فقال الله -عز وجل- إنكارًا وردًا عليهم: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ قال ابن عباس: نبوة ربك، وهو قول جميع المفسرين [[انظر: "تفسير الطبري" 13/ 65، "الثعلبي" 10/ 82 أ، "الماوردي" 5/ 223.]]، والمعنى: أنهم [أعرضوا] [[كذا في الأصل، ولعل الصواب (اعترضوا).]] على الله بقولهم لِمَ لَمْ ينزل هذا القرآن على غير محمد؟ فبين الله -عز وجل- أنه هو الذي يقسم بفضله ورحمته لا غير، وقال مقاتل في هذه الآية: أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاءوا، أي: أنها ليست بأيديهم، ولكنا نختار لها من نشاء من عبادنا [[انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794.]].
ثم قال قوله تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قال ابن عباس: يريد أرزاقهم [[لم أقف عليه.]]، واختلفوا في معنى ذكر سبب قسمة المعيشة هاهنا، فقال مقاتل في هذه الآية: يقول لم أعط الوليد وأبا مسعود الذي أعطيناهما من الغنى لكرامتهما على الله، ولكنه قسمة من الله بين الخلق [[انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794.]]، فعلى هذا المعنى: نحن أعطيناهما ذلك فلا يغر بهما الغنى ولا يبطر بهما النعمة، فإن من قسمها لهما قادر على نزعها عنهما، ثم ذكر الحكمة في تفضيل بعض على بعض في الرزق في باقي الآية.
وقال أهل المعاني: إن الله قسم النبوة كما قسم الرزق في المعيشة، فليس لأحد أن يتحكم في شيء من ذلك، وكما فضلنا بعضهم فوق بعض في الرزق والمنزلة، كذلك اصطفينا للرسالة من نشاء، وعلى هذا معنى الآية: إنا تولينا قسم معيشتهم، كذلك تولينا قسم النبوة بالرحمة، فلا اعتراض لأحد في قسمتنا [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 410، "معاني القرآن" للنحاس 6/ 352.]]
وقال آخرون: نبه الله -عز وجل- بالأدنى على الأعلى، فذكر أنه قسم المعيشة بين عباده بتفضيله من يشاء في الرزق على غيره، وإذا كان هو المتولي لهذه القسمة، فأن يكون هو المتولي لقسمة النبوة، إذ شأن النبوة أعظم ومحلها أرفع، وكما لا يعترض عليه في قسمة الرزق، كذلك لا يعترض عليه في قسمة النبوة [[انظر: "تفسير أبي الليث السمرقندي" 3/ 206، "تفسير ابن عطية" 14/ 254.]].
قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يعني الفضل في الغنى في الحياة الدنيا [[انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794، ولم أقف على نسبته لابن عباس.]]. ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ أي يستخدم بعضهم بعضًا فيسخر الأغنياء بأموالهم الفقراء، هذا قول السدي وابن زيد [[انظر: "تفسير الثعلبي" 10/ 82 أ، "تفسير الماوردي" 5/ 224، "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 83.]]، قال الضحاك وقتادة: ليملك بعضهم بما لهم بعضًا فيتخذونهم عبيدًا ومماليك، وهذا معنى قول مقاتل والكلبي [[انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794، "تفسير أبي الليث" 3/ 206، "الماوردي" 5/ 224.]].
وقال ابن عباس: يُسخِّر هذا لهذا وهذا لهذا [[قال ابن كثير: قيل معناه: ليسخر بعضهم بعضًا في الأعمال لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا. قاله السدي وغيره. انظر: "تفسير ابن كثير" 6/ 225.]]. وهذا القول يحتمل القولين؛ لأن التسخير يكون بالأجر ويكون بالملك [[انظر: "تفسير الطبري" 13/ 67.]]، وذكرنا معنى السخرى في سورة المؤمنين [110]، وقال أبو الحسن الأخفش: اتفق القراء هاهنا على الضم لأنه من السُّخرة وانقياد بعضهم لبعض في الأمور، التي لو لم يَنْقَدْ فيها بعضهم لبعض لم يلتئم قوام العالم [[لم أقف عليه عند الأخفش وقد ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 16/ 86، وذكر هذه القراءة أبو حيان في "البحر المحيط" 8/ 13، وقال ابن الجوزي: وقرأ ابن السميفع وابن محيصن ﴿سِخْرِيًّا﴾ بكسر السين، انظر: "زاد المسير" 7/ 312، وقال القرطبي: وكل الناس ضموا ﴿سُخْرِيًّا﴾ إلا ابن محيصن ومجاهد قرأ ﴿سِخْرِيًّا﴾ 16/ 83.]].
قوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ قال مقاتل: يعني الجنة للمؤمنين خير مما يجمع الكفار من الأموال [[انظر: "تفسير مقاتل" 3/ 794.]]، وهذا القول اختيار أبي إسحاق فقال: أعلم الله أن الآخرة أحظ من الدنيا [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 410.]]، وقال ابن عباس: والنبوة من ربك خير مما يجمعون من الدنيا، والرحمة على هذا القول: النبوة [[انظر: "تفسير الطبري" 13/ 67، فقد أخرج ذلك عن قتادة والسدي، وذكر ذلك الماوردي 5/ 224 ولم ينسبه، والقرطبي 16/ 84 ولم ينسبه.]] وهو أولى لقوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ ولم يختلفوا أنها بمعنى النبوة، كذلك التي في آخر الآية، والمعنى على هذا: أن النبوة لك يا محمد من ربك خير من أموالهم التي يجمعونها.
{"ayah":"أَهُمۡ یَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَیۡنَهُم مَّعِیشَتَهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضࣲ دَرَجَـٰتࣲ لِّیَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضࣰا سُخۡرِیࣰّاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَیۡرࣱ مِّمَّا یَجۡمَعُونَ"}