الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يايَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾ ﴿وَحَنانًا مِن لَدُنّا وزَكاةً وكانَ تَقِيًّا﴾ ﴿وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ ولَمْ يَكُنْ جَبّارًا عَصِيًّا﴾ ﴿وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ .
(p-٣٧٨)اعْلَمْ أوَّلًا: أنّا قَدَّمْنا في تَرْجَمَةِ هَذا الكِتابِ المُبارَكِ: أنَّ مِن أنْواعِ البَيانِ الَّتِي تَضَمَّنَها أنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مَعَ بَعْضِ صِفاتِهِ ولَهُ صِفاتٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ في مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإنّا نُبَيِّنُها، وقَدْ مَرَّ فِيهِ أمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ مِن ذَلِكَ، وأكْثَرُها في المَوْصُوفاتِ مِن أسْماءِ الأجْناسِ لا الأعْلامِ، ورُبَّما ذَكَرْنا ذَلِكَ في صِفاتِ الأعْلامِ كَما هُنا فَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بَعْضَ صِفاتِ يَحْيى، وقَدْ ذَكَرَ شَيْئًا مِن صِفاتِهِ أيْضًا في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، وسَنُبَيِّنُ إنْ شاءَ اللَّهُ المُرادَ بِالمَذْكُورِ مِنها هُنا، والمَذْكُورِ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ.
اعْلَمْ أنَّهُ هُنا وصَفَهُ بِأنَّهُ قالَ لَهُ: ﴿يايَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم: ١٢]، ووَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَآتَيْناهُ الحُكْمَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾، فَقَوْلُهُ: ﴿يايَحْيى خُذِ الكِتابَ﴾ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: وقُلْنا لَهُ ﴿يايَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّةٍ﴾، والكِتابُ: التَّوْراةُ، أيْ: خُذِ التَّوْراةَ بِقُوَّةٍ، أيْ: بِجِدٍّ واجْتِهادٍ، وذَلِكَ بِتَفَهُّمِ المَعْنى أوَّلًا حَتّى يَفْهَمَهُ عَلى الوَجْهِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ يَعْمَلَ بِهِ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ، فَيَعْتَقِدَ عَقائِدَهُ، ويُحِلَّ حَلالَهُ، ويُحَرِّمَ حَرامَهُ، ويَتَأدَّبَ بِآدابِهِ، ويَتَّعِظَ بِمَواعِظِهِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن جِهاتِ العَمَلِ بِهِ، وعامَّةُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالكِتابِ هُنا: التَّوْراةُ، وحَكى غَيْرُ واحِدٍ عَلَيْهِ الإجْماعَ، وقِيلَ: هو كِتابٌ أُنْزِلَ عَلى يَحْيى، وقِيلَ: هو اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الكُتُبَ المُقَدَّمَةَ، وقِيلَ: هو صُحُفُ إبْراهِيمَ، والأظْهَرُ قَوْلُ الجُمْهُورِ: إنَّهُ التَّوْراةُ كَما قَدَّمْنا.
وَقَوْلُـهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَآتَيْناهُ الحُكْمَ﴾، أيْ: أعْطَيْناهُ الحُكْمَ، ولِلْعُلَماءِ في المُرادِ بِالحُكْمِ أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ، مَرْجِعُها إلى شَيْءٍ واحِدٍ، وهو أنَّ اللَّهَ أعْطاهُ الفَهْمَ في الكِتابِ، أيْ: إدْراكَ ما فِيهِ والعَمَلَ بِهِ في حالِ كَوْنِهِ صَبِيًّا، قالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾، أيِ: الفَهْمَ والعِلْمَ والجِدَّ والعَزْمَ، والإقْبالَ عَلى الخَيْرِ والإكْبابَ عَلَيْهِ، والِاجْتِهادَ فِيهِ وهو صَغِيرٌ حَدَثٌ، قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ قالَ مَعْمَرٌ: قالَ الصِّبْيانُ لِيَحْيى بْنِ زَكَرِيّا: اذْهَبْ بِنا نَلْعَبُ، فَقالَ: ما لِلَّعِبِ خُلِقْنا فَلِهَذا أنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾، وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾، يَقُولُ تَعالى ذِكْرُهُ: وأعْطَيْناهُ الفَهْمَ بِكِتابِ اللَّهِ في حالِ صِباهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ أسْنانَ الرِّجالِ، وقَدْ حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قالَ حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ قالَ: أخْبَرَنِي مَعْمَرٌ ولَمْ يَذْكُرْهُ عَنْ أحَدٍ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾، قالَ بَلَغَنِي أنَّ الصِّبْيانَ قالُوا لِيَحْيى: اذْهَبْ بِنا نَلْعَبُ، فَقالَ: (p-٣٧٩)ما لِلَّعِبِ خُلِقْنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكَشّافِ: ﴿وَآتَيْناهُ الحُكْمَ﴾، أيِ: الحِكْمَةَ، ومِنهُ قَوْلُ نابِغَةَ ذُبْيانَ:
؎واحْكم كَحُكْمِ فَتاةِ الحَيِّ إذْ نَظَرَتْ إلى حَمامٍ سِراعٍ وارِدِ الثَّمَدِ
وَقالَ أبُو حَيّانَ في البَحْرِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: والحُكْمُ النُّبُوَّةُ، أوْ حُكْمُ الكِتابِ، أوِ الحِكْمَةُ، أوِ العِلْمُ بِالأحْكامِ، أوِ اللُّبُّ وهو العَقْلُ، أوْ آدابُ الخِدْمَةِ، أوِ الفِراسَةُ الصّادِقَةُ، أقْوالٌ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي هو أنَّ الحُكْمَ يُعْلَمُ النّافِعُ والعَمَلُ بِهِ، وذَلِكَ بِفَهْمِ الكِتابِ السَّماوِيِّ فَهْمًا صَحِيحًا، والعَمَلِ بِهِ حَقًّا، فَإنَّ هَذا يَشْمَلُ جَمِيعَ أقْوالِ العُلَماءِ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ، وأصْلُ مَعْنى ”الحِكَمِ“ المَنعُ، والعِلْمُ النّافِعُ، والعَمَلُ بِهِ يَمْنَعُ الأقْوالَ والأفْعالَ مِنَ الخَلَلِ والفَسادِ والنُّقْصانِ.
وَقَوْلُـهُ تَعالى: ﴿صَبِيًّا﴾، أيْ: لَمْ يَبْلُغْ، وهو الظّاهِرُ، وقِيلَ: صَبِيًّا، أيْ: شابًّا لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الكُهُولَةِ ذَكَرَهُ أبُو حَيّانَ وغَيْرُهُ، والظّاهِرُ الأوَّلُ، قِيلَ ابْنُ ثَلاثِ سِنِينَ، وقِيلَ ابْنُ سَبْعٍ، وقِيلَ ابْنُ سَنَتَيْنِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ﴿وَحَنانًا﴾، مَعْطُوفٌ عَلى الحُكْمَ، أيْ: وآتَيْناهُ حَنانًا مِن لَدُنّا، والحَنانُ: هو ما جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، والعَطْفِ والشَّفَقَةِ، وإطْلاقُ الحَنانِ عَلى الرَّحْمَةِ والعَطْفِ مَشْهُورٌ في كَلامِ العَرَبِ، ومِنهُ قَوْلُهم: حَنانَكَ وحَنانَيْكَ يا رَبِّ، بِمَعْنى رَحْمَتَكَ، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
؎أبِنْتَ الحارِثِ المَلِكِ بْنِ عَمْرٍو ∗∗∗ لَهُ مُلْكُ العِراقِ إلى عُمانِ
؎وَيَمْنَحُها بَنُو شَمَجى بْنِ جَرْمٍ ∗∗∗ مَعِيزَهُمُ حَنانَكَ ذا الحَنانِ
يَعْنِي: رَحْمَتَكَ يا رَحْمَنُ، وقَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ:
؎أبا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا حَنانَيْكَ ∗∗∗ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِن بَعْضِ
وَقَوْلُ مُنْذِرِ بْنِ دِرْهَمٍ الكَلْبِيِّ:
؎وَأحْدَثُ عَهْدٍ مِن أمِينَةَ نَظْرَةٌ ∗∗∗ عَلى جانِبِ العَلْياءِ إذْ أنا واقِفُ
؎فَقالَتْ حَنانٌ ما أتى بِكَ هاهُنا ∗∗∗ أذُو نَسَبٍ أمْ أنْتَ بِالحَيِّ
عارِفُ فَقَوْلُهُ ”حَنانٌ“ أيْ: أمْرِي حَنانٌ، أيْ رَحْمَةٌ لَكَ، وعَطْفٌ وشَفَقَةٌ عَلَيْكَ (p-٣٨٠)وَقَوْلُ الحُطَيْئَةِ أوْ غَيْرِهِ:
تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَداكَ المَلِيكُ فَإنَّ لِكُلِّ مَقامٍ مَقالا وقَوْلُـهُ تَعالى: ﴿مِن لَدُنّا﴾، أيْ: مِن عِنْدِنا، وأصَحُّ التَّفْسِيراتِ في قَوْلِهِ ”وَزَكاةً“ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، أيْ: أوْ أعْطَيْناهُ زَكاةً، أيْ: طَهارَةً مِن أدْرانِ الذُّنُوبِ والمَعاصِي بِالطّاعَةِ، والتَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ بِما يُرْضِيهِ: وقَدْ قَدَّمْنا في سُورَةِ ”الكَهْفِ“ الآياتِ الدّالَّةَ عَلى إطْلاقِ الزَّكاةِ في القُرْآنِ بِمَعْنى الطَّهارَةِ، فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا.
وَقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ ”وَزَكاةً“ الزَّكاةُ: التَّطْهِيرُ والبَرَكَةُ والتَّنْمِيَةُ في وُجُوهِ الخَيْرِ، أيْ: جَعَلْناهُ مُبارَكًا لِلنّاسِ يَهْدِيهِمْ، وقِيلَ المَعْنى: زَكَّيْناهُ بِحُسْنِ الثَّناءِ عَلَيْهِ كَما يُزَكِّي الشُّهُودُ إنْسانًا، وقِيلَ ”زَكاةً“ صَدَقَةً عَلى أبَوَيْهِ، قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ انْتَهى كَلامُ القُرْطُبِيِّ، وهو خِلافُ التَّحْقِيقِ في مَعْنى الآيَةِ، والتَّحْقِيقُ فِيهِ إنْ شاءَ اللَّهُ هو ما ذَكَرْنا، مِن أنَّ المَعْنى: وأعْطَيْناهُ زَكاةً، أيْ: طَهارَةً مِنَ الذُّنُوبِ والمَعاصِي بِتَوْفِيقِنا إيّاهُ لِلْعَمَلِ بِما يُرْضِي اللَّهَ تَعالى، وقَوْلُ مَن قالَ مِنَ العُلَماءِ: بِأنَّ المُرادَ بِالزَّكاةِ في الآيَةِ العَمَلُ الصّالِحُ، راجِعٌ إلى ما ذَكَرْنا؛ لِأنَّ العَمَلَ الصّالِحَ هو الَّذِي بِهِ الطَّهارَةُ مِنَ الذُّنُوبِ والمَعاصِي.
وَقَوْلُـهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَكانَ تَقِيًّا﴾، أيْ: مُمْتَثِلًا لِأوامِرِ رَبِّهِ مُجْتَنِبًا كُلَّ ما نَهى عَنْهُ، ولِذا لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ، ولَمْ يُلِمَّ بِها، قالَهُ القُرْطُبِيُّ وغَيْرُهُ عَنْ قَتادَةَ وغَيْرِهِ، وفي نَحْوِ ذَلِكَ أحادِيثُ مَرْفُوعَةٌ، والظّاهِرُ أنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ مَرْفُوعًا، إمّا بِانْقِطاعٍ، وإمّا بِعَنْعَنَةِ مُدَلِّسٍ: وإمّا بِضَعْفِ واوٍ، كَما أشارَ لَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وغَيْرُهُ، وقَدْ قَدَّمْنا مَعْنى ”التَّقْوى“ مِرارًا وأصْلُ مادَّتِها في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ.
وَقَوْلُـهُ تَعالى: ﴿وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ﴾ [مريم: ١٤]، البَرُّ بِالفَتْحِ هو فاعِلُ البِرِّ بِالكَسْرِ كَثِيرًا أيْ: وجَعَلْناهُ كَثِيرَ البِرِّ بِوالِدَيْهِ، أيْ: مُحْسِنًا إلَيْهِما، لَطِيفًا بِهِما، لَيِّنَ الجانِبِ لَهُما، وقَوْلُـهُ ”وَبَرًّا“ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ ”تَقِيًّا“، وقَوْلُهُ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ جَبّارًا عَصِيًّا﴾، أيْ: لَمْ يَكُنْ مُسْتَكْبِرًا عَنْ طاعَةِ رَبِّهِ وطاعَةِ والِدَيْهِ، ولَكِنَّهُ كانَ مُطِيعًا لِلَّهِ، مُتَواضِعًا لِوالِدَيْهِ، قالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، والجَبّارُ: هو كَثِيرُ الجَبْرِ، أيِ: القَهْرِ لِلنّاسِ، والظُّلْمِ لَهم، وكُلُّ مُتَكَبِّرٍ عَلى النّاسِ يَظْلِمُهم: فَهو جَبّارٌ، وقَدْ أُطْلِقَ في القُرْآنِ عَلى شَدِيدِ البَطْشِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٠]، وعَلى مَن يَتَكَرَّرُ مِنهُ القَتْلُ في (p-٣٨١)قَوْلِهِ: ﴿أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إنْ تُرِيدُ إلّا أنْ تَكُونَ جَبّارًا في الأرْضِ﴾ الآيَةَ [القصص: ١٩]، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ”عَصِيًّا“ فَعُولٌ قُلِبَتْ فِيهِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ في الياءِ عَلى القاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ المَشْهُورَةِ: الَّتِي عَقَدَها ابْنُ مالِكِ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ:
؎إنْ يَسْكُنِ السّابِقُ مِن واوٍ ويا ∗∗∗ واتَّصَلا ومِن عُرُوضٍ عَرِيا
؎فَياءُ الواوِ اقْلِبَنَّ مُدْغِما ∗∗∗ وشَذَّ مُعْطًى غَيْرُ ما قَدْ رُسِما
فَأصْلُ ”عَصِيًّا“ عَلى هَذا ”عَصُويًا“ كَصَبُورٍ، أيْ: كَثِيرَ العِصْيانِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أصْلُهُ فَعِيلًا وهي مِن صِيَغِ المُبالَغَةِ أيْضًا، قالَهُ أبُو حَيّانَ في البَحْرِ.
وَقَوْلُـهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: ١٥]، قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وسَلامٌ عَلَيْهِ، أيْ: أمانٌ لَهُ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والأظْهَرُ عِنْدِي أنَّها التَّحِيَّةُ المُتَعارَفَةُ، فَهي أشْرَفُ مِنَ الأمانِ؛ لِأنَّ الأمانَ مُتَحَصَّلٌ لَهُ بِنَفْيِ العِصْيانِ عَنْهُ وهو أقَلُّ دَرَجاتِهِ، وإنَّما الشَّرَفُ في أنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وحَيّاهُ في المَواطِنِ الَّتِي الإنْسانُ فِيها في غايَةِ الضَّعْفِ والحاجَةِ، وقِلَّةِ الحِيلَةِ والفَقْرِ إلى اللَّهِ تَعالى عَظِيمِ الحَوْلِ.
انْتَهى كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ بِواسِطَةِ نَقْلِ القُرْطُبِيِّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، ومَرْجِعُ القَوْلَيْنِ إلى شَيْءٍ واحِدٍ؛ لِأنَّ مَعْنى سَلامٌ، التَّحِيَّةُ، الأمانُ، والسَّلامَةُ مِمّا يَكْرَهُ، وقَوْلُ مَن قالَ: هو الأمانُ، يَعْنِي أنَّ ذَلِكَ الأمانَ مِنَ اللَّهِ، والتَّحِيَّةُ مِنَ اللَّهِ مَعْناها الأمانُ والسَّلامَةُ مِمّا يَكْرَهُ، والظّاهِرُ المُتَبادَرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾، تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِيَحْيى ومَعْناها الأمانُ والسَّلامَةُ، وقَوْلَـهُ: ﴿وَسَلامٌ عَلَيْهِ﴾ مُبْتَدَأٌ، وسَوَّغَ الِابْتِداءَ بِهِ وهو نَكِرَةٌ أنَّهُ في مَعْنى الدُّعاءِ، وإنَّما خَصَّ هَذِهِ الأوْقاتِ الثَّلاثَةَ بِالسَّلامِ الَّتِي هي وقْتُ وِلادَتِهِ، ووَقْتُ مَوْتِهِ، ووَقْتُ بَعْثِهِ، في قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ﴾ الآيَةَ؛ لِأنَّها أوْحَشُ مِن غَيْرِها، قالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أوْحَشُ ما يَكُونُ المَرْءُ في ثَلاثَةِ مَواطِنَ: يَوْمَ يُولَدُ فَيَرى نَفْسَهُ خارِجًا مِمّا كانَ فِيهِ ويَوْمَ يَمُوتُ فَيَرى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عايَنَهم، ويَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرى نَفْسَهُ في مَحْشَرٍ عَظِيمٍ، قالَ: فَأكْرَمَ اللَّهُ فِيها يَحْيى بْنَ زَكَرِيّا فَخَصَّهُ بِالسَّلامِ عَلَيْهِ فِيها، رَواهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ، وذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ بِإسْنادِهِ عَنِ الحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قالَ: إنْ عِيسى ويَحْيى التَقَيا فَقالَ لَهُ عِيسى: اسْتَغْفِرْ لِي، أنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقالَ الآخَرُ: اسْتَغْفِرْ لِي، أنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقالَ عِيسى: أنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، سَلَّمْتُ عَلى نَفْسِي وسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وقَدْ نَقَلَ القُرْطُبِيُّ هَذا الكَلامَ الَّذِي رَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ قالَ: انْتَزَعَ بَعْضُ العُلَماءِ مِن هَذِهِ الآيَةِ في التَّسْلِيمِ فَضْلَ عِيسى بِأنْ قالَ إدْلالُهُ (p-٣٨٢)فِي التَّسْلِيمِ عَلى نَفْسِهِ ومَكانَتُهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى الَّتِي اقْتَضَتْ ذَلِكَ حِينَ قُرِّرَ وحُكِيَ في مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ أعْظَمُ في المَنزِلَةِ مِن أنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولِكُلٍّ وجْهٌ، انْتَهى كَلامُ القُرْطُبِيِّ، والظّاهِرُ أنَّ سَلامَ اللَّهِ عَلى يَحْيى في قَوْلِهِ: ﴿وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾ الآيَةَ [مريم: ١٥]، أعْظَمُ مِن سَلامِ عِيسى عَلى نَفْسِهِ في قَوْلِهِ: ﴿والسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أمُوتُ ويَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: ٣٣]، كَما هو ظاهِرٌ.
{"ayah":"یَـٰیَحۡیَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَـٰبَ بِقُوَّةࣲۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِیࣰّا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق