الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا ياأيُّها العَزِيزُ مَسَّنا وأهْلَنا الضُّرُّ وجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأوْفِ لَنا الكَيْلَ وتَصَدَّقْ عَلَيْنا إنَّ اللَّهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ﴾ ﴿قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وأخِيهِ إذْ أنْتُمْ جاهِلُونَ﴾ ﴿قالُوا أئِنَّكَ لَأنْتَ يُوسُفُ قالَ أنا يُوسُفُ وهَذا أخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إنَّهُ مَن يَتَّقِ ويَصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّ المُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ هَهُنا مَحْذُوفًا، والتَّقْدِيرُ: أنَّ يَعْقُوبَ لَمّا قالَ لِبَنِيهِ: ﴿اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وأخِيهِ﴾ قَبِلُوا مِن أبِيهِمْ هَذِهِ الوَصِيَّةَ، فَعادُوا إلى مِصْرَ ودَخَلُوا عَلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقالُوا لَهُ: ﴿ياأيُّها العَزِيزُ﴾ . فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ يَعْقُوبُ أمَرَهم أنْ يَتَحَسَّسُوا أمْرَ يُوسُفَ وأخِيهِ فَلِماذا عَدَلُوا إلى الشَّكْوى وطَلَبُوا إيفاءَ الكَيْلِ ؟ قُلْنا: لِأنَّ المُتَحَسِّسِينَ يَتَوَسَّلُونَ إلى مَطْلُوبِهِمْ بِجَمِيعِ الطُّرُقِ، والِاعْتِرافُ بِالعَجْزِ، وضِيقُ اليَدِ، ورِقَّةُ الحالِ، وقِلَّةُ المالِ، وشِدَّةُ الحاجَةِ مِمّا يُرَقِّقُ القَلْبَ فَقالُوا: نُجَرِّبُهُ في ذِكْرِ هَذِهِ الأُمُورِ، فَإنْ رَقَّ قَلْبُهُ لَنا ذَكَرْنا لَهُ المَقْصُودَ وإلّا سَكَتْنا. فَلِهَذا السَّبَبِ قَدَّمُوا ذِكْرَ هَذِهِ الواقِعَةِ وقالُوا: ﴿ياأيُّها العَزِيزُ﴾ والعَزِيزُ هو المَلِكُ القادِرُ المَنِيعُ ﴿مَسَّنا وأهْلَنا الضُّرُّ﴾ وهو الفَقْرُ والحاجَةُ وكَثْرَةُ العِيالِ وقِلَّةُ الطَّعامِ، وعَنَوْا بِأهْلِهِمْ مَن خَلْفَهم ﴿وجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ:(p-١٦١) البَحْثُ الأوَّلُ: مَعْنى الإزْجاءِ في اللُّغَةِ الدَّفْعُ قَلِيلًا قَلِيلًا، ومِثْلُهُ التَّزْجِيَةُ، يُقالُ: الرِّيحُ تُزْجِي السَّحابَ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحابًا﴾ (النُّورِ: ٤٣) وزَجَّيْتُ فُلانًا بِالقَوْلِ دافَعْتُهُ، وفُلانٌ يُزْجِي العَيْشَ أيْ يَدْفَعُ الزَّمانَ بِالحِيلَةِ. والبَحْثُ الثّانِي: إنَّما وصَفُوا تِلْكَ البِضاعَةَ بِأنَّها مُزْجاةٌ، إمّا لِنُقْصانِها أوْ لِرَداءَتِها أوْ لَهُما جَمِيعًا. والمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا كُلَّ هَذِهِ الأقْسامِ، قالَ الحَسَنُ: البِضاعَةُ المُزْجاةُ القَلِيلَةُ، وقالَ آخَرُونَ: إنَّها كانَتْ رَدِيئَةً واخْتَلَفُوا في تِلْكَ الرَّداءَةِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: كانَتْ دَراهِمَ رَدِيئَةً لا تُقْبَلُ في ثَمَنِ الطَّعامِ، وقِيلَ: خَلِقُ الغِرارَةِ والحَبْلِ وأمْتِعَةٌ رَثَّةٌ، وقِيلَ: مَتاعُ الأعْرابِ الصُّوفُ والسَّمْنُ. وقِيلَ: الحَبَّةُ الخَضْراءُ، وقِيلَ: الأقِطُ، وقِيلَ: النِّعالُ والأُدْمُ، وقِيلَ: سَوِيقُ المُقْلِ، وقِيلَ: صُوفُ المَعْزِ، وقِيلَ: إنَّ دَراهِمَ مِصْرَ كانَتْ تُنْقَشُ فِيها صُورَةُ يُوسُفَ، والدَّراهِمُ الَّتِي جاءُوا بِها ما كانَ فِيها صُورَةُ يُوسُفَ، فَما كانَتْ مَقْبُولَةً عِنْدَ النّاسِ. البَحْثُ الثّالِثُ: في بَيانِ أنَّهُ لِمَ سُمِّيَتِ البِضاعَةُ القَلِيلَةُ الرَّدِيئَةُ مُزْجاةً ؟ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: هي مِن قَوْلِهِمْ: فُلانٌ يُزْجِي العَيْشَ أيْ يَدْفَعُ الزَّمانَ بِالقَلِيلِ، والمَعْنى أنّا جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ نُدافِعُ بِها الزَّمانَ، ولَيْسَتْ مِمّا يُنْتَفَعُ بِهِ وعَلى هَذا الوَجْهِ فالتَّقْدِيرُ بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٌ بِها الأيّامُ. الثّانِي: قالَ أبُو عُبَيْدٍ: إنَّما قِيلَ لِلدَّراهِمِ الرَّدِيئَةِ: مُزْجاةٌ، لِأنَّها مَرْدُودَةٌ مَدْفُوعَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ مِمَّنْ يُنْفِقُها، قالَ: وهي مِنَ الإزْجاءِ، والإزْجاءُ عِنْدَ العَرَبِ السَّوْقُ والدَّفْعُ. الثّالِثُ: بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أيْ مُؤَخَّرَةٍ مَدْفُوعَةٍ عَنِ الإنْفاقِ لا يُنْفِقُ مِثْلَها إلّا مَنِ اضْطُرَّ واحْتاجَ إلَيْها لِفَقْدِ غَيْرِها مِمّا هو أجْوَدُ مِنها. الرّابِعُ: قالَ الكَلْبِيُّ: مُزْجاةٌ لُغَةُ العَجَمِ، وقِيلَ: هي مِن لُغَةِ القِبْطِ، قالَ أبُو بَكْرٍ الأنْبارِيُّ: لا يَنْبَغِي أنْ يُجْعَلَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفُ الِاشْتِقاقِ والتَّصْرِيفِ مَنسُوبًا إلى القِبْطِ. البَحْثُ الرّابِعُ: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (مُزْجاةٍ) بِالإمالَةِ، لِأنَّ أصْلَهُ الياءُ، والباقُونَ بِالنَّصْبِ والتَّفْخِيمِ. واعْلَمْ أنَّ حاصِلَ الكَلامِ في كَوْنِ البِضاعَةِ مُزْجاةً إمّا لِقِلَّتِها أوْ لِنُقْصانِها أوْ لِمَجْمُوعِها، ولَمّا وصَفُوا شِدَّةَ حالِهِمْ، ووَصَفُوا بِضاعَتَهم بِأنَّها مُزْجاةٌ قالُوا لَهُ: ﴿فَأوْفِ لَنا الكَيْلَ﴾، والمُرادُ أنْ يُساهِلَهم إمّا بِأنْ يُقِيمَ النّاقِصَ مَقامَ الزّائِدِ، أوْ يُقِيمَ الرَّدِيءَ مَقامَ الجَيِّدِ، ثُمَّ قالُوا: ﴿وتَصَدَّقْ عَلَيْنا﴾، والمُرادُ المُسامَحَةُ بِما بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ، وأنْ يُسَعِّرَ لَهم بِالرَّدِيءِ كَما يُسَعِّرُ بِالجَيِّدِ. واخْتَلَفَ النّاسُ في أنَّهُ هَلْ كانَ ذَلِكَ طَلَبًا مِنهم لِلصَّدَقَةِ ؟ فَقالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إنَّ الصَّدَقَةَ كانَتْ حَلالًا لِلْأنْبِياءِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ -ﷺ- بِهَذِهِ الآيَةِ. وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ، كَأنَّهم طَلَبُوا القَدْرَ الزّائِدَ عَلى سَبِيلِ الصَّدَقَةِ، وأنْكَرَ الباقُونَ ذَلِكَ وقالُوا: حالُ الأنْبِياءِ وحالُ أوْلادِ الأنْبِياءِ يُنافِي طَلَبَ الصَّدَقَةِ؛ لِأنَّهم يَأْنَفُونَ مِنَ الخُضُوعِ لِلْمَخْلُوقِينَ، ويَغْلُبُ عَلَيْهِمُ الِانْقِطاعُ إلى اللَّهِ تَعالى والِاسْتِغاثَةُ بِهِ عَمَّنْ سِواهُ. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ ومُجاهِدٍ: أنَّهُما كَرِها أنْ يَقُولَ الرَّجُلُ في دُعائِهِ: اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ، قالُوا: لِأنَّ اللَّهَ لا يَتَصَدَّقُ، إنَّما يَتَصَدَّقُ الَّذِي يَبْتَغِي الثَّوابَ، وإنَّما يَقُولُ: اللَّهُمَّ أعْطِنِي أوْ تَفَضَّلْ، فَعَلى هَذا التَّصَدُّقُ هو إعْطاءُ الصَّدَقَةِ، والمُتَصَدِّقُ المُعْطِي، وأجازَ اللَّيْثُ أنْ يُقالَ لِلسّائِلِ: مُتَصَدِّقٌ، وأباهُ الأكْثَرُونَ. ورُوِيَ أنَّهم لَمّا قالُوا: ﴿مَسَّنا وأهْلَنا الضُّرُّ﴾ وتَضَرَّعُوا إلَيْهِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْناهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ﴿قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وأخِيهِ﴾، وقِيلَ: دَفَعُوا إلَيْهِ كِتابَ يَعْقُوبَ فِيهِ: مِن يَعْقُوبَ إسْرائِيلِ اللَّهِ، ابْنِ إسْحاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ، ابْنِ إبْراهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ إلى عَزِيزِ مِصْرَ، أمّا بَعْدُ: فَإنّا أهْلُ بَيْتٍ مُوَكَّلٌ بِنا البَلاءُ، أمّا جَدِّي فَشُدَّتْ يَداهُ ورِجْلاهُ ورُمِيَ في النّارِ لِيُحْرَقَ؛ فَنَجّاهُ اللَّهُ، وجَعَلَها بَرْدًا وسَلامًا عَلَيْهِ، وأمّا أبِي فَوُضِعَ السِّكِّينُ عَلى قَفاهُ لِيُقْتَلَ فَفَداهُ اللَّهُ، وأمّا أنا فَكانَ لِيَ ابْنٌ وكانَ (p-١٦٢)أحَبَّ أوْلادِي إلَيَّ، فَذَهَبَ بِهِ إخْوَتُهُ إلى البَرِّيَّةِ، ثُمَّ أتَوْنِي بِقَمِيصِهِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ، وقالُوا: قَدْ أكَلَهُ الذِّئْبُ، فَذَهَبَتْ عَيْنايَ مِنَ البُكاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ كانَ لِيَ ابْنٌ وكانَ أخاهُ مِن أُمِّهِ وكُنْتُ أتَسَلّى بِهِ، فَذَهَبُوا بِهِ إلَيْكَ، ثُمَّ رَجَعُوا وقالُوا: إنَّهُ قَدْ سَرَقَ وإنَّكَ حَبَسْتَهُ عِنْدَكَ، وإنّا أهْلُ بَيْتٍ لا نَسْرِقُ ولا نَلِدُ سارِقًا، فَإنْ رَدَدْتَهُ عَلَيَّ وإلّا دَعَوْتُ عَلَيْكَ دَعْوَةً تُدْرِكُ السّابِعَ مِن ولَدِكَ، فَلَمّا قَرَأ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ الكِتابَ لَمْ يَتَمالَكْ، وعِيلَ صَبْرُهُ وعَرَّفَهم أنَّهُ يُوسُفُ. ثُمَّ حَكى تَعالى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ في هَذا المَقامِ أنَّهُ قالَ: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وأخِيهِ﴾ قِيلَ: إنَّهُ لَمّا قَرَأ كِتابَ أبِيهِ يَعْقُوبَ ارْتَعَدَتْ مَفاصِلُهُ، واقْشَعَرَّ جِلْدُهُ ولانَ قَلْبُهُ وكَثُرَ بُكاؤُهُ، وصَرَّحَ بِأنَّهُ يُوسُفُ. وقِيلَ: إنَّهُ لَمّا رَأى إخْوَتَهُ تَضَرَّعُوا إلَيْهِ ووَصَفُوا ما هم عَلَيْهِ مِن شِدَّةِ الزَّمانِ وقِلَّةِ الحِيلَةِ أدْرَكَتْهُ الرِّقَّةُ فَصَرَّحَ حِينَئِذٍ بِأنَّهُ يُوسُفُ، وقَوْلُهُ: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ﴾ اسْتِفْهامٌ يُفِيدُ تَعْظِيمَ الواقِعَةِ، ومَعْناهُ: ما أعْظَمَ ما ارْتَكَبْتُمْ في يُوسُفَ ! وما أقْبَحَ ما أقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ ! وهو كَما يُقالُ لِلْمُذْنِبِ: هَلْ تَدْرِي مَن عَصَيْتَ وهَلْ تَعْرِفُ مَن خالَفْتَ ؟ واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَصْدِيقٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأوْحَيْنا إلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهم بِأمْرِهِمْ هَذا وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ (يُوسُفَ: ١٥) وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وأخِيهِ﴾ فالمُرادُ ما فَعَلُوا بِهِ مِن تَعْرِيضِهِ لِلْغَمِّ بِسَبَبِ إفْرادِهِ عَنْ أخِيهِ لِأبِيهِ وأُمِّهِ، وأيْضًا كانُوا يُؤْذُونَهُ، ومِن جُمْلَةِ أقْسامِ ذَلِكَ الإيذاءِ قالُوا في حَقِّهِ: ﴿إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ (يُوسُفَ: ٧٧) وأمّا قَوْلُهُ: ﴿إذْ أنْتُمْ جاهِلُونَ﴾ فَهو يَجْرِي مَجْرى العُذْرِ كَأنَّهُ قالَ: أنْتُمْ إنَّما أقْدَمْتُمْ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ القَبِيحِ المُنْكَرِ حالَ ما كُنْتُمْ في جَهالَةِ الصِّبا أوْ في جَهالَةِ الغُرُورِ، يَعْنِي والآنَ لَسْتُمْ كَذَلِكَ، ونَظِيرُهُ ما يُقالُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ﴾ (الِانْفِطارِ: ٦) قِيلَ: إنَّما ذَكَرَ تَعالى هَذا الوَصْفَ المُعَيَّنَ لِيَكُونَ ذَلِكَ جارِيًا مَجْرى الجَوابِ، وهو أنْ يَقُولَ العَبْدُ: يا رَبِّ غَرَّنِي كَرَمُكَ، فَكَذا هَهُنا إنَّما ذَكَرَ ذَلِكَ الكَلامَ إزالَةً لِلْخَجالَةِ عَنْهم وتَخْفِيفًا لِلْأمْرِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ إنَّ إخْوَتَهُ قالُوا: ﴿أئِنَّكَ لَأنْتَ يُوسُفُ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: (إنَّكَ) عَلى لَفْظِ الخَبَرِ، وقَرَأ نافِعٌ: (أيِنَّكَ لَأنْتَ يُوسُفُ) بِفَتْحِ الألْفِ غَيْرَ مَمْدُودَةٍ وبِالياءِ، وأبُو عَمْرٍو: (آيِنَّكَ) بِمَدِّ الألِفِ وهو رِوايَةُ قالُونَ عَنْ نافِعٍ، والباقُونَ (أئِنَّكَ) بِهَمْزَتَيْنِ، وكُلُّ ذَلِكَ عَلى الِاسْتِفْهامِ، وقَرَأ أُبَيٌّ: (أوَ أنْتَ يُوسُفُ)، فَحُصِّلَ مِن هَذِهِ القِراءاتِ أنَّ مِنَ القُرّاءِ مَن قَرَأ بِالِاسْتِفْهامِ، ومِنهم مَن قَرَأ بِالخَبَرِ. أمّا الأوَّلُونَ فَقالُوا: إنَّ يُوسُفَ لَمّا قالَ لَهم: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ﴾ وتَبَسَّمَ فَأبْصَرُوا ثَناياهُ، وكانَتْ كاللُّؤْلُؤِ المَنظُومِ شَبَّهُوهُ بِيُوسُفَ، فَقالُوا لَهُ اسْتِفْهامًا: ﴿أئِنَّكَ لَأنْتَ يُوسُفُ﴾ ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ الِاسْتِفْهامِ أنَّهُ قالَ: (أنا يُوسُفُ) وإنَّما أجابَهم عَمّا اسْتَفْهَمُوا عَنْهُ. وأمّا مَن قَرَأ عَلى الخَبَرِ فَحُجَّتُهُ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَتّى وضَعَ التّاجَ عَنْ رَأْسِهِ، وكانَ في فَرْقِهِ عَلامَةٌ، وكانَ لِيَعْقُوبَ وإسْحاقَ مِثْلُها شِبْهُ الشّامَةِ، فَلَمّا رَفَعَ التّاجَ عَرَفُوهُ بِتِلْكَ العَلامَةِ، فَقالُوا: (إنَّكَ لَأنْتَ يُوسُفُ)، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ابْنُ كَثِيرٍ أرادَ الِاسْتِفْهامَ ثُمَّ حَذَفَ حَرْفَ الِاسْتِفْهامِ، وقَوْلُهُ: ﴿قالَ أنا يُوسُفُ﴾ فِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: اللّامُ لامُ الِابْتِداءِ، وأنْتَ مُبْتَدَأٌ، ويُوسُفُ خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ خَبَرُ إنَّ. البَحْثُ الثّانِي: أنَّهُ إنَّما صَرَّحَ بِالِاسْمِ تَعْظِيمًا لِما نَزَلْ بِهِ مِن ظُلْمِ إخْوَتِهِ وما عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنَ الظَّفَرِ والنَّصْرِ؛ فَكَأنَّهُ قالَ: أنا الَّذِي ظَلَمْتُمُونِي عَلى أعْظَمِ الوُجُوهِ، واللَّهُ تَعالى أوْصَلَنِي إلى أعْظَمِ المَناصِبِ، أنا ذَلِكَ العاجِزُ الَّذِي قَصَدْتُمْ قَتْلَهُ وإلْقاءَهُ في البِئْرِ ثُمَّ صِرْتُ كَما تَرَوْنَ، ولِهَذا قالَ: ﴿وهَذا أخِي﴾ مَعَ أنَّهم كانُوا (p-١٦٣)يَعْرِفُونَهُ لِأنَّ مَقْصُودَهُ أنْ يَقُولَ: وهَذا أيْضًا كانَ مَظْلُومًا كَما كُنْتُ ثُمَّ إنَّهُ صارَ مُنْعَمًا عَلَيْهِ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى كَما تَرَوْنَ، وقَوْلُهُ: ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: بِكُلِّ عِزٍّ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وقالَ آخَرُونَ: بِالجَمْعِ بَيْنَنا بَعْدَ التَّفْرِقَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ مَن يَتَّقِ ويَصْبِرْ﴾ مَعْناهُ: مَن يَتَّقِ مَعاصِيَ اللَّهِ ويَصْبِرْ عَلى أذى النّاسِ ﴿فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ والمَعْنى: إنَّهُ مَن يَتَّقِ ويَصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَهم، فَوَضَعَ المُحْسِنِينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِاشْتِمالِهِ عَلى المُتَّقِينَ، وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وصَفَ نَفْسَهُ في هَذا المَقامِ الشَّرِيفِ بِكَوْنِهِ مُتَّقِيًا، ولَوْ أنَّهُ أقْدَمَ عَلى ما يَقُولُهُ الحَشْوِيَّةُ في حَقِّزُلَيْخا؛ لَكانَ هَذا القَوْلُ كَذِبًا مِنهُ، وذِكْرُ الكَذِبِ في مِثْلِ هَذا المَقامِ الَّذِي يُؤْمِنُ فِيهِ الكافِرُ ويَتُوبُ فِيهِ العاصِي لا يَلِيقُ بِالعُقَلاءِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِن طَرِيقِ قُنْبُلٍ: (إنَّهُ مَن يَتَّقِي) بِإثْباتِ الياءِ في الحالَيْنِ، ووَجْهُهُ أنْ يُجْعَلَ ”مَن“ بِمَنزِلَةِ الَّذِي؛ فَلا يُوجِبُ الجَزْمَ، ويَجُوزُ عَلى هَذا الوَجْهِ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿ويَصْبِرْ﴾ في مَوْضِعِ الرَّفْعِ إلّا أنَّهُ حُذِفَ الرَّفْعُ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ كَما يُخَفَّفُ في عَضْدٍ وشَمْعٍ، والباقُونَ بِحَذْفِ الياءِ في الحالَيْنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب