الباحث القرآني

(سُورَةُ القِتالِ أرْبَعُونَ آيَةً مَدَنِيَّةٌ) (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (p-٧٠)﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أضَلَّ أعْمالَهُمْ﴾ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وهو الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ وأصْلَحَ بالَهُمْ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وأنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أمْثالَهُمْ﴾ ﴿فَإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إذا أثْخَنْتُمُوهم فَشُدُّوا الوَثاقَ فَإمّا مَنًّا بَعْدُ وإمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزارَها ذَلِكَ ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنهم ولَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكم بِبَعْضٍ والَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أعْمالَهُمْ﴾ ﴿سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بالَهُمْ﴾ ﴿ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكم ويُثَبِّتْ أقْدامَكُمْ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهم وأضَلَّ أعْمالَهُمْ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كَرِهُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ فَأحْبَطَ أعْمالَهُمْ﴾ ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولِلْكافِرِينَ أمْثالُها﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ مَوْلى الَّذِينَ آمَنُوا وأنَّ الكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ والَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ويَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الأنْعامُ والنّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد: ١٢] ﴿وكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ هي أشَدُّ قُوَّةً مِن قَرْيَتِكَ الَّتِي أخْرَجَتْكَ أهْلَكْناهم فَلا ناصِرَ لَهُمْ﴾ [محمد: ١٣] ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ [محمد: ١٤] ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيها أنْهارٌ مِن ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وأنْهارٌ مِن لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وأنْهارٌ مِن خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ وأنْهارٌ مِن عَسَلٍ مُصَفًّى ولَهم فِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ ومَغْفِرَةٌ مِن رَبِّهِمْ كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ وسُقُوا ماءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أمْعاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥] ﴿ومِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إذا خَرَجُوا مِن عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ماذا قالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦] ﴿والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهم هُدًى وآتاهم تَقْواهُمْ﴾ [محمد: ١٧] ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلّا السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهم بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أشْراطُها فَأنّى لَهم إذا جاءَتْهم ذِكْراهُمْ﴾ [محمد: ١٨] ﴿فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكم ومَثْواكُمْ﴾ [محمد: ١٩] ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيها القِتالُ رَأيْتَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَأوْلى لَهُمْ﴾ [محمد: ٢٠] ﴿طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإذا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [محمد: ٢١] ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ﴾ [محمد: ٢٢] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأصَمَّهم وأعْمى أبْصارَهُمْ﴾ [محمد: ٢٣] ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها﴾ [محمد: ٢٤] ﴿إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهم وأمْلى لَهُمْ﴾ [محمد: ٢٥] ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ واللَّهُ يَعْلَمُ إسْرارَهُمْ﴾ [محمد: ٢٦] ﴿فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾ [محمد: ٢٧] ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللَّهَ وكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأحْبَطَ أعْمالَهُمْ﴾ [محمد: ٢٨] ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أضْغانَهُمْ﴾ [محمد: ٢٩] ﴿ولَوْ نَشاءُ لَأرَيْناكَهم فَلَعَرَفْتَهم بِسِيماهم ولَتَعْرِفَنَّهم في لَحْنِ القَوْلِ واللَّهُ يَعْلَمُ أعْمالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٠] ﴿ولَنَبْلُوَنَّكم حَتّى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنكم والصّابِرِينَ ونَبْلُوَ أخْبارَكُمْ﴾ [محمد: ٣١] ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وشاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وسَيُحْبِطُ أعْمالَهُمْ﴾ [محمد: ٣٢] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ ولا تُبْطِلُوا أعْمالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٣] ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وهم كُفّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [محمد: ٣٤] ﴿فَلا تَهِنُوا وتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ واللَّهُ مَعَكم ولَنْ يَتِرَكم أعْمالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥] ﴿إنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وإنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا يُؤْتِكم أُجُورَكم ولا يَسْألْكم أمْوالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٦] ﴿إنْ يَسْألْكُمُوها فَيُحْفِكم تَبْخَلُوا ويُخْرِجْ أضْغانَكُمْ﴾ [محمد: ٣٧] ﴿ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكم مَن يَبْخَلُ ومَن يَبْخَلْ فَإنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ واللَّهُ الغَنِيُّ وأنْتُمُ الفُقَراءُ وإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨] البالُ: الفِكْرُ، تَقُولُ: خَطَرَ في بالِي كَذا، ولا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ، وشَذَّ قَوْلُهم: بالاتٌ في جَمْعِهِ. تَعَسَ الرَّجُلُ، بِفَتْحِ العَيْنِ، تَعْسًا: ضِدُّ تَنَعُّشٍ، وأتْعَسَهُ اللَّهُ. قالَ مُجَمِّعُ بْنُ هِلالٍ: ؎تَقُولُ وقَدْ أفْرَدْتُها مِن حَلِيلِها تَعَسْتَ كَما أتْعَسْتَنِي يا مُجَمِّعُ وقالَ قَوْمٌ، مِنهم عَمْرُو بْنُ شُمَيْلٍ، وأبُو الهَيْثَمِ: تَعِسَ، بِكَسْرِ العَيْنِ. وعَنْ أبِي عُبَيْدَةَ: تَعِسَهُ اللَّهُ وأتْعَسَهُ: في بابِ فَعِلَتْ وأفْعَلَتْ. وقالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: التَّعْسُ: أنْ يُجَرَّ عَلى الوَجْهِ، والنَّكْسُ: أنْ يُجَرَّ عَلى الرَّأْسِ. وقالَ هو أيْضًا، وثَعْلَبٌ: التَّعْسُ: الهَلاكُ. وقالَ الأعْشى: ؎بِذاتِ لَوْثٍ عَفَرْياتٍ إذا عَثَرَتْ ∗∗∗ فالتَّعْسُ أوْلى لَها مِن أنْ أقُولَ لَعا آسِنٌ: الماءُ تَغَيَّرَ رِيحُهُ، يَأْسِنُ ويَأْسُنُ، ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ في الفَصِيحِ، والمَصْدَرُ: أُسُونٌ وأسِنٌ، بِكَسْرِ السِّينِ. يَأْسَنُ، بِفَتْحِها، لُغَةٌ أسْنا، قالَهُ اليَزِيدِيُّ. وأسِنَ الرَّجُلُ، بِالكَسْرِ لا غَيْرَ: إذا دَخَلَ البِئْرَ، فَأصابَتْهُ رِيحٌ مِن رِيحِ البِئْرِ، فَغَشِيَ عَلَيْهِ، أوْ دارَ رَأْسُهُ. قالَ الشّاعِرُ: ؎قَدْ أتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أنامِلُهُ ∗∗∗ يَمِيدُ في الرِّيحِ مَيْدَ الأسِنِ الأشْراطُ: العَلاماتُ، واحِدُها شَرْطٌ، بِسُكُونِ الرّاءِ وبِفَتْحِها. قالَ أبُو الأسْوَدِ: ؎فَإنْ كُنْتَ قَدْ أزْمَعْتَ بِالصَّرْمِ بَيْنَنا ∗∗∗ فَقَدْ جَعَلَتْ أشْراطُ أوَّلِهِ تَبْدُو وأشْرَطَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ: ألْزَمَها أُمُورًا. قالَ أوْسُ بْنُ حُجْرٍ:(p-٧١) ؎فَأشْرَطَ فِيها نَفْسَهُ وهو مُعْصِمٌ ∗∗∗ فَألْقى بِأسْبابٍ لَهُ وتَوَكَّلا العَسَلُ: مَعْرُوفٌ، وعَسَلُ بْنُ ذَكْوانَ رَجُلٌ نَحْوِيٌّ قَدِيمٌ. المِعى: مَقْصُورٌ، وألِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ ياءٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ تَثْنِيَتُهُ مِعَيانِ، بِقَلْبِ الألِفِ ياءً. والمِعى: ما في البَطْنِ مِنَ الحَوايا. القُفْلُ: مَعْرُوفُ، وأصْلُهُ اليُبْسُ والصَّلابَةُ. والقُفْلُ والقَفِيلُ: ما يَبُسَ مِنَ الشَّجَرِ. والقَفِيلُ أيْضًا: نَبْتٌ، والقَفِيلُ: السَّوْطُ، وأقْفَلَهُ الصَّوْمُ: أيْبَسَهُ، قالَهُ الجَوْهَرِيُّ. آيِفًا وآنِفًا: هُما اسْما فاعِلٍ، ولَمْ يُسْتَعْمَلْ فِعْلُهُما، والَّذِي اسْتُعْمِلَ اِئْتَنَفَ، وهُما بِمَعْنى مُبْتَدِيًا، وتَفْسِيرُهُما بِالسّاعَةِ تَفْسِيرُ مَعْنًى. وقالَ الزَّجّاجُ: هو مِنِ اسْتَأْنَفْتُ الشَّيْءَ، إذا ابْتَدَأْتُهُ. فَأوْلى لَهم، قالَ صاحِبُ الصِّحاحِ: قَوْلُ العَرَبِ أوْلى لَكَ: تَهْدِيدٌ وتَوْعِيدٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَأوْلى ثُمَّ أوْلى ثُمَّ أوْلى ∗∗∗ وهَلْ لِلدّارِ يُحْلَبُ مِن مَرَدِّ انْتَهى. واخْتَلَفُوا، أهُوَ اسْمٌ أوْ فِعْلٌ ؟ فَذَهَبَ الأصْمَعِيُّ إلى أنَّهُ بِمَعْنى قارَبَهُ ما يُهْلِكُهُ، أيْ نَزَلَ بِهِ، وأنْشَدَ: ؎تَعادى بَيْنَ هادِيَتَيْنِ مِنها ∗∗∗ وأوْلى أنْ يَزِيدَ عَلى الثَّلاثِ أيْ: قارَبَ أنْ يَزِيدَ. قالَ ثَعْلَبٌ: لَمْ يَقُلْ أحَدٌ في أوْلى أحْسَنَ مِمّا قالَ الأصْمَعِيُّ. وقالَ المُبَرِّدُ: يُقالُ لِمَن هَمَّ بِالعَطَبِ، كَما رُوِيَ أنَّ أعْرابِيًّا كانَ يُوالِي رَمْيَ الصَّيْدِ فَيَنْفَلِتُ مِنهُ فَيَقُولُ: أوْلى لَكَ رَمْيُ صَيْدًا فَقارَبَهُ ثُمَّ أفْلَتَ مِنهُ، وقالَ: ؎فَلَوْ كانَ أوْلى يُطْعِمُ القَوْمَ صَيْدَهم ∗∗∗ ولَكِنَّ أوْلى يَتْرُكُ القَوْمَ جُوَّعًا والأكْثَرُونَ عَلى أنَّهُ اسْمٌ، فَقِيلَ: هو مُشْتَقٌّ مِنَ الوَلْيِ، وهو القُرْبُ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎تُكَلِّفُنِي لَيْلى وقَدْ شَطَّ ولِيُّها ∗∗∗ وعادَتْ عَوادٍ بَيْنَنا وخُطُوبُ وقالَ الجُرْجانِيُّ: هو ما حُوِّلَ مِنَ الوَيْلِ، فَهو أفْعَلُ مِنهُ، لَكِنَّ فِيهِ قَلْبٌ. الضِّغْنُ والضَّغِينَةُ: الحِقْدُ. قالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: ؎فَإنَّ الضِّغْنَ بَعْدَ الضِّغْنِ يَفْشُو ∗∗∗ عَلَيْكَ ويَخْرُجُ الدّاءُ الدَّفِينا وقَدْ ضَغِنَ بِالكَسْرِ، وتَضاغَنَ القَوْمُ وأضْغَنُوا: بَطَنُوا الأحْقادَ. وقَدْ ضَغِنَ عَلَيْهِ، وأضْغَنْتَ الصَّبِيَّ: أخَذْتَهُ تَحْتَ حِضْنِكَ، وأنْشَدَ الأحْمَرُ: ؎كَأنَّهُ مُضْغِنٌ صَبِيًّا وقالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: ؎وما اضْطَغَنْتُ سِلاحِي عِنْدَ مَعْرَكِها وفَرَسٌ ضاغِنٌ: لا يُعْطِي ما عِنْدَهُ مِنَ الجَرْيِ إلّا بِالضَّرْبِ. وأصْلُ الكَلِمَةِ مِنَ الضِّغْنِ، وهو الِالتِواءُ والِاعْوِجاجُ في قَوائِمِ الدّابَّةِ والقَناةِ وكُلُّ شَيْءٍ. وقالَ بِشْرٌ: ؎كَذاتِ الضِّغْنِ تَمْشِي في الزُّقاقِ وأنْشَدَ اللَّيْثُ: ؎إنَّ فَتاتِي مِن صَلِيّاتِ القَنا ∗∗∗ ما زادَها التَّثْقِيفُ إلّا ضِغْنًا والحِقْدُ في القَلْبِ يُشَبَّهُ بِهِ. وقالَ قُطْرُبٌ: واللَّيْثُ أضْغَنَ العَداوَةِ قالَ الشّاعِرُ: ؎قُلْ لِابْنِ هِنْدٍ ما أرَدْتُ بِمَنطِقٍ ∗∗∗ نَشَأ الصَّدِيقُ وشَيَّدَ الأضْغانا لَحَنْتُ لَهُ: بِفَتْحِ الحاءِ، ألْحَنُ لَحْنًا: قُلْتُ لَهُ قَوْلًا يَفْهَمُهُ عَنْكَ ويَخْفى عَنْ غَيْرِهِ، ولَحِنَهُ هو بِالكَسْرِ: فَهِمَهُ، وألْحَنَهُ: فَهَّمَهُ، وألْحَنْتُهُ أنا إيّاهُ ولاحَنْتُ النّاسَ: فاطَنْتُهم. وقالَ الشّاعِرُ: ؎مَنطِقٌ صائِبٌ ويَلْحَنُ أحْيا ∗∗∗ نًا وخَيْرُ الحَدِيثِ ما كانَ لَحْنًا وقالَ القَتّالُ الكِلابِيُّ: ؎ولَقَدْ ومَيْتُ لَكم لِكَيْما تَفْهَمُوا ∗∗∗ ولَحَنْتُ لَحْنًا لَيْسَ بِالمُرْتابِ وقِيلَ: لَحْنُ القَوْلِ: الذَّهابُ عَنِ الصَّوابِ، مَأْخُوذٌ مِنَ اللَّحْنِ في الإعْرابِ. وتَرَهُ: نَقَصَهُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الذَّحْلِ. وقِيلَ مِنَ الوَتْرِ، وهو الفَرْدُ. * * * (p-٧٢)﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أضَلَّ أعْمالَهُمْ﴾ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وهو الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ وأصْلَحَ بالَهُمْ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وأنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَبِّهِمْ﴾ ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أمْثالَهُمْ﴾ ﴿فَإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إذا أثْخَنْتُمُوهم فَشُدُّوا الوَثاقَ فَإمّا مَنًّا بَعْدُ وإمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزارَها﴾ ﴿ذَلِكَ ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنهم ولَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكم بِبَعْضٍ والَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أعْمالَهُمْ﴾ ﴿سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بالَهُمْ﴾ ﴿ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكم ويُثَبِّتْ أقْدامَكُمْ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهم وأضَلَّ أعْمالَهُمْ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كَرِهُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ فَأحْبَطَ أعْمالَهُمْ﴾ ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ ﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولِلْكافِرِينَ أمْثالُها﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ مَوْلى الَّذِينَ آمَنُوا وأنَّ الكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ﴾ . هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ عِنْدَ الأكْثَرِ. وقالَ الضَّحّاكُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والسُّدِّيُّ: مَكِّيَّةٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَدَنِيَّةٌ بِإجْماعٍ، ولَيْسَ كَما قالَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ: أنَّها مَدَنِيَّةٌ، إلّا آيَةً مِنها نَزَلَتْ بَعْدَ حَجِّهِ، حِينَ خَرَجَ مِن مَكَّةَ وجَعَلَ يَنْظُرُ إلى البَيْتِ، وهي: (وكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ) الآيَةَ. ومُناسَبَةُ أوَّلِها لِآخِرِ ما قَبْلَها واضِحَةٌ جِدًّا. ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: أيْ أعْرَضُوا عَنِ الدُّخُولِ في الإسْلامِ، أوْ صَدُّوا غَيْرَهم عَنْهُ، وهم أهْلُ مَكَّةَ الَّذِينَ أخْرَجُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وهُمُ المُطْعِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ. وقالَ مُقاتِلٌ: كانُوا اثْنَيْ (p-٧٣)عَشَرَ رَجُلًا مِن أهْلِ الشِّرْكِ، يَصُدُّونَ النّاسَ عَنِ الإسْلامِ ويَأْمُرُونَهم بِالكُفْرِ، وقِيلَ: هم أهْلُ الكِتابِ، صَدُّوا مَن أرادَ مِنهم ومِن غَيْرِهِمْ أنْ يَدْخُلَ في الإسْلامِ. وقالَ الضَّحّاكُ: (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ): عَنْ بَيْتِ اللَّهِ، يَمْنَعُ قاصِدِيهِ، وهو عامٌّ في كُلِّ مَن كَفَرَ وصَدَّ. ﴿أضَلَّ أعْمالَهُمْ﴾: أيْ أتْلَفَها، حَيْثُ لَمْ يَنْشَأْ عَنْها خَيْرٌ ولا نَفْعٌ، بَلْ ضَرَرٌ مَحْضٌ. وقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِبَدْرٍ، وأنَّ الإشارَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿أضَلَّ أعْمالَهُمْ﴾ إلى الِاتِّفاقِ الَّذِي اتَّفَقُوهُ في سَفَرِهِمْ إلى بَدْرٍ. وقِيلَ: المُرادُ بِالأعْمالِ: أعْمالُهُمُ البِرَّةُ في الجاهِلِيَّةِ، مِن صِلَةِ رَحِمٍ وفَكِّ عانٍ ونَحْوِ ذَلِكَ، واللَّفْظُ يَعُمُّ جَمِيعَ ذَلِكَ. (والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ): هُمُ الأنْصارُ. وقالَ مُقاتِلٌ: ناسٌ مِن قُرَيْشٍ. وقِيلَ: مُؤْمِنُو أهْلِ الكِتابِ. وقِيلَ: هو عامٌّ، وعَلى تَقْدِيرِ خُصُوصِ السَّبَبِ في القَبِيلَتَيْنِ، فاللَّفْظُ عامٌّ يَتَناوَلُ كُلَّ كافِرٍ وكُلَّ مُؤْمِنٍ. ﴿وآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ﴾: تَخْصِيصُهُ مِن بَيْنِ ما يَجِبُ الإيمانُ بِهِ، تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الرَّسُولِ، وإعْلامٌ بِأنَّهُ لا يَصِحُّ الإيمانُ ولا يَتِمُّ إلّا بِهِ. وأكَّدَ ذَلِكَ بِالجُمْلَةِ الِاعْتِراضِيَّةِ الَّتِي هي: ﴿وهُوَ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ﴾ . وقِيلَ: (وهو الحَقُّ): ناسِخٌ لِغَيْرِهِ ولا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّسْخُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: نُزِّلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُ مِقْسَمٍ: نَزَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، والأعْمَشُ: أُنْزِلَ مُعَدًّى بِالهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقُرِئَ: نَزَلَ ثُلاثِيًّا. ﴿كَفَّرَ عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ وأصْلَحَ بالَهُمْ﴾: أيْ حالَهم، قالَهُ قَتادَةُ: وشَأْنَهم، قالَهُ مُجاهِدٌ: وأمْرَهم، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وحَقِيقَةُ لَفْظِ البالِ أنَّها بِمَعْنى الفِكْرِ، والمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ نَظَرُ الإنْسانِ وهو القَلْبُ. فَإذا صَلُحَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَلُحَتْ حالُهُ، فَكَأنَّ اللَّفْظَ مُشِيرٌ إلى صَلاحِ عَقِيدَتِهِمْ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الحالِ تابِعٌ. (ذَلِكَ): إشارَةٌ إلى ما فُعِلَ بِالكُفّارِ مِن إضْلالِ أعْمالِهِمْ، وبِالمُؤْمِنِينَ مِن تَكْفِيرِ سَيِّئاتِهِمْ وإصْلاحِ حالِهِمْ. وذَلِكَ مُبْتَدَأٌ وما بَعْدَهُ الخَبَرُ، أيْ كائِنٌ بِسَبَبِ اتِّباعِ هَؤُلاءِ الباطِلَ وهَؤُلاءِ الحَقَّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الأمْرُ ذَلِكَ، أيْ كَما ذُكِرَ بِهَذا السَّبَبِ، فَيَكُونَ مَحَلُّ الجارِّ والمَجْرُورِ مَنصُوبًا. انْتَهى. ولا حاجَةَ إلى الإضْمارِ مَعَ صِحَّةِ الوَجْهِ وعَدَمِ الإضْمارِ. والباطِلُ: ما لا يُنْتَفَعُ بِهِ. وقالَ مُجاهِدٌ: الشَّيْطانُ وكُلُّ ما يَأْمُرُ بِهِ، والحَقُّ: هو الرَّسُولُ والشَّرْعُ، وهَذا الكَلامُ تُسَمِّيهِ عُلَماءُ البَيانِ التَّفْسِيرَ. (كَذَلِكَ يَضْرِبُ): قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الإشارَةُ إلى أتْباعِ المَذْكُورِينَ مِنَ الفَرِيقَيْنِ، أيْ كَما اتَّبَعُوا هَذَيْنِ السَّبِيلَيْنِ، كَذَلِكَ يُبَيَّنُ أمْرُ كُلِّ فِرْقَةٍ، ويُجْعَلُ لَها ضَرْبُها مِنَ القَوْلِ وصْفَها، وضَرْبُ المَثَلِ مِنَ الضَّرْبِ الَّذِي هو بِمَعْنى النَّوْعِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَذَلِكَ، أيْ مِثْلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ. ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أمْثالَهُمْ﴾ لِأجْلِ النّاسِ لِيَعْتَبِرُوا بِهِمْ. فَإنْ قُلْتَ: أيْنَ ضَرْبُ الأمْثالِ ؟ قُلْتُ: في أنْ جَعَلَ اتِّباعَ الباطِلِ مَثَلًا لِعَمَلِ الكُفّارِ، واتِّباعِ الحَقِّ مَثَلًا لِعَمَلِ المُؤْمِنِينَ، أوْ في أنْ جَعَلَ الإضْلالَ مَثَلًا لِخَيْبَةِ الكُفّارِ، وتَكْفِيرَ السَّيِّئاتِ مَثَلًا لِفَوْزِ المُؤْمِنِينَ. ﴿فَإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: أيْ في أيِّ زَمانٍ لَقِيتُمُوهم، فاقْتُلُوهم. وفي قَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، أيْ في أيِّ مَكانٍ، فَعَمَّ في الزَّمانِ وفي المَكانِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَقِيتُمْ، مِنَ اللِّقاءِ، وهو الحَرْبُ. انْتَهى. ﴿فَضَرْبَ الرِّقابِ﴾: هَذا مِنَ المَصْدَرِ النّائِبِ مَنابَ فِعْلِ الأمْرِ، وهم مُطَّرِدٌ فِيهِ، وهو مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ فِيهِ، واخْتُلِفَ فِيهِ إذا انْتَصَبَ ما بَعْدَهُ فَقِيلَ: هو مَنصُوبٌ بِالفِعْلِ النّاصِبِ لِلْمَصْدَرِ، وقِيلَ: هو مَنصُوبٌ بِنَفْسِ المَصْدَرِ لِنِيابَتِهِ عَنِ العامِلِ فِيهِ، ومِثالُهُ: ضَرْبًا زَيْدًا، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎عَلى حِينِ ألْهى النّاسَ جُلُّ أُمُورِهِمْ فَنَدْلًا زُرَيْقُ المالِ نَدْلَ الثَّعالِبِ وهَذا هو الصَّحِيحُ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَضَرْبَ الرِّقابِ﴾، وهو إضافَةُ المَصْدَرِ لِلْمَفْعُولِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا لَهُ، ما جازَتْ إضافَتُهُ إلَيْهِ. ”وضَرْبَ الرِّقابِ“ عِبارَةٌ عَنِ القَتْلِ، ولَمّا كانَ القَتْلُ لِلْإنْسانِ أكْثَرَ ما يَكُونُ بِضَرْبِ رَقَبَتِهِ، عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنِ القَتْلِ، ولا يُرادُ خُصُوصِيَّةُ الرِّقابِ، فَإنَّهُ لا يَكادُ تَتَأتّى حالَةُ الحَرْبِ أنْ (p-٧٤)تُضْرَبَ الرِّقابُ، وإنَّما يَتَأتّى القِتالُ في أيِّ مَوْضِعٍ كانَ مِنَ الأعْضاءِ. ويُقالُ: ضَرَبَ الأمِيرُ رَقَبَةَ فُلانٍ، وضَرَبَ عُنُقَهُ وعِلاوَتَهُ وما فِيهِ عَيْناهُ، إذا قَتَلَهُ، كَما عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: (بِما كَسَبَتْ أيْدِيكم) عَنْ سائِرِ الأفْعالِ، لَمّا كانَ أكْثَرُ الكَسْبِ مَنسُوبًا إلى الأيْدِي. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفي هَذِهِ العِبارَةِ مِنَ الغِلْظَةِ والشِّدَّةِ ما لَيْسَ في لَفْظِ القَتْلِ، لِما فِيهِ مِن تَصْوِيرِ القَتْلِ بِأشْنَعِ صُورَةٍ، وهو حَزُّ العُنُقِ وإطارَةُ العُضْوِ الَّذِي هو رَأْسُ البَدَنِ وعُلُوُّهُ، وأوْجُهُ أعْضائِهِ. وقَدْ زادَ في هَذِهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَوْقَ الأعْناقِ واضْرِبُوا مِنهم كُلَّ بَنانٍ﴾ [الأنفال: ١٢] . انْتَهى. ولِما في ذَلِكَ مِن تَشْجِيعِ المُؤْمِنِينَ، وأنَّهم مِنَ الكُفّارِ بِحَيْثُ هم مُتَمَسِّكُونَ مِنهم إذا أُمِرُوا بِضَرْبِ رِقابِهِمْ. ﴿حَتّى إذا أثْخَنْتُمُوهُمْ﴾: أيْ أكْثَرْتُمُ القَتْلَ فِيهِمْ، وهَذِهِ غايَةٌ لِلضَّرْبِ، فَإذا وقَعَ الإثْخانُ وتَمَكَّنُوا مِن أخْذِ مَن لَمْ يُقْتَلْ وشَدُّوا وثاقَ الأسْرى، ﴿فَإمّا مَنًّا﴾ بِالإطْلاقِ، ﴿وإمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزارَها﴾: أيْ أثْقالَها وآلاتِها. ومِنهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: ؎وأعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أوْزارَها ∗∗∗ رِماحًا طِوالًا وخَيْلًا ذُكُورًا أنْشَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِعَمْرٍو هَذا، وأنْشَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لِلْأعْشى. وقِيلَ: الأوْزارُ هُنا: الآثامُ، لِأنَّ الحَرْبَ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ فِيها آثامٌ في أحَدِ الجانِبَيْنِ، وهَذِهِ الغايَةُ. قالَ مُجاهِدٌ: حَتّى يَنْزِلَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ. وقالَ قَتادَةُ: حَتّى يُسْلِمَ الجَمِيعُ: وقِيلَ: حَتّى تَقْتُلُوهم. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وظاهِرُ اللَّفْظِ أنَّها اسْتِعارَةٌ يُرادُ بِها التِزامُ الأمْرِ أبَدًا، وذَلِكَ أنَّ الحَرْبَ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ لا يَضِيعُ أوْزارَها، فَجاءَ هَذِهِ، كَما تَقُولُ: أنا أفْعَلُ كَذا وكَذا إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَإنَّما تُرِيدُ أنَّكَ تَفْعَلُهُ دائِمًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وسُمِّيَتْ، يَعْنِي آلاتِ الحَرْبِ مِنَ السِّلاحِ والكُراعِ، أوْزارَها، لِأنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ لَها بُدٌّ مِن جَرِّها، فَكَأنَّها تَحْمِلُها وتَسْتَقِلُّ بِها، فَإذا انْقَضَتْ، فَكَأنَّها وضَعَتْها. وقِيلَ: أوْزارَها: آثامَها، يَعْنِي حَتّى يَتْرُكَ أهْلُ الحَرْبِ، وهُمُ المُشْرِكُونَ، شِرْكَهم ومَعاصِيَهم، بِأنْ يُسْلِمُوا. والظّاهِرُ أنَّ ضَرْبَ الرِّقابِ وهو القَتْلُ مُغَيّا بِشَدِّ الوَثاقِ وقْتَ حُصُولِ الإثْخانِ، وأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإمّا مَنًّا بَعْدُ﴾، أيْ بَعْدَ الشَّدِّ، ﴿وإمّا فِداءً﴾، حالَتانِ لِلْمَأْسُورِ، إمّا أنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ بِالإطْلاقِ، كَما مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِإطْلاقِ ثُمامَةَ بْنِ أُثالٍ الحَنَفِيِّ، وإمّا أنْ يُفْدى، كَما رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ فُودِيَ مِنهُ رَجُلانِ مِنَ الكُفّارِ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ. وهَذِهِ الآيَةُ مُعارِضٌ ظاهِرُها لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] . فَذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، وابْنُ جُرَيْجٍ، والسُّدِّيُّ، والضَّحّاكُ، ومُجاهِدٌ، إلى أنَّها مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥] الآيَةَ، وأنَّ الأسْرَ والمَنَّ والفِداءَ مُرْتَفِعٌ، فَإنْ وقَعَ أسِيرٌ قُتِلَ ولا بُدَّ إلّا أنْ يُسْلِمَ. ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وعَطاءٌ، والحَسَنُ، إلى أنَّ هَذِهِ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ تِلْكَ، والمَنَّ والفِداءَ ثابِتٌ. وقالَ الحَسَنُ: لا يُقْتَلُ الأسِيرُ إلّا في الحَرْبِ، يَهِيبُ بِذَلِكَ عَلى العَدُوِّ. وذَهَبَ أكْثَرُ العُلَماءِ إلى أنَّ أهْلَ الكِتابِ فِيهِمُ المَنُّ والفِداءُ، وعُبّادَ الأوْثانِ لَيْسَ فِيهِمْ إلّا القَتْلُ، فَخَصَّصُوا مِنَ المُشْرِكِينَ أهْلَ الكِتابِ، وخُصِّصَ مِنَ الكُفّارِ عَبَدَةُ الأوْثانِ. وأمّا مَذْهَبُ الأئِمَّةِ اليَوْمَ: فَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ الإمامَ يُخَيَّرُ في القَتْلِ والِاسْتِرْقاقِ، ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ أنَّهُ مُخَيَّرٌ في القَتْلِ والِاسْتِرْقاقِ والفِداءِ والمَنِّ، ومَذْهَبُ مالِكٍ أنَّهُ مُخَيَّرٌ في واحِدٍ مِن هَذِهِ الأرْبَعَةِ، وفي ضَرْبِ الجِزْيَةِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإمّا فِداءً﴾، يَجُوزُ فِداؤُهُ بِالمالِ وبِمَن أُسِرَ مِنَ المُسْلِمِينَ. وقالَ الحَسَنُ: لا يُفْدى بِالمالِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ: فَشِدُّوا، بِكَسْرِ الشِّينِ، والجُمْهُورُ: بِالضَّمِّ. والوَثاقُ: بِفَتْحِ الواوِ، وفِيهِ لُغَةٌ الوِثاقُ، وهو اسْمٌ لِما يُوثَقُ بِهِ، وانْتَصَبَ مَنًّا وفِداءً بِإضْمارِ فِعْلٍ يُقَدَّرُ مِن لَفْظِهِما، أيْ فَإمّا تَمُنُّونَ مَنًّا، وإمّا تَفْدُونَ فِداءً، وهو فِعْلٌ يَجِبُ إضْمارُهُ، لِأنَّ المَصْدَرَ جاءَ تَفْصِيلَ عاقِبَةٍ، فَعامِلُهُ مِمّا يَجِبُ إضْمارُهُ، ونَحْوُهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:(p-٧٥) ؎لَأجْهَدَنَّ فَإمّا دَرْءَ واقِعَةٍ ∗∗∗ تُخْشى وإمّا بُلُوغَ السُّؤْلِ والأمَلِ أيْ: فَإمّا أدْرَأُ دَرْأ واقِعَةٍ، وإمّا أبْلُغُ بُلُوغَ السُّؤْلِ. وقالَ أبُو البَقاءِ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونا مَفْعُولَيْنِ، أيْ أدُّوهم مَنًّا واقْبَلُوا، ولَيْسَ إعْرابٌ نَحْوِيٌّ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةِ شِبْلٍ: (وإمّا فِدًى) بِالقَصْرِ. قالَ أبُو حاتِمٍ: لا يَجُوزُ قَصْرُهُ لِأنَّهُ مَصْدَرُ فادَيْتُهُ، وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَقَدْ حَكى الفَرّاءُ فِيهِ أرْبَعَ لُغاتٍ: فِداءً لَكَ بِالمَدِّ والإغْراءِ، وفِدًى لَكَ بِالكَسْرِ بِياءٍ والتَّنْوِينِ، وفِدى لَكَ بِالقَصْرِ، وفِداءٌ لَكَ. والظّاهِرُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَإمّا مَنًّا﴾: المَنُّ بِالإطْلاقِ، كَما مَنَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى ثُمامَةَ، وعَلى أبِي عُرْوَةَ الحَجَبِيِّ. وفي كِتابِ الزَّمَخْشَرِيِّ: كَما مَنَّ عَلى أبِي عُرْوَةَ الحَجَبِيِّ، وأُثالٍ الحَنَفِيِّ، فَغَيَّرَ الكُنْيَةَ والِاسْمَ، ولَعَلَّ ذَلِكَ مِنَ النّاسِخِ، لا في أصْلِ التَّصْنِيفِ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالمَنِّ: أيْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ القَتْلِ، ويُسْتَرَقُّوا، أوْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ فَيُخَلُّوا لِقَبُولِهِمُ الجِزْيَةَ وكَوْنِهِمْ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿حَتّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزارَها﴾ غايَةٌ لِقَوْلِهِ: ﴿فَشُدُّوا الوَثاقَ﴾، لِأنَّهُ قَدْ غَيّا فَضَرْبَ الرِّقابِ بِشَدِّ الوَثاقِ وقْتَ الإثْخانِ. فَلا يُمْكِنُ أنْ يُغَيّا بِغايَةٍ أُخْرى لِتَدافُعِ الغايَتَيْنِ، إلّا إنْ كانَتِ الثّانِيَةُ مُبَيِّنَةً لِلْأُولى ومُؤَكِّدَةً، فَيَجُوزُ، لِأنَّ شَدَّ الوَثاقِ لِلْأسْرى لا يَكُونُ إلّا حَتّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزارَها. إذا فَسَّرْنا ذَلِكَ بِانْتِفاءِ شَوْكَةِ الكُفّارِ المَلْقِيِّينَ إذْ ذاكَ، ويَكُونُ الحَرْبُ المُرادُ بِها الَّتِي تَكُونُ وقْتَ لِقاءِ المُؤْمِنِينَ لِلْكُفّارِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُغَيّا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى، التَّقْدِيرُ: الحُكْمُ ذَلِكَ حَتّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزارَها، أيْ لا يَبْقى شَوْكَةٌ لَهم. أوْ كَما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إنَّها اسْتِعارَةٌ بِمَعْنى إلى يَوْمِ القِيامَةِ، أيِ اصْنَعُوا ذَلِكَ دائِمًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: حَتّى بِمَ تَعَلَّقَتْ ؟ قُلْتُ: لا يَخْلُو مِن أنْ تَتَعَلَّقَ إمّا بِالضَّرْبِ والشَّدِّ، أوْ بِالمَنِّ والفِداءِ. فالمَعْنى عَلى كِلا المُتَعَلِّقَيْنِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّهم لا يَزالُونَ عَلى ذَلِكَ أبَدًا إلى أنْ يَكُونَ حَرْبٌ مَعَ المُشْرِكِينَ، وذَلِكَ إذا لَمْ يَبْقَ لَهم شَوْكَةٌ. وقِيلَ: إذا نَزَلَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذا عُلِّقَ بِالضَّرْبِ والشَّدِّ. فالمَعْنى: أنَّهم يُقْتَلُونَ ويُؤْسَرُونَ حَتّى تَضَعَ جِنْسُ الحَرْبِ الأوْزارَ، وذَلِكَ حَتّى لا يَبْقى شَوْكَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وإذا عُلِّقَ بِالمَنِّ والفِداءِ، فالمَعْنى: أنَّهم يُمَنُّ عَلَيْهِمْ ويُفادُونَ حَتّى تَضَعَ حَرْبُ بَدْرٍ أوْزارَها، إلى أنْ تَناوَلَ المَنَّ والفِداءَ، يَعْنِي: بِتَناوُلِ المَنِّ بِأنْ يُتْرَكُوا عَنِ القَتْلِ ويُسْتَرَقُّوا، أيْ بِالتَّخْلِيَةِ بِضَرْبِ الجِزْيَةِ بِكَوْنِهِمْ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ، وبِالعَذابِ أنْ يُفادى بِأسارى المُشْرِكِينَ أسارى المُسْلِمِينَ. وقَدْ رَواهُ الطَّحاوِيُّ مَذْهَبًا لِأبِي حَنِيفَةَ، والمَشْهُورُ أنَّهُ لا يَرى فِداءَهم بِمالٍ ولا غَيْرِهِ، خِيفَةَ أنْ يَعُودُوا حَدَبًا لِلْمُسْلِمِينَ. (ذَلِكَ) أيِ الأمْرُ ذَلِكَ إذا فَعَلُوا. ﴿ذَلِكَ ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنهُمْ﴾: أيْ لانْتَقَمَ مِنهم بِبَعْضِ أسْبابِ الهَلاكِ، مِن خَسْفٍ، أوْ رَجْفَةٍ، أوْ حاصِبٍ، أوْ غَرَقٍ، أوْ مَوْتٍ جارِفٍ. ﴿ولَكِنْ لِيَبْلُوَ﴾: أيْ ولَكِنْ: أمَرَكم بِالقِتالِ لِيَبْلُوَ بَعْضَكم، وهُمُ المُؤْمِنُونَ، أيْ يَخْتَبِرَهم بِبَعْضٍ، وهُمُ الكافِرُونَ، بِأنْ يُجاهِدُوا ويَصْبِرُوا، والكافِرِينَ بِالمُؤْمِنِينَ بِأنْ يُعاجِلَهم عَلى أيْدِيهِمْ بِبَعْضِ ما وجَبَ لَهم مِنَ العَذابِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: قاتَلُوا، بِفَتْحِ القافِ والتّاءِ، بِغَيْرِ ألِفٍ، وقَتادَةُ، والأعْرَجُ، والأعْمَشُ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ: قُتِلُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والتّاءُ خَفِيفَةٌ، وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، والحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ، وعِيسى، والجَحْدَرِيُّ أيْضًا: كَذَلِكَ. وقَرَأ عَلِيٌّ: فَلَنْ يُضَلَّ. مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أعْمالُهم. رُفِعَ. وقُرِئَ: يَضِلَّ، بِفَتْحِ الياءِ، مِن ضَلَّ، أعْمالُهم: رُفِعَ. ﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾: أيْ إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ. وقالَ مُجاهِدٌ: يَهْتَدِي أهْلُ الجَنَّةِ إلى مَساكِنِهِمْ مِنها لا يُخْطِئُونَ، لِأنَّهم كانُوا سُكّانَها مُنْذُ خُلِقُوا، لا يَسْتَبْدِلُوا عَلَيْها. ورَوى عِياضٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو: ويُدْخِلْهُمُ. و”يَوْمَ يَجْمَعْكم لِيَوْمِ الجَمْعِ“ . و”إنَّما نُطْعِمْكم. بِسُكُونِ لامِ الكَلِمَةِ. ﴿عَرَّفَها لَهُمْ﴾ عَنْ مُقاتِلٍ: أنَّ المَلَكَ الَّذِي وُكِّلَ بِحِفْظِ عَمَلِهِ في الدُّنْيا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُعَرِّفُهُ كُلَّ شَيْءٍ أعْطاهُ اللَّهُ. وقالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: مَعْناهُ بَيَّنَها لَهم، أيْ جَعَلَهم يَعْرِفُونَ مَنازِلَهم مِنها. وفي (p-٧٦)الحَدِيثِ: «لَأحَدُكم بِمَنزِلِهِ في الجَنَّةِ أعْرَفُ مِنهُ بِمَنزِلِهِ في الدُّنْيا» . وقِيلَ: سَمّاها لَهم ورَسَمَها كُلَّ مَنزِلٍ بِصاحِبِهِ، وهَذا نَحْوٌ مِنَ التَّعْرِيفِ. يُقالُ: عَرَفَ الدّارَ وأرْفَها: أيْ حَدَّدَها، فَجَنَّةُ كُلِّ أحَدٍ مُفْرَزَةٌ عَنْ غَيْرِها. والعُرْفُ والأُرْفُ: الحُدُودُ. وقِيلَ: شَرَّفَها لَهم ورَفَعَها وعَلّاها، وهَذا مِنَ الأعْرافِ الَّتِي هي الجِبالُ وما أشْبَهَها. وقالَ مَوْرِجٌ وغَيْرُهُ: طَيَّبَها، مَأْخُوذٌ مِنَ العَرْفِ، ومِنهُ: طَعامٌ مُعَرَّفٌ: أيْ مُطَيَّبٌ، أيْ وعَرَّفْتَ القِدْرَ طَيَّبْتَها بِالمِلْحِ والتّابِلِ. ﴿إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ﴾: أيْ دِينَهُ، (يَنْصُرْكم): أيْ عَلى أعْدائِكم، بِخَلْقِ القُوَّةِ فِيكم، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَعارِفِ. ﴿ويُثَبِّتْ أقْدامَكُمْ﴾: أيْ في مَواطِنِ الحَرْبِ، أوْ عَلى مَحَجَّةِ الإسْلامِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (ويُثَبِّتْ): مُشَدَّدًا، والمُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ: مُخَفَّفًا. ﴿فَتَعْسًا لَهُمْ﴾: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بُعْدًا لَهم، وابْنُ جُرَيْجٍ، والسُّدِّيُّ: حُزْنًا لَهم، والحَسَنُ: شَتْمًا، وابْنُ زَيْدٍ: شَقاءً، والضَّحّاكُ: رَغْمًا، وحَكى النَّقّاشُ: قُبْحًا. (والَّذِينَ كَفَرُوا): مُبْتَدَأٌ، والفاءُ داخِلَةٌ في خَبَرِ المُبْتَدَأِ وتَقْدِيرُهُ: فَتَعِسَهُمُ اللَّهُ تَعْسًا. فَتَعْسًا: مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، ولِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ الفِعْلَ في قَوْلِهِ: ﴿وأضَلَّ أعْمالَهُمْ﴾ . ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الَّذِينَ مَنصُوبًا عَلى إضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: ﴿فَتَعْسًا لَهُمْ﴾، كَما تَقُولُ: زَيْدًا جَدْعًا لَهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: عَلامَ عُطِفَ قَوْلُهُ: وأضَلَّ أعْمالَهم ؟ قُلْتُ: عَلى الفِعْلِ الَّذِي نَصَبَ تَعْسًا، لِأنَّ المَعْنى: فَقالَ تَعْسًا لَهم، أوْ فَقَضى تَعْسًا لَهم، وتَعْسًا لَهم نَقِيضُ لَعًى لَهُ. انْتَهى. وإضْمارُ ما هو مِن لَفْظِ المَصْدَرِ أوْلى، لِأنَّ فِيهِ دَلالَةً عَلى ما حُذِفَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ في الدُّنْيا القَتْلَ، وفي الآخِرَةِ التَّرَدِّيَ في النّارِ. انْتَهى. وفي قَوْلِهِ: ﴿فَتَعْسًا لَهُمْ﴾: أيْ هَلاكًا بِأداةِ تَقْوِيَةٍ لِقُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، إذْ جَعَلَ لَهُمُ التَّثْبِيتَ، ولِلْكُفّارِ الهَلاكَ والعَثْرَةَ. ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كَرِهُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ﴾: يَشْمَلُ ما أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ في بَيانِ التَّوْحِيدِ، وذِكْرِ البَعْثِ والفَرائِضِ والحُدُودِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا تَضَمَّنَهُ القُرْآنُ. (فَأحْبَطَ أعْمالَهم): أيْ جَعَلَهُ مِنَ الأعْمالِ الَّتِي لا تَزْكُوا ولا يُعْتَدُّ بِها. ﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾: أيْ أفْسَدَ عَلَيْهِمْ ما اخْتُصُّوا بِهِ مِن أنْفُسِهِمْ وأوْلادِهِمْ وأمْوالِهِمْ، وكُلُّ ما كانَ لَهم ولِلْكافِرِينَ أمْثالُها. تِلْكَ العاقِبَةُ والتَّدْمِيرَةُ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْها دَمَّرَ والهَلَكَةُ، لِأنَّ التَّدْمِيرَ يَدُلُّ عَلَيْها، أوِ السُّنَّةَ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: (سُنَّةَ اللَّهِ في الَّذِينَ خَلَوْا) . والوَجْهُ الأوَّلُ هو الرّاجِحُ، لِأنَّ العاقِبَةَ مَنطُوقٌ بِها، فَعادَ الضَّمِيرُ عَلى المَلْفُوظِ بِهِ، وما بَعْدَهُ مَقُولُ القَوْلِ. (ذَلِكَ بِأنَّ): ابْتِداءٌ وخَبَرٌ، والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى النَّصْرِ في اخْتِيارِ جَماعَةٍ، وإلى الهَلاكِ، كَما قالَ: ﴿ولِلْكافِرِينَ أمْثالُها﴾، قالَ ذَلِكَ الهَلاكُ الَّذِي جُعِلَ لِلْكُفّارِ بِأيْدِي المُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ أنَّ اللَّهَ مَوْلاهم أيْ ناصِرُهم ومُؤَيِّدُهم، وأنَّ الكافِرِينَ لا ناصِرَ لَهم، إذِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، وتَرَكُوا عِبادَةَ مَن يَنْفَعُ ويَضُرُّ، وهو اللَّهُ تَعالى. قالَ قَتادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، ومِنها انْتَزَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَدَّهُ عَلى أبِي سُفْيانَ حِينَ قالَ:“ قُولُوا اللَّهُ مَوْلانا ولا مَوْلى لَكم "، حِينَ قالَ المُشْرِكُونَ: إنَّ لَنا عُزّى، ولا عُزّى لَكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب