَعا صِلَتَيْنِ أوْ صِفَتَيْنِ أوْ حالَيْنِ أوْ خَبَرَيْنِ أوْ تَقَدُّمَهُما أداةُ نَفْيٍ أوِ اسْتِفْهامٍ جازَ فِيما بَعْدَهُما مِنَ الِاسْمِ الظّاهِرِ أنْ يَرْتَفِعَ عَلى الفاعِلِيَّةِ وهو الأجْوَدُ وجازَ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً والظَّرْفُ أوْ شِبْهُهُ في مَوْضِعِ الخَبَرِ والجُمْلَةُ مِنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ صِلَةٌ أوْ صِفَةٌ أوْ حالٌ أوْ خَبَرٌ وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى اسْمِ الفاعِلِ فَكَما جازَ ذَلِكَ فِيهِ وإنْ كانَ الأحْسَنُ أعْمالَهُ في الِاسْمِ الظّاهِرِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِيما نابَ عَنْهُ مِن ظَرْفٍ أوْ مَجْرُورٍ وقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلى إجازَةِ ذَلِكَ في نَحْوِ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٌ وجْهُهُ فَأجازَ رَفْعَ حَسَنٌ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُهم أنَّ اسْمَ الفاعِلِ إذا اعْتَمَدَ عَلى شَيْءٍ مِمّا ذُكِرَ تَحَتَّمَ إعْمالُهُ في الظّاهِرِ ولَيْسَ كَذَلِكَ وقَدْ أعْرَبَ الحَوْفِيُّ ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ مُبْتَدَأً وخَبَرًا في صِلَةِ ( مَن ) وهو مَيْلٌ إلى المَرْجُوحِ وفي الآيَةِ عَلى القِراءَتَيْنِ بِمِنَ الجارَّةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ تَشْرِيفَ العَبْدِ بِعُلُومِ القُرْآنِ مِن إحْسانِ اللَّهِ تَعالى إلَيْهِ وتَوْفِيقِهِ نَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يُشَرِّفَنا بَهاتِيكَ العُلُومِ ويُوَفِّقَنا لِلْوُقُوفِ عَلى أسْرارِ ما فِيهِ مِنَ المَنطُوقِ والمَفْهُومِ ويَجْعَلَنا مِمَّنْ تَمَسَّكَ بِعُرْوَتِهِ الوُثْقى واهْتَدى بِهُداهُ حَتّى لا يَضِلَّ ولا يُشْقى بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ ﷺ . * * * هَذا ( ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ ) . ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾ قِيلَ: عَهْدُ اللَّهِ تَعالى مَعَ المُؤْمِنِينَ القِيامُ لَهُ سُبْحانَهُ بِالعُبُودِيَّةِ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ ﴿والَّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ﴾ فَيَصِلُونَ بِقُلُوبِهِمْ مَحَبَّتَهُ وبِأسْرارِهِمْ مُشاهَدَتَهُ سُبْحانَهُ وقُرْبَتَهُ ﴿ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ عِنْدَ تَجَلِّي الصِّفاتِ في مَقامِ القَلْبِ فَيُشاهِدُونَ جَلالَ صِفَةِ العَظَمَةِ ويَلْزَمُهُمُ الهَيْبَةُ والخَشْيَةُ ﴿ويَخافُونَ سُوءَ الحِسابِ﴾ عِنْدَ تَجَلِّي الأفْعالِ في مَقامِ النَّفْسِ فَيَنْظُرُونَ إلى البَطْشِ والعِقابِ فَيَلْزَمُهُمُ الخَوْفُ. وسُئِلَ ابْنُ عَطاءٍ ما الفَرْقُ بَيْنَ الخَشْيَةِ والخَوْفِ فَقالَ: الخَشْيَةُ مِنَ السُّقُوطِ عَنْ دَرَجاتِ الزُّلْفى والخَوْفُ مِنَ اللُّحُوقِ بِدَرَكاتِ المَقْتِ والجَفا وقالَ بَعْضُهُمُ: الخَشْيَةُ أدَقُّ والخَوْفُ أصْلَبُ ﴿والَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِمْ﴾ صَبَرُوا عَمّا دُونِ اللَّهِ تَعالى بِاللَّهِ سُبْحانَهُ لِكَشْفِ أنْوارِ وجْهِهِ الكَرِيمِ أوْ صَبَرُوا في سُلُوكِ سَبِيلِهِ سُبْحانَهُ عَنِ المَأْلُوفاتِ طَلَبًا لِرِضاهُ ﴿وأقامُوا الصَّلاةَ﴾ صَلاةَ المُشاهَدَةِ أوِ اشْتَغَلُوا بِالتَّزْكِيَةِ بِالعِباداتِ البَدَنِيَّةِ ﴿وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهم سِرًّا وعَلانِيَةً﴾ أفادُوا مِمّا مَنَنّا عَلَيْهِمْ مِنَ الأحْوالِ والمَقاماتِ والكُشُوفِ وهَذَّبُوا المُرِيدِينَ حَتّى صارَ لَهم ما صارَ لَهم ظاهِرًا وباطِنًا أوِ اشْتَغَلُوا بِالتَّزْكِيَةِ بِالعِباداتِ المالِيَّةِ أيْضًا ﴿ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ﴾ الحاصِلَةِ لَهم مِن تَجَلِّي الصِّفَةِ الإلَهِيَّةِ السَّنِيَّةِ ﴿السَّيِّئَةَ﴾ الَّتِي هي صِفَةُ النَّفْسِ وقالَ بَعْضُهم: يُعاشِرُونَ النّاسَ بِحُسْنِ الخُلُقِ فَإنْ عامَلَهم أحَدٌ بِالجَفاءِ قابَلُوهُ بِالوَفاءِ ﴿أُولَئِكَ لَهم عُقْبى الدّارِ﴾ البَقاءُ بَعْدَ الفَناءِ أوِ العاقِبَةُ الحَمِيدَةُ ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ﴾ قِيلَ: يَدْخُلُونَ جَنَّةَ الذّاتِ ومَن صَلَحَ مِن آباءِ الأرْواحِ ويَدْخُلُونَ جَنَّةَ الصِّفاتِ بِالقُلُوبِ ويَدْخُلُونَ جَنَّةَ الأفْعالِ ومَن صَلَحَ مِن أزْواجِ النُّفُوسِ وذُرِّيّاتِ القُوى أوْ يَدْخُلُونَ جَنّاتِ القُرْبِ والمُشاهَدَةِ والوِصالِ ومَن صَلَحَ مِنَ المَذْكُورِينَ تَبَعٌ لَهم ولِأجْلِ عَيْنٍ ألْفُ (p-178)عَيْنٍ تُكْرَمُ ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكم بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ﴾ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ أهْلُ الجَبَرُوتِ والمَلَكُوتِ مِن كُلِّ بابٍ مِن أبْوابِ الصِّفاتِ مُحَيِّينَ لَهم بِتَحايا الإشْراقاتِ النُّورِيَّةِ والإمْداداتِ القُدُسِيَّةِ أوْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ الَّذِينَ صَحِبُوهم في الدُّنْيا مَن كُلِّ بابٍ مِن أبْوابِ الطّاعَةِ مُسَلِّمِينَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ اسْتِقْرارِهِمْ في مَنازِلِهِمْ كَما يُسَلِّمُ أصْحابُ الغائِبِ عَلَيْهِ إذا قَدِمَ إلى مَنزِلِهِ واسْتَقَرَّ فِيهِ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الإيمانَ العِلْمِيَّ بِالغَيْبِ ﴿وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ قالُوا: ذِكْرُ النَّفْسِ بِاللِّسانِ والتَّفَكُّرُ في النِّعَمِ وذِكْرُ القَلْبِ بِالتَّفَكُّرِ في المَلَكُوتِ ومُطالَعَةِ صِفاتِ الجَمالِ وذِكْرُ السِّرِّ بِالمُناجاةِ وذِكْرُ الرُّوحِ بِالمُشاهَدَةِ وذِكْرُ الخَفاءِ بِالمُناغاةِ في العِشْقِ وذِكْرُ اللَّهِ تَعالى بِالفَناءِ فِيهِ ﴿ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ وذَلِكَ أنَّ النَّفْسَ تَضْطَرِبُ بِظُهُورِ صِفاتِها وأحادِيثِها وتَطِيشُ فَيَتَلَوَّنُ القَلْبُ ويَتَغَيَّرُ لِذَلِكَ فَإذا تَفَكَّرَ في المَلَكُوتِ ومُطالَعَةِ أنْوارِ الجَمالِ والجَبَرُوتِ اسْتَقَرَّ واطْمَأنَّ وسائِرُ أنْواعِ الذِّكْرِ إنَّما يَكُونُ بَعْدَ الِاطْمِئْنانِ قالَ الهَزْجُورِيُّ: قُلُوبُ الأوْلِياءِ مُطْمَئِنَّةٌ لا تَتَحَرَّكُ دائِمًا خَشْيَةَ أنْ يَتَجَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْها فَجْأةً فَيَجِدَها غَيْرَ مُتَّسِمَةٍ بِالأدَبِ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ تَخْلِيَةٌ وتَحْلِيَةٌ ﴿طُوبى لَهُمْ﴾ بِالوُصُولِ إلى الفِطْرَةِ وكَمالِ الصِّفاتِ ﴿وحُسْنُ مَآبٍ﴾ بِالدُّخُولِ في جَنَّةِ القَلْبِ وهي جَنَّةُ الصِّفاتِ أوْ طُوبى لَهُمُ الآنَ حَيْثُ لَمْ يُوجَدُ مِنهم ما يُخالِفُ رِضاءَ مَحْبُوبِهِمْ وحُسْنُ مَآبٍ في الآخِرَةِ حَيْثُ لا يَجِدُونَ مِن مَحْبُوبِهِمْ خِلافَ مَأْمُولِهِمْ ﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ أيْ بِحَسَبِ كَسْبِها ومُقْتَضاهُ أيْ كَما تَقْتَضِي مَكْسُوباتُها مِنَ الصِّفاتِ والأحْوالِ الَّتِي تَعْرِضُ لِاسْتِعْدادِها يَفِيضُ عَلَيْها مِنَ الجَزاءِ ﴿قُلْ إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ ولا أُشْرِكَ بِهِ﴾ ما أخْرَجَ سُبْحانَهُ أحَدًا مِنَ العُبُودِيَّةِ حَتّى سَيِّدَ أحْرارِ البَرِيَّةِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وفَسَّرَها أبُو حَفْصٍ بِأنَّها تَرْكُ كُلِّ مُلْكٍ ومُلازَمَةُ المَأْمُورِ بِهِ. وقالَ الجُنَيْدُ قُدِّسَ سِرُّهُ: لا يَرْتَقِي أحَدٌ في دَرَجاتِ العُبُودِيَّةِ حَتّى يُحَكِّمَ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى أوائِلَ البِداياتِ وهي الفُرُوضُ والواجِباتُ والسُّنَنُ والأوْرادُ ومَطايا الفَضْلِ عَزائِمُ الأُمُورِ فَمَن أحْكَمَ عَلى نَفْسِهِ هَذا مَنَّ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ بِما بَعْدَهُ ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلا مِن قَبْلِكَ وجَعَلْنا لَهم أزْواجًا وذُرِّيَّةً﴾ فِيهِ عَلى ما قِيلَ إشارَةٌ إلى أنَّهُ إذا شَرَّفَ اللَّهُ تَعالى شَخْصًا بِوِلايَتِهِ لَمْ يَضُرَّ بِهِ مُباشَرَةُ أحْكامِ البَشَرِيَّةِ مِنَ الأهْلِ والوَلَدِ ولَمْ يَكُنْ بَسْطُ الدُّنْيا لَهُ قَدْحًا في وِلايَتِهِ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وما كانَ لِرَسُولٍ أنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ فِيهِ مَنعُ طَلَبِ الكَراماتِ واقْتِراحِها مِنَ المَشايِخِ ﴿لِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ﴾ لِكُلِّ وقْتٍ أمْرٌ مَكْتُوبٌ يَقَعُ فِيهِ ولا يَقَعُ في غَيْرِهِ ومِن هُنا قِيلَ: الأُمُورُ مَرْهُونَةٌ لِأوْقاتِها وقِيلَ: لِلَّهِ تَعالى خَواصُّ في الأزْمِنَةِ والأمْكِنَةِ والأشْخاصِ ﴿يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ﴾ قِيلَ: يَمْحُو عَنْ ألْواحِ العُقُولِ صُوَرَ الأفْكارِ ويَثْبُتُ فِيها أنْوارَ الأذْكارِ ويَمْحُو عَنِ أوْراقِ القُلُوبِ عُلُومَ الحِدْثانِ ويَثْبُتُ فِيها لَدُنِيّاتِ عِلْمِ العِرْفانِ وقِيلَ: يَمْحُو العارِفِينَ بِكَشْفِ جَلالِهِ ويُثْبِتُهم في وقْتٍ آخَرَ بِلُطْفِ جِمالِهِ وقالَ ابْنُ عَطاءٍ: يَمْحُو أوْصافَهم ويُثْبِتُ أسْرارَهم لِأنَّها مَوْضِعُ المُشاهَدَةِ وقِيلَ: يَمْحُو ما يَشاءُ عَنِ الألْواحِ الجُزْئِيَّةِ الَّتِي هي النُّفُوسُ السَّماوِيَّةُ مِنَ النُّقُوشِ الثّابِتَةِ فِيها فَيُعْدِمُ عَنِ المَوادِّ ويُفْنِي ويُثْبِتُ ما يَشاءُ فِيها فَيُوجِدُ ﴿وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾ العِلْمُ الأزَلِيُّ القائِمُ بِذاتِهِ سُبْحانَهُ وقِيلَ: لَوْحُ القَضاءِ السّابِقِ الَّذِي هو عَقْلُ الكُلِّ وفِيهِ كُلُّ ما كانَ ويَكُونُ أزَلًا وأبَدًا عَلى الوَجْهِ الكُلِّيِّ المُنَزَّهِ عَنِ المَحْوِ والإثْباتِ وذَكَرُوا أنَّ الألْواحَ أرْبَعَةٌ لَوْحُ القَضاءِ السّابِقِ العالِي عَنِ المَحْوِ والإثْباتِ وهو لَوْحُ العَقْلِ الأوَّلِ ولَوْحُ القَدَرِ وهو لَوْحُ النَّفْسِ النّاطِقَةِ الكُلِّيَّةِ الَّتِي يَفْصِلُ فِيها كُلِّيّاتُ اللَّوْحِ الأوَّلِ وهو المُسَمّى بِاللَّوْحِ المَحْفُوظِ ولَوْحُ النُّفُوسِ الجُزْئِيَّةِ (p-179)السَّماوِيَّةِ الَّتِي يَنْتَقِشُ فِيها كُلُّ ما في هَذا العالَمِ بِشَكْلِهِ وهَيْئَتِهِ ومِقْدارِهِ وهو المُسَمّى بِالسَّماءِ الدُّنْيا وهو بِمَثابَةِ خَيالِ العالَمِ كَما أنَّ الأوَّلَ بِمَثابَةِ رُوحِهِ والثّانِي بِمَثابَةِ قَلْبِهِ ثُمَّ لَوْحُ الهَيُولِيِّ القابِلُ لِلصُّوَرِ في عالَمِ الشَّهادَةِ. اهَـ. وهو كَلامٌ فَلْسَفِيٌّ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها﴾ قِيلَ: ذَلِكَ بِذَهابِ أهْلِ الوِلايَةِ الَّذِينَ بِهِمْ عِمارَةُ الأرْضِ وقِيلَ: الإشارَةُ أنّا نَقْصِدُ أرْضَ وقْتِ الجَسَدِ الشَّيْخُوخَةَ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها بِضَعْفِ الأعْضاءِ والقُوى الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتّى يَحْصُلَ المَوْتُ أوْ نَأْتِي أرْضَ النَّفْسِ وقْتَ السُّلُوكِ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها بِإفْناءِ أفْعالِها بِأفْعالِنا أوَّلًا وبِإفْناءِ صِفاتِها ثانِيًا وبِإفْناءِ ذاتِها في ذاتِنا ثالِثًا ﴿لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ لا رادَّ ولا مُبَدِّلَ لِكُلِّ ما حَكَمَ بِهِ نَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يَحْكُمَ لَنا بِما هو خَيْرٌ وأوْلى في الآخِرَةِ والأُولى بِحُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وشَرَفٍ وعِظَمٍ وكَرَمٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب