الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكم في حَياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتَمْتَعْتُمْ بِها فاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ .
مَعْنى الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّهُ يُقالُ لِلْكُفّارِ يَوْمَ يُعْرَضُونَ عَلى النّارِ: ﴿أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ﴾ .
فَقَوْلُ: يُعْرَضُونَ عَلى النّارِ - قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: مَعْناهُ يُباشِرُونَ حَرَّها، كَقَوْلِ العَرَبِ: عَرَضَهُمُ عَلى السَّيْفِ إذا قَتَلَهم بِهِ، وهو مَعْنًى مَعْرُوفٌ في كَلامِ العَرَبِ.
وَقَدْ ذَكَرَ تَعالى مِثْلَ ما ذَكَرَ هُنا في قَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ ألَيْسَ هَذا بِالحَقِّ﴾ [الأحقاف: ٣٤] وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالعَرْضِ مُباشَرَةُ العَذابِ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿قالُوا بَلى ورَبِّنا قالَ فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [ ٦ ] . وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذابِ النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا﴾ [غافر: ٤٥ - ٤٦]؛ لِأنَّهُ عَرْضُ عَذابٍ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: مَعْنى عَرْضِهِمْ عَلى النّارِ هو تَقْرِيبُهم مِنها، والكَشْفُ لَهم عَنْها حَتّى يَرَوْها، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَرَأى المُجْرِمُونَ النّارَ﴾ الآيَةَ [الكهف: ٥٣] . وقالَ تَعالى: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ [الفجر: ٢٣] .
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ في الكَلامِ قَلْبٌ، وهو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ. قالُوا: والمَعْنى: ويَوْمَ تُعْرَضُ النّارُ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا. قالُوا: وهو كَقَوْلِ العَرَبِ: عَرَضْتُ النّاقَةَ عَلى الحَوْضِ. يَعْنُونَ عَرَضْتُ الحَوْضَ عَلى النّاقَةِ، ويَدُلُّ لِهَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضًا﴾ [الكهف: ١٠٠] .
(p-٢٢٨)قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: هَذا النَّوْعُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنَ القَلْبِ في الآيَةِ، كَقَلْبِ الفاعِلِ مَفْعُولًا، والمَفْعُولِ فاعِلًا، ونَحْوِ ذَلِكَ - اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَماءُ العَرَبِيَّةِ، فَمَنَعَهُ البَلاغِيُّونَ إلّا في التَّشْبِيهِ، فَأجازُوا قَلْبَ المُشَبَّهِ مُشَبَّهًا بِهِ والمُشَبَّهِ بِهِ مُشَبَّهًا بِشَرْطِ أنْ يَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نُكْتَةً وسِرًّا لَطِيفًا، كَما هو المَعْرُوفُ عِنْدَهم في مَبْحَثِ التَّشْبِيهِ المَقْلُوبِ.
وَأجازَهُ كَثِيرٌ مِن عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ.
والَّذِي يَظْهَرُ لَنا أنَّهُ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ نَطَقَتْ بِهِ العَرَبُ في لُغَتِها، إلّا أنَّهُ يُحْفَظُ ما سَمِعَ مِنهُ، ولا يُقاسُ عَلَيْهِ، ومِن أمْثِلَتِهِ في التَّشْبِيهِ قَوْلُ الرّاجِزِ:
؎وَمَنهَلٌ مُغْبَرَّةٌ أرْجاؤُهُ كَأنَّ لَوْنَ أرْضِهِ سَماؤُهُ
أيْ كَأنَّ سَماءَهُ لَوْنُ أرْضِهِ، وقَوْلُ الآخَرِ:
؎وَبَدا الصَّباحُ كَأنَّ غُرَّتَهُ ∗∗∗ وجْهُ الخَلِيفَةِ حِينَ يُمْتَدَحَ
لِأنَّ أصْلَ المُرادِ تَشْبِيهُ وجْهِ الخَلِيفَةِ بِغُرَّةِ الصَّباحِ، فَقَلَبَ التَّشْبِيهَ لِيُوهِمَ أنَّ الفَرْعَ أقْوى مِنَ الأصْلِ في وجْهِ الشَّبَهِ.
قالُوا: ومِن أمْثِلَتِهِ في القُرْآنِ ﴿وَآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ﴾ [القصص: ٧٦]؛ لِأنَّ العُصْبَةَ مِنَ الرِّجالِ هي الَّتِي تَنُوءُ بِالمَفاتِيحِ، أيْ تَنْهَضُ بِها بِمَشَقَّةٍ وجُهْدٍ لِكَثْرَتِها وثِقَلِها، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْباءُ﴾ [القصص: ٦٦] . أيْ عَمُوا عَنْها. ومِن أمْثِلَتِهِ في كَلامِ العَرَبِ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
؎كَأنَّ أوْبَ ذِراعَيْها إذا عَرِقَتْ ∗∗∗ وقَدْ تَلَفَّعَ بِالقَوْرِ العَساقِيلِ
لِأنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: تَلَفَّعَ لَبِسَ اللِّفاعَ وهو اللِّحافُ، والقَوْرُ: الحِجارَةُ العِظامُ، والعَساقِيلُ: السَّرابُ.
والكَلامُ مَقْلُوبٌ؛ لِأنَّ القَوْرَ هي الَّتِي تَلْتَحِفُ بِالعَساقِيلِ لا العَكْسُ، كَما أوْضَحَهُ لَبِيدٌ في مُعَلَّقَتِهِ بِقَوْلِهِ:
؎فَبِتِلْكَ إذْ رَقَصَ اللَّوامِعُ بِالضُّحى ∗∗∗ واجْتابَ أرْدِيَةَ السَّرابِ إكامُها
فَصَرَّحَ بِأنَّ الإكامَ الَّتِي هي الحِجارَةُ اجْتابَتْ، أيْ لَبِسَتْ، أرْدِيَةَ السَّرابِ.
والأرْدِيَةُ جَمْعُ رِداءٍ، وهَذا النَّوْعُ مِنَ القَلْبِ وإنْ أجازَهُ بَعْضُهم فَلا يَنْبَغِي حَمْلُ الآيَةِ (p-٢٢٩)عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ، ولا دَلِيلَ عَلَيْهِ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ.
وَظاهِرُ الآيَةِ جارٍ عَلى الأُسْلُوبِ العَرَبِيِّ الفَصِيحِ، كَما أوْضَحَهُ أبُو حَيّانَ في البَحْرِ المُحِيطِ.
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكم في حَياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتَمْتَعْتُمْ بِها﴾ قَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ: أأذْهَبْتُمْ بِهَمْزَتَيْنِ، وهُما عَلى أُصُولِهِما في ذَلِكَ.
فابْنُ كَثِيرٍ يُسَهِّلُ الثّانِيَةَ بِدُونِ ألْفِ إدْخالٍ بَيْنَ الهَمْزَتَيْنِ.
وَهِشامٌ يُحَقِّقُها ويُسَهِّلُها مَعَ ألْفِ الإدْخالِ. وابْنُ ذَكْوانَ يُحَقِّقُها مِن غَيْرِ إدْخالٍ.
وَقَرَأهُ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكم بِهَمْزَةٍ واحِدَةٍ عَلى الخَبَرِ مِن غَيْرِ اسْتِفْهامٍ.
واعْلَمْ أنَّ لِلْعُلَماءِ كَلامًا كَثِيرًا في هَذِهِ الآيَةِ قائِلِينَ: إنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَنْبَغِي التَّقَشُّفُ والإقْلالُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالمَآكِلِ والمَشارِبِ والمَلابِسِ، ونَحْوِ ذَلِكَ.
وَإنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ خَوْفًا مِنهُ أنْ يَدْخُلَ في عُمُومِ مَن يُقالُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ: ﴿أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكم في حَياتِكُمُ الدُّنْيا﴾ الآيَةَ. والمُفَسِّرُونَ يَذْكُرُونَ هُنا آثارًا كَثِيرَةً في ذَلِكَ، وأحْوالِ أهْلِ الصُّفَّةِ وما لاقَوْهُ مِن شِدَّةِ العَيْشِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ: إنْ شاءَ اللَّهُ في مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ هو أنَّها في الكُفّارِ، ولَيْسَتْ في المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ بِاللَّذّاتِ الَّتِي أباحَها اللَّهُ لَهم؛ لِأنَّهُ تَعالى ما أباحَها لَهم لِيُذْهِبَ بِها حَسَناتِهِمْ.
وَإنَّما قُلْنا: إنَّ هَذا هو التَّحْقِيقُ؛ لِأنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ دالّانِ عَلَيْهِ، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ﴾ الآيَةَ [النساء: ٥٩] .
أمّا كَوْنُ الآيَةِ في الكُفّارِ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعالى بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ﴾ الآيَةَ.
والقُرْآنُ والسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ قَدْ دَلّا عَلى أنَّ الكافِرَ إنْ عَمِلَ عَمَلًا صالِحًا مُطابِقًا لِلشَّرْعِ، مُخْلِصًا فِيهِ لِلَّهِ، كالكافِرِ الَّذِي يَبَرُّ والِدَيْهِ، ويَصِلُ الرَّحِمَ ويَقْرِي الضَّيْفَ، ويُنَفِّسُ عَنِ المَكْرُوبِ، ويُعِينُ المَظْلُومَ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وجْهَ اللَّهِ - يُثابُ بِعَمَلِهِ في دارِ الدُّنْيا خاصَّةً بِالرِّزْقِ (p-٢٣٠)والعافِيَةِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، ولا نَصِيبَ لَهُ في الآخِرَةِ.
فَمِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم فِيها وهم فِيها لا يُبْخَسُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلّا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: ١٥ - ١٦] . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنها وما لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠] .
وَقَدْ قَيَّدَ تَعالى هَذا الثَّوابَ الدُّنْيَوِيَّ المَذْكُورَ في الآياتِ بِمَشِيئَتِهِ وإرادَتِهِ، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَن نُرِيدُ﴾ ﴿ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: ١٨] .
وَقَدْ ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ أنَسٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً؛ يُعْطى بِها في الدُّنْيا ويُجْزى بِها في الآخِرَةِ، وأمّا الكافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَناتِهِ ما عَمِلَ بِها لِلَّهِ في الدُّنْيا، حَتّى إذا أفْضى إلى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يَجْزِي بِها» . هَذا لَفَظُ مُسْلِمٍ في صَحِيحِهِ.
وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ الكافِرَ إذا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ بِها طُعْمَةً في الدُّنْيا، وأمّا المُؤْمِنُ فَإنَّ اللَّهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَناتِهِ في الآخِرَةِ، ويُعْقِبُهُ رِزْقًا في الدُّنْيا عَلى طاعَتِهِ» ا هـ.
فَهَذا الحَدِيثُ الثّابِتُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأنَّ الكافِرَ يُجازى بِحَسَناتِهِ في الدُّنْيا فَقَطْ، وأنَّ المُؤْمِنُ يُجازى بِحَسَناتِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ مَعًا، وبِمُقْتَضى ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ تَعْيِينًا لا مَحِيصَ عَنْهُ أنَّ الَّذِي أذْهَبَ طَيِّباتِهِ في الدُّنْيا واسْتَمْتَعَ بِها هو الكافِرُ؛ لِأنَّهُ لا يُجْزى بِحَسَناتِهِ إلّا في الدُّنْيا خاصَّةً.
وَأمّا المُؤْمِنُ الَّذِي يُجْزى بِحَسَناتِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ مَعًا - فَلَمْ يُذْهِبْ طَيِّباتِهِ في الدُّنْيا؛ لِأنَّ حَسَناتِهِ مُدَّخَرَةٌ لَهُ في الآخِرَةِ، مَعَ أنَّ اللَّهَ تَعالى يُثِيبُهُ بِها في الدُّنْيا، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ ﴿وَيَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢ - ٣] فَجَعَلَ المَخْرَجَ مِنَ الضِّيقِ لَهُ ورَزَقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ - ثَوابًا في الدُّنْيا، ولَيْسَ يَنْقُصُ أجْرَ تَقْواهُ في الآخِرَةِ.
والآياتُ بِمِثْلِ هَذا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وعَلى كُلِّ حالٍ فاللَّهُ - جَلَّ وعَلا - أباحَ لِعِبادِهِ عَلى (p-٢٣١)لِسانِ نَبِيِّهِ ﷺ الطَّيِّباتِ في الحَياةِ الدُّنْيا، وأجازَ لَهُمُ التَّمَتُّعَ بِها، ومَعَ ذَلِكَ جَعَلَها خاصَّةً بِهِمْ في الآخِرَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هي لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [الأعراف: ٣٢] .
فَدَلَّ هَذا النَّصُّ القُرْآنِيُّ أنَّ تَمَتُّعَ المُؤْمِنِينَ بِالزِّينَةِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ في الحَياةِ الدُّنْيا لَمْ يَمْنَعْهم مِنِ اخْتِصاصِهِمْ بِالتَّنَعُّمِ بِذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ، وهو صَرِيحٌ في أنَّهم لَمْ يُذْهِبُوا طَيِّباتِهِمْ في حَياتِهِمُ الدُّنْيا.
وَلا يُنافِي هَذا أنَّ مَن كانَ يُعانِي شِدَّةَ الفَقْرِ في الدُّنْيا كَأصْحابِ الصُّفَّةِ، يَكُونُ لَهم أجْرٌ زائِدٌ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ المُؤْمِنِينَ يُؤْجَرُونَ بِما يُصِيبُهم في الدُّنْيا مِنَ المَصائِبِ والشَّدائِدِ، كَما هو مَعْلُومٌ.
والنُّصُوصُ الدّالَّةُ عَلى أنَّ الكافِرَ هو الَّذِي يُذْهِبُ طَيِّباتِهِ في الحَياةِ الدُّنْيا؛ لِأنَّهُ يُجْزى في الدُّنْيا فَقَطْ كالآياتِ المَذْكُورَةِ، وحَدِيثُ أنَسٍ المَذْكُورُ عِنْدَ مُسْلِمٍ - قَدْ قَدَّمْناها مُوَضَّحَةً في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهم مَشْكُورًا﴾ وذَكَرْنا هُناكَ أسانِيدَ الحَدِيثِ المَذْكُورِ وألْفاظَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿فاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ﴾ أيْ عَذابَ الهَوانِ، وهو الذُّلُّ والصَّغارُ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾، الباءُ في قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ - سَبَبِيَّةٌ، وما مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ تُجْزُونَ عَذابَ الهُونِ بِسَبَبِ كَوْنِكم مُسْتَكْبِرِينَ في الأرْضِ، وكَوْنِكم فاسِقِينَ.
وَما دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِن كَوْنِ الِاسْتِكْبارِ في الأرْضِ والفِسْقِ مِن أسْبابِ عَذابِ الهُونِ، وهو عَذابُ النّارِ - جاءَ مُوَضَّحًا في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزمر: ٦٠] . وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأمّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النّارُ﴾ الآيَةَ [السجدة: ٢٠] .
وَقَدْ قَدَّمْنا النَّتائِجَ الوَخِيمَةَ النّاشِئَةَ عَنِ التَّكَبُّرِ في سُورَةِ ”الأعْرافِ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيها﴾ الآيَةَ [الأعراف: ١٣] .
(p-٢٣٢)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ مَعَ أنَّهُ مِنَ المَعْلُومِ أنَّهم لا يَسْتَكْبِرُونَ في الأرْضِ إلّا اسْتِكْبارًا مُتَلَبِّسًا بِغَيْرِ الحَقِّ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] ومَعْلُومٌ أنَّهُ لا يَطِيرُ إلّا بِجَناحَيْهِ، وقَوْلِهِ: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩] . ومَعْلُومٌ أنَّهم لا يَكْتُبُونَهُ إلّا بِأيْدِيهِمْ، ونَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، وهو أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ نَزَلَ بِهِ القُرْآنُ.
{"ayah":"وَیَوۡمَ یُعۡرَضُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَیِّبَـٰتِكُمۡ فِی حَیَاتِكُمُ ٱلدُّنۡیَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡیَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق