الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ .
قَدْ قَدَّمْنا في تَرْجَمَةِ هَذا الكِتابِ المُبارَكِ أنَّ مِن أنْواعِ البَيانِ الَّتِي تَضَمَّنَها بَيانُ الإجْمالِ الواقِعِ بِسَبَبِ الإبْهامِ في صِلَةِ مَوْصُولٍ، وذَكَرْنا أنَّ مِن أمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، لِأنَّ جُمْلَةَ: ﴿اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ صِلَةُ المَوْصُولِ الَّذِي هو ما. وقَدْ قُلْنا في التَّرْجَمَةِ المَذْكُورَةِ: فَإنَّهُ هُنا أبْهَمَ هَذا الَّذِي أخْفاهُ ﷺ في نَفْسِهِ وأبْداهُ اللَّهُ، ولَكِنَّهُ أشارَ إلى أنَّ المُرادَ بِهِ زَواجُهُ ﷺ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - حَيْثُ أوْحى إلَيْهِ ذَلِكَ، وهي في ذَلِكَ الوَقْتِ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حارِثَةَ؛ لِأنَّ زَواجَهُ إيّاها هو الَّذِي أبْداهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنها وطَرًا زَوَّجْناكَها﴾ [الأحزاب: ٣٧]، وهَذا هو التَّحْقِيقُ في مَعْنى الآيَةِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ، وهو اللّائِقُ بِجَنابِهِ - ﷺ .
وَبِهِ تَعْلَمُ أنَّ ما يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ مِن أنَّ ما أخْفاهُ في نَفْسِهِ ﷺ وأبْداهُ اللَّهُ وُقُوعُ (p-٢٤٠)زَيْنَبَ في قَلْبِهِ ومَحَبَّتُهُ لَها، وهي تَحْتَ زَيْدٍ، وأنَّها سَمِعَتْهُ قالَ: «سُبْحانَ مُقَلِّبَ القُلُوبِ» إلى آخِرِ القِصَّةِ، كُلُّهُ لا صِحَّةَ لَهُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِدِ مِن ذَلِكَ شَيْئًا، مَعَ أنَّهُ صَرَّحَ بِأنَّهُ مُبْدِي ما أخْفاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِنا في تَرْجَمَةِ هَذا الكِتابِ المُبارَكِ.
وَقالَ القُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: واخْتَلَفَ النّاسُ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، فَذَهَبَ قَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ وجَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ مِنهُمُ الطَّبَرَيُّ وغَيْرُهُ إلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ وقَعَ مِنهُ اسْتِحْسانٌ لِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وهي في عِصْمَةِ زَيْدٍ، وكانَ حَرِيصًا عَلى أنْ يُطَلِّقَها زَيْدٌ فَيَتَزَوَّجَها هو، إلى أنْ قالَ: وهَذا الَّذِي كانَ يُخْفِي في نَفْسِهِ، ولَكِنَّهُ لَزِمَ ما يَجِبُ مِنَ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، ا هـ. ولا شَكَّ أنَّ هَذا القَوْلَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وأنَّهُ غَيْرُ لائِقٍ بِهِ - ﷺ .
وَنَقَلَ القُرْطُبِيُّ نَحْوَهُ عَنْ مُقاتِلٍ، وابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا، وذَكَرَ القُرْطُبِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ أنَّ اللَّهَ أوْحى إلى نَبِيِّهِ ﷺ أنَّ زَيْدًا سَيُطَلِّقُ زَيْنَبَ، وأنَّ اللَّهَ يُزَوِّجُها رَسُولَهُ ﷺ، وبَعْدَ أنْ عَلِمَ هَذا بِالوَحْيِ. قالَ لِزَيْدٍ: ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ . وأنَّ الَّذِي أخْفاهُ في نَفْسِهِ، هو أنَّ اللَّهَ سَيُزَوِّجُهُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، ثُمَّ قالَ القُرْطُبِيُّ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ هَذا القَوْلَ: قالَ عُلَماؤُنا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: وهَذا القَوْلُ أحْسَنُ ما قِيلَ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ. وهو الَّذِي عَلَيْهِ أهْلُ التَّحْقِيقِ مِنَ المُفَسِّرِينَ، والعُلَماءِ الرّاسِخِينَ، كالزُّهْرِيِّ، والقاضِي بَكْرِ بْنِ العَلاءِ القُشَيْرِيِّ، والقاضِي أبِي بَكْرِ بْنِ العَرَبِيِّ وغَيْرِهِمْ، إلى أنْ قالَ: فَأمّا ما رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ هَوى زَيْنَبَ امْرَأةِ زَيْدٍ، ورُبَّما أطْلَقَ بَعْضُ المُجّانِ لَفْظَ عِشْقٍ، فَهَذا إنَّما يَصْدُرُ عَنْ جاهِلٍ بِعِصْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ مِثْلِ هَذا أوْ مُسْتَخِفٍّ بِحُرْمَتِهِ.
قالَ التِّرْمِذِيُّ الحَكِيمُ في نَوادِرِ الأُصُولِ وأسْنَدَ إلى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ قَوْلَهُ: فَعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ جاءَ بِهَذا مِن خِزانَةِ العِلْمِ جَوْهَرًا مِنَ الجَواهِرِ ودُرًّا مِنَ الدُّرَرِ أنَّهُ إنَّما عَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ في أنَّهُ قَدْ أعْلَمَهُ أنَّ سَتَكُونَ هَذِهِ مِن أزْواجِهِ، فَكَيْفَ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِزَيْدٍ: ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾، وأخَذَتْكَ خَشْيَةُ النّاسِ أنْ يَقُولُوا: تَزَوَّجَ امْرَأةَ ابْنِهِ، واللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشاهُ، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
وَقالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: ذَكَرَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ جَرِيرٍ هاهُنا آثارًا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، أحْبَبْنا أنْ نَضْرِبَ عَنْها صَفْحًا لِعَدَمِ صِحَّتِها، فَلا نُورِدُها (p-٢٤١)إلى آخِرِ كَلامِهِ، وفِيهِ كَلامُ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ الَّذِي ذَكَرْنا آنِفًا.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: التَّحْقِيقُ إنْ شاءَ اللَّهُ في هَذِهِ المَسْألَةِ، هو ما ذَكَرْنا أنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلَيْهِ، وهو أنَّ اللَّهَ أعْلَمَ نَبِيَّهُ ﷺ بِأنَّ زَيْدًا يُطَلِّقُ زَيْنَبَ، وأنَّهُ يُزَوِّجُها إيّاهُ ﷺ، وهي في ذَلِكَ الوَقْتِ تَحْتَ زَيْدٍ، فَلَمّا شَكاها زَيْدٌ إلَيْهِ ﷺ قالَ لَهُ: ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتَّقِ اللَّهَ﴾، فَعاتَبَهُ اللَّهُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ بَعْدَ عِلْمِهِ أنَّها سَتَصِيرُ زَوْجَتَهُ هو ﷺ، وخَشِيَ مَقالَةَ النّاسِ أنْ يَقُولُوا: لَوْ أظْهَرَ ما عَلِمَ مِن تَزْوِيجِهِ إيّاها أنَّهُ يُرِيدُ تَزْوِيجَ زَوْجَةِ ابْنِهِ في الوَقْتِ الَّذِي هي فِيهِ في عِصْمَةِ زَيْدٍ.
والدَّلِيلُ عَلى هَذا أمْرانِ:
الأوَّلُ: هو ما قَدَّمْنا مِن أنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَلا قالَ: ﴿وَتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾، وهَذا الَّذِي أبْداهُ اللَّهُ جَلَّ وعَلا هو زَواجُهُ إيّاها في قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنها وطَرًا زَوَّجْناكَها﴾، ولَمْ يُبْدِ جَلَّ وعَلا شَيْئًا مِمّا زَعَمُوهُ أنَّهُ أحَبَّها، ولَوْ كانَ ذَلِكَ هو المُرادُ لَأبْداهُ اللَّهُ تَعالى كَما تَرى.
الأمْرُ الثّانِي: أنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَلا صَرَّحَ بِأنَّهُ هو الَّذِي زَوَّجَهُ إيّاها، وأنَّ الحِكْمَةَ الإلاهِيَّةَ في ذَلِكَ التَّزْوِيجِ هي قِطَعُ تَحْرِيمِ أزْواجِ الأدْعِياءِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنها وطَرًا زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أزْواجِ أدْعِيائِهِمْ﴾ الآيَةَ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِكَيْ لا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ﴾، تَعْلِيلٌ صَرِيحٌ لِتَزْوِيجِهِ إيّاها لِما ذَكَرْنا، وكَوْنُ اللَّهِ هو الَّذِي زَوَّجَهُ إيّاها لِهَذِهِ الحِكْمَةِ العَظِيمَةِ صَرِيحٌ في أنَّ سَبَبَ زَواجِهِ إيّاها لَيْسَ هو مَحَبَّتَهُ لَها الَّتِي كانَتْ سَبَبًا في طَلاقِ زِيدٍ لَها كَما زَعَمُوا، ويُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنها وطَرًا﴾ الآيَةَ؛ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ زَيْدًا قَضى وطَرَهُ مِنها، ولَمْ تَبْقَ لَهُ بِها حاجَةٌ، فَطَلَّقَها بِاخْتِيارِهِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِیۤ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَیۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِی فِی نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِیهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَیۡدࣱ مِّنۡهَا وَطَرࣰا زَوَّجۡنَـٰكَهَا لِكَیۡ لَا یَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ حَرَجࣱ فِیۤ أَزۡوَ ٰجِ أَدۡعِیَاۤىِٕهِمۡ إِذَا قَضَوۡا۟ مِنۡهُنَّ وَطَرࣰاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق