الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ الآية، إنما لم يقل: (زينت)؛ لأن الحياة مصدر، فذهب إلى تذكير المصدر، كقوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ [البقرة: 275] ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ [هود: 67] هذا قول الفراء [["معاني القرآن" للفراء 1/ 125، وقال: فأما في الأسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكر فعل مؤنث، إلا في الشعر لضرورته، وقد يكون الاسم غير مخلوق من فعل، ويكون فيه معنى تأنيث، وهو مذكر فيجوز فيه تأنيث الفعل وتذكيره على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة، ومن ذلك قوله عز وجل: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ﴾ [الأنعام 66] ولم يقل: كذبت، ولو قيلت لكان صوابا، كما قال ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [الشعراء 105].]]. وقال الزجاج: تأنيث الحياة ليس بحقيقي، لأن معنى الحياة والعيش والبقاء واحد، وكأنه قال: زين للذين كفروا البقاء [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 281، وقد ذكر أيضا العلة التي ذكرها ابن الأنباري بعد.]]. وقال ابن الأنباري: إنما لم يقل: (زينت)، لأنه فصل بين زين وبين الحياة بقوله: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وإذا فصل بين فعل المؤنث وبين الاسم بفاصل حسن تذكير الفعل؛ لأن الفاصل يكفي من تاء التأنيث [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 281، "تفسير الثعلبي" 2/ 702، "البحر المحيط" 2/ 129، قال: وقرأ ابن أبي عبلة: زينت، بالتاء وتوجيهها ظاهرة لأن المسند إليه الفعل مؤنث. وينظر: "الدر المصون" 2/ 371.]]، ويقال: من الذي زين لهم؟ قيل: فيه قولان: أحدهما: زَيَّنَها لهم إبليس بما يمنيهم ويعدهم من شهواتها، قاله ابن كيسان والزجاج [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 282.]]. والقول الثاني: أن الله تعالى زَيَّنَها لهم حين بَسَطَها وَوَسَّعَها عليهم، فهي هَمُّهم وطَلِبَتُهْم ونِيَّتُهم وهم لا يريدون غيرها، كقوله: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [النجم: 29] وإنما فعل الله ذلك بهم للابتلاء، كما قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ﴾ [الكهف: 7] ويدل على هذا قراءة حميد [[هو حميد بن قيس المكي الأعرج، أبو صفوان القارئ، قال ابن حجر. ليس به بأس، من السادسة مات سنة مائة وثلاثين، وقيل بعدها. روى له الجماعة. ينظر: "تقريب التهذيب" ص 182 (1556).]] (زَيَّنَ للذين كفروا) بفتح، الزاي [[وبها قرأ أبي بن كعب، والحسن ومجاهد وابن محيصن وابن أبي عبلة وأبو حيوة. ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 203، "زاد المسير" 1/ 228.]] يعني الله تعالى [[ينظر في ذكر الأقوال: "تفسير البغوي" 1/ 242، "المحرر الوجيز" 2/ 203، "البحر المحيط" 2/ 129 قال البغوي: الأكثرون على أن المزين هو الله تعالى، والتزيين من الله تعالى هو أنه خلق الأشياء الحسنة والمناظر العجيبة، فنظر الخلق إليها بأكثر من قدرها فأعجبتهم ففتنوا بها. وقال ابن عطية جامعا بين القولين: المزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه. وينظر: "زاد المسير" 1/ 228.]]. وقوله تعالى: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يقال: سخر منه سُخريَّة، وسُخريًّا، وسَخَرًا، وسُخْرًا، قال الأعشى: ..... لا عَجَبٌ منه ولا سُخْرُ [[تمام البيت: إني أتتني لسان لا أسر بها ... من عَلوَ لا عجبٌ منها ولا سُخْر قال ذلك لما بلغة خبر مقتل أخيه المنتشر، والتأنيث للكلمة. ينظر: "اللسان" 4/ 1963 (سخر).]] ويروى: ولا سَخَرَ، ومعنى السُّخْرِية: الإيهام للشيء والانطواء على خلافه [[ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1650، "المفردات" 233، "اللسان" 4/ 1963 (سخر)، ونقل في "التهذيب" عن الفراء قوله: سخِرتُ منه، ولا تقل سخرت به، قال الله تعالى: ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ [الحجرات 11]، وقال ابن السكيت: تقول:== سخرت من فلان، فهذه اللغة الفصحية قال الله تعالى: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة: 79].]]. وقوله تعالى: ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ مستأنف غير معطوف على ﴿زُيِّنَ﴾، ولا ينكر استئناف المستقبلِ بعد الماضي، وذلك أن الله تعالى خبر عنهم بـ ﴿زُيِّنَ﴾ وهو ماض، ثم خبر عنهم بعد ذلك بفعل يديمونه ويستقبلونه، فقال: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: يسخرون من فقراء المؤمنين ويعيرونهم بالفقر [[ينظر: "التفسير الكبير" 6/ 7، "البحر المحيط" 2/ 130، وذكر أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره، وهو يسخرون، وقيل الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية، ولا يلحظ فيها عطف الفعل على الفعل؛ لأنه كان يلزم اتحاد الزمان، وإن لم يلزم اتحاد الصيغة، قال: وصدرت الأولى بالفعل الماضي لأنه أمر مفروغ منه، فليس أمرًا متجددًا، وصدرت الثانية بالمضارع لأنها حالة تتجدد كل وقت. وينظر: "الدر المصون" 2/ 371 - 373.]]. قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في مشركي العرب، كانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال، ويسخرون من فقراء المؤمنين الذين يرفضون الدنيا [[ذكره الثعلبي 2/ 698 من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ضعيف جدًّا، وذكر البغوي 1/ 242، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 228، والسمعاني في "تفسيره" 2/ 263، والرازي في "تفسيره" 6/ 5، "البحر المحيط" 2/ 129، وعزاه أبو الليث في "بحر العلوم" 1/ 198 إلى الكلبي، وقد روى الطبري 2/ 334، نحوه عن عكرمة.]]، وقال في رواية عطاء: نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم من بني قريظة والنضير وقينقاع، سخروا من المهاجرين حيث أخرجوا من ديارهم وأموالهم [[تقدم الحديث عن هذه الرواية في المقدمة وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 107 == من قول عطاء، وكذا البغوي في "تفسيره" 1/ 242، "زاد المسير" 1/ 228، و"تفسير الرازي" 6/ 5، "البحر المحيط" 2/ 129، وقال مقاتل في "تفسيره" 1/ 181 عند قوله: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾: نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي وأصحابه، ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، في أمر المعيشة بأنهم فقراء نزلت في عبد الله بن ياسر المخزومي وصهيب، وفي نحوهم من الفقراء.]]. وقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قال مقاتل: والذين اتقوا الشرك وهم هؤلاء الفقراء [["تفسير مقاتل" 1/ 181.]]، وقال غيره: والذين اتقوا الله في عهدهِ وأمرهِ فوق الذين سخروا منهم [[ذكره في "الوسيط" 1/ 315، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 333 - 334.]]، يعني: بارتفاع حججهم على حجج الكفار، لأن في القيامة تعلو حجج المؤمنين، ويلزم الذُّلُّ الكافرين [[ينظر: "زاد المسير" 1/ 228، "التفسير الكبير" 6/ 8.]]. قال الزجاج [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 282، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 242، "المحرر الوجيز" 2/ 204، "زاد المسير" 1/ 228، "التفسير الكبير" 6/ 8.]] وابن الأنباري: يجوز أن يكون (فوق) يدل على علو موضع المؤمنين على موضع الكافرين [[من قوله: قال الزجاج ساقط من (أ) و (م).]]؛ لأن المؤمنين في الجنة، والجنة عالية، والكافرين في النار، والنار هاوية، فوصف المؤمنين بأنهم فوق الكفار، وإن لم يكن للكفار موضع يوصف بالفوقية، كما قال: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفرقان: 24] وإن لم يكن في مستقر أهل النار خير. وقال بعض أهل المعاني: أراد: أن حالهم في الآخرة فوق حال هؤلاء الكفار في الدنيا، وعلى هذا يتوجه قوله: ﴿خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ يعني: أن مستقرهم في الآخرة خير من مستقر هؤلاء الذين اغتبطوا به في الدنيا [[ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 204 - 205، "زاد المسير" 1/ 228، "التفسير الكبير" 6/ 8، وذكر ابن عطية أن هذه الاحتمالات المذكورة حفظ لمذهب سيبويه والخليل في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك.]]. وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد أن أموال قريظة والنضير تصير إليكم بلا حساب ولا قتال بأسهل شيء وأيسره [[هذا من تتمة الخبر السابق، عن عطاء، وقد تقدم تخريجه آنفا. وينظر في: "البحر المحيط" 1/ 131، "غرائب النيسابوري" 2/ 301، "الوسيط" للواحدي 1/ 315.]]، فيكون على هذا: والله يرزق من يشاء بغير تقدير من المرزوق للرزق، فيصير إليه ما لم يكن يحتسبه ولم يؤمله، ويكون ذلك من أهنأ العطاء وأحلا الأرزاق، لذلك مدح الله نفسه بهذا. وقال في رواية لأبي صالح: يعني: كثيرًا بغير فوت ولا مقدار؛ لأن كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل [[ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 712، "البغوي" في "تفسيره" 1/ 243، وروى ابن أبي حاتم 2/ 375 عن ابن عباس في تفسيرها قوله: ليس على الله رقيب ولا من يحاسبه.]]. وقال الضحاك: يعني من غير تبعة في الدنيا ولا حساب في الآخرة [[ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 713، "البغوي" في "تفسيره" 1/ 243.]]، دليله قوله: ﷺ: "يدخل الجنة سبعون ألفًا من أمتي بغير حساب" [[رواه البخاري (6059) كتاب الرقاق، باب: يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، (5270) كتاب الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو، ومسلم (317) كتاب الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة.]]. وقال مقاتل: يرزق من يشاء حين بسط للكافرين في الرزق، وقتّر على المؤمنين، ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يعني: ليس فوقي من يحاسبني، لي الملك أعطي من شئت بغير حساب [["تفسير مقاتل" 1/ 181، ونقله في "البسيط" 1/ 315.]]. وهذا معنى قول الحسن [[ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 315، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 131، "غرائب النيسابوري" 2/ 301.]]؛ لأنه قال: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ لا يسأل عما يفعل. هذا الذي ذكرنا هي أقوال المفسرين. ولأصحاب المعاني أقوال [[ينظر في هذه الأوجه: "تفسير الطبري" 2/ 334، "تفسير الثعلبي" 2/ 713، و"تفسير السمعاني" 2/ 264، "النكت والعيون" 1/ 270، "تفسير البغوي" 1/ 243، "المحرر الوجيز" 2/ 205 - 206، "زاد المسير" 1/ 228 - 229، "التفسير الكبير" 6/ 9 - 10، وقد ذكر ثمانية أوجه، إذا كان المراد به عطاء الآخرة، وثلاثة إذا حملت الآية على عطاء الدنيا. "البحر المحيط" 2/ 131.]] في هذا: أحدها: أن ما يعطي الله تعالى العبد على نوعين: ما يستحقه بعمله، ومنه ما يعطيه من فضله ابتداءً من غير استحقاق بعمل، كقوله تعالى ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: 173] فقوله: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يعني: ما يتفضل به لا على حساب العمل. والثاني: لا يخاف نفاد ما عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه، إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم ما يعطي وما يبقى ولا يتجاوز في عطائه إلى ما يجحف به، والله تعالى لا يحتاج إلى الحساب؛ لأنه عالم غني لا يتناهى لمقدوره ولا يخاف نفاد ما عنده [[روى نحوه عن الربيع بن أنس كما في "الدر المنثور" 1/ 435، وهذا اختيار الطبري" 2/ 334، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 713.]]. والثالث: أنه أراد بهذا رزقَ أهل الجنة، ورَزْقُهم بغير حساب؛ لأنه دائمٌ، كقوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [غافر: 40] وذلك أن رِزْقَهُم لا يَتَنَاهى، وما لا نهاية له لا حساب له. وقال ابن الأنباري: هذا في الدنيا يرزقُ عباده من غيرِ محاسبةٍ ولا استحقاق، ولو فعل ذلك لخرج الكفار من الأرزاق، فجعل فضله يشملهم، ورزقه يعمهم، بتفضل منه عليهم، وفيهم من لا يستحق الرزق والإحسان، فكان ذلك على غير حساب، لأنه لا يحاسب بالرزق في الدنيا على قدر العمل، وهذا الوجه اختيار الزجاج [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 282.]]، وذكرنا معنى الحساب فيما تقدم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب