الباحث القرآني

﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ﴾ ﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهم وهم فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ ﴿وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ﴾ ﴿ونادَوْا يامالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إنَّكم ماكِثُونَ﴾ ﴿لَقَدْ جِئْناكم بِالحَقِّ ولَكِنَّ أكْثَرَكم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ ﴿أمْ أبْرَمُوا أمْرًا فَإنّا مُبْرِمُونَ﴾ ﴿أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهم ونَجْواهم بَلى ورُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ ﴿قُلْ إنْ كانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ فَأنا أوَّلُ العابِدِينَ﴾ ﴿سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ ﴿فَذَرْهم يَخُوضُوا ويَلْعَبُوا حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ ﴿وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ وهو الحَكِيمُ العَلِيمُ﴾ ﴿وتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما وعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ﴿ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفاعَةَ إلّا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وهم يَعْلَمُونَ﴾ ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأنّى يُؤْفَكُونَ﴾ ﴿وقِيلِهِ يارَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿فاصْفَحْ عَنْهم وقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ . لَمّا ذَكَرَ تَعالى حالَ أهْلِ الجَنَّةِ، وما يُقالُ لَهم مِن لَذائِذِ البِشارَةِ، أعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حالِ الكَفَرَةِ، وما يُجاوِبُونَ بِهِ عِنْدَ سُؤالِهِمْ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: وهم فِيها، أيْ في جَهَنَّمَ، والجُمْهُورُ: ﴿وهم فِيهِ﴾ أيْ في العَذابِ. وعَنِ الضَّحّاكِ: يُجْعَلُ المُجْرِمُ في تابُوتٍ مِن نارٍ، ثُمَّ يُرْدَمُ عَلَيْهِ، فَيَبْقى فِيهِ خالِدًا لا يَرى ولا يُرى. ﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾: أيْ لا يُخَفَّفُ ولا يُنْقَصُ، مِن قَوْلِهِمْ: فَتَرَتْ عَنْهُ الحُمّى، إذا سَكَنَتْ قَلِيلًا ونَقَصَ حَرُّها. والمُبْلِسُ: السّاكِتُ اليائِسُ مِنَ الخَيْرِ. (وما ظَلَمْناهم): أيْ ما وضَعْنا العَذابَ فِيمَن لا يَسْتَحِقُّهُ. ﴿ولَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ﴾: أيِ الواضِعِينَ الكُفْرَ مَوْضِعَ الإيمانِ، فَظَلَمُوا بِذَلِكَ أنْفُسَهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: والظّالِمِينَ، عَلى أنَّ هم فَصْلٌ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وأبُو زَيْدٍ النَّحْوِيّانِ: الظّالِمُونَ بِالرَّفْعِ، عَلى أنَّهم خَبَرُهم، وهم مُبْتَدَأٌ. وذَكَرَ أبُو عَمْرٍو الجَرْمِيُّ: أنَّ لُغَةَ تَمِيمٍ جَعْلُ ما هو فَصْلٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مُبْتَدَأً، ويَرْفَعُونَ ما بَعْدَهُ عَلى الخَبَرِ. وقالَ أبُو زَيْدٍ: سَمِعْتُهم يَقْرَءُونَ: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هو خَيْرٌ وأعْظَمُ أجْرًا. يَعْنِي: بِرَفْعِ ”خَيْرٌ وأعْظَمُ“ . وقالَ قَيْسُ بْنُ ذُرَيْجٍ: ؎نَحِنُّ إلى لَيْلى وأنْتَ تَرَكْتَها وكُنْتَ عَلَيْها بِالمَلا أنْتَ أقْدَرُ قالَ سِيبَوَيْهِ: إنَّ رُؤْبَةَ كانَ يَقُولُ: أظُنُّ زَيْدًا هو خَيْرٌ مِنكَ. يَعْنِي بِالرَّفْعِ. ﴿ونادَوْا يامالِكُ﴾: تَقَدَّمَ أنَّهم مُبْلِسُونَ، أيْ ساكِتُونَ، وهَذِهِ أحْوالٌ لَهم في أزْمانٍ مُتَطاوِلَةٍ، فَلا تَعارُضَ بَيْنَ سُكُوتِهِمْ ونِدائِهِمْ. (p-٢٨)وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿يا مالِكُ﴾ . وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وعَلِيٌّ، وابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ: يا مالِ، بِالتَّرْخِيمِ، عَلى لُغَةِ مَن يَنْتَظِرُ الحَرْفَ. وقَرَأ أبُو السِّرارِ الغَنَوِيُّ: يا مالُ، بِالبِناءِ عَلى الضَّمِّ، جُعِلَ اسْمًا عَلى حِيالِهِ. واللّامُ في: (لِيَقْضِ) لامُ الطَّلَبِ والرَّغْبَةِ. والمَعْنى: يُمِتْنا مَرَّةً حَتّى لا يَتَكَرَّرَ عَذابُنا، كَقَوْلِهِ: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ﴾ [القصص: ١٥]، أيْ أماتَهُ. (قالَ): أيْ مالِكٌ، ﴿إنَّكم ماكِثُونَ﴾: أيْ مُقِيمُونَ في النّارِ لا تَبْرَحُونَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُجِيبُهم بَعْدَ مُضِيِّ ألْفِ سَنَةٍ، وقالَ نَوْفٌ: بَعْدَ مِائَةٍ، وقِيلَ: ثَمانِينَ، وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: أرْبَعِينَ. ﴿لَقَدْ جِئْناكم بِالحَقِّ﴾: يَظْهَرُ أنَّهُ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى. وقِيلَ: مِن كَلامِ بَعْضِ المَلائِكَةِ، كَما يَقُولُ أحَدُ خَدَمِ الرَّئِيسِ: أعْلَمْناكم وفَعَلْنا بِكم. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ﴿لَقَدْ جِئْناكُمْ﴾ مِن قَوْلِ اللَّهِ لِقُرَيْشٍ بِعَقِبِ حِكايَةِ أمْرِ الكُفّارِ مَعَ مالِكٍ، وفي هَذا تَوَعُّدٌ وتَخْوِيفٌ بِمَعْنى: انْظُرُوا كَيْفَ يَكُونُ حالُكم. ﴿أمْ أبْرَمُوا﴾: والضَّمِيرُ لِقُرَيْشٍ، أيْ بَلْ أحْكَمُوا أمْرًا مِن كَيْدِهِمْ لِلرَّسُولِ ومَكْرِهِمْ، ﴿فَإنّا مُبْرِمُونَ﴾ كَيْدَنا، كَما أبْرَمُوا كَيْدَهم، كَقَوْلِهِ: ﴿أمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المَكِيدُونَ﴾ [الطور: ٤٢]، وكانُوا يَتَناجَوْنَ ويَتَسارَعُونَ في أمْرِ الرَّسُولِ، فَقالَ تَعالى: ﴿أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ﴾، وهو ما يُحَدِّثُ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ أوْ غَيْرَهُ في مَكانٍ خالٍ. (ونَجْواهم): وهي ما تَكَلَّمُوا بِهِ فِيما بَيْنَهم. (بَلى): أيْ نَسْمَعُها، (رُسُلُنا)، وهُمُ الحَفَظَةُ. ﴿قُلْ إنْ كانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ﴾، كَما تَقُولُونَ، ﴿فَأنا أوَّلُ﴾ مَن يَعْبُدُهُ عَلى ذَلِكَ، ولَكِنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ. وأخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذا القَوْلَ وحَسَّنَهُ بِفَصاحَتِهِ فَقالَ: إنْ كانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ، وصَحَّ ذَلِكَ وثَبَتَ بِبُرْهانٍ صَحِيحٍ يُورِدُونَهُ وحُجَّةٍ واضِحَةٍ يَبْذُلُونَها، فَأنا أوَّلُ مَن يُعَظِّمُ ذَلِكَ الوَلَدَ، وأسْبَقُكم إلى طاعَتِهِ والِانْقِيادِ لَهُ، كَما يُعَظِّمُ الرَّجُلُ ولَدَ المَلِكِ لِعِظَمِ أبِيهِ. وهَذا كَلامٌ وارِدٌ عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ والتَّمْثِيلِ لِغَرَضٍ، وهو المُبالَغَةُ في نَفْيِ الوَلَدِ والإطْنابِ فِيهِ، وأنْ لا يَتْرُكَ النّاطِقُ بِهِ شُبْهَةً إلّا مُضْمَحِلَّةً مَعَ التَّرْجَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِثَباتِ القَدَمِ في بابِ التَّوْحِيدِ، وذَلِكَ أنَّهُ عَلَّقَ العِبادَةَ بِكَيْنُونَةِ الوَلَدِ، وهي مُحالٌ في نَفْسِها، فَكانَ المُعَلَّقُ بِها مُحالًا مِثْلَها. فَهو في صُورَةِ إثْباتِ الكَيْنُونَةِ والعِبادَةِ، وفي مَعْنى نَفْيِها عَلى أبْلَغِ الوُجُوهِ وأقْواها. ثُمَّ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ونَظِيرُهُ أنْ يَقُولَ العَدْلِيُّ لِلْمُجْبِرِ. ثُمَّ ذَكَرَ كَلامًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ التَّأْدِيبَ بَلِ السَّيْفَ، نَزَّهْتُ كِتابِي عَنْ ذِكْرِهِ. ثُمَّ قالَ: وقَدْ تَمَحَّلَ النّاسُ بِما أخْرَجُوهُ بِهِ مِن هَذا الأُسْلُوبِ الشَّرِيفِ المَلِيءِ بِالنُّكَتِ والفَوائِدِ المُسْتَقِلَّةِ بِالتَّوْحِيدِ عَلى أبْلَغِ وُجُوهِهِ، فَقِيلَ: إنْ كانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ، في زَعْمِكم، فَأنا أوَّلُ العابِدِينَ، المُوَحِّدِينَ لِلَّهِ، المُكَذِّبِينَ قَوْلَهم بِإضافَةِ الوَلَدِ إلَيْهِ. وقِيلَ: إنْ كانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ، فَأنا أوَّلُ الآنِفِينَ مِن أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ مِن عَبْدٍ يُعْبَدُ، إذا اشْتَدَّ أنْفُهُ فَهو عَبْدٌ وعابِدٌ. وقَرَأ بَعْضُهم: عَبِدِينَ، وقِيلَ: هي إنِ النّافِيَةُ، أيْ ما كانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ، فَأنا أوَّلُ مَن قالَ بِذَلِكَ وعَبَدَ ووَحَّدَ. ورُوِيَ أنَّ النَّضْرَ بْنَ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيٍّ قالَ: إنَّ المَلائِكَةَ بَناتُ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ، فَقالَ النَّضْرُ: ألا تَرَوْنَ أنَّهُ قَدْ صَدَّقَنِي ؟ فَقالَ لَهُ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ: ما صَدَّقَكَ، ولَكِنْ قالَ: ما كانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ، فَأنا أوَّلُ المُوَحِّدِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ أنْ لا ولَدَ لَهُ. انْتَهى. أمّا القَوْلُ: إنْ كانَ لِلَّهِ ولَدٌ في زَعْمِكم، فَهو قَوْلُ مُجاهِدٍ، وأمّا القَوْلُ: فَأنا أوَّلُ الآنِفِينَ، فَهو قَوْلُ جَماعَةٍ، حَكاهُ عَنْهم أبُو حاتِمٍ ولَمْ يُسَمِّ أحَدًا مِنهم، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ السُّلَمِيِّ واليَمانِيِّ: العَبِدِينَ، وقِراءَةٌ ذَكَرَها الخَلِيلُ بْنُ أحْمَدَ في كِتابِهِ العَيْنِ: العَبْدِينَ، بِإسْكانِ الباءِ، تَخْفِيفُ العَبْدِينَ بِكَسْرِها. وذَكَرَ صاحِبُ اللَّوامِحِ أنَّهُ جاءَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في مَعْنى العابِدِينَ: أنَّهُ الآنِفِينَ انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَرَفَةَ: يُقالُ: عَبَدَ يَعْبُدُ فَهو عَبْدٌ، وقَلَّما يُقالُ: عابِدٌ. والقُرْآنُ لا يَأْتِي بِالقَلِيلِ مِنَ اللُّغَةِ ولا الشّاذَّ، ثُمَّ قالَ: كَقَوْلِ مُجاهِدٍ. وقالَ الفَرَزْدَقُ: ؎أُولَئِكَ آبائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ ∗∗∗ وأعْبُدُ أنْ أهْجُوَ كُلَيْبًا بِدارِمِي أيْ: آنَفُ وأسْتَنْكِفُ. وقالَ آخَرُ:(p-٢٩) ؎مَتى ما يَشاءُ ذُو الوُدِّ يَصْرِمُ خَلِيلَهُ ∗∗∗ ويَعْبُدُ عَلَيْهِ لا مَحالَةَ ظالِمًا وأمّا القَوْلُ بِأنَّ إنْ نافِيَةٌ، فَمَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، والسُّدِّيِّ، وقَتادَةَ، وابْنِ زَيْدٍ، وزُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وقالَ مَكِّيٌّ: لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ إنْ بِمَعْنى ما النّافِيَةِ، لِأنَّهُ يُوهِمُ أنَّكَ إنَّما نَفَيْتَ عَنِ اللَّهِ الوَلَدَ فِيما مَضى دُونَ ما هو آتٍ، وهَذا مُحالٌ. انْتَهى. ولا يَلْزَمُ مِنهُ مُحالٌ، لِأنَّ كانَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِيما يَدُومُ ولا يَزُولُ، كَقَوْلِكَ: (وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، أيْ لَمْ يَزَلْ، فالمَعْنى: ما كانَ وما يَكُونُ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: العَبِدُ، بِكَسْرِ الباءِ: الشَّدِيدُ الغَضَبِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مَعْناهُ أوَّلُ الجاحِدِينَ. والعَرَبُ تَقُولُ: عَبَدَنِي حَقِّي، أيْ جَحَدَنِي. وقَرَأ ولَدٌ بِفَتْحَتَيْنِ. عَبْدُ اللَّهِ، وابْنُ وثّابٍ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ: بِضَمِّ الواوِ وسُكُونِ اللّامِ. ثُمَّ قالَ: ﴿سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ﴾: أيْ مِن نِسْبَةِ الوَلَدِ إلَيْهِ، والمَعْنى: إزالَةُ العِلْمِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ واجِبَ الوُجُودِ، وما كانَ كَذَلِكَ فَهو فَرْدٌ مُطْلَقٌ لا يَقْبَلُ التَّجْزِيءَ. والوَلَدُ عِبارَةٌ عَنْ أنْ يَنْفَصِلَ عَنِ الشَّيْءِ جُزْءٌ مِن أجْزائِهِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنهُ شَخْصٌ مِثْلُهُ، ولا يَكُونُ إلّا فِيما هو قابِلٌ ذاتُهُ لِلتَّجْزِيءِ، وهَذا مُحالٌ في حَقِّهِ تَعالى، فامْتَنَعَ إثْباتُ الوَلَدِ. ولَمّا ذُكِرَ هَذا البُرْهانُ القاطِعُ قالَ: (فَذَرْهم يَخُوضُوا)، أيْ في باطِلِهِمْ، (ويَلْعَبُوا)، أيْ في دُنْياهم. وظاهِرُ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ مُهادَنَةٌ وتَرْكٌ، وذَلِكَ مِمّا نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿حَتّى يُلاقُوا﴾، وأبُو جَعْفَرٍ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وعُبَيْدُ بْنُ عَقِيلٍ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: يَلْقَوْا، مُضارِعُ لَقِيَ. ﴿يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾: يَوْمَ القِيامَةِ. وقالَ عِكْرِمَةُ وغَيْرُهُ: يَوْمَ بَدْرٍ، وأضافَ اليَوْمَ إلَيْهِمْ، لِأنَّهُ الَّذِي فِيهِ هَلاكُهم وعَذابُهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: إلَهٌ فِيهِما. وقَرَأ عُمَرُ. وعَبْدُ اللَّهِ، وأُبَيٌّ، وعَلِيٌّ، والحَكَمُ بْنُ أبِي العالِي، وبِلالُ بْنُ أبِي بُرْدَةَ، وابْنُ يَعْمَرَ، وجابِرٌ، وابْنُ زَيْدٍ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وأبُو الشَّيْخِ الهُنائِيُّ، وحُمَيْدٌ، وابْنُ مِقْسَمٍ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ: اللَّهُ فِيهِما. ومَعْنى إلَهٍ: مَعْبُودٌ بِهِ، يَتَعَلَّقُ الجارُّ والمَجْرُورُ، والمَعْنى: أنَّهُ هو مَعْبُودٌ في السَّماءِ ومَعْبُودٌ في الأرْضِ، والعائِدُ عَلى المَوْصُولِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: هو إلَهٌ، كَما حُذِفَ في قَوْلِهِمْ: ما أنا بِالَّذِي قائِلٌ لَكَ شَيْئًا، وحَسَّنَهُ طُولُهُ بِالعَطْفِ عَلَيْهِ، كَما حَسَّنَ في: قائِلٌ لَكَ شَيْئًا. طُولُهُ بِالمُعَوَّلِ. ومَن قَرَأ: اللَّهُ، ضَمَّنَهُ أيْضًا مَعْنى المَعْبُودِ، كَما ضُمِّنَ العَلَمُ في نَحْوِ قَوْلِهِمْ: هو حاتِمٌ في طَيِّئٍ. أيْ جَوادٌ في طَيِّئٍ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الصِّلَةُ الجارَّ والمَجْرُورَ. والمَعْنى: أنَّهُ فِيهِما بِالإلَهِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ، إذْ يَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلى الِاسْتِقْرارِ. وفي قَوْلِهِ: (وفي الأرْضِ)، نَفْيٌ لِآلِهَتِهِمُ الَّتِي كانَتْ تُعْبَدُ في الأرْضِ. ﴿وعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾: أيْ عِلْمُ تَعْيِينِ وقْتِ قِيامِها، وهو الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعالى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: يَرْجِعُونَ، بِياءِ الغَيْبَةِ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ، والعَدَنِيّانِ: بِتاءِ الخِطابِ، وهو في كِلْتا القِراءَتَيْنِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ. وقُرِئَ: بِفَتْحِ تاءِ الخِطابِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِياءِ الغَيْبَةِ وشَدِّ الدّالِ، وعَنْهُ بِتاءِ الخِطابِ وشَدِّ الدّالِ، والمَعْنى: ولا يَمْلِكُ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ الشَّفاعَةَ عِنْدَ اللَّهِ. قالَ قَتادَةُ: اسْتَثْنى مِمَّنْ عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ عِيسى وعُزَيْرًا والمَلائِكَةَ، فَإنَّهم يَمْلِكُونَ شَفاعَةً بِأنْ يُمَلِّكَها اللَّهُ إيّاهم، إذْ هم مِمَّنْ شَهِدَ بِالحَقِّ، وهم يَعْلَمُونَهُ في أحْوالِهِمْ، فالِاسْتِثْناءُ عَلى هَذا مُتَّصِلٌ. وقالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: مِنَ المَشْفُوعِ فِيهِمْ ؟ كَأنَّهُ قالَ: لا يَشْفَعُ هَؤُلاءِ المَلائِكَةُ وعُزَيْرٌ وعِيسى إلّا فِيمَن شَهِدَ بِالحَقِّ، وهو يَعْلَمُهُ، أيْ بِالتَّوْحِيدِ، قالُوا: فالِاسْتِثْناءُ عَلى هَذا مُنْفَصِلٌ، كَأنَّهُ قالَ: لَكِنَّ مَن شَهِدَ بِالحَقِّ يَشْفَعُ فِيهِمْ هَؤُلاءِ. وهَذا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرُوهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ فِيهِ الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا، لِأنَّهُ يَكُونُ المُسْتَثْنى مِنهُ مَحْذُوفًا، كَأنَّهُ قالَ: ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفاعَةَ في أحَدٍ، إلّا فِيمَن شَهِدَ بِالحَقِّ، فَهو اسْتِثْناءٌ مِنَ المَفْعُولِ المَحْذُوفِ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎نَجا سالِمٌ والنَّفْسُ مِنهُ بِشِدْقِهِ ∗∗∗ ولَمْ يَنْجُ إلّا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرا أيْ لَمْ يَنْجُ إلّا جَفْنَ سَيْفٍ فَهو اسْتِثْناءٌ مِنَ المَشْفُوعِ فِيهِمُ الجائِزُ فِيهِ الحَذْفُ وهو مُتَّصِلٌ فَإنْ جَعَلْتَهُ (p-٣٠)مُسْتَثْنى مِنَ (الَّذِينَ يَدْعُونَ)، فَيَكُونُ مُنْفَصِلًا، والمَعْنى: ولا يَمْلِكُ آلِهَتُهم، ويَعْنِي بِهِمُ الأصْنامَ والأوْثانَ، الشَّفاعَةَ كَما زَعَمُوا أنَّهم شُفَعاؤُهم عِنْدَ اللَّهِ. ولَكِنَّ (مَن شَهِدَ بِالحَقِّ)، وهو تَوْحِيدُ اللَّهِ، وهو يَعْلَمُ ما شَهِدَ بِهِ، هو الَّذِي يَمْلِكُ الشَّفاعَةَ، وإنْ أُدْرِجَتِ المَلائِكَةُ في (الَّذِينَ يَدْعُونَ)، كانَ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (فَأنّى يُؤْفَكُونَ)، بِياءِ الغَيْبَةِ، مُناسِبًا لِقَوْلِهِ: (ولَئِنْ سَألْتَهم)، أيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ عِبادَةِ مَن أقَرُّوا أنَّهُ مُوجِدُ العالَمِ. وعَبْدُ الوارِثِ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِتاءِ الخِطابِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: وقِيلَهُ بِالنَّصْبِ. فَعَنِ الأخْفَشِ: أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى سِرِّهِمْ ونَجْواهم، وعَنْهُ أيْضًا: عَلى وقالَ قِيلَهُ، وعَنِ الزَّجّاجِ، عَلى مَحَلِّ السّاعَةِ في قَوْلِهِ: (وعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ) . وقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلى مَفْعُولِ يَكْتُبُونَ المَحْذُوفِ، أيْ يَكْتُبُونَ أقْوالَهم وأفْعالَهم. وقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلى مَفْعُولِ يَعْلَمُونَ، أيْ يَعْلَمُونَ الحَقَّ. (وقِيلَهُ يا رَبِّ): وهو قَوْلٌ لا يَكادُ يُعْقَلُ، وقِيلَ: مَنصُوبٌ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ، أيْ ويَعْلَمُ قِيلَهُ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ، وابْنُ وثّابٍ، وعاصِمٌ، والأعْمَشُ، وحَمْزَةُ: وقِيلِهِ. بِالخَفْضِ، وخَرَجَ عَلى أنَّهُ عَطْفٌ عَلى السّاعَةِ، أوْ عَلى أنَّها واوُ القَسَمِ، والجَوابُ مَحْذُوفٌ، أيْ: لَيُنْصَرُنَّ، أوْ لَأفْعَلَنَّ بِهِمْ ما أشاءُ. وقَرَأ الأعْرَجُ، وأبُو قِلابَةَ، ومُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، ومُسْلِمُ بْنُ جُنْدَبٍ: وقِيلُهُ. بِالرَّفْعِ، وخَرَجَ عَلى أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى ”عِلْمُ السّاعَةِ“، عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ وعِلْمُ قِيلِهِ، حُذِفَ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ. ورُوِيَ هَذا عَنِ الكِسائِيِّ. وعَلى الِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ: يا رَبِّ إلى لا يُؤْمِنُونَ، أوْ عَلى أنَّ الخَبَرَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَسْمُوعٌ، أوْ مُتَقَبَّلٌ، فَجُمْلَةُ النِّداءِ وما بَعْدَهُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ (وقِيلُهُ) . وقَرَأ أبُو قِلابَةَ: يا رَبَّ، بِفَتْحِ الباءِ، أرادَ: يا رَبًّا، كَما تَقُولُ: يا غُلامُ. ويَتَخَرَّجُ عَلى جَوازِ الأخْفَشِ: يا قَوْمَ، بِالفَتْحِ وحَذْفِ الألِفِ والِاجْتِزاءِ بِالفَتْحَةِ عَنْها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والَّذِي قالُوهُ يَعْنِي مِنَ العَطْفِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ في المَعْنى، مَعَ وُقُوعِ الفَصْلِ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِما لا يَحْسُنُ اعْتِراضًا، ومَعَ تَنافُرِ النَّظْمِ، وأقْوى مِن ذَلِكَ. والوَجْهُ أنْ يَكُونَ الجَرُّ والنَّصْبُ عَلى إضْمارِ حَرْفِ القَسَمِ وحَذْفِهِ، والرَّفْعُ عَلى قَوْلِهِمْ: ايْمُنُ اللَّهِ، وأمانَةُ اللَّهِ، ويَمِينُ اللَّهِ، ولَعَمْرِكَ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾، جَوابُ القَسَمِ، كَأنَّهُ قالَ: وأقْسَمَ بِقِيلِهِ، أوْ وقِيلِهِ يا رَبِّ قَسَمِي. ﴿إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾، وإقْسامُ اللَّهِ بِقِيلِهِ، رَفْعٌ مِنهُ وتَعْظِيمٌ لِدُعائِهِ والتِجائِهِ إلَيْهِ. انْتَهى، وهو مُخالِفٌ لِظاهِرِ الكَلامِ، إذْ يَظْهَرُ أنَّ قَوْلَهُ: يا رَبِّ إلى لا يُؤْمِنُونَ، مُتَعَلِّقٌ بِقِيلِهِ، ومِن كَلامِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: وإذا كانَ أنَّ هَؤُلاءِ جَوابَ القَسَمِ، كانَ مِن إخْبارِ اللَّهِ عَنْهم وكَلامِهِ، والضَّمِيرُ في: وقِيلِهِ. لِلرَّسُولِ، وهو المُخاطَبُ بِقَوْلِهِ: ﴿فاصْفَحْ عَنْهُمْ﴾، أيْ أعْرِضْ عَنْهم واتْرُكْهم، ﴿وقُلْ سَلامٌ﴾، أيِ الأمْرُ سَلامٌ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ: وعِيدٌ لَهم وتَهْدِيدٌ ومُوادَعَةٌ، وهي مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: يَعْلَمُونَ، بِياءِ الغَيْبَةِ، كَما في: فاصْفَحْ عَنْهم. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، والحَسَنُ، والأعْرَجُ، ونافِعٌ، وهِشامٌ: بِتاءِ الخِطابِ. وقالَ السُّدِّيُّ: وقُلْ سَلامٌ، أيْ خَيْرًا بَدَلًا مِن شَرِّهِمْ. وقالَ مُقاتِلٌ: أوْرِدْ عَلَيْهِمْ مَعْرُوفًا. وحَكى الماوَرْدِيُّ: قُلْ ما تَسْلَمُ بِهِ مِن شَرِّهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب