الباحث القرآني

﴿سَلْ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [البقرة: ٢١١] الخِطابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ لِكُلِّ أحَدٍ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ: اسْألْ. وقَرَأ قَوْمٌ: اسَلْ، وأصْلُهُ اسْألْ، فَنَقَلَ حَرَكَةَ الهَمْزَةِ إلى السِّينِ وحَذَفَ الهَمْزَةَ الَّتِي هي عَيْنٌ، ولَمْ تُحْذَفْ هَمْزَةُ الوَصْلِ: لِأنَّهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِحَرَكَةِ السِّينِ لِعُرُوضِها، كَما قالُوا: الَحْمَرَ في الأحْمَرِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”سَلْ“، فَيَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ أصْلَهُ اسْألْ، فَلَمّا نَقَلَ وحَذَفَ اعْتَدَّ بِالحَرَكَةِ، فَحَذَفَ الهَمْزَةَ لِتَحَرُّكِ ما بَعْدَها، والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّهُ جاءَ عَلى لُغَةِ مَن يَجْعَلُ المادَّةَ مِن (سِينٍ، وواوٍ، ولامٍ)، فَيَقُولُ: سَألَ يَسْألُ، فَقالَ: سَلْ، كَما قالَ خَفْ، فَلا يَحْتاجُ في مِثْلِ هَذا إلى هَمْزَةِ وصْلٍ، وانْحَذَفَتْ عَيْنُ الكَلِمَةِ لِالتِقائِها ساكِنَةً مَعَ اللّامِ السّاكِنَةِ، ولِذَلِكَ تَعُودُ إذا تَحَرَّكَتِ الفاءُ نَحْوَ: خافا وخافُوا وخافِي. ولَمّا تَقَدَّمَ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ﴾ [البقرة: ٢١٠]، وكانَ المَعْنى في ذَلِكَ اسْتِبْطاءَ لُحُوقِهِمْ بِالإسْلامِ، وأنَّهم لا يَنْظُرُونَ إلّا آيَةً عَظِيمَةً تُلْجِئُهم إلى الدُّخُولِ في الإسْلامِ، جاءَ هَذا الأمْرُ بِسُؤالِهِمْ عَمّا جاءَتْهم مِنَ الآياتِ العَظِيمَةِ، ولَمْ تَنْفَعْهم تِلْكَ الآياتُ، فَعَدَمُ إسْلامِهِمْ مُرَتَّبٌ عَلى عِنادِهِمْ واسْتِصْحابِ لَجاجِهِمْ، وهَذا السُّؤالُ لَيْسَ سُؤالًا عَمّا لا يَعْلَمُ، إذْ هو عالِمٌ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ آتاهُمُ اللَّهُ آياتٍ بَيِّناتٍ، وإنَّما هو سُؤالٌ عَنْ مَعْلُومٍ، فَهو تَقْرِيعٌ وتَوْبِيخٌ، وتَقْرِيرٌ لَهم عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنَ الآياتِ البَيِّناتِ، وأنَّها ما أجْدَتْ عِنْدَهم لِقَوْلِهِ بَعْدُ: ﴿ومَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُ﴾ [البقرة: ٢١١] . وفِي هَذا السُّؤالِ أيْضًا تَثْبِيتٌ وزِيادَةٌ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ﴾ [هود: ١٢٠]، أوْ زِيادَةُ يَقِينِ المُؤْمِنِ، فالخِطابُ في اللَّفْظِ لَهُ ﷺ والمُرادُ: أُمَّتُهُ، أوْ إعْلامُ أهْلِ الكِتابِ أنَّ هَذا القَوْلَ مِن عِنْدِ اللَّهِ: لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ وقَوْمَهُ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِن قَصَصِ بَنِي إسْرائِيلَ، ولا ما كانَ فِيهِمْ مِنَ الآياتِ قَبْلَ أنْ يُنْزِلَ اللَّهُ ذَلِكَ في كِتابِهِ. (بَنِي إسْرائِيلَ) مَن كانَ بِحَضْرَتِهِ مِنهم،، أوْ مَن آمَنَ بِهِ مِنهم، أوْ عُلَماؤُهم، أوْ أنْبِياؤُهم، أقْوالٌ أرْبَعَةٌ. و(كَمْ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى أنَّها مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ (آتَيْناهم) عَلى مَذْهَبِ الجُمْهُورِ، أوْ عَلى أنَّها مَفْعُولٌ أوَّلٌ عَلى مَذْهَبِ السُّهَيْلِيِّ عَلى ما مَرَّ ذِكْرُهُ، وأجازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، وجَعَلَ ذَلِكَ مِن بابِ الِاشْتِغالِ، قالَ: و”كَمْ“ في مَوْضِعِ نَصْبٍ إمّا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ بَعْدَها: لِأنَّ لَها صَدْرَ الكَلامِ، تَقْدِيرُهُ: كَمْ آتَيْناهم، أوْ بِإتْيانِهِمْ، انْتَهى. وهَذا غَيْرُ جائِزٍ إنْ كانَ قَوْلُهُ: ”مِن آيَةٍ“ تَمْيِيزًا لِـ ”كَمْ“: لِأنَّ الفِعْلَ المُفَسِّرَ لِهَذا الفِعْلِ المَحْذُوفِ لَمْ يَعْمَلْ في ضَمِيرِ الِاسْمِ الأوَّلِ المُنْتَصِبِ بِالفِعْلِ المَحْذُوفِ ولا في سَبَبِيَّتِهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الِاشْتِغالِ. ونَظِيرُ ما أجازَ أنْ يَقُولَ: زَيْدًا ضَرَبْتُ، فَتُعْرِبُ زَيْدًا مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ (p-١٢٧)يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، التَّقْدِيرُ: زَيْدًا ضَرَبْتُ ضَرَبْتُ، وكَذَلِكَ: الدِّرْهَمَ أعْطَيْتُ زَيْدًا، ولا نَعْلَمُ أحَدًا ذَهَبَ إلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ، بَلْ نُصُوصُ النَّحْوِيِّينَ، سِيبَوَيْهِ فَمَن دُونَهُ، عَلى أنَّ مِثْلَ هَذا هو مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ مَنصُوبٌ بِالفِعْلِ بَعْدَهُ، وإنْ كانَ تَمْيِيزُ ”كَمْ“ مَحْذُوفًا. وأُطْلِقَتْ ”كَمْ“ عَلى القَوْمِ أوِ الجَماعَةِ، فَكانَ التَّقْدِيرُ: كَمْ مِن جَماعَةٍ آتَيْناهم، فَيَجُوزُ ذَلِكَ، إذْ في الجُمْلَةِ المُفَسِّرَةِ لِذَلِكَ الفِعْلِ المَحْذُوفِ ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى ”كَمْ“، وأجازَ ابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُ أنْ تَكُونَ ”كَمْ“ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ ”آتَيْناهم“ في مَوْضِعِ الخَبَرِ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: آتَيْناهُمُوهُ، أوْ آتَيْناهُمُوها، وهَذا لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ إلّا في الشِّعْرِ، أوْ في شاذٍّ مِنَ القُرْآنِ، كَقِراءَةِ مَن قَرَأ (أفَحُكْمُ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) بِرَفْعِ الحُكْمِ، وقالَ ابْنُ مالِكٍ: لَوْ كانَ المُبْتَدَأُ غَيْرَ كُلٍّ، والضَّمِيرُ مَفْعُولًا بِهِ، لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ حَذْفُهُ مَعَ بَقاءِ الرَّفْعِ إلّا في الِاضْطِرارِ، والبَصْرِيُّونَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ في الِاخْتِيارِ، ويَرَوْنَهُ ضَعِيفًا، انْتَهى. فَإذا كانَ لا يَجُوزُ إلّا في الِاضْطِرارِ، أوْ ضَعِيفًا، فَأيُّ داعِيَةٍ إلى جَوازِ ذَلِكَ في القُرْآنِ مَعَ إمْكانِ حَمْلِهِ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ ورُجْحانِهِ ؟ وهو أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى ما قَرَّرْناهُ. و”كَمْ“ هُنا اسْتِفْهامِيَّةٌ ومَعْناها التَّقْرِيرُ لا حَقِيقَةُ الِاسْتِفْهامِ، وقَدْ يَخْرُجُ الِاسْتِفْهامُ عَنْ حَقِيقَتِهِ إذا تَقَدَّمَهُ ما يُخْرِجُهُ، نَحْوَ قَوْلِكَ: سَواءٌ عَلَيْكَ أقامَ زَيْدٌ أمْ قَعَدَ، وما أُبالِي أقامَ زَيْدٌ أمْ قَعَدَ، وقَدْ عَلِمْتُ أزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ أوْ عَمْرٌو، وما أدْرِي أقَرِيبٌ أمْ بَعِيدٌ، فَكُلُّ هَذا صُورَتُهُ صُورَةُ الِاسْتِفْهامِ، وهو عَلى التَّرْكِيبِ الِاسْتِفْهامِيِّ وأحْكامِهِ، ولَيْسَ عَلى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهامِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿كَمْ آتَيْناهُمْ﴾ [البقرة: ٢١١] في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِـ ”سَلْ“: لِأنَّ سَألَ يَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ، أحَدُهُما: بِنَفْسِهِ، والآخَرُ: بِحَرْفِ جَرٍّ، إمّا عَنْ، وإمّا الباءُ. وقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُما في الضَّرُورَةِ نَحْوَ: ؎فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنَهُ عَنْ بِما بِهِ و(سَألَ) هُنا مُعَلَّقَةٌ عَنِ الجُمْلَةِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ، فَهي عامِلَةٌ في المَعْنى، غَيْرُ عامِلَةٍ في اللَّفْظِ: لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ لا يَعْمَلُ فِيهِ ما قَبْلَهُ إلّا الجارُّ، قالُوا: وإنَّما عُلِّقَتْ ”سَلْ“ وإنْ لَمْ تَكُنْ مِن أفْعالِ القُلُوبِ: لِأنَّ السُّؤالَ سَبَبٌ لِلْعِلْمِ، فَأُجْرِيَ السَّبَبُ مَجْرى المُسَبَّبِ في ذَلِكَ، وقالَ تَعالى: ﴿سَلْهم أيُّهم بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾ [القلم: ٤٠]، وقالَ الشّاعِرُ: ؎سائِلْ بَنِي أسَدٍ: ما هَذِهِ الصَّوْتُ وقالَ: ؎واسْألْ بِمَصْقَلَةَ البِكْرِيِّ ما فَعَلا وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ تَكُونَ ”كَمْ“ هُنا خَبَرِيَّةً، قالَ: (فَإنْ قُلْتَ): كَمِ اسْتِفْهامِيَّةٌ أمْ خَبَرِيَّةٌ ؟ قُلْتُ: يَحْتَمِلُ الأمْرَيْنِ، ومَعْنى الِاسْتِفْهامِ فِيها التَّقْدِيرُ. انْتَهى كَلامُهُ. وهو لَيْسَ بِجَيِّدٍ: لِأنَّ جَعْلَها خَبَرِيَّةً هو اقْتِطاعٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هي فِيها مِن جُمْلَةِ السُّؤالِ: لِأنَّهُ يَصِيرُ المَعْنى: سَلْ بَنِي إسْرائِيلَ، وما ذُكِرَ المَسْئُولُ عَنْهُ، ثُمَّ قالَ: كَثِيرًا مِنَ الآياتِ آتَيْناهم، فَيَصِيرُ هَذا الكَلامُ مُفَلَّتًا مِمّا قَبْلَهُ: لِأنَّ جُمْلَةَ ”كَمْ آتَيْناهم“ صارَ خَبَرًا صِرْفًا لا يَتَعَلَّقُ بِهِ ”سَلْ“ وأنْتَ تَرى مَعْنى الكَلامِ ومَصَبَّ السُّؤالِ عَلى هَذِهِ الجُمْلَةِ، فَهَذا لا يَكُونُ إلّا في الِاسْتِفْهامِيَّةِ، ويَحْتاجُ في تَقْرِيرِ الخَبَرِيَّةِ إلى تَقْدِيرِ حَذْفٍ، وهو المَفْعُولُ الثّانِي لِـ ”سَلْ“، ويَكُونُ المَعْنى: سَلْ بَنِي إسْرائِيلَ عَنِ الآياتِ الَّتِي آتَيْناهم، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ كَثِيرًا مِنَ الآياتِ آتَيْناهم. (مِن آيَةٍ) تَمْيِيزٌ لِـ ”كَمْ“، ويَجُوزُ دُخُولُ ”مِن“ عَلى تَمْيِيزِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ والخَبَرِيَّةِ، سَواءٌ ولِيَها أمْ فُصِلَ بَيْنَهُما، والفَصْلُ بَيْنَهُما بِجُمْلَةٍ، وبِظَرْفٍ ومَجْرُورٍ، جائِزٌ عَلى ما قَرَّرْنا في النَّحْوِ، وأجازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ ”مِن آيَةٍ“ مَفْعُولًا ثانِيًا لِـ ”آتَيْناهم“، وذَلِكَ عَلى التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ قَبْلُ، مِن جَوازِ نَصْبِ ”كَمْ“ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ ”آتَيْناهم“، وعَلى التَّقْدِيرِ الَّذِي قَرَّرْناهُ مِن أنَّ ”كَمْ“ تَكُونُ كِنايَةً عَنْ قَوْمٍ أوْ جَماعَةٍ، وحُذِفَ تَمْيِيزُها لِفَهْمِ المَعْنى، فَإذا كانَ كَذَلِكَ، فَإنْ كانَتْ ”كَمْ“ خَبَرِيَّةً فَلا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ”مِن آيَةٍ“ مَفْعُولًا ثانِيًا؛ لِأنَّ زِيادَةَ ”مِن“ لا تَكُونُ في الإيجابِ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ غَيْرَ الأخْفَشِ، وإنْ كانَتِ اسْتِفْهامِيَّةً فَيُمْكِنُ أنْ يُقالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ لِانْسِحابِ الِاسْتِفْهامِ عَلى ما قَبْلَهُ، وفِيهِ بُعْدٌ: لِأنَّ مُتَعَلَّقَ الِاسْتِفْهامِ هو المَفْعُولُ الأوَّلُ لا الثّانِي، فَلَوْ قُلْتَ: كَمْ مِن دِرْهَمٍ أعْطَيْتُهُ مِن رَجُلٍ، عَلى زِيادَةٍ مِن، في قَوْلِكَ مِن رَجُلٍ، (p-١٢٨)لَكانَ فِيهِ نَظَرٌ، وقَدْ أمْعَنّا الكَلامَ عَلى زِيادَةِ مِن، في (مَنهَجِ السّالِكِ) مِن تَأْلِيفِنا. والآياتُ البَيِّناتُ ما تَضَمَّنَتْهُ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ مِن صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ وتَحْقِيقِ نُبُوَّتِهِ، وتَصْدِيقِ ما جاءَ بِهِ، أوْ مُعْجِزاتُ مُوسى - صَلّى اللَّهُ عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ: كالعَصا، واليَدِ البَيْضاءِ، وفَلْقِ البَحْرِ، أوِ القُرْآنُ قَصَّ اللَّهُ قَصَصَ الأُمَمِ الخالِيَةِ حَسْبَما وقَعَتْ عَلى لِسانِ مَن لَمْ يُدارِسِ الكُتُبَ ولا العُلَماءَ، ولا كَتَبَ ولا ارْتَجَلَ، أوْ مُعْجِزاتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: كَتَسْبِيحِ الحَصى، وتَفْجِيرِ الماءِ مِن بَيْنِ أصابِعِهِ، وانْشِقاقِ القَمَرِ، وتَسْلِيمِ الحَجَرِ، أرْبَعَةُ أقْوالٍ، وقَدَّرُوا بَعْدَ قَوْلِهِ ”مِن آيَةٍ بَيِّنَةٍ“ مَحْذُوفًا، فَقَدَّرَهُ بَعْضُهم: فَكَذَّبُوا بِها، وبَعْضُهم: فَبَدَّلُوها. ﴿ومَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١١] . نِعْمَةُ اللَّهِ: الحُجَجُ الواضِحَةُ الدّالَّةُ عَلى أمْرِهِ ﷺ يُبَدِّلُ بِها التَّشْبِيهَ والتَّأْوِيلاتِ، أوْ ما ورَدَ في كِتابِ اللَّهِ مِن نَعْتِهِ ﷺ يُبَدِّلُ بِهِ نَعْتَ الدَّجّالِ، أوِ الِاعْتِرافُ بِنُبُوَّتِهِ يُبَدِّلُ بِها الجَحْدَ لَها، أوْ كُتُبُ اللَّهِ المُنَزَّلَةُ عَلى مُوسى وعِيسى - عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِمُ السَّلامُ - يُبَدِّلُ بِها غَيْرَ أحْكامِها، كَآيَةِ الرَّجْمِ وشِبْهِها، أوِ الإسْلامُ. قالَهُ الطَّبَرِيُّ. أوْ شُكْرُ النِّعْمَةِ يُبَدِّلُ بِها الكُفْرَ، أوْ آياتُهُ وهي أجَلُّ نِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ: لِأنَّها أسْبابُ الهُدى والنَّجاةِ مِنَ الضَّلالَةِ، وتَبْدِيلُهم إيّاها، أنَّ اللَّهَ أظْهَرَها لِتَكُونَ أسْبابَ هُداهم، فَجَعَلُوها أسْبابَ ضَلالَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥]، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. سَبْعَةُ أقْوالٍ. ولَفْظُ ”مَن يُبَدِّلْ“ عامٌّ، وهو شَرْطٌ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَعَ بَنِي إسْرائِيلَ كُلُّ مُبَدِّلِ نِعْمَةٍ، كَكُفّارِ قُرَيْشٍ وغَيْرِهِمْ، فَإنَّ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ، وقَدْ بَدَّلُوا بِالشُّكْرِ عَلَيْها وقَبُولِها الكُفْرَ. ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُ﴾ [البقرة: ٢١١]، أيْ: مِن بَعْدِ ما أُسْدِيَتْ إلَيْهِ، وتَمَكَّنَ مِن قَبُولِها، ومِن بَعْدِ ما عَرَفَها كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ ما عَقَلُوهُ﴾ [البقرة: ٧٥]، وأتى بِلَفْظِ ”مِن“ إشْعارًا بِابْتِداءِ الغايَةِ، وأنَّهُ بِعَقِبِ ”ما جاءَتْهُ“ يُبَدِّلُهُ. وفي قَوْلِهِ: ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُ﴾ [البقرة: ٢١١] تَأْكِيدٌ: لِأنَّ إمْكانِيَّةَ التَّبْدِيلِ مِنهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلى الوُصُولِ إلَيْهِ. وقُرِئَ: ”ومَن يُبْدِلْ“ بِالتَّخْفِيفِ، و”يُبْدِلْ“ يَحْتاجُ لِمَفْعُولَيْنِ: مُبْدَلٌ ومُبْدَلٌ لَهُ، فالمُبْدَلُ هو الَّذِي يَتَعَدّى إلَيْهِ الفِعْلُ بِحَرْفِ جَرٍّ، والبَدَلُ هو الَّذِي يَتَعَدّى إلَيْهِ الفِعْلُ بِنَفْسِهِ، ويَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الجَرِّ لِفَهْمِ المَعْنى، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا في قَوْلِهِ: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [البقرة: ٥٩]، وإذا تَقَرَّرَ هَذا، فالمَفْعُولُ الواحِدُ هُنا مَحْذُوفٌ، وهو البَدَلُ، والأجْوَدُ أنْ يُقَدَّرَ مِثْلُ ما لُفِظَ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ [إبراهيم: ٢٨]، فَـ ”كُفْرًا“ هو البَدَلُ، و”نِعْمَةَ اللَّهِ“ هو المُبْدَلُ، وهو الَّذِي أصْلُهُ أنْ يَتَعَدّى إلَيْهِ الفِعْلُ بِحَرْفِ الجَرِّ، فالتَّقْدِيرُ إذَنْ: ومَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، وجازَ حَذْفُ المَفْعُولِ الواحِدِ وحَرْفِ الجَرِّ لِفَهْمِ المَعْنى، ولِتَرْتِيبِ جَوابِ الشَّرْطِ عَلى ما قَبْلَهُ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ النِّعْمَةُ هي البَدَلَ، والكُفْرُ هو المُبْدَلَ، أنْ يُجابَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ [البقرة: ٢١١] خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ الوَعِيدَ. ومِن حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ لِدَلالَةِ المَعْنى قَوْلُهُ: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠]، أيْ: بِسَيِّئاتِهِمْ، ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: سَيِّئاتِهِمْ بِحَسَناتٍ، فَتَكُونُ السَّيِّئاتُ هي البَدَلَ، والحَسَناتُ هي المُبْدَلَ: لِأنَّ ذَلِكَ لا يَتَرَتَّبُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا﴾ [مريم: ٦٠] . ﴿فَإنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ [البقرة: ٢١١] خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ الوَعِيدَ بِالعِقابِ عَلى مَن بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ، فَإنْ كانَ جَوابَ الشَّرْطِ فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ عائِدٍ في الجُمْلَةِ عَلى اسْمِ الشَّرْطِ، تَقْدِيرُهُ: فَإنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ لَهُ، أوْ تَكُونُ الألِفُ واللّامُ مُعاقِبَةً لِلضَّمِيرِ عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ، فَيُغْنِي عَنِ الرَّبْطِ لِقِيامِها مَقامَ الضَّمِيرِ، والأوْلى أنْ يَكُونَ الجَوابُ مَحْذُوفًا لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: يُعاقِبُهُ. قالَ عَبْدُ القاهِرِ في كِتابِ (دَلائِلِ الإعْجازِ): تَرْكُ هَذا الإضْمارِ أوْلى، يَعْنِي بِالإضْمارِ شَدِيدَ العِقابِ لَهُ: لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الآيَةِ التَّخْوِيفُ لِكَوْنِهِ في ذَلِكَ مَوْصُوفًا بِأنَّهُ شَدِيدُ العِقابِ، مِن غَيْرِ التِفاتٍ إلى كَوْنِهِ شَدِيدَ العِقابِ لِهَذا، ولِذَلِكَ سُمِّيَ العَذابُ عِقابًا: لِأنَّهُ يَعْقُبُ الجُرْمَ. وذَكَرَ بَعْضُ مَن جَمَعَ في التَّفْسِيرِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿سَلْ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [البقرة: ٢١١] مُؤَخَّرَةٌ في التِّلاوَةِ، مُقَدَّمَةٌ (p-١٢٩)فِي المَعْنى، والخِطابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ قالَ: والتَّقْدِيرُ: فَإنْ زَلَلْتُمْ إلى آخِرِ الآيَةِ سَلْ يا مُحَمَّدُ بَنِي إسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهم مِن آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَما اعْتَبَرُوا ولا أذْعَنُوا إلَيْها، هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ؟ أيْ: أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، انْتَهى. ولا حاجَةَ إلى ادِّعاءِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، بَلْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى تَرَتُّبِها أخَذَ بَعْضُها بِعُنُقِ بَعْضٍ، مُتَلاحِمَةُ التَّرْكِيبِ، واقِعَةٌ مَواقِعَها، فالمَعْنى: أنَّهم أُمِرُوا أنْ يَدْخُلُوا في الإسْلامِ، ثُمَّ أُخْبِرُوا أنَّ مَن زَلَّ جازاهُ اللَّهُ العَزِيزُ الَّذِي لا يُغالَبُ، الحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الأشْياءَ مَواضِعَها، ثُمَّ قِيلَ: لا يَنْتَظِرُونَ في إيمانِهِمْ إلّا ظُهُورَ آياتٍ بَيِّناتٍ، عِنادًا مِنهم، فَقَدْ أتَتْهُمُ الآياتُ، ثُمَّ سَلّى نَبِيَّهُ ﷺ في اسْتِبْطاءِ إيمانِهِمْ مَعَ ما أتى بِهِ لَهم مِنَ الآياتِ، بِقَوْلِهِ: ﴿سَلْ بَنِي إسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهم مِن آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ [البقرة: ٢١١]، فَما آمَنُوا بِها بَلْ بَدَّلُوا وغَيَّرُوا، ثُمَّ تَوَعَّدَ مَن بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ بِالعِقابِ الشَّدِيدِ، فَأنْتَ تَرى هَذِهِ المَعانِيَ مُتَناسِقَةً مُرَتَّبَةً التَّرْتِيبَ المُعْجِزَ، بِاللَّفْظِ البَلِيغِ المُوجَزِ، فَدَعْوى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ المُخْتَصِّ بِضَرُورَةِ الأشْعارِ، وبِنَظْمِ ذَوِي الِانْحِصارِ، مُنَزَّهٌ عَنْها كَلامُ الواحِدِ القَهّارِ. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَياةُ الدُّنْيا﴾ . نَزَلَتْ في أبِي جَهْلٍ وأصْحابِهِ كانُوا يَتَنَعَّمُونَ بِما بَسَطَ اللَّهُ لَهم، ويُكَذِّبُونَ بِالمَعادِ، ويَسْخَرُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الفُقَراءِ، كَعَمّارٍ، وصُهَيْبٍ، وأبِي عُبَيْدَةَ، وسالِمٍ، وعامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ، وخَبّابٍ، وبِلالٍ، ويَقُولُونَ: لَوْ كانَ نَبِيَّنا لَتَبِعَهُ أشْرافُنا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. في رِوايَةِ الكَلْبِيِّ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنْهُ. وقالَ مُقاتِلٌ: في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وأصْحابِهِ، كانُوا يَتَنَعَّمُونَ ويَسْخَرُونَ مِن ضُعَفاءَ المُؤْمِنِينَ، ويَقُولُونَ: انْظُرُوا إلى هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أنَّهُ يَغْلِبُ بِهِمْ. وقالَ عَطاءٌ: في عُلَماءِ اليَهُودِ مِن بَنِي قُرَيْظَةَ، والنَّضِيرِ، وقَيْنُقاعَ، سَخِرُوا مِن فُقَراءِ المُهاجِرِينَ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ أنْ يُعْطِيَهم أمْوالَ بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ بِغَيْرِ قِتالٍ، أسْهَلَ شَيْءٍ وأيْسَرَهُ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ أتَتْهم آياتٌ واضِحَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وأنَّهم بَدَّلُوا، أخْبَرَ أنَّ سَبَبَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ هو الرُّكُونُ إلى الدُّنْيا، والِاسْتِبْشارُ بِها، وتَزْيِينُها لَهم، واسْتِقامَتُهم لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلِبَنِي إسْرائِيلَ مِن هَذِهِ الآيَةِ أكْبَرُ حَظٍّ: لِأنَّهم كانُوا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، ويَكْذِبُونَ عَلى كِتابِ اللَّهِ، فَيَكْتُبُونَ ما شاءُوا لِيَنالُوا حَظًّا خَسِيسًا مِن حُظُوظِ الدُّنْيا، ويَقُولُونَ: هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ. وقِراءَةُ الجُمْهُورِ: ”زُيِّنَ“ عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، ولا يَحْتاجُ إلى إثْباتِ عَلامَةِ تَأْنِيثٍ لِلْفَصْلِ، ولِكَوْنِ المُؤَنَّثِ غَيْرَ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: ”زُيِّنَتْ“، بِالتّاءِ وتَوْجِيهُها ظاهِرٌ: لِأنَّ المُسْنَدَ إلَيْهِ الفِعْلُ مُؤَنَّثٌ، وحُذِفَ الفاعِلُ لِفَهْمِ المَعْنى، وهو اللَّهُ تَعالى، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِراءَةُ مُجاهِدٍ، وحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ، وأبِي حَيْوَةَ: ”زَيَّنَ“، عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى اللَّهِ تَعالى، إذْ قَبْلَهُ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ [البقرة: ٢١١] . وتَزْيِينُهُ تَعالى إيّاها لَهم بِما وضَعَ في طِباعِهِمْ مِنَ المَحَبَّةِ لَها، فَيَصِيرُ في نُفُوسِهِمْ مَيْلٌ ورَغْبَةٌ فِيها، أوْ بِالشَّهَواتِ الَّتِي خَلَقَها فِيهِمْ، وإلَيْهِ أشارَ بِقَوْلِهِ: ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ﴾ [آل عمران: ١٤] الآيَةَ، وإنَّما أحْكَمَهُ مِن مَصْنُوعاتِهِ وأتْقَنَهُ وحَسَّنَهُ، فَأعْجَبَهم بَهْجَتُها، واسْتَمالَتْ قُلُوبَهم فَمالُوا إلَيْها كُلِّيَّةً، وأعْطَوْها مِنَ الرَّغْبَةِ فَوْقَ ما تَسْتَحِقُّهُ. وقالَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قُدِمَ عَلَيْهِ بِالمالِ، قالَ: اللَّهُمَّ إنّا لا نَسْتَطِيعُ إلّا أنْ نَفْرَحَ بِما زَيَّنْتَ لَنا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ زَيَّنَها لَهم بِأنْ خَذَلَهم حَتّى اسْتَحْسَنُوها وأحَبُّوها، أوْ جَعَلَ إمْهالَ المُزَيَّنِ تَزْيِينًا، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ مَن قَرَأ: (زَيَّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَياةَ الدُّنْيا) عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ، انْتَهى كَلامُهُ. وهو جارٍ عَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَخْلُقُ الشَّرَّ، وإنَّما ذَلِكَ مِن خَلْقِ العَبْدِ، فَلِذَلِكَ تَأوَّلَ التَّزْيِينَ عَلى الخِذْلانِ، أوْ عَلى الإمْهالِ، وقِيلَ: الزَّيْنُ الشَّيْطانُ، وتَزْيِينُهُ بِتَحْسِينِ ما قَبُحَ شَرْعًا، وتَقْبِيحِ ما حَسُنَ شَرْعًا. والفَرْقُ بَيْنَ التَّزْيِينَيْنِ: أنَّ تَزْيِينَ اللَّهِ بِما رَكَّبَهُ ووَضَعَهُ في الجِبِلَّةِ، وتَزْيِينَ الشَّيْطانِ بِإذْكارِ ما وقَعَ إغْفالُهُ، وتَحْسِينِهِ - بِوَساوِسِهِ - إيّاها لَهم، وقِيلَ: المُزَيِّنُ، نُفُوسُهم كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: ٥٣]، (p-١٣٠)﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ﴾ [المائدة: ٣٠]، ﴿وكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ [طه: ٩٦]، وقِيلَ: شُرَكاؤُهم مِنَ الجِنِّ والإنْسِ، قالَ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ١٣٧] . الآيَةَ، وقالَ: ﴿شَياطِينَ الإنْسِ والجِنِّ يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْضٍ﴾ [الأنعام: ١١٢] . وقِيلَ: المُزَيَّنُ هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا. قالَ: ﴿أنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ﴾ [الحديد: ٢٠] . وقِيلَ: المُزَيَّنُ المَجْمُوعُ وفي هَذا الكَلامِ تَعْرِيفُ المُؤْمِنِينَ بِسَخافَةِ عُقُولِ الكُفّارِ حَيْثُ آثَرُوا الفانِيَ عَلى الباقِي. ﴿ويَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ . الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا، وتَقَدَّمَ مَن هم، وكَذَلِكَ تَقَدَّمَ القَوْلُ في ”الَّذِينَ آمَنُوا“ في سَبَبِ النُّزُولِ، ومَعْنى يَسْخَرُونَ: يَسْتَهْزِئُونَ، وذَلِكَ لِفَقْرِهِمْ، أوْ لِاتِّباعِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أوْ لِاتِّهامِهِمْ إيّاهم أنَّهم مُصَدِّقُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أوْ لِضَعْفِهِمْ وقِلَّةِ عَدَدِهِمْ. أقْوالٌ أرْبَعَةٌ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ مِن قَوْلِهِ ”زُيِّنَ“، ولا يُلْحَظُ فِيها عَطْفُ الفِعْلِ عَلى الفِعْلِ: لِأنَّهُ كانَ يَلْزَمُ اتِّحادُ الزَّمانِ، وإنْ لَمْ يَلْزَمِ اتِّحادُ الصِّيغَةِ، وصُدِّرَتِ الأُولى بِالفِعْلِ الماضِي لِأنَّهُ أمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنهُ، وهو تَرْكِيبُ طِباعِهِمْ عَلى مَحَبَّةِ الدُّنْيا، فَلَيْسَ أمْرًا مُتَجَدِّدًا، وصُدِّرَتِ الثّانِيَةُ بِالمُضارِعِ: لِأنَّها حالَةٌ تَتَجَدَّدُ كُلَّ وقْتٍ، وقِيلَ: هو عَلى الِاسْتِئْنافِ أيِ: الفِعْلُ المُضارِعُ، ومَعْنى الِاسْتِئْنافِ أنْ يَكُونَ عَلى إضْمارِهِمُ التَّقْدِيرَ: وهم يَسْخَرُونَ، فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ويَصِيرُ مِن عَطْفِ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلى الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ. ﴿والَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ . فَوْقَ: ظَرْفُ مَكانٍ، فَقِيلَ: هو عَلى حالِهِ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ حَقِيقَةً: لِأنَّ المُؤْمِنِينَ في عِلِّيِّينَ في السَّماءِ، والكُفّارَ في سِجِّينٍ في الأرْضِ، وقِيلَ: الفَوْقِيَّةُ مَجازٌ إمّا بِالنِّسْبَةِ إلى النَّعِيمَيْنِ: نَعِيمِ المُؤْمِنِينَ في الجَنَّةِ، ونَعِيمِ الكافِرِينَ في الدُّنْيا، وإمّا بِالنِّسْبَةِ إلى حُجَجِ المُؤْمِنِينَ، وشُبَهِ الكُفّارِ لِثُبُوتِ الحُجَجِ وتَلاشِي الشُّبَهِ، وإمّا بِالنِّسْبَةِ إلى ما زَعَمَ الكُفّارُ مِن قَوْلِهِمْ: إنْ كانَ لَنا مُعادٌ فَلَنا فِيهِ الحَظُّ، وإمّا بِالنِّسْبَةِ إلى سُخْرِيَةِ المُؤْمِنِينَ بِهِمْ في الآخِرَةِ، وسُخْرِيَةِ الكافِرِينَ بِالمُؤْمِنِينَ في الدُّنْيا، فَهم عالُونِ عَلَيْهِمْ، مُتَطاوِلُونَ، يَضْحَكُونَ مِنهم، كَما كانَ أُولَئِكَ في الدُّنْيا يَتَطاوَلُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ ويَضْحَكُونَ مِنهم، وإمّا بِالنِّسْبَةِ إلى عُلُوِّ حالِهِمْ: لِأنَّهم في كَرامَةٍ، والكُفّارَ في هَوانٍ. وجاءَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُصَدَّرَةً بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ اتَّقَوْا﴾: لِيَظْهَرَ أنَّ السَّعادَةَ الكُبْرى لا تَحْصُلُ إلّا لِلْمُؤْمِنِ المُتَّقِي: ولِتَبْعَثَ المُؤْمِنَ عَلى التَّقْوى، ولِيَزُولَ قَلَقُ التَّكْرارِ لَوْ كانَ ”والَّذِينَ آمَنُوا“: لِأنَّ قَبْلَهُ ”الَّذِينَ آمَنُوا“، وانْتِصابُ ”يَوْمَ القِيامَةِ“ عَلى الظَّرْفِ، والعامِلُ فِيهِ هو العامِلُ في الظَّرْفِ الواقِعِ خَبَرًا، أيْ: كائِنُونَ هم يَوْمَ القِيامَةِ. ولَمّا فَهِمُوا مِن ”فَوْقَ“ أنَّها تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ بَيْنَ مَن يُخْبَرُ بِها عَنْهُ، وبَيْنَ مَن تُضافُ هي إلَيْهِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ فَوْقَ عَمْرٍو في المَنزِلَةِ، حَتّى كَأنَّهُ قِيلَ: زَيْدٌ أعْلى مِن عَمْرٍو في المَنزِلَةِ، احْتاجُوا إلى تَأْوِيلِ عالٍ وأعْلى مِنهُ، قالابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا كُلُّهُ مِنَ التَّحْمِيلاتِ، حِفْظٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلِ، في أنَّ التَّفْضِيلَ إنَّما يَجِيءُ فِيما فِيهِ شَرِكَةٌ، والكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَهُ حَيْثُ لا اشْتِراكَ، انْتَهى كَلامُهُ. وهَذا الَّذِي حَكاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلِ لا نَعْلَمُهُ، وإنَّما الَّذِي وقَعَ فِيهِ الخِلافُ هو أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فالبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَ: زَيْدٌ أحْسَنُ إخْوَتِهِ، والكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَهُ، وأمّا أنَّ ذَلِكَ في ”فَوْقَ“ فَلا نَعْلَمُهُ، لَكِنَّهُ لَمّا تَوَهَّمَ أنَّها مُرادِفَةٌ لِأعْلى، وأعْلى أفْعَلُ تَفْضِيلٍ، نَقَلَ الخِلافَ إلَيْها، والَّذِي نَقُولُهُ: إنَّ ”فَوْقَ“ لا تَقْتَضِي التَّشْرِيكَ في التَّفْضِيلِ، وإنَّما تَدُلُّ عَلى مُطْلَقِ العُلُوِّ، فَإذا أُضِيفَتْ فَلا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ ما أُضِيفَتْ إلَيْهِ فِيهِ عُلُوٌّ، وكَما أنَّ تَحْتَ مُقابِلَتَها لا تَدُلُّ عَلى تَشْرِيكٍ في السُّفْلِيَّةِ، وإنَّما هي تَدُلُّ عَلى مُطْلَقِها، ولا نَقُولُ: إنَّها مُرادِفَةٌ لِـ ”أسْفَلِ“: لِأنَّ أسْفَلَ أفْعَلُ تَفْضِيلٍ يَدُلُّكَ عَلى ذَلِكَ اسْتِعْمالُها بِـ ”مِن“، كَقَوْلِهِ: الرَّكْبُ أسْفَلَ مِنكم، كَما أنَّ أعْلى كَذَلِكَ، فَإذا تَقَرَّرَ هَذا كانَ المَعْنى، واللَّهُ أعْلَمُ: والَّذِينَ اتَّقَوْا عالُوهم يَوْمَ القِيامَةِ، ولا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الكُفّارَ في عُلُوٍّ، بَلِ المَعْنى أنَّ العُلُوَّ يَوْمَ القِيامَةِ إنَّما هو لِلْمُتَّقِينَ، وغَيْرُهم سافِلُونَ، عَكْسُ حالِهِما في الدُّنْيا حَيْثُ كانُوا يَسْخَرُونَ مِنهم. (p-١٣١)﴿واللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾، اتِّصالُ هَذِهِ الجُمْلَةِ بِما قَبْلَها مِن تَفْضِيلِ المُتَّقِينَ يَوْمَ القِيامَةِ يَدُلُّ عَلى تَعَلُّقِها بِهِمْ، فَقِيلَ: هَذا الرِّزْقُ في الآخِرَةِ، وهو ما يُعْطى المُؤْمِنُ فِيها مِنَ الثَّوابِ، ويَكُونُ مَعْنى قَوْلِهِ: ”بِغَيْرِ حِسابٍ“ أيْ: بِغَيْرِ نِهايَةٍ؛ لِأنَّ ما لا يَتَناهى خارِجٌ عَنِ الحِسابِ، أوْ يَكُونُ المَعْنى: أنَّ بَعْضَها ثَوابٌ وبَعْضَها تَفْضِيلٌ مَحْضٌ، فَهو بِغَيْرِ حِسابٍ، وقِيلَ: هَذا الرِّزْقُ في الدُّنْيا، وهو إشارَةٌ إلى تَمَلُّكِ المُؤْمِنِينَ المُسْتَهْزَأِ بِهِمْ أمْوالَ بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، يَصِيرُ إلَيْهِمْ بِلا حِسابٍ، بَلْ يَنالُونَها بِأسْهَلِ شَيْءٍ وأيْسَرِهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقالَ نَحْوَهُ القَفّالُ، قالَ: قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ بِما أفاءَ عَلَيْهِمْ مِن أمْوالِ صَنادِيدِ قُرَيْشٍ ورُؤَساءِ اليَهُودِ، وبِما فُتِحَ بَعْدَ وفاتِهِ عَلى أيْدِي أصْحابِهِ. وقالُوا ما مَعْناهُ: إنَّها مُتَّصِلَةٌ بِالكُفّارِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أنَّهُ يُوَسِّعُ عَلى مَن تُوجِبُ الحِكْمَةُ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِ، كَما وُسِّعَ عَلى قارُونَ وغَيْرِهِ، فَهَذِهِ التَّوْسِعَةُ عَلَيْكم مِن جِهَةِ اللَّهِ لِما فِيها مِنَ الحِكْمَةِ، وهي اسْتِدْراجُكم بِالنِّعْمَةِ، ولَوْ كانَتْ كَرامَةً لَكانَ أوْلِياؤُهُ المُؤْمِنُونَ أحَقَّ بِها مِنكم. انْتَهى كَلامُهُ. ولَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ في مَعْنى هَذِهِ الجُمْلَةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: واللَّهُ يَرْزُقُ هَؤُلاءِ الكَفَرَةَ في الدُّنْيا، فَلا تَسْتَعْظِمُوا ذَلِكَ، ولا تَقِيسُوا عَلَيْهِ الآخِرَةَ؛ فَإنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ عَلى قَدْرِ الكُفْرِ والإيمانِ، بَلْ يُحْسَبُ لِهَذا عَمَلُهُ وهَذا عَمَلُهُ، فَيُرْزَقانِ بِحِسابِ ذَلِكَ، بَلِ الرِّزْقُ بِغَيْرِ حِسابِ الأعْمالِ، والأعْمالُ مُجازاتُها مُحاسَبَةٌ ومُعادَةٌ؛ إذْ أجْزاءُ الجَزاءِ تُقابِلُ أجْزاءَ الفِعْلِ المُجازى عَلَيْهِ، فالمَعْنى: إنَّ المُؤْمِنَ - وإنْ لَمْ يُرْزَقْ في الدُّنْيا - فَهو فَوْقَ الكافِرِ يَوْمَ القِيامَةِ. انْتَهى كَلامُهُ. والَّذِي يَظْهَرُ عَدَمُ تَخْصِيصِ الرِّزْقِ بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ، بَلْ لَمّا ذَكَرَ حالَيْهِما مِن سُخْرِيَةِ الكُفّارِ بِهِمْ في الدُّنْيا، بِسَبَبِ ما رُزِقُوا مِنَ التَّمَكُّنِ فِيها، والرِّياسَةِ، والبَسْطِ، وتَعالِي المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ في الآخِرَةِ؛ بِسَبَبِ ما رُزِقُوا مِنَ الفَوْزِ والتَّفَرُّدِ بِالنَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ، بَيَّنَ أنَّ ما يَفْعَلُهُ مِن ذَلِكَ ويَرْزُقُهُ إيّاهُ إنَّما هو راجِعٌ لِمَشِيئَتِهِ السّابِقَةِ، وأنَّهُ لا يُحاسِبُهُ أحَدٌ، ولا يُحاسِبُ نَفْسَهُ عَلى ما يُعْطِي؛ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا لِمَن يَخافُ نَفاذَ ما عِنْدَهُ. وقالُوا في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (يَمِينُ اللَّهِ مَلْأى، لا يَنْقُصُها شَيْءٌ ما أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ، فَإنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقِصْ شَيْئًا مِمّا عِنْدَهُ) . ومَفْعُولُ يَشاءُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: مَن يَشاءُ أنْ يَرْزُقَهُ، دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، وبِغَيْرِ حِسابٍ تَقَدَّمَهُ ثَلاثَةُ أشْياءَ يَصْلُحُ تَعَلُّقُهُ بِها: الفِعْلُ، والفاعِلُ، والمَفْعُولُ الأوَّلُ وهو ”مَن“ . فَإنْ كانَ لِلْفِعْلِ فَهو مِن صِفاتِ المَصْدَرِ، وإنْ كانَ لِلْفاعِلِ فَهو مِن صِفاتِهِ، أوْ لِلْمَفْعُولِ فَهو مِن صِفاتِهِ، فَإذا كانَ لِلْفِعْلِ كانَ المَعْنى: يَرْزُقُ مَن يَشاءُ رِزْقًا غَيْرَ حِسابٍ، أيْ: غَيْرَ ذِي حِسابٍ، ويَعْنِي بِالحِسابِ: العَدَّ؛ فَهو لا يُحْصى ولا يُحْصَرُ مِن كَثْرَتِهِ، أوْ يَعْنِي بِهِ المُحاسَبَةَ في الآخِرَةِ، أيْ: رِزْقًا لا يَقَعُ عَلَيْهِ حِسابٌ في الآخِرَةِ، وتَكُونُ عَلى هَذا الباءُ زائِدَةً. وإذا كانَ لِلْفاعِلِ كانَ في مَوْضِعِ الحالِ، المَعْنى: يَرْزُقُ اللَّهُ غَيْرَ مُحاسِبٍ عَلَيْهِ، أيْ: مُتَفَضِّلًا في إعْطائِهِ لا يُحاسِبُ عَلَيْهِ، أوْ غَيْرَ عادٍّ عَلَيْهِ ما يُعْطِيهِ، ويَكُونُ ذَلِكَ مَجازًا عَنِ التَّقْتِيرِ والتَّضْيِيقِ؛ فَيَكُونُ حِسابُ مَصْدَرًا عُبِّرَ بِهِ عَنِ اسْمِ الفاعِلِ مِن حاسَبَ، أوْ عَنِ اسْمِ الفاعِلِ مِن حَسَبَ، وتَكُونُ الباءُ زائِدَةً في الحالِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ الباءَ زِيدَتْ في الحالِ المَنفِيَّةِ، وهَذِهِ الحالُ لَمْ يَتَقَدَّمْها نَفْيٌ، ومِمّا قِيلَ: إنَّها زِيدَتْ في الحالِ المَنفِيَّةِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَما رَجَعَتْ بِخائِبَةٍ رِكابُ ∗∗∗ حَكِيمُ بْنُ المُسَيَّبِ مُنْتَهاها أيْ: فَما رَجَعَتْ خائِبَةً، ويُحْتَمَلُ في هَذا الوَجْهِ أنْ يَكُونَ حِسابُ مَصْدَرًا عُبِّرَ بِهِ عَنِ اسْمِ المَفْعُولِ، أيْ: غَيْرُ مُحاسَبٍ عَلى ما يُعْطِي تَعالى، أيْ: لا أحَدَ يُحاسِبُ اللَّهَ تَعالى عَلى ما مَنَحَ؛ فَعَطاؤُهُ غَمْرًا لا نِهايَةَ لَهُ. وإذا كانَ لِـ ”مَن“ وهو المَفْعُولُ الأوَّلُ لِيَرْزُقَ، فالمَعْنى أنَّ المَرْزُوقَ غَيْرُ مُحاسَبٍ عَلى ما يَرْزُقُهُ اللَّهُ تَعالى؛ فَيَكُونُ أيْضًا حالًا مِنهُ، ويَقَعُ الحِسابُ الَّذِي هو المَصْدَرُ عَلى المَفْعُولِ الَّذِي هو مُحاسَبٌ مِن حاسَبَ، أوِ المَفْعُولِ مِن (p-١٣٢)حَسَبَ، أيْ: غَيْرُ مَعْدُودٍ عَلَيْهِ ما رُزِقَ، أوْ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: غَيْرُ ذِي حِسابٍ، ويَعْنِي بِالحِسابِ: المُحاسَبَةَ أوِ العَدَّ، والباءُ زائِدَةٌ في هَذِهِ الحالِ أيْضًا، ويُحْتَمَلُ في هَذا الوَجْهِ أنْ يَكُونَ المَعْنى: أنَّهُ يُرْزَقُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، أيْ: مِن حَيْثُ لا يَظُنُّ، ولا يُقَدِّرُ أنْ يَأْتِيَهُ الرِّزْقُ، كَما قالَ: ﴿ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٣]؛ فَيَكُونُ حالًا أيْضًا، أيْ: غَيْرَ مُحْتَسِبٍ. وهَذِهِ الأوْجُهُ كُلُّها مُتَكَلَّفَةٌ، وفِيها زِيادَةُ الباءِ، والأوْلى أنُ تَكُونَ الباءُ لِلْمُصاحَبَةِ، وهي الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْها بِباءِ الحالِ؛ وعَلى هَذا يَصْلُحُ أنْ تَكُونَ لِلْمَصْدَرِ، ولِلْفاعِلِ، ولِلْمَفْعُولِ، ويَكُونُ الحِسابُ مُرادًا بِهِ المُحاسَبَةُ، أوِ العَدُّ، أيْ: يَرْزُقُ مَن يَشاءُ ولا حِسابَ عَلى الرِّزْقِ، أوْ: ولا حِسابَ لِلرّازِقِ، أوْ: ولا حِسابَ عَلى المَرْزُوقِ. وكَوْنُ الباءِ لَها مَعْنًى أوْلى مِن كَوْنِها زائِدَةً، وكَوْنُ المَصْدَرِ باقِيًا عَلى المَصْدَرِيَّةِ أوْلى مِن كَوْنِهِ مَجازًا عَنِ اسْمِ فاعِلٍ أوِ اسْمِ مَفْعُولٍ وكَوْنُهُ مُضافًا لِغَيْرٍ أوْلى مِن جَعْلِهِ مُضافًا لِذِي مَحْذُوفَةً، ولا تَعارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿جَزاءً مِن رَبِّكَ عَطاءً حِسابًا﴾ [النبإ: ٣٦]، أيْ: مُحْسَبًا، أيْ: كافِيًا، مِن أحْسَبَنِي كَذا إذا كَفاكَ، وبِغَيْرِ حِسابٍ مَعْناهُ العَدُّ أوِ المُحاسَبَةُ، أوْ لِاخْتِلافِ مُتَعَلِّقَيْهِما إنْ كانا بِمَعْنًى واحِدٍ، فالِاخْتِلافُ بِالنِّسْبَةِ إلى صِفَتَيِ الرِّزْقِ والعَطاءِ في الآخِرَةِ، فَبِغَيْرِ حِسابٍ في التَّفَضُّلِ المَحْضِ، وعَطاءً حِسابًا في الجَزاءِ المُقابِلِ لِلْعَمَلِ، أوْ بِالنِّسْبَةِ إلى اخْتِلافِ طَرَفَيْهِما، فَبِغَيْرِ حِسابٍ في الدُّنْيا؛ إذْ يَرْزُقُ الكافِرَ والمُؤْمِنَ ولا يُحاسِبُ المَرْزُوقِينَ عَلَيْهِ، وفي الآخِرَةِ يُحاسِبُ، أوْ بِالنِّسْبَةِ إلى اخْتِلافِ مَن قاما بِهِ، فَبِغَيْرِ حِسابِ اللَّهِ تَعالى، وهو حالٌ مِنهُ، أيْ: يَرْزُقُ ولا يُحاسِبُ عَلَيْهِ، أوْ ولا يَعُدُّ عَلَيْهِ، وحِسابًا صِفَةٌ لِلْعَطاءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مِن جِهَةِ مَن قاما بِهِ، وزالَ بِذَلِكَ التَّعارُضُ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الكَرِيمَةُ - مِن أواخِرِ أقْوالِ الحَجِّ وأفْعالِهِ - الأمْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ في أيّامٍ مَعْدُوداتٍ، أيْ: قَلائِلَ، ودَلَّ الذِّكْرُ عَلى الرَّمْيِ وإنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ؛ لِأنَّ الذِّكْرَ المَأْمُورَ بِهِ في تِلْكَ الأيّامِ هو عِنْدَ الرَّمْيِ، ودَلَّ الأمْرُ عَلى مَشْرُوعِيَّتِهِ في أيّامٍ، وهو جَمْعٌ، ثُمَّ رَخَّصَ في التَّعْجِيلِ عِنْدَ انْقِضاءِ يَوْمَيْنِ مِنها، فَسَقَطَ الذِّكْرُ المُخْتَصُّ بِهِ اليَوْمُ الثّالِثُ، وأخْبَرَ أنَّ حالَ المُتَعَجِّلِ والمُتَأخِّرِ سَواءٌ في عَدَمِ الإثْمِ، وإنْ كانَ حالُ مَن تَأخَّرَ أفْضَلَ، وكانَ بَعْضُ الجاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُ أنَّ مَن تَعَجَّلَ أثِمَ، وبَعْضُهم يَعْتَقِدُ أنَّ مَن تَأخَّرَ أثِمَ؛ فَلِذَلِكَ أخْبَرَ أنَّ اللَّهَ رَفَعَ الإثْمَ عَنْهُما؛ إذْ كانَ التَّعَجُّلُ والتَّأخُّرُ مِمّا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ ارْتِفاعَ الإثْمِ لا يَكُونُ إلّا لِمَنِ اتَّقى اللَّهَ تَعالى، ثُمَّ أمَرَ بِالتَّقْوى، وتَكْرارِ الأمْرِ بِها في الحَجِّ، ثُمَّ ذَكَرَ الحامِلَ عَلى التَّلَبُّسِ بِالتَّقْوى، وهو كَوْنُهُ تَعالى شَدِيدَ العِقابِ لِمَن لَمْ يَتَّقِهِ، ثُمَّ لَمّا كانَتِ التَّقْوى تَنْقَسِمُ إلى مَن يُظْهِرُها بِلِسانِهِ وقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلى خِلافِها، وإلى مَن تَساوى سَرِيرَتُهُ وعَلانِيَتُهُ في التَّقْوى؛ قَسَّمَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ إلى قِسْمَيْنِ؛ فَقالَ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [البقرة: ٢٠٤]، أيْ: يُؤْنِقُكَ ويَرُوقُ لَفْظُهُ، يُحَسِّنُ ما يَأْتِي بِهِ مِنَ المُوافَقَةِ والطَّواعِيَةِ ظاهِرًا، ثُمَّ لا يَكْتَفِي بِما زَوَّرَ ونَمَّقَ مِن كَلامِهِ اللَّطِيفِ حَتّى يُشْهِدَ اللَّهَ عَلى ما في قَلْبِهِ مِن ذَلِكَ؛ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ أنَّ سَرِيرَتَهُ مِثْلُ عَلانِيَتِهِ، وهو إذا خاصَمَ كانَ شَدِيدَ الخُصُومَةِ، وإذا خَرَجَ مِن عِنْدِكَ تَقَلَّبَ في نَواحِي الأرْضِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى سَبَبَ سَعْيِهِ وأنَّهُ لِلْإفْسادِ مُطْلَقًا، ولِيُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ اللَّذَيْنِ هُما قِوامُ الوُجُودِ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ؛ فَهَذا المُتَوَلِّي السّاعِي في الأرْضِ يَفْعَلُ ما لا يُحِبُّهُ اللَّهُ ولا يَرْضاهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ مِن شِدَّةِ الشَّكِيمَةِ في النِّفاقِ إذا أُمِرَ بِتَقْوى اللَّهِ تَعالى اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الأنَفَةُ والغَضَبُ بِالإثْمِ، أيْ: مَصْحُوبًا بِالإثْمِ، فَلَيْسَ غَضَبُهُ لِلَّهِ، إنَّما هو لِغَيْرِ اللَّهِ؛ فَلِذَلِكَ اسْتَصْحَبَهُ الإثْمُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى ما يَؤُولُ إلَيْهِ حالُ هَذا الآنِفِ المُغْتَرِّ بِغَيْرِ اللَّهِ، وهو جَهَنَّمُ، فَهي كافِيَةٌ لَهُ، ومُبْدِلَتُهُ بَعْدَ عِزِّهِ ذُلًّا، ثُمَّ ذَمَّ تَعالى ما مَهَّدَ لِنَفْسِهِ مِن جَهَنَّمَ، وبِئْسَ لِغايَةِ الذَّمِّ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى القِسْمَ المُقابِلَ لِهَذا القِسْمِ، وهو مَن باعَ نَفْسَهُ في طِلابِ رِضى اللَّهِ تَعالى، واكْتَفى بِهَذا الوَصْفِ الشَّرِيفِ؛ إذْ دَلَّ عَلى انْطِوائِهِ عَلى جَمِيعِ الطّاعاتِ والِانْقِياداتِ؛ إذْ صارَ عَبْدَ اللَّهِ (p-١٣٣)يُوجَدُ حَيْثُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ مَن كانَ بِهَذِهِ المَثابَةِ رَأفَ اللَّهُ بِهِ ورَحِمَهُ، ورَأْفَةُ اللَّهِ بِهِ تَتَضَمَّنُ اللُّطْفَ بِهِ والإحْسانَ إلَيْهِ بِجَمِيعِ أنْواعِ الإحْسانِ، وذَكَرَ الرَّأْفَةَ الَّتِي هي - قِيلَ - أرَقُّ مِنَ الرَّحْمَةِ. ثُمَّ نادى المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا)، وأمَرَهم بِالدُّخُولِ في الإسْلامِ، وثَنّى بِالنَّهْيِ؛ لِأنَّ الأمْرَ أشَقُّ مِنَ النَّهْيِ؛ لِأنَّ الأمْرَ فِعْلٌ والنَّهْيَ تَرْكٌ؛ ولِمُجاوَرَتِهِ قَوْلَهُ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ٢٠٧]؛ فَصارَ نَظِيرَ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦]، ولَمّا نَهاهم تَعالى عَنِ اتِّباعِ خُطُواتِ الشَّيْطانِ، وهي سُلُوكُ مَعاصِي اللَّهِ؛ أخْبَرَ أنَّهُ إنْ زَلُّوا مِن بَعْدِ ما أتَتْهُمُ البَيِّناتُ الواضِحَةُ النَّيِّرَةُ الَّتِي لا يَنْبَغِي أنْ يَقَعَ الزَّلَلُ مَعَها؛ لِأنَّ في إيضاحِها ما يُزِيلُ اللَّبْسَ، فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يُغالَبُ، حَكِيمٌ يَضَعُ الأشْياءَ مَواضِعَها؛ فَيُجازِي عَلى الزَّلَلِ بَعْدَ وُضُوحِ الآياتِ الَّتِي تَقْتَضِي الثُّبُوتَ في الطّاعَةِ بِما يُناسِبُ ذَلِكَ الزَّلَلَ، فَدَلَّ بِعِزَّتِهِ عَلى القُدْرَةِ، وبِحِكْمَتِهِ عَلى جَزاءِ العاصِي والطّائِعِ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أساءُوا بِما عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أحْسَنُوا بِالحُسْنى﴾ [النجم: ٣١] . ثُمَّ أعْرَضَ تَعالى عَنْ خِطابِهِمْ، وأخْبَرَ عَنْهم إخْبارَ الغائِبِينَ، مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ عَنْ تَباطُئِهِمْ في الدُّخُولِ في الإسْلامِ، فَقالَ: ما يَنْتَظِرُونَ إلّا قِيامَ السّاعَةِ يَوْمَ فَصْلِ اللَّهِ بَيْنَ العِبادِ، وقَضاءِ الأمْرِ، ورُجُوعِ جَمِيعِ الأُمُورِ إلَيْهِ، فَهُناكَ تَظْهَرُ ثَمَرَةُ ما جَنَوْا عَلى أنْفُسِهِمْ، كَما جاءَ في الحَدِيثِ: (أنَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَأْتِيهِمُ اللَّهُ في صُورَةِ كَذا)، عَلى ما يَلِيقُ بِتَقْدِيسِهِ عَنْ جَمِيعِ ما يُشْبِهُ المَخْلُوقِينَ، ونُنَزِّهُهُ عَمّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مِن سِماتِ الحُدُوثِ وصِفاتِ النَّقْصِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿سَلْ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [البقرة: ٢١١] مُنَبِّهًا عَلى أنَّ دَأْبَ مَن أُرْسِلَ إلَيْهِمُ الأنْبِياءُ، وظَهَرَتْ لَهُمُ المُعْجِزاتُ؛ الإعْراضُ عَنْ ذَلِكَ، وعَدَمُ قَبُولِ الإيمانِ، وأنَّهم يُرَتِّبُونَ عَلى الشَّيْءِ غَيْرَ مُقْتَضاهُ، فَيُكَذِّبُونَ بِالآياتِ الَّتِي جاءَتْ دالَّةً عَلى الصِّدْقِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ مَن بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ عاقَبَهُ أشَدَّ العِقابِ، قابَلَ نِعْمَةَ اللَّهِ الَّتِي هي مَظِنَّةُ الشُّكْرِ بِالكُفْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى الحامِلَ لَهم عَلى تَبْدِيلِ نِعَمِ اللَّهِ، وهو تَزْيِينُ الحَياةِ الدُّنْيا، فَرَغِبُوا في الفانِي وزَهِدُوا في الباقِي؛ إيثارًا لِلْعاجِلِ عَلى الآجِلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِهْزاءَهم بِالمُؤْمِنِينَ؛ حَيْثُ ما يُتَوَهَّمُ في وصْفِ الإيمانِ، والرَّغْبَةِ فِيما عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وذَكَرَ أنَّهُمُ العالُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، ودَلَّ بِذَلِكَ عَلى أنَّ أُولَئِكَ هُمُ السّافِلُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ يَرْزُقُ المُؤْمِنِينَ - وهُمُ الَّذِينَ يُحِبُّهم - بِغَيْرِ حِسابٍ، إشارَةً إلى سَعَةِ الرِّزْقِ وعَدَمِ التَّقْتِيرِ والتَّقْدِيرِ، وأعادَ ذِكْرَهم بِلَفْظِ مَن يَشاءُ؛ تَنْبِيهًا عَلى إرادَتِهِ لَهم، ومَحَبَّتِهِ إيّاهم، واخْتِصاصِهِمْ بِهِ؛ إذْ لَوْ قالَ: واللَّهُ يَرْزُقُهم بِغَيْرِ حِسابٍ، لَفاتَ هَذا المَعْنى مَن ذِكْرِ المَشِيئَةِ الَّتِي هي الإرادَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب