الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ: ﴿وتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما وعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: (تَبارَكَ) إمّا أنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الثَّباتِ والبَقاءِ، وإمّا أنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِن كَثْرَةِ الخَيْرِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَكُلُّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ يُنافِي كَوْنَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ولَدًا لِلَّهِ تَعالى، لِأنَّهُ إنْ كانَ المُرادُ مِنهُ الثَّباتَ والبَقاءَ فَعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَكُنْ واجِبَ البَقاءِ والدَّوامِ، لِأنَّهُ حَدَثَ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ عِنْدَ النَّصارى أنَّهُ قُتِلَ وماتَ ومَن كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وبَيْنَ الباقِي الدّائِمِ الأزَلِيِّ مُجانَسَةٌ ومُشابَهَةٌ، فامْتَنَعَ كَوْنُهُ ولَدًا لَهُ، وإنْ كانَ المُرادُ بِالبَرَكَةِ كَثْرَةَ الخَيْراتِ مِثْلَ كَوْنِهِ خالِقًا لِلسَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما فَعِيسى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ كانَ مُحْتاجًا إلى الطَّعامِ وعِنْدَ النَّصارى أنَّهُ كانَ خائِفًا مِنَ اليَهُودِ وبِالآخِرَةِ أخَذُوهُ وقَتَلُوهُ، فالَّذِي هَذا صِفَتُهُ كَيْفَ يَكُونُ ولَدًا لِمَن كانَ خالِقًا لِلسَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما ؟ ! * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ فالمَقْصُودُ مِنهُ أنَّهُ لَمّا شَرَحَ كَمالَ قُدْرَتِهِ فَكَذَلِكَ شَرَحَ كَمالَ عِلْمِهِ، والمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ مَن كانَ كامِلًا في الذّاتِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ عَلى الحَدِّ الَّذِي شَرَحْناهُ امْتَنَعَ أنْ يَكُونَ ولَدُهُ في العَجْزِ وعَدَمِ الوُقُوفِ عَلى أحْوالِ العالَمِ بِالحَدِّ الَّذِي وصَفَهُ النَّصارى. ولَمّا أطْنَبَ اللَّهُ تَعالى في نَفْيِ الوَلَدِ أرْدَفَهُ بِبَيانِ نَفْيِ الشُّرَكاءِ فَقالَ: ﴿ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفاعَةَ إلّا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وهم يَعْلَمُونَ﴾، ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ المَلائِكَةَ وعِيسى وعُزَيْرًا، والمَعْنى أنَّ المَلائِكَةَ وعِيسى وعُزَيْرًا لا يَشْفَعُونَ إلّا لِمَن شَهِدَ بِالحَقِّ، رُوِيَ أنَّ النَّضْرَ بْنَ الحارِثِ ونَفَرًا مَعَهُ قالُوا: إنْ كانَ ما يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَنَحْنُ نَتَوَلّى المَلائِكَةَ فَهم أحَقُّ بِالشَّفاعَةِ مِن مُحَمَّدٍ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ يَقُولُ: لا يَقْدِرُ هَؤُلاءِ أنْ يَشْفَعُوا لِأحَدٍ، ثُمَّ اسْتَثْنى فَقالَ: ﴿إلّا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ﴾ والمَعْنى عَلى هَذا القَوْلِ هَؤُلاءِ لا يَشْفَعُونَ إلّا لِمَن شَهِدَ بِالحَقِّ، فَأضْمَرَ اللّامَ، أوْ يُقالُ: التَّقْدِيرُ: إلّا شَفاعَةَ مَن شَهِدَ بِالحَقِّ فَحَذَفَ المُضافَ، وهَذا عَلى لُغَةِ مَن يُعَدِّي الشَّفاعَةَ بِغَيْرِ لامٍ، فَيَقُولُ: شَفَعْتُ فُلانًا بِمَعْنى شَفَعْتُ لَهُ كَما تَقُولُ: كَلَّمْتُهُ وكَلَّمْتُ لَهُ، ونَصَحْتُهُ ونَصَحْتُ لَهُ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ كُلَّ مَعْبُودٍ مِن دُونِ اللَّهِ، وقَوْلُهُ: ﴿إلّا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ﴾ المَلائِكَةُ وعِيسى وعُزَيْرٌ، والمَعْنى أنَّ الأشْياءَ الَّتِي عَبَدَها الكُفّارُ لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إلّا مِن شَهِدَ بِالحَقِّ، وهُمُ المَلائِكَةُ وعِيسى وعُزَيْرٌ، فَإنَّ لَهم شَفاعَةً عِنْدَ اللَّهِ ومَنزِلَةً، ومَعْنى مَن شَهِدَ بِالحَقِّ: مَن شَهِدَ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وهم يَعْلَمُونَ﴾ وهَذا القَيْدُ يَدُلُّ عَلى أنَّ الشَّهادَةَ بِاللِّسانِ فَقَطْ لا تُفِيدُ البَتَّةَ، واحْتَجَّ القائِلُونَ بِأنَّ إيمانَ المُقَلِّدِ لا يَنْفَعُ البَتَّةَ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالُوا: بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ الشَّهادَةَ لا تَنْفَعُ إلّا إذا حَصَلَ مَعَها العِلْمُ، والعِلْمُ عِبارَةٌ عَنِ اليَقِينِ الَّذِي لَوْ شُكِّكَ صاحِبُهُ فِيهِ لَمْ يَتَشَكَّكْ، وهَذا لَمْ يَحْصُلْ إلّا عِنْدَ الدَّلِيلِ، فَثَبَتَ أنَّ إيمانَ المُقَلِّدِ لا يَنْفَعُ البَتَّةَ. (p-٢٠٠)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأنّى يُؤْفَكُونَ﴾، وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: ظَنَّ قَوْمٌ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ وأمْثالَها في القُرْآنِ تَدُلُّ عَلى أنَّ القَوْمَ مُضْطَرُّونَ إلى الِاعْتِرافِ بِوُجُودِ الإلَهِ لِلْعالَمِ، قالَ الجُبّائِيُّ: وهَذا لا يَصِحُّ لِأنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ قالُوا: لا إلَهَ لَهم غَيْرُهُ، وقَوْمَ إبْراهِيمَ قالُوا: ﴿وإنّا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ﴾ [إبراهيم: ٩]، فَيُقالُ لَهم: لا نُسَلِّمُ أنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ كانُوا مُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الإلَهِ، والدَّلِيلُ عَلى قَوْلِنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا﴾ [النمل: ١٤]، وقالَ مُوسى لِفِرْعَوْنَ: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلّا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ بَصائِرَ﴾ [الإسراء: ١٠٢]، فالقِراءَةُ بِفَتْحِ التّاءِ في (عَلِمْتَ) تَدُلُّ عَلى أنَّ فِرْعَوْنَ كانَ عارِفًا بِاللَّهِ، وأمّا قَوْمُ إبْراهِيمَ حَيْثُ قالُوا: ﴿وإنّا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ﴾ فَهو مَصْرُوفٌ إلى إثْباتِ القِيامَةِ وإثْباتِ التَّكالِيفِ وإثْباتِ النُّبُوَّةِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذا الكَلامَ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وفي آخِرِها، والمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أنَّ خالِقَ العالَمِ وخالِقَ الحَيَواناتِ هو اللَّهُ تَعالى، فَكَيْفَ أقْدَمُوا مَعَ هَذا الِاعْتِقادِ عَلى عِبادَةِ أجْسامٍ خَسِيسَةٍ وأصْنامٍ خَبِيثَةٍ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ بَلْ هي جَماداتٌ مَحْضَةٌ ؟ ! * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَأنّى يُؤْفَكُونَ﴾ مَعْناهُ: لِمَ تَكْذِبُونَ عَلى اللَّهِ فَتَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ أمَرَنا بِعِبادَةِ الأصْنامِ، وقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ أصْحابِنا بِهِ عَلى أنَّ إفْكَهم لَيْسَ مِنهم بَلْ مِن غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأنّى يُؤْفَكُونَ﴾، وأجابَ القاضِي بِأنَّ مَن يَضِلُّ في فَهْمِ الكَلامِ أوْ في الطَّرِيقِ يُقالُ لَهُ: أيْنَ يَذْهَبُ بِكَ ؟ والمُرادُ: أيْنَ تَذْهَبُ ؟ وأجابَ الأصْحابُ بِأنَّ قَوْلَ القائِلِ: أيْنَ يَذْهَبُ بِكَ ؟ ظاهِرُهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذاهِبًا آخَرَ ذَهَبَ بِهِ، فَصَرْفُ الكَلامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ خِلافُ الأصْلِ الظّاهِرِ، وأيْضًا فَإنَّ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ هو الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الدّاعِيَةَ في قَلْبِهِ، وقَدْ ثَبَتَ بِالبُرْهانِ الباهِرِ أنَّ خالِقَ تِلْكَ الدّاعِيَةِ هو اللَّهُ تَعالى. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وقِيلِهِ يارَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾، وفِيهِ مَباحِثُ: الأوَّلُ: قَرَأ الأكْثَرُونَ (وقِيلَهُ) بِفَتْحِ اللّامِ، وقَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ بِكَسْرِ اللّامِ، قالَ الواحِدِيُّ: وقَرَأ أُناسٌ مِن غَيْرِ السَّبْعَةِ بِالرَّفْعِ، أمّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالنَّصْبِ فَذَكَرَ الأخْفَشُ والفَرّاءُ فِيهِ قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ بِتَقْدِيرِ: وقالَ قِيلَهُ وشَكا شَكْواهُ إلى رَبِّهِ يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ فانْتَصَبَ قِيلَهُ بِإضْمارِ قالَ، والثّانِي: أنَّهُ عَطْفٌ عَلى ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: (أنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهم ونَجْواهم. . . وقِيلَهُ)، وذَكَرَ الزَّجّاجُ فِيهِ وجْهًا ثالِثًا فَقالَ: إنَّهُ نُصِبَ عَلى مَوْضِعِ السّاعَةِ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ مَعْناهُ أنَّهُ عَلِمَ السّاعَةَ، والتَّقْدِيرُ: عَلِمَ السّاعَةَ وقِيلَهُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُكَ: عَجِبْتُ مِن ضَرْبِ زَيْدٍ وعَمْرًا، وأمّا القِراءَةُ بِالجَرِّ فَقالَ الأخْفَشُ والفَرّاءُ والزَّجّاجُ: إنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى السّاعَةِ، أيْ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ، وعِلْمُ قِيلِهِ: يا رَبِّ، قالَ المُبَرِّدُ: العَطْفُ عَلى المَنصُوبِ حَسَنٌ وإنْ تَباعَدَ المَعْطُوفُ مِنَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُفْصَلَ بَيْنَ المَنصُوبِ وعامِلِهِ، والمَجْرُورُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ عَلى قُبْحٍ، وأمّا القِراءَةُ بِالرَّفْعِ فَفِيها وجْهانِ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ ﴿وقِيلِهِ﴾ مُبْتَدَأً وخَبَرُهُ ما بَعْدَهُ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى عِلْمِ السّاعَةِ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ المُضافِ، مَعْناهُ: وعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وعِلْمُ قِيلِهِ، قالَ صاحِبُ “ الكَشّافِ “: هَذِهِ الوُجُوهُ لَيْسَتْ قَوِيَّةً في المَعْنى لا سِيَّما وُقُوعُ الفَصْلِ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِما لا يَحْسُنُ اعْتِراضًا، ثُمَّ ذَكَرَ وجْهًا آخَرَ وزَعَمَ أنَّهُ أقْوى مِمّا سَبَقَ، وهو أنْ يَكُونَ النَّصْبُ والجَرُّ عَلى إضْمارِ حَرْفِ القَسَمِ وحَذْفِهِ، والرَّفْعُ عَلى قَوْلِهِمْ: أيْمُنُ اللَّهِ، وأمانَةُ اللَّهِ، ويَمِينُ اللَّهِ، يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾ جَوابَ القَسَمِ كَأنَّهُ قِيلَ (p-٢٠١)وأقْسَمَ بِقِيلِهِ: يا رَبِّ، أوْ وقِيلِهِ: يا رَبِّ قَسَمِي، وأقُولُ: هَذا الَّذِي ذَكَرَهُ صاحِبُ “ الكَشّافِ “ مُتَكَلَّفٌ أيْضًا، وهَهُنا إضْمارٌ امْتَلَأ القُرْآنُ مِنهُ وهو إضْمارُ اذْكُرْ، والتَّقْدِيرُ: واذْكُرْ قِيلَهُ: يا رَبِّ، وأمّا القِراءَةُ بِالجَرِّ فالتَّقْدِيرُ: واذْكُرْ وقْتَ قِيلِهِ: يا رَبِّ، وإذا وجَبَ التِزامُ الإضْمارِ فَلَأنْ يُضْمِرَ شَيْئًا جَرَتِ العادَةُ في القُرْآنِ بِالتِزامِ إضْمارِهِ أوْلى مِن غَيْرِهِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وقِيلِهِ يارَبِّ﴾ والمُرادُ: وقِيلَ يا رَبِّ، والهاءُ زِيادَةٌ. البَحْثُ الثّانِي: القِيلُ مَصْدَرٌ كالقَوْلِ، ومِنهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «نَهى عَنْ قِيلَ وقالَ»، قالَ اللَّيْثُ: تَقُولُ العَرَبُ: كَثِيرٌ فِيهِ القِيلُ والقالُ، ورَوى شِمْرٌ عَنْ أبِي زَيْدٍ يُقالُ: ما أحْسَنَ قَيْلَكَ وقَوْلَكَ وقالَكَ وقالَتَكَ ومَقالَتَكَ، خَمْسَةُ أوْجُهٍ. البَحْثُ الثّالِثُ: الضَّمِيرُ في قِيلِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ . البَحْثُ الرّابِعُ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا ضَجِرَ مِنهم وعَرَفَ إصْرارَهم أخْبَرَ عَنْهم أنَّهم قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ، وهو قَرِيبٌ مِمّا حَكى اللَّهُ عَنْ نُوحٍ أنَّهُ قالَ: ﴿رَبِّ إنَّهم عَصَوْنِي واتَّبَعُوا مَن لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ووَلَدُهُ إلّا خَسارًا﴾ [نوح: ٢١] . ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ لَهُ: ﴿فاصْفَحْ عَنْهُمْ﴾، فَأمَرَهُ بِأنْ يَصْفَحَ عَنْهم، وفي ضِمْنِهِ مَنَعَهُ مِن أنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِالعَذابِ، والصَّفْحُ هو الإعْراضُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وقُلْ سَلامٌ﴾، قالَ سِيبَوَيْهِ إنَّما مَعْناهُ المُتارَكَةُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ إبْراهِيمَ لِأبِيهِ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكَ سَأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: ٤٧]، وكَقَوْلِهِ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكم لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ [القصص: ٥٥] . قَوْلُهُ: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ التَّهْدِيدُ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ تَعْلَمُونَ بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ، والباقُونَ بِالياءِ كِنايَةً عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ السَّلامُ عَلى الكافِرِ، وأقُولُ: إنْ صَحَّ هَذا الِاسْتِدْلالُ فَهَذا يُوجِبُ الِاقْتِصارَ عَلى مُجَرَّدِ قَوْلِهِ: (سَلامٌ)، وأنْ يُقالَ لِلْمُؤْمِنِ: سَلامٌ عَلَيْكم، والمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلى التَّحِيَّةِ الَّتِي تُذْكَرُ لِلْمُسْلِمِ والكافِرِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاصْفَحْ عَنْهم وقُلْ سَلامٌ﴾ مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وعِنْدِي أنَّ التِزامَ النَّسْخِ في أمْثالِ هَذِهِ المَواضِعِ مُشْكِلٌ، لِأنَّ الأمْرَ لا يُفِيدُ الفِعْلَ إلّا مَرَّةً واحِدَةً، فَإذا أتى بِهِ مَرَّةً واحِدَةً فَقَدْ سَقَطَتْ دَلالَةُ اللَّفْظِ، فَأيُّ حاجَةٍ فِيهِ إلى التِزامِ النَّسْخِ ؟ وأيْضًا فَمِثْلُهُ يَمِينُ الفَوْرِ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الفُقَهاءِ، وهي دالَّةٌ عَلى أنَّ اللَّفْظَ قَدْ يَتَقَيَّدُ بِحَسَبِ قَرِينَةِ العُرْفِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَلا حاجَةَ فِيهِ إلى التِزامِ النَّسْخِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ. قالَ مَوْلانا المُؤَلِّفُ عَلَيْهِ سَحائِبُ الرَّحْمَةِ والرُّضْوانِ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الأحَدِ الحادِيَ عَشَرَ مِن ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ ثَلاثٍ وسِتِّمِائَةٍ، والحَمْدُ لِلَّهِ أوَّلًا وآخِرًا، وباطِنًا وظاهِرًا، والصَّلاةُ عَلى مَلائِكَتِهِ المُقَرَّبِينَ والأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ خُصُوصًا عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ وآلِهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِينَ أبَدَ الآبِدِينَ ودَهْرَ الدّاهِرِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب