الباحث القرآني
﴿إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ وهم مَلائِكَةُ المَلَأِ الأعْلى، فالمُرادُ مِنَ العِنْدِيَّةِ القُرْبُ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِالزُّلْفى والرِّضا لا المَكانِيَّةُ لِتَنَزُّهِ اللَّهِ تَعالى عَنْ ذَلِكَ، وقِيلَ: المُرادُ عِنْدَ عَرْشِ رَبِّكَ، ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ بَلْ يُؤَدُّونَها حَسْبَما أُمِرُوا بِهِ ﴿ويُسَبِّحُونَهُ﴾ أيْ: يُنَزِّهُونَهُ عَمّا لا يَلِيقُ بِحَضْرَةِ كِبْرِيائِهِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ ﴿ولَهُ يَسْجُدُونَ﴾ أيْ: ويَخُصُّونَهُ بِغايَةِ العُبُودِيَّةِ والتَّذَلُّلِ لا يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ جَلَّ شَأْنُهُ، وهو تَعْرِيضٌ بِمَن عَداهم مِنَ المُكَلَّفِينَ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ (لَهُ)، وجازَ أنْ يُؤْخَذَ مِن مَجْمُوعِ الكَلامِ كَما آثَرَهُ العَلّامَةُ الطِّيبِيُّ لِأنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلسّابِقِ عَلى مَعْنى: ائْتُوا بِالعِبادَةِ عَلى وجْهِ الإخْلاصِ كَما أُمِرْتُمْ فَإنْ لَمْ تَأْتُوا بِها كَذَلِكَ فَإنّا مُغْنَوْنَ عَنْكم وعَنْ عِبادَتِكم إنَّ لَنا عِبادًا مُكْرَمِينَ مِن شَأْنِهِمْ كَذا وكَذا، فالتَّقْدِيمُ عَلى هَذا لِلْفاصِلَةِ، ولِما في الآيَةِ مِنَ التَّعْرِيضِ شُرِعَ السُّجُودُ عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ إرْغامًا لِمَن أبى مِمَّنْ عَرَّضَ بِهِ. قِيلَ: وقَدْ جاءَ الأمْرُ بِالسَّجْدَةِ لِآيَةٍ أُمِرَ فِيها بِالسُّجُودِ امْتِثالًا لِلْأمْرِ، أوْ حَكى فِيها اسْتِنْكافَ الكَفَرَةِ عَنْهُ مُخالَفَةً لَهُمْ، أوْ حَكى فِيها سُجُودَ نَحْوِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ تَأسِّيًا بِهِمْ، وهَذا مِنَ القِسْمِ الثّانِي بِاعْتِبارِ التَّعْرِيضِ أوْ مِنَ القِسْمِ الأخِيرِ بِاعْتِبارِ التَّصْرِيحِ.
وكانَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ في سُجُودِهِ لِذَلِكَ كَما رَوى ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: ««اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدَ سَوادِي وبِكَ آمَنَ فُؤادِي، اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي عِلْمًا يَنْفَعُنِي وعَمَلًا يَرْفَعُنِي»».
وأخْرَجَ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ عَنْ عائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها «أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ يَقُولُ في سُجُودِ القُرْآنِ بِاللَّيْلِ مِرارًا: «سَجَدَ وجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وشَقَّ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ»».
وجاءَ عَنْها أيْضًا: ««ما مِن مُسْلِمٍ سَجَدَ لِلَّهِ تَعالى سَجْدَةً إلّا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعالى بِها دَرَجَةً، أوْ حَطَّ عَنْهُ بِها خَطِيئَةً، أوْ جَمَعَهُما لَهُ كِلْتَيْهِما»».
وأخْرَجَ مُسْلِمٌ وابْنُ ماجَهْ، والبَيْهَقِيُّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««إذا قَرَأ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطانُ يَبْكِي يَقُولُ: يا ويْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الجَنَّةُ، وأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأبَيْتُ فَلِي النّارُ»».
واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ إخْفاءَ الذِّكْرِ أفْضَلُ، ويُوافِقُ ذَلِكَ ما أخْرَجَهُ أحْمَدُ مِن قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ»».
وهِيَ ناعِيَةٌ عَلى جَهَلَةِ زَمانِنا مِنَ المُتَصَوِّفَةِ ما يَفْعَلُونَهُ مِمّا يُسْتَقْبَحُ شَرْعًا وعَقْلًا وعُرْفًا، فَإنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ.
* * *
هَذا (ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ) ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ وهي الرُّوحُ ﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ (p-156)وهِيَ القَلْبُ.
﴿لِيَسْكُنَ إلَيْها﴾ أيْ: لِيَمِيلَ إلَيْها ويَطْمَئِنَّ فَكانَتِ الرُّوحُ تَشَمُّ مِنَ القَلْبِ نَسائِمَ نَفَحاتِ الألْطافِ ﴿فَلَمّا تَغَشّاها﴾ أيْ: جامَعَها وهو إشارَةٌ إلى النِّكاحِ الرُّوحانِيِّ، والصُّوفِيَّةُ يَقُولُونَ: إنَّهُ سائِرٌ في جَمِيعِ المَوْجُوداتِ، ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ.
﴿حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا﴾ في البِدايَةِ بِظُهُورِ أدْنى أثَرٍ مِن آثارِ الصِّفاتِ البَشَرِيَّةِ في القَلْبِ الرُّوحانِيِّ.
﴿فَلَمّا أثْقَلَتْ﴾ كَبُرَتْ وكَثُرَتْ آثارُ الصِّفاتِ ﴿دَعَوا اللَّهَ رَبَّهُما﴾ لِأنَّهُما خافا مِن تَبَدُّلِ الصِّفاتِ الرُّوحانِيَّةِ النُّورانِيَّةِ بِالصِّفاتِ النَّفْسانِيَّةِ الظُّلْمانِيَّةِ ﴿لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا﴾ لِلْعُبُودِيَّةِ ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ ﴿فَلَمّا آتاهُما صالِحًا﴾ بِحَسْبِ الفِطْرَةِ مِنَ القُوى ﴿جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما﴾ أيْ: جَعَلَ أوْلادَهُما لِلَّهِ تَعالى شُرَكاءَ فِيما آتى أوْلادَهُما فَمِنهم عَبْدُ البَطْنِ ومِنهم عَبْدُ الخَمِيصَةِ ومِنهم مَن عَبَدَ الدِّرْهَمَ والدِّينارَ.
﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ كائِنًا ما كانَ ﴿عِبادٌ أمْثالُكُمْ﴾ في العَجْزِ وعَدَمِ التَّأْثِيرِ ﴿فادْعُوهُمْ﴾ إلى أيِّ أمْرٍ كانَ ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في نِسْبَةِ التَّأْثِيرِ إلَيْهِمْ ﴿ألَهم أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها﴾ اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ أيْ: لَيْسَ لَهم أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها بَلْ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ إذْ هو الَّذِي يُمَشِّيهِمْ وكَذا يُقالُ فِيما بَعْدُ.
﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكم ثُمَّ كِيدُونِ﴾ إنَّ اسْتَطَعْتُمْ ﴿إنَّ ولِيِّيَ اللَّهُ﴾ حافِظِي ومُتَوَلِّي أمْرِي ﴿الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ وهو يَتَوَلّى الصّالِحِينَ﴾ أيْ: مَن قامَ بِهِ في حالِ الِاسْتِقامَةِ ﴿وتَراهم يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وهم لا يُبْصِرُونَ﴾ الحَقَّ ولا حَقِيقَتَكَ لِأنَّهم عُمْيُ القُلُوبِ في الحَقِيقَةِ، والضَّمِيرُ لِلْكُفّارِ ﴿خُذِ العَفْوَ﴾ أيِ: السَّهْلَ الَّذِي يَتَيَسَّرُ لَهم ولا تُكَلِّفُهم ما يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ﴿وأْمُرْ بِالعُرْفِ﴾ أيْ: بِالوَجْهِ الجَمِيلِ، ﴿وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ فَلا تُكافِئْهم بِجَهْلِهِمْ.
عَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: لَيْسَ في القُرْآنِ آيَةً أجْمَعَ لِمَكارِمِ الأخْلاقِ مِن هَذِهِ الآيَةِ.
قِيلَ: وذَلِكَ لِقُوَّةِ دَلالَتِها عَلى التَّوْحِيدِ؛ فَإنَّ مَن شاهَدَ مالِكَ النَّواصِي وتَصَرُّفَهُ في عِبادِهِ وكَوْنَهم فِيما يَأْتُونَ ويَذَرُونَ بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لا بِأنْفُسِهِمْ لا يُشاقُّهم ولا يُداقُّهم في تَكالِيفِهِمْ ولا يَغْضَبُ في الأمْرِ والنَّهْيِ ولا يَتَشَدَّدُ ويَحْلُمُ عَنْهُمْ، ﴿وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ بِالشُّهُودِ والحُضُورِ فَإنَّكَ تَرى حِينَئِذٍ أنْ لا فِعْلَ لِغَيْرِهِ سُبْحانَهُ، وهَذا إشارَةٌ إلى ما يَعْتَرِي الإنْسانَ أحْيانًا مِنَ الغَضَبِ وإيماءً إلى عِلاجِهِ بِالِاسْتِعاذَةِ قالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الغَضَبَ إنَّما يَهِيجُ بِالإنْسانِ إذا اسْتُقْبِحَ مِنَ المَغْضُوبِ عَلَيْهِ عَمَلًا مِنَ الأعْمالِ ثُمَّ اعْتَقَدَ في نَفْسِهِ كَوْنَهُ قادِرًا وفي المَغْضُوبِ عَلَيْهِ كَوْنَهُ عاجِزًا، وإذا انْكَشَفَ لَهُ نُورٌ مِن عالَمِ العَقْلِ عَرَفَ أنَّ المَغْضُوبَ عَلَيْهِ إنَّما أقْدَمَ عَلى ذَلِكَ العَمَلِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ فِيهِ داعِيَةً وقَدْ سَبَقَتْ عَلَيْهِ الكَلِمَةُ الأزَلِيَّةُ فَلا سَبِيلَ لَهُ إلى تَرْكِهِ وحِينَئِذٍ يَتَغَيَّرُ غَضَبُهُ. وقَدْ ورَدَ: مَن عَرَفَ سِرَّ اللَّهِ تَعالى في القَدَرِ هانَتْ عَلَيْهِ المَصائِبُ، فالِاسْتِعاذَةُ بِاللَّهِ تَعالى في المَعْنى طَلَبُ الِالتِجاءِ إلَيْهِ بِاسْتِكْشافِ ذَلِكَ النُّورِ، ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الشِّرْكَ ﴿إذا مَسَّهم طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ﴾ لَمَّةٌ مِنهُ بِنِسْبَةِ الفِعْلِ إلى غَيْرِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿تَذَكَّرُوا﴾ مَقامَ التَّوْحِيدِ ومُشاهَدَةِ الأفْعالِ مِنَ اللَّهِ تَعالى ﴿فَإذا هم مُبْصِرُونَ﴾ فَعالِيَّةَ اللَّهِ تَعالى لا شَيْطانَ ولا فاعِلَ غَيْرُهُ سُبْحانَهُ في نَظَرِهِمْ ﴿وإخْوانُهُمْ﴾ أيْ: إخْوانُ الشَّياطِينِ مِنَ المَحْجُوبِينَ ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ الشَّياطِينُ ﴿فِي الغَيِّ﴾ وهو نِسْبَةُ الفِعْلِ إلى السَّوِيِّ ﴿ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ﴾ عَنِ العِنادِ والمِراءِ والجَدَلِ، و﴿قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها﴾ أيْ: جَمَعْتَها مِن تِلْقاءِ نَفْسِكَ، ﴿قُلْ إنَّما أتَّبِعُ ما يُوحى إلَيَّ مِن رَبِّي﴾ لِأنِّي قائِمٌ بِهِ لا بِنَفْسِي.
﴿وإذا قُرِئَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ أيْ: لِلْقُرْآنِ بِآذانِكُمُ الظّاهِرَةِ ﴿وأنْصِتُوا﴾ بِحَواسِّكُمُ الباطِنَةِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ لَهُ لِلرَّبِّ سُبْحانَهُ، أيْ: إذا قُرِئَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لِلرَّبِّ جَلَّ شَأْنُهُ فَإنَّهُ المُتَكَلِّمُ والمُخاطِبُ لَكم بِهِ.
﴿لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ بِالسَّمْعِ الحَقِيقِيِّ أوْ بِرَحْمَةِ تَجَلِّي المُتَكَلِّمِ في كَلامِهِ بِصِفاتِهِ وأفْعالِهِ، ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ﴾ بِأنْ تَتَحَلّى بِما يُمْكِنُ التَّحَلِّي بِهِ مِن صِفاتِ اللَّهِ تَعالى، وقِيلَ: هو عَلى حَدِّ: ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ . (p-157)﴿تَضَرُّعًا وخِيفَةً﴾ حَسْبَ اخْتِلافِ المَقامِ ﴿ودُونَ الجَهْرِ﴾ أيْ: دُونَ أنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنكَ بَلْ يَكُونُ ذاكِرًا بِهِ لَهُ ﴿بِالغُدُوِّ﴾ أيْ وقْتِ ظُهُورِ نُورِ الرُّوحِ ﴿والآصالِ﴾ أيْ: وقْتِ غَلَباتِ صِفاتِ النَّفْسِ.
﴿ولا تَكُنْ﴾ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ ﴿مِنَ الغافِلِينَ﴾ عَنْ شُهُودِ الوَحْدَةِ الذّاتِيَّةِ، وقالَ بَعْضُ الأكابِرِ: إنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً﴾ إشارَةٌ إلى أعْلى المَراتِبِ وهو حِصَّةُ الواصِلِينَ المُشاهِدِينَ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿ودُونَ الجَهْرِ﴾ إشارَةٌ إلى المَرْتَبَةِ الوُسْطى وهي نَصِيبُ السّائِرِينَ إلى مَقامِ المُشاهَدَةِ، وقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿ولا تَكُنْ مِنَ الغافِلِينَ﴾ إيماءً إلى مَرْتَبَةِ النّازِلِينَ مِنَ السّالِكِينَ، وفي ذِكْرِ الخَوْفِ إشْعارٌ بِاسْتِشْعارِ هَيْبَةِ الجَلالِ كَما قالَ:
؎أشْتاقُهُ فَإذا بَدا أطْرَقْتُ مِن إجْلالِهِ
؎لا خِيفَةً بَلْ هَيْبَةً ∗∗∗ وصِيانَةً لِجَمالِهِ
وذَكَرُوا أنَّ حالَ المُبْتَدِي والسّالِكِ مَنُوطَةٌ بِرَأْيِ الشَّيْخِ؛ فَإنَّهُ الطَّبِيبُ لِأمْراضِ القُلُوبِ، فَهو أعْرَفُ بِالعِلاجِ، فَقَدْ يَرى لَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ عِلاجًا حَيْثُ تَوَقُّفُ قَطْعِ الخَواطِرِ وحَدِيثِ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وفي عَوارِفِ المَعارِفِ لِلسُّهْرَوَرْدِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ: لا يَزالُ العَبْدُ يُرَدِّدُ هَذِهِ الكَلِمَةَ عَلى لِسانِهِ مَعَ مُواطَأةِ القَلْبِ حَتّى تَصِيرَ مُتَأصِّلَةً فِيهِ مُزِيلَةً لِحَدِيثِ النَّفْسِ ويَنُوبُ مَعْناها في القَلْبِ عَنْهُ، فَإذا اسْتَوْلَتِ الكَلِمَةُ وسَهُلَتْ عَلى اللِّسانِ تَشَرَّبَها القَلْبُ ويَصِيرُ الذِّكْرُ حِينَئِذٍ ذِكْرَ الذّاتِ، وهَذا الذِّكْرُ هو المُشاهَدَةُ والمُكاشَفَةُ والمُعايَنَةُ، وذاكَ هو المَقْصِدُ الأقْصى مِنَ الخَلْوَةِ، وقَدْ يَحْصُلُ ما ذُكِرَ بِتِلاوَةِ القُرْآنِ أيْضًا إذا أكْثَرَ التِّلاوَةَ واجْتَهَدَ في مُواطَأةِ القَلْبِ مَعَ اللِّسانِ حَتّى تَجْرِيَ التِّلاوَةُ عَلى اللِّسانِ وتَقُومَ مَقامَ حَدِيثِ النَّفْسِ فَيَدْخُلُ عَلى العَبْدِ سُهُولَةٌ في التِّلاوَةِ والصَّلاةِ اهـ.
ونُقِلَ عَنْهُ أيْضًا ما حاصِلُهُ أنَّ بِنْيَةَ العَبْدِ تَحْكِي مَدِينَةً جامِعَةً، وأعْضاؤُهُ وجَوارِحُهُ بِمَثابَةِ سُكّانِ المَدِينَةِ، والعَبْدُ في إقْبالِهِ عَلى الذِّكْرِ كَمُؤَذِّنٍ صَعِدَ مَنارَةً عَلى بابِ المَدِينَةِ يَقْصِدُ إسْماعَ أهْلِ المَدِينَةِ الأذانَ، فالذّاكِرُ المُحَقِّقُ يَقْصِدُ إيقاظَ قَلْبِهِ وإنْباءَ أجْزائِهِ وأبْعاضِهِ بِذِكْرِ لِسانِهِ فَهو يَقُولُ بِبَعْضِهِ ويَسْمَعُ بِكُلِّهِ إلى أنْ تَنْتَقِلَ الكَلِمَةُ مِنَ اللِّسانِ إلى القَلْبِ فَيَتَنَوَّرُ بِها ويَظْفَرُ بِجَدْوى الأحْوالِ ثُمَّ يَنْعَكِسُ نُورُ القَلْبِ عَلى القالَبِ فَيَتَزَيَّنُ بِمَحاسِنِ الأعْمالِ اهـ.
﴿إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ وهُمُ الفانُونَ الباقُونَ بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى أرْبابُ الِاسْتِقامَةِ ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ لِعَدَمِ احْتِجابِهِمْ بِالأنانِيَّةِ ﴿ويُسَبِّحُونَهُ﴾ بِنَفْيِها ﴿ولَهُ يَسْجُدُونَ﴾ بِالفِناءِ التّامِّ وطَمْسِ البَقِيَّةِ، واللَّهُ تَعالى هو الباقِي لَيْسَ في الوُجُودِ سِواهُ.
* * *
(سُورَةُ الأنْفالِ) مَدَنِيَّةٌ كَما رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وجاءَ ذَلِكَ في رِوايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما.
وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ سُئِلَ الحَبْرُ عَنْها فَقالَ: تِلْكَ سُورَةُ بَدْرٍ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى أنَّهُ قالَ: نَزَلَتْ في بَدْرٍ، وقِيلَ: هي مَدَنِيَّةٌ إلّا قَوْلَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآيَةَ؛ فَإنَّها نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَلى ما قالَهُ مُقاتِلٌ، ورَدَ بِأنَّهُ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ هَذِهِ الآيَةَ بِعَيْنِها نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، وجَمَعَ بَعْضُهم بَيْنَ القَوْلَيْنِ بِما لا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ. واسْتَثْنى آخَرُونَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ الآيَةَ. وصَحَّحَهُ ابْنُ العَرَبِيِّ وغَيْرُهُ، ويُؤَيِّدُهُ ما أخْرَجَهُ البَزّارُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّها نَزَلَتْ لَمّا أسْلَمَ (p-158)عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وهي في الشّامِيِّ سَبْعٌ وسَبْعُونَ آيَةً، وفي البَصْرِيِّ والحِجازِيِّ سِتٌّ وسَبْعُونَ. وفي الكُوفِيِّ خَمْسٌ وسَبْعُونَ. ووَجْهُ مُناسَبَتِها لِسُورَةِ الأعْرافِ أنَّ فِيها: ﴿وأْمُرْ بِالعُرْفِ﴾ وفي هَذِهِ كَثِيرٌ مِن أفْرادِ المَأْمُورِ بِهِ. وفي تِلْكَ ذِكْرُ قَصَصِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعَ أقْوامِهِمْ، وفي هَذِهِ ذِكْرُ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وذِكْرُ ما جَرى بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْمِهِ، وقَدْ فَصَّلَ سُبْحانَهُ وتَعالى في تِلْكَ قَصَصَ آلِ فِرْعَوْنَ وأضْرابِهِمْ وما حَلَّ بِهِمْ، وأجْمَلَ في هَذِهِ ذَلِكَ فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأخَذَهُمُ اللَّهِ بِذُنُوبِهِمْ إنَّ اللَّهِ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقابِ﴾ وأشارَ هُناكَ إلى سُوءِ زَعْمِ الكَفَرَةِ في القُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها﴾ وصَرَّحَ سُبْحانَهُ وتَعالى بِذَلِكَ هُنا بِقَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذا إنْ هَذا إلا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ وبَيَّنَ جَلَّ شَأْنُهُ فِيما تَقَدَّمَ أنَّ القُرْآنَ هُدًى ورَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وأرْدَفَ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَلِكَ بِالأمْرِ بِالِاسْتِماعِ لَهُ والأمْرِ بِذِكْرِهِ تَعالى، وهُنا بَيَّنَ جَلَّ وعَلا حالَ المُؤْمِنِينَ عِنْدَ تِلاوَتِهِ وحالَهم إذا ذُكِرَ اللَّهُ تَبارَكَ اسْمُهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ مِن قائِلٍ: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهم وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهم إيمانًا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المُناسَباتِ، والظّاهِرُ أنَّ وضْعَها هُنا تَوْقِيفِيٌّ وكَذا وضْعُ بَراءَةَ بَعْدَها، وهُما مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ كَسائِرِ السُّوَرِ وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ غَيْرُ واحِدٍ كَما مَرَّ في المُقَدِّماتِ.
وذَكَرَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ أنَّ ذِكْرَ هَذِهِ السُّورَةِ هُنا لَيْسَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِلصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم كَما هو المُرَجَّحُ في سائِرِ السُّوَرِ بَلْ بِاجْتِهادٍ مِن عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وقَدْ كانَ يَظْهَرُ في بادِي الرَّأْيِ أنَّ المُناسِبَ إيلاءُ الأعْرافِ بِيُونُسَ وهُودٍ لِاشْتِراكٍ في كُلٍّ في اشْتِمالِها عَلى قَصَصِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّها مَكِّيَّةُ النُّزُولِ خُصُوصًا أنَّ الحَدِيثَ ورَدَ في فَضْلِ السَّبْعِ الطُّوَلِ وعَدُّوا السّابِعَةَ يُونُسَ، وكانَتْ تُسَمّى بِذَلِكَ كَما أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ، فَفي فَصْلِها مِنَ الأعْرافِ بِسُورَتَيْنِ فَصْلٌ لِلنَّظِيرِ مِن سائِرِ نَظائِرِهِ، هَذا مَعَ قِصَرِ سُورَةِ الأنْفالِ بِالنِّسْبَةِ إلى الأعْرافِ وبَراءَةَ، وقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ قَدِيمًا حَبْرُ الأُمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَقالَ لِعُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: ما حَمَلَكم عَلى أنْ عَمَدْتُمْ إلى الأنْفالِ وهي مِنَ المَثانِي وإلى بَراءَةَ وهي مَنِ المِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُما ولَمْ تَكْتُبُوا البَسْمَلَةَ بَيْنَهُما ووَضَعْتُمُوهُما في السَّبْعِ الطُّوَلِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ جَوابَ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وقَدْ أسْلَفْنا الخَبَرَ بِطُولِهِ سُؤالًا وجَوابًا، ثُمَّ قالَ: وأقُولُ: يَتِمُّ مَقْصِدُ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في ذَلِكَ بِأُمُورٍ فَتَحَ اللَّهِ تَعالى بِها: الأوَّلُ: أنَّهُ جَعَلَ الأنْفالَ قَبْلَ بَراءَةَ مَعَ قِصَرِها لِكَوْنِها مُشْتَمِلَةً عَلى البَسْمَلَةِ فَقَدَّمَها لِتَكُونَ كَقِطْعَةٍ مِنها ومُفْتَتَحِها وتَكُونُ بَراءَةُ لِخُلُوِّها مِنَ البَسْمَلَةِ كَتَتِمَّتِها وبَقِيَّتِها.
ولِهَذا قالَ جَماعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إنَّهُما سُورَةٌ واحِدَةٌ. الثّانِي: أنَّهُ وضَعَ بَراءَةَ هُنا لِمُناسَبَةِ الطُّولِ فَإنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ السِّتِّ السّابِقَةِ سُورَةٌ أطْوَلُ مِنها؛ وذَلِكَ كافٍ في المُناسَبَةِ. الثّالِثُ: أنَّهُ خَلَّلَ بِالسُّورَتَيْنِ أثْناءَ السَّبْعِ الطُّوَلِ المَعْلُومُ تَرْتِيبُها في العَصْرِ الأوَّلِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ ذَلِكَ أمْرٌ صادِرٌ لا عَنْ تَوْقِيفٍ وإلى أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قُبِضَ قَبْلَ أنْ يُبَيِّنَ كِلْتَيْهِما فَوُضِعا هُنا كالوَضْعِ المُسْتَعارِ بِخِلافِ ما لَوْ وُضِعا بَعْدَ السَّبْعِ الطُّوَلِ فَإنَّهُ كانَ يُوهِمُ أنَّ ذَلِكَ مَحَلُّهُما بِتَوْقِيفٍ ولا يُتَوَهَّمُ هَذا عَلى هَذا الوَضْعِ لِلْعِلْمِ بِتَرَتُّبِ السَّبْعِ.
(p-159)فانْظُرْ إلى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي فَتَحَ اللَّهُ تَعالى بِها ولا يَغُوصُ عَلَيْها الأغْواصُ. الرّابِعُ: أنَّهُ لَوْ أخَّرَهُما وقَدَّمَ يُونُسَ وأتى بَعْدَ بَراءَةَ بِهُودٍ كَما في مُصْحَفِ أُبَيٍّ لِمُراعاةِ مُناسَبَةِ السَّبْعِ وإيلاءِ بَعْضِها بَعْضًا لَفاتَ مَعَ ما أشَرْنا إلَيْهِ أمْرٌ آخَرُ آكَدُ في المُناسَبَةِ؛ فَإنَّ الأوْلى بِسُورَةِ يُونُسَ أنْ يُؤْتى بِالسُّورِ الخَمْسَةِ الَّتِي بَعْدَها لِما اشْتَرَكَتْ فِيهِ مِنَ المُناسَباتِ مِنَ القَصَصِ والِافْتِتاحِ بِ (الر) وبِذِكْرِ الكِتابِ، ومِن كَوْنِها مَكِّيّاتٍ ومِن تَناسُبِ ما عَدا الحِجْرَ في المِقْدارِ ومِنَ التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ نَبِيٍّ، والرَّعْدُ اسْمُ مَلَكٍ وهو مُناسِبٌ لِأسْماءِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَهَذِهِ عِدَّةُ مُناسَباتٍ لِلِاتِّصالِ بَيْنَ يُونُسَ وما بَعْدَها وهي آكَدُ مِن هَذا الوَجْهِ الواحِدِ في تَقْدِيمِ يُونُسَ بَعْدَ الأعْرافِ، ولِبَعْضِ هَذِهِ الأُمُورِ قُدِّمَتْ سُورَةُ الحِجْرِ عَلى النَّحْلِ مَعَ كَوْنِها أقْصَرَ مِنها، ولَوْ أُخِّرَتْ بَراءَةُ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ السِّتِّ لَبَعُدَتِ المُناسَبَةُ جِدًّا لِطُولِها بَعْدَ عِدَّةِ سُوَرٍ أقْصَرَ مِنها بِخِلافِ وضْعِ سُورَةِ النَّحْلِ بَعْدَ الحِجْرِ فَإنَّها لَيْسَتْ كَبَراءَةَ في الطُّولِ.
ويَشْهَدُ لِمُراعاةِ الفَواتِحِ في مُناسَبَةِ الوَضْعِ ما ذَكَرْناهُ مِن تَقْدِيمِ الحِجْرِ عَلى النَّحْلِ لِمُناسَبَةِ (الر) قَبْلَها، وما تَقَدَّمَ مِن تَقْدِيمِ آلِ عِمْرانَ عَلى النِّساءِ وإنْ كانَتْ أقْصَرَ مِنها لِمُناسَبَتِها البَقَرَةَ في الِافْتِتاحِ (بالم) وتَوالِي الطَّواسِينِ والحَوامِيمِ وتَوالِي العَنْكَبُوتِ والرُّومِ ولُقْمانَ والسَّجْدَةِ لِافْتِتاحِ كُلٍّ (بالم)، ولِهَذا قُدِّمَتِ السَّجْدَةُ عَلى الأحْزابِ الَّتِي هي أطْوَلُ مِنها، هَذا ما فَتَحَ اللَّهُ تَعالى بِهِ عَلَيَّ، ثُمَّ ذُكِرَ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى قَدَّمَ في مُصْحَفِهِ البَقَرَةَ والنِّساءَ وآلَ عِمْرانَ والأعْرافَ والأنْعامَ والمائِدَةَ ويُونُسَ راعى السَّبْعَ الطُّوَلَ فَقَدَّمَ الأطْوَلَ فالأطْوَلَ مِنها فالأطْوَلَ ثُمَّ ثَنى بِالمِئِينَ فَقَدَّمَ بَراءَةَ ثُمَّ النَّحْلَ ثُمَّ هُودَ ثُمَّ يُوسُفَ ثُمَّ الكَهْفَ وهَكَذا الأطْوَلُ، وجَعَلَ الأنْفالَ بَعْدَ النُّورِ.
ووَجْهُ المُناسَبَةِ أنَّ كُلًّا مَدَنِيَّةٌ ومُشْتَمِلَةٌ عَلى أحْكامٍ، وأنَّ في النُّورِ: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرْضِ﴾ الآيَةَ. وفي الأنْفالِ: ﴿واذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ في الأرْضِ﴾ إلَخْ. ولا يَخْفى ما بَيْنَ الآيَتَيْنِ مِنَ المُناسَبَةِ؛ فَإنَّ الأُولى مُشْتَمِلَةٌ عَلى الوَعْدِ بِما حَصَلَ وذُكِرَ بِهِ في الثّانِيَةِ فَتَأمَّلْ. اهـ.
وأقُولُ: قَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعالى عَلى هَذا العَبْدِ الحَقِيرِ بِما لَمْ يَمُنَّ بِهِ عَلى هَذا المَوْلى الجَلِيلِ والحَمْدُ لِلَّهِ تَعالى عَلى ذَلِكَ حَيْثُ أوْقَفَنِي سُبْحانَهُ عَلى وجْهِ مُناسَبَةِ هَذِهِ السُّورَةِ لِما قَبْلَها وهو لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ. ثُمَّ ما ذَكَرَهُ مِن عَدَمِ التَّوْقِيفِ في هَذا الوَضْعِ في غايَةِ البُعْدِ كَما يُفْهَمُ مِمّا قَدَّمْناهُ في المُقَدِّماتِ، وسُؤالُ الحَبْرِ وجَوابُ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما لَيْسا نَصًّا في ذَلِكَ، وما ذَكَرَهُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ في أوَّلِ الأُمُورِ الَّتِي فَتَحَ اللَّهُ تَعالى بِها عَلَيْهِ غَيْرُ مُلائِمٍ بِظاهِرِهِ ظاهِرَ سُؤالِ الحَبْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ حَيْثُ أفادَ أنَّ إسْقاطَ البَسْمَلَةِ مِن بَراءَةَ اجْتِهادِيٌّ أيْضًا ويُسْتَفادُ مِمّا ذَكَرَهُ خِلافُهُ، وما ادَّعاهُ مِن أنَّ يُونُسَ سابِعَةُ السَّبْعِ الطُّوَلِ لَيْسَ أمْرًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ هو قَوْلُ مُجاهِدٍ وابْنِ جُبَيْرٍ ورِوايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وفي رِوايَةٍ عِنْدَ الحاكِمِ أنَّها الكَهْفُ، وذَهَبَ جَماعَةٌ كَما قالَ في إتْقانِهِ: إلى أنَّ السَّبْعَ الطُّوَلَ أوَّلُها البَقَرَةُ وآخِرُها بَراءَةُ، واقْتَصَرَ ابْنُ الأثِيرِ في النِّهايَةِ عَلى هَذا، وعَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ السّابِعَةَ الأنْفالُ وبَراءَةُ بِناءً عَلى القَوْلِ بِأنَّهُما سُورَةٌ واحِدَةٌ، وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الفَيْرُوزَأبادِيُّ في قامُوسِهِ، وما ذَكَرَهُ في الأمْرِ الثّانِي يُغْنِي عَنْهُ ما عَلَّلَ بِهِ عُثْمانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. فَقَدْ أخْرَجَ النَّحّاسُ في ناسِخِهِ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: كانَتِ الأنْفالُ وبَراءَةُ يُدْعَيانِ في زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ القَرِينَتَيْنِ؛ فَلِذَلِكَ جَعَلْتُهُما في السَّبْعِ الطُّوَلِ، وما ذَكَرَهُ مِن مُراعاةِ الفَواتِحِ في المُناسَبَةِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ؛ فَإنَّ الجِنَّ والكافِرُونَ والإخْلاصَ مُفْتَتَحاتٌ بِقُلْ مَعَ الفَصْلِ بِعِدَّةِ سُوَرٍ بَيْنَ الأُولى والثّانِيَةِ والفَصْلِ بِسُورَتَيْنِ بَيْنَ الثّانِيَةِ والثّالِثَةِ، وبَعْدَ هَذا كُلِّهِ لا يَخْلُو ما ذَكَرَهُ عَنْ نَظَرٍ كَما لا يَخْفى عَلى المُتَأمِّلِ فَتَأمَّلْ.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ عِندَ رَبِّكَ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَیُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ یَسۡجُدُونَ ۩"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق