الباحث القرآني

﴿قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ أي ومن عنده علم الكتاب يشهد لي، وشهادته مقبولة لأنها شهادة بعلم، قال الله تعالى: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أنْزَلَ إلَيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، والمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وكَفى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ١٦٦]، وقال تعالى ﴿قُلْ أي شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً، قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ١٩]، فأخبر سبحانه في هذه المواضع بشهادته لرسوله وكفى بشهادته إثباتًا لصدقه وكفى به شهيدًا. فإن قيل: وما شهادته سبحانه لرسوله؟ قيل: هي ما أقام على صدقه من الدلالات والآيات المستلزمة لصدقه بعد العلم بها ضرورة، فدلالتها على صدقه أعظم من دلالة كل بينة وشاهد على حق، فشهادته سبحانه لرسوله أصدق شهادة وأعظمها وأدلها على ثبوت المشهود به، فهذا وجه. ووجه آخر: أنه صدقه بقوله وأقام الأدلة القاطعة على صدقه فيما يخبر به عنه، فإذا أخبر عنه أنه شهد له قولًا لزم ضرورة صدقه في ذلك الخبر وصحت الشهادة له به قطعًا، فهذا معنى الآية. * [فَصْلٌ الِاسْتِشْهادُ عَلى الرِّسالَةِ بِشَهادَةِ اللَّهِ لَهُ] وَمِن هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ [الرعد: ٤٣] فاسْتَشْهَدَ عَلى رِسالَتِهِ بِشَهادَةِ اللَّهِ لَهُ، ولابُدَّ أنَّ تُعْلَمَ هَذِهِ الشَّهادَةُ، وتَقُومَ بِها الحُجَّةُ عَلى المُكَذِّبِينَ لَهُ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ١٩] وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أنْزَلَ إلَيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ والمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ١٦٦] وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يس - والقُرْآنِ الحَكِيمِ - إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [يس: ١-٣] وقَوْلُهُ: ﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ وإنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٢] وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ [المنافقون: ١] وقَوْلُهُ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ [الفتح: ٢٩] فَهَذا كُلُّهُ شَهادَةٌ مِنهُ لِرَسُولِهِ، قَدْ أظْهَرَها وبَيَّنَها، وبَيَّنَ صِحَّتَها غايَةَ البَيانِ، بِحَيْثُ قَطَعَ العُذْرَ بَيْنَهُ وبَيْنَ عِبادِهِ، وأقامَ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، فَكَوْنُهُ سُبْحانَهُ شاهِدًا لِرَسُولِهِ: مَعْلُومٌ بِسائِرِ أنْواعِ الأدِلَّةِ: عَقْلِيِّها ونَقْلِيِّها وفِطْرِيِّها وضَرُورِيِّها ونَظَرِيِّها. وَمَن نَظَرَ في ذَلِكَ وتَأمَّلَهُ؛ عَلِمَ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ شَهِدَ لِرَسُولِهِ أصْدَقَ الشَّهادَةِ، وأعْدَلَها وأظْهَرَها، وصَدَّقَهُ بِسائِرِ أنْواعِ التَّصْدِيقِ: بِقَوْلِهِ الَّذِي أقامَ البَراهِينَ عَلى صِدْقِهِ فِيهِ، وبِفِعْلِهِ وإقْرارِهِ، وبِما فَطَرَ عَلَيْهِ عِبادَهُ: مِنَ الإقْرارِ بِكَمالِهِ، وتَنْزِيهِهِ عَنِ القَبائِحِ، وعَمّا لا يَلِيقُ بِهِ، وفي كُلِّ وقْتٍ يُحْدِثُ مِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِ رَسُولِهِ ما يُقِيمُ بِهِ الحُجَّةَ، ويُزِيلُ بِهِ العُذْرَ، ويَحْكُمُ لَهُ ولِأتْباعِهِ بِما وعَدَهم بِهِ مِنَ العِزِّ والنَّجاةِ والظَّفَرِ والتَّأْيِيدِ، ويَحْكُمُ عَلى أعْدائِهِ ومُكَذِّبِيهِ بِما تَوَعَّدَهم بِهِ: مِنَ الخِزْيِ والنَّكالِ والعُقُوباتِ المُعَجَّلَةِ، الدّالَّةِ عَلى تَحْقِيقِ العُقُوباتِ المُؤَجَّلَةِ ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: ٢٨] فَيُظْهِرُهُ ظُهُورَيْنِ: ظُهُورًا بِالحُجَّةِ، والبَيانِ، والدَّلالَةِ، وظُهُورًا بِالنَّصْرِ والظَّفَرِ والغَلَبَةِ، والتَّأْيِيدِ، حَتّى يُظْهِرَهُ عَلى مُخالِفِيهِ، ويَكُونَ مْنُصُورًا. وَقَوْلُهُ ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أنْزَلَ إلَيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ والمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ [النساء: ١٦٦] فَما فِيهِ مِنَ الخَبَرِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ الَّذِي لا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ: مِن أعْظَمِ الشَّهادَةِ بِأنَّهُ هو الَّذِي أنْزَلَهُ، كَما قالَ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ - فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكم فاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وأنْ لا إلَهَ إلّا هو فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [هود: ١٣-١٤] وَلَيْسَ المُرادُ مُجَرَّدَ الإخْبارِ بِأنَّهُ أنْزَلَهُ - وهو مَعْلُومٌ لَهُ، كَما يَعْلَمُ سائِرَ الأشْياءِ، فَإنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَعْلُومٌ لَهُ مِن حَقٍّ وباطِلٍ - وإنَّما المَعْنى: أنْزَلَهُ مُشْتَمِلًا عَلى عِلْمِهِ، فَنُزُولُهُ مُشْتَمِلًا عَلى عِلْمِهِ هو آيَةُ كَوْنِهِ مِن عِنْدِهِ، وأنَّهُ حَقٌّ وصِدْقٌ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ: ﴿قُلْ أنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الفرقان: ٦] ذَكَرَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ تَكْذِيبًا ورَدًّا عَلى مَن قالَ: افْتَراهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب