الباحث القرآني
سُورَةُ الواقِعَةِ مَكِّيَّةٌ وهي سِتٌّ وتِسْعُونَ آيَةً
﷽
﴿إذا وقَعَتِ الواقِعَةُ﴾ ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ﴾ ﴿خافِضَةٌ رافِعَةٌ﴾ ﴿إذا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا﴾ ﴿وبُسَّتِ الجِبالُ بَسًّا﴾ ﴿فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا﴾ ﴿وكُنْتُمْ أزْواجًا ثَلاثَةً﴾ ﴿فَأصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أصْحابُ المَيْمَنَةِ﴾ [الواقعة: ٨] ﴿وأصْحابُ المَشْأمَةِ ما أصْحابُ المَشْأمَةِ﴾ [الواقعة: ٩] ﴿والسّابِقُونَ السّابِقُونَ﴾ [الواقعة: ١٠] ﴿أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة: ١١] ﴿فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الواقعة: ١٢] ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ﴾ [الواقعة: ١٣] ﴿وقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ [الواقعة: ١٤] ﴿عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ﴾ [الواقعة: ١٥] ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ﴾ [الواقعة: ١٦] ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ [الواقعة: ١٧] ﴿بِأكْوابٍ وأبارِيقَ وكَأْسٍ مِن مَعِينٍ﴾ [الواقعة: ١٨] ﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْها ولا يُنْزِفُونَ﴾ [الواقعة: ١٩] ﴿وفاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٢٠] ﴿ولَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ﴾ [الواقعة: ٢١] ﴿وحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] ﴿كَأمْثالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ﴾ [الواقعة: ٢٣] ﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الواقعة: ٢٤] ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا تَأْثِيمًا﴾ [الواقعة: ٢٥] ﴿إلّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا﴾ [الواقعة: ٢٦] ﴿وأصْحابُ اليَمِينِ ما أصْحابُ اليَمِينِ﴾ [الواقعة: ٢٧] ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ [الواقعة: ٢٨] ﴿وطَلْحٍ مَنضُودٍ﴾ [الواقعة: ٢٩] ﴿وظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة: ٣٠] ﴿وماءٍ مَسْكُوبٍ﴾ [الواقعة: ٣١] ﴿وفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ [الواقعة: ٣٢] ﴿لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ﴾ [الواقعة: ٣٣] ﴿وفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ [الواقعة: ٣٤] ﴿إنّا أنْشَأْناهُنَّ إنْشاءً﴾ [الواقعة: ٣٥] ﴿فَجَعَلْناهُنَّ أبْكارًا﴾ [الواقعة: ٣٦] ﴿عُرُبًا أتْرابًا﴾ [الواقعة: ٣٧] ﴿لِأصْحابِ اليَمِينِ﴾ [الواقعة: ٣٨] ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ﴾ [الواقعة: ٣٩] ﴿وثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ [الواقعة: ٤٠] رُجَّتِ الأرْضُ: زُلْزِلَتْ وحُرِّكَتْ تَحْرِيكًا شَدِيدًا بِحَيْثُ تَنْهَدِمُ الأبْنِيَةُ وتَخِرُّ الجِبالُ. بُسَّتِ الجِبالُ: فُتِّتَتْ، وقِيلَ: سُيِّرَتْ، مِن قَوْلِهِمْ: بَسَّ الغَنَمَ: ساقَها، ويُقالُ: رُجَّتِ الأرْضُ وبُسَّتِ الجِبالُ لازِمَيْنِ. المَشْأمَةُ: مِنَ الشُّؤْمِ، أوْ مِنَ اليَدِ الشُّؤْمى، وهي الشِّمالُ. الثُّلالَةُ: الجَماعَةُ، كَثُرَتْ أوْ قَلَّتْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الأُمَّةُ مِنَ النّاسِ الكَثِيرَةُ، وقالَ الشّاعِرُ:
؎وجاءَتْ إلَيْهِمْ ثَلاثَةٌ خَنْدَقِيَّةٌ بِجَيْشٍ كَتَيّارٍ مِنَ السَّيْلِ مُزْبِدِ
المَوْضُونَةُ: المَنسُوجَةُ بِتَرْكِيبِ بَعْضِ أجْزائِها عَلى بَعْضٍ، كَحِلَقِ الدِّرْعِ. قالَ الأعْشى:
؎ومِن نَسْجِ داوُدَ مَوْضُونَةٌ ∗∗∗ تَسِيرُ مَعَ الحَيِّ عِيرًا فَعِيرا
ومِنهُ: وضِينُ النّاقَةِ، وهو خِزامُها، لِأنَّهُ مَوْضُونٌ: أيْ مَفْتُولٌ. قالَ الرّاجِزُ:
؎إلَيْكَ تَغْدُو قَلِقًا وضِينُها ∗∗∗ مُعْتَرِضًا في بَطْنِها جَنِينُها
مُخالِفًا دِينَ النَّصارى دِينُها
الإبْرِيقُ: إفْعِيلُ مِنَ البَرِيقِ، وهو إناءٌ لِلشُّرْبِ لَهُ خُرْطُومٌ. قِيلَ: وأُذُنٌ، وهو مِن أوانِي الخَمْرِ عِنْدَ العَرَبِ، قالَ الشّاعِرُ:
؎كَأنَّ إبْرِيقَهم ظَبْيٌ عَلى شَرَفٍ ∗∗∗ مُفَدَّمٌ بِسَبا الكَتّانِ مَلْثُومُ
وقالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:(p-٢٠١)
؎ونَدْعُو إلى الصَّباحِ فَجاءَتْ ∗∗∗ قَيْنَةٌ في يَمِينِها إبْرِيقُ
صُدِّعَ القَوْمُ بِالخَمْرِ: لَحِقَهُمُ الصُّداعُ في رُءُوسِهِمْ مِنها. وقِيلَ: صُدِّعُوا: فُرِّقُوا. السِّدْرُ: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في سُورَةِ سَبَأٍ. المَخْضُودُ: المَقْطُوعُ شَوْكُهُ. قالَ أُمَيَّةُ بْنُ أبِي الصَّلْتِ:
؎إنَّ الحَدائِقَ في الجِنانِ ظَلِيلَةٌ ∗∗∗ فِيها الكَواعِبُ سِدْرُها مَخْضُودُ
الطَّلْحُ: شَجَرُ المَوْزِ، وقِيلَ: شَجَرٌ مِنَ العِضاهِ كَثِيرُ الشَّوْكِ. المَسْكُوبُ: المَصْبُوبُ. العَرُوبُ: المُتَحَبِّبَةُ إلى زَوْجِها. التِّرْبُ: اللَّذَّةُ، وهو مَن يُولَدُ هو وآخَرُ في وقْتٍ واحِدٍ، سُمِّيا بِذَلِكَ لِمَسِّهِما التُّرابَ في وقْتٍ واحِدٍ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
(p-٢٠٢)﴿إذا وقَعَتِ الواقِعَةُ﴾ ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ﴾ ﴿خافِضَةٌ رافِعَةٌ﴾ ﴿إذا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا﴾ ﴿وبُسَّتِ الجِبالُ بَسًّا﴾ ﴿فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا﴾ ﴿وكُنْتُمْ أزْواجًا ثَلاثَةً﴾ ﴿فَأصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أصْحابُ المَيْمَنَةِ﴾ [الواقعة: ٨] ﴿وأصْحابُ المَشْأمَةِ ما أصْحابُ المَشْأمَةِ﴾ [الواقعة: ٩] ﴿والسّابِقُونَ السّابِقُونَ﴾ [الواقعة: ١٠] ﴿أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة: ١١] ﴿فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الواقعة: ١٢] ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ﴾ [الواقعة: ١٣] ﴿وقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ [الواقعة: ١٤] ﴿عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ﴾ [الواقعة: ١٥] ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ﴾ [الواقعة: ١٦] ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ [الواقعة: ١٧] ﴿بِأكْوابٍ وأبارِيقَ وكَأْسٍ مِن مَعِينٍ﴾ [الواقعة: ١٨] ﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْها ولا يُنْزِفُونَ﴾ [الواقعة: ١٩] ﴿وفاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٢٠] ﴿ولَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ﴾ [الواقعة: ٢١] ﴿وحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] ﴿كَأمْثالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ﴾ [الواقعة: ٢٣] ﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الواقعة: ٢٤] ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا تَأْثِيمًا﴾ [الواقعة: ٢٥] ﴿إلّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا﴾ [الواقعة: ٢٦] ﴿وأصْحابُ اليَمِينِ ما أصْحابُ اليَمِينِ﴾ [الواقعة: ٢٧] ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ [الواقعة: ٢٨] ﴿وطَلْحٍ مَنضُودٍ﴾ [الواقعة: ٢٩] ﴿وظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة: ٣٠] ﴿وماءٍ مَسْكُوبٍ﴾ [الواقعة: ٣١] ﴿وفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ [الواقعة: ٣٢] ﴿لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ﴾ [الواقعة: ٣٣] ﴿وفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ [الواقعة: ٣٤] ﴿إنّا أنْشَأْناهُنَّ إنْشاءً﴾ [الواقعة: ٣٥] ﴿فَجَعَلْناهُنَّ أبْكارًا﴾ [الواقعة: ٣٦] ﴿عُرُبًا أتْرابًا﴾ [الواقعة: ٣٧] ﴿لِأصْحابِ اليَمِينِ﴾ [الواقعة: ٣٨] ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ﴾ [الواقعة: ٣٩] ﴿وثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ [الواقعة: ٤٠] . هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها تَضَمُّنُ العَذابِ لِلْمُجْرِمِينَ، والنَّعِيمِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وفاضَلَ بَيْنَ جَنَّتَيْ بَعْضِ المُؤْمِنِينَ وجَنَّتَيْ بَعْضٍ بِقَوْلِهِ: ﴿ومِن دُونِهِما جَنَّتانِ﴾ [الرحمن: ٦٢]، فانْقَسَمَ العالَمُ بِذَلِكَ إلى كافِرٍ ومُؤْمِنٍ مَفْضُولٍ ومُؤْمِنٍ فاضِلٍ؛ وهَكَذا جاءَ ابْتِداءُ هَذِهِ السُّورَةِ مِن كَوْنِهِمْ أصْحابَ مَيْمَنَةٍ وأصْحابَ مَشْأمَةٍ وسِباقٍ وهُمُ المُقَرَّبُونَ، وأصْحابُ اليَمِينِ والمُكَذِّبُونَ المُخْتَتَمُ بِهِمْ آخِرُ هَذِهِ السُّورَةِ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الواقِعَةُ مِن أسْماءِ القِيامَةِ، كالصّاخَّةِ والطّامَّةِ والآزِفَةِ، وهَذِهِ الأسْماءُ تَقْتَضِي عِظَمَ شَأْنِها، ومَعْنى ﴿وقَعَتِ الواقِعَةُ﴾: أيْ وقَعَتِ الَّتِي لا بُدَّ مِن وُقُوعِها، كَما تَقُولُ: حَدَثَتِ الحادِثَةُ، وكانَتِ الكائِنَةُ؛ ووُقُوعُ الأمْرِ نُزُولُهُ، يُقالُ: وقَعَ ما كُنْتُ أتَوَقَّعُهُ: أيْ نَزَلَ ما كُنْتُ أتَرَقَّبُ نُزُولَهُ. وقالَ الضَّحّاكُ: (الواقِعَةُ): الصَّيْحَةُ، وهي النَّفْخَةُ في الصُّورِ. وقِيلَ: (الواقِعَةُ): صَخْرَةُ بَيْتِ المَقْدِسِ تَقَعُ يَوْمَ القِيامَةِ. والعامِلُ في إذا الفِعْلُ بَعْدَها عَلى ما قَرَّرْناهُ في كُتُبِ النَّحْوِ، فَهو في مَوْضِعِ خَفْضٍ (p-٢٠٣)بِإضافَةِ إذا إلَيْها احْتاجَ إلى تَقْدِيرِ عامِلٍ، إذِ الظّاهِرُ أنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ جَوابٌ مَلْفُوظٌ بِهِ يَعْمَلُ بِها. فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: بِمَ انْتَصَبَ إذًا ؟ قُلْتُ: بِلَيْسَ، كَقَوْلِكَ: يَوْمَ الجُمُعَةِ لَيْسَ لِي شُغْلٌ، أوْ بِمَحْذُوفٍ يَعْنِي: إذا وقَعَتْ كانَ كَيْتَ وكَيْتَ، أوْ بِإضْمارِ اذْكُرْ. انْتَهى.
أمّا نَصْبُها بِلَيْسَ فَلا يَذْهَبُ نَحْوِيٌّ ولا مَن شَدا شَيْئًا مِن صِناعَةِ الإعْرابِ إلى مِثْلِ هَذا، لِأنَّ لَيْسَ في النَّفْيِ كَما وما لا تَعْمَلُ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ، وذَلِكَ أنَّ لَيْسَ مَسْلُوبَةُ الدَّلالَةِ عَلى الحَدَثِ والزَّمانِ. والقَوْلُ بِأنَّها فِعْلٌ هو عَلى سَبِيلِ المَجازِ، لِأنَّ حَدَّ الفِعْلِ لا يَنْطَبِقُ عَلَيْها. والعامِلُ في الظَّرْفِ إنَّما هو ما يَقَعُ فِيهِ مِنَ الحَدَثِ، فَإذا قُلْتَ: يَوْمَ الجُمُعَةِ أقُومُ، فالقِيامُ واقِعٌ في يَوْمِ الجُمُعَةِ، ولَيْسَ لا حَدَثَ لَها، فَكَيْفَ يَكُونُ لَها عَمَلٌ في الظَّرْفِ ؟ والمِثالُ الَّذِي شَبَّهَ بِهِ، وهو: يَوْمَ القِيامَةِ لَيْسَ لِي شُغْلٌ، لا يَدُلُّ عَلى أنَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ مَنصُوبٌ بِلَيْسَ، بَلْ هو مَنصُوبٌ بِالعامِلِ في خَبَرِ لَيْسَ، وهو الجارُّ والمَجْرُورُ، فَهو مِن تَقْدِيمِ مَعْمُولِ الخَبَرِ عَلى لَيْسَ، وتَقْدِيمُ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلى جَوازِ تَقْدِيمِ الخَبَرِ الَّذِي لِلَيْسَ عَلَيْها، وهو مُخْتَلَفٌ فِيهِ، ولَمْ يُسْمَعْ مِن لِسانِ العَرَبِ: قائِمًا لَيْسَ زَيْدٌ. ولَيْسَ إنَّما تَدُلُّ عَلى نَفْيِ الحُكْمِ الخَبَرِيِّ عَنِ المَحْكُومِ عَلَيْهِ فَقَطْ، فَهي كَما، ولَكِنَّهُ لَمّا اتَّصَلَتْ بِها ضَمائِرُ الرَّفْعِ، جَعَلَها ناسٌ فِعْلًا، وهي في الحَقِيقَةِ حَرْفُ نَفْيٍ كَما النّافِيَةِ.
ويَظْهَرُ مِن تَمْثِيلِ الزَّمَخْشَرِيِّ إذًا بِقَوْلِهِ: يَوْمَ الجُمُعَةِ أنَّهُ سَلَبَها الدَّلالَةَ عَلى الشَّرْطِ الَّذِي هو غالِبٌ فِيها، ولَوْ كانَتْ شَرْطًا، وكانَ الجَوابُ الجُمْلَةَ المُصَدَّرَةَ بِلَيْسَ، لَزِمَتِ الفاءَ، إلّا إنْ حُذِفَتْ في شِعْرٍ، إذْ ورَدَ ذَلِكَ، فَنَقُولُ: إذا أحْسَنَ إلَيْكَ زَيْدٌ فَلَسْتَ تَتْرُكُ مُكافَأتَهُ. ولا يَجُوزُ لَسْتَ بِغَيْرِ فاءٍ، إلّا إنِ اضْطُرَّ إلى ذَلِكَ. وأمّا تَقْدِيرُهُ: إذا وقَعَتْ كانَ كَيْتَ وكَيْتَ، فَيَدُلُّ عَلى أنَّ إذا عِنْدَهُ شَرْطِيَّةٌ، ولِذَلِكَ قَدَّرَ لَها جَوابًا عامِلًا فِيها. وأمّا قَوْلُهُ: بِإضْمارِ اذْكُرْ، فَإنَّهُ سَلَبَها الظَّرْفِيَّةَ، وجَعَلَها مَفْعُولًا بِها مَنصُوبَةً بِـ اذْكُرْ.
و(كاذِبَةٌ): ظاهِرُهُ أنَّهُ اسْمُ فاعِلٍ مِن كَذَبَ، وهو صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَفْسٌ كاذِبَةٌ، أيْ لا يَكُونُ حِينَ تَقَعُ نَفْسٌ تَكْذِبُ عَلى اللَّهِ وتَكْذِبُ في تَكْذِيبِ الغَيْبِ، لِأنَّ كُلَّ نَفْسٍ حِينَئِذٍ مُؤْمِنَةٌ صادِقَةٌ، وأكْثَرُ النُّفُوسِ اليَوْمَ كَواذِبٌ مُكَذِّباتٌ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا رَأوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللَّهِ وحْدَهُ﴾ [غافر: ٨٤]، ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّى يَرَوْا العَذابَ الألِيمَ﴾ [الشعراء: ٢٠١] ﴿ولا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا في مِرْيَةٍ مِنهُ حَتّى تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ﴾ [الحج: ٥٥]، واللّامُ مِثْلُها في قَوْلِهِ: ﴿يالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾ [الفجر: ٢٤]، إذْ لَيْسَ لَها نَفْسٌ تَكْذِبُها وتَقُولُ لَها: لَمْ تَكْذِبِي، كَما لَها اليَوْمَ نُفُوسٌ كَثِيرَةٌ يَقُلْنَ لَها: لَمْ تَكْذِبِي، أوْ هي مِن قَوْلِهِمْ: كَذَبَتْ فُلانًا نَفْسُهُ في الخَطْبِ العَظِيمِ، إذا شَجَّعَتْهُ عَلى مُباشَرَتِهِ، وقالَتْ لَهُ: إنَّكَ تُطِيقُهُ وما فَوْقَهُ، فَتَعْرِضُ لَهُ ولا تُبالِ عَلى مَعْنى: أنَّها وقْعَةٌ لا تُطاقُ بِشِدَّةٍ وفَظاعَةٍ، وأنْ لا نَفْسَ حِينَئِذٍ تُحَدِّثُ صاحِبَها بِما تُحَدِّثُهُ بِهِ عِنْدَ عَظائِمِ الأُمُورِ، وتُزَيِّنُ لَهُ احْتِمالَها وإطاقَتَها، لِأنَّهم يَوْمَئِذٍ أضْعَفُ مِن ذَلِكَ وأذَلُّ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كالفَراشِ المَبْثُوثِ﴾ [القارعة: ٤] ؟ والفَراشُ مَثَلٌ في الضَّعْفِ. انْتَهى، وهو تَكْثِيرٌ وإسْهابٌ. وقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: حالٌ كاذِبَةٌ، قالَ: ويَحْتَمِلُ الكَلامُ عَلى هَذا مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما كاذِبَةٌ، أيْ مَكْذُوبٌ فِيما أخْبَرَ بِهِ عَنْها، فَسَمّاها كاذِبَةً لِهَذا، كَما تَقُولُ: هَذِهِ قِصَّةٌ كاذِبَةٌ، أيْ مَكْذُوبٌ فِيها. والثّانِي: حالٌ كاذِبَةٌ، أيْ لا يَمْضِي وُقُوعُها، كَما تَقُولُ: فُلانٌ إذا حَمَلَ لَمْ يَكْذِبْ. وقالَ قَتادَةُ والحَسَنُ: المَعْنى: لَيْسَ لَها تَكْذِيبٌ ولا رَدٌّ ولا مُنْثَوِيَةٌ، فَكاذِبَةٌ عَلى هَذا مَصْدَرٌ، كالعاقِبَةِ والعافِيَةِ وخائِنَةِ الأعْيُنِ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ﴾ عَلى ما قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن أنَّ إذا مَعْمُولَةٌ لِلَيْسَ يَكُونُ ابْتِداءَ السُّورَةِ، إلّا إنِ اعْتُقِدَ أنَّها جَوابٌ لِإذا، أوْ مَنصُوبَةٌ بِـ اذْكُرْ، فَلا يَكُونُ ابْتِداءَ كَلامٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: في مَوْضِعِ الحالِ، والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّها جُمْلَةُ اعْتِراضٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وجَوابِهِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿خافِضَةٌ رافِعَةٌ﴾ بِرَفْعِهِما، عَلى تَقْدِيرِ هي؛ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والحَسَنُ وعِيسى وأبُو حَيْوَةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ وابْنُ مِقْسَمٍ والزَّعْفَرانِيُّ (p-٢٠٤)واليَزِيدِيُّ في اخْتِيارِهِ بِنَصْبِهِما. قالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: قالَ الكِسائِيُّ: لَوْلا أنَّ اليَزِيدِيَّ سَبَقَنِي إلَيْهِ لَقَرَأْتُ بِهِ، ونَصْبُهُما عَلى الحالِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ الحالِ الَّتِي هي ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ﴾، ولَكَ أنْ تُتابِعَ الأحْوالَ، كَما لَكَ أنْ تُتابِعَ أخْبارَ المُبْتَدَأِ. والقِراءَةُ الأُولى أشْهَرُ وأبْدَعُ مَعْنًى، وذَلِكَ أنَّ مَوْقِعَ الحالِ مِنَ الكَلامِ مَوْقِعُ ما لَوْ لَمْ يُذْكَرْ لاسْتُغْنِي عَنْهُ، ومَوْقِعُ الجُمَلِ الَّتِي يُجْزَمُ الخَبَرُ بِها مَوْقِعُ ما يُهْتَمُّ بِهِ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي قالَهُ سَبْقَهُ إلَيْهِ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ. قالَ في كِتابِ اللَّوامِحِ: وذُو الحالِ الواقِعَةُ والعامِلُ وقَعَتْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ﴾ حالًا أُخْرى مِنَ الواقِعَةِ بِتَقْدِيرِ: إذا وقَعَتْ صادِقَةً الواقِعَةُ، فَهَذِهِ ثَلاثَةُ أحْوالٍ مِن ذِي حالٍ، وجازَتْ أحْوالٌ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ واحِدٍ، كَما جازَتْ عَنْهُ نُعُوتٌ مُتَضادَّةٌ وأخْبارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ واحِدٍ. وإذا جُعِلَتْ هَذِهِ كُلُّها أحْوالًا، كانَ العامِلُ في ﴿إذا وقَعَتِ﴾ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الفَحْوى بِتَقْدِيرِ يُحاسَبُونَ ونَحْوِهِ. انْتَهى. وتَعْدادُ الأحْوالِ والأخْبارِ فِيهِ خِلافٌ وتَفْصِيلٌ ذُكِرَ في النَّحْوِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِمّا أجْمَعَ عَلَيْهِ النُّحاةُ.
قالَ الجُمْهُورُ: القِيامَةُ تَنْفَطِرُ لَهُ السَّماءُ والأرْضُ والجِبالُ، وتَنْهَدُّ لَهُ هَذِهِ البِنْيَةُ بِرَفْعِ طائِفَةٍ مِنَ الأجْرامِ وبِخَفْضِ أُخْرى، فَكَأنَّها عِبارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الهَوْلِ والِاضْطِرابِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ والضَّحّاكُ: الصَّيْحَةُ تَخْفِضُ قُوَّتَها لِتُسْمِعَ الأدْنى، وتَرْفَعُها لِتُسْمِعَ الأقْصى. وقالَ قَتادَةُ وعُثْمانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُراقَةَ: القِيامَةُ تَخْفِضُ أقْوامًا إلى النّارِ، وتَرْفَعُ أقْوامًا إلى الجَنَّةِ؛ وأخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الأقْوالَ عَلى عادَتِهِ وكَساها بَعْضَ ألْفاظٍ رائِعَةٍ، فَقالَ: تَرْفَعُ أقْوامًا وتَضَعُ آخَرِينَ، إمّا وصْفًا لَها بِالشِّدَّةِ، لِأنَّ الواقِعاتِ العِظامَ كَذَلِكَ يَرْتَفِعُ فِيها ناسٌ إلى مَراتِبَ ويَتَّضِعُ ناسٌ؛ وإمّا أنَّ الأشْقِياءَ يُحَطُّونَ إلى الدَّرَكاتِ والسُّعَداءَ يُحَطُّونَ إلى الدَّرَجاتِ. وإمّا أنَّها تُزَلْزِلُ الأشْياءَ عَنْ مَقارِّها لِتَخْفِضَ بَعْضًا وتَرْفَعَ بَعْضًا، حَيْثُ تُسْقِطُ السَّماءَ كِسَفًا، وتَنْتَثِرُ الكَواكِبُ وتَنْكَدِرُ، وتَسِيرُ الجِبالُ فَتَمُرُّ في الجَوِّ مَرَّ السَّحابِ. انْتَهى.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ","لَیۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ","خَافِضَةࣱ رَّافِعَةٌ","إِذَا رُجَّتِ ٱلۡأَرۡضُ رَجࣰّا","وَبُسَّتِ ٱلۡجِبَالُ بَسࣰّا","فَكَانَتۡ هَبَاۤءࣰ مُّنۢبَثࣰّا","وَكُنتُمۡ أَزۡوَ ٰجࣰا ثَلَـٰثَةࣰ"],"ayah":"لَیۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق