الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ﴾ "ذلِكَ" رُفِعَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ. وَإِنْ شِئْتَ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ النَّبَأُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ. (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) قَالَ قَتَادَةُ: الْقَائِمُ مَا كَانَ خَاوِيًا عَلَى عُرُوشِهِ، وَالْحَصِيدُ مَا لَا أَثَرَ لَهُ. وَقِيلَ: الْقَائِمُ الْعَامِرُ، وَالْحَصِيدُ الْخَرَابُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَائِمٌ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَحَصِيدٌ مُسْتَأْصَلٌ، يَعْنِي مَحْصُودًا كَالزَّرْعِ إِذَا حُصِدَ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَالنَّاسُ فِي قَسْمِ الْمَنِيَّةِ بَيْنَهُمْ ... كَالزَّرْعِ مِنْهُ قَائِمٌ وَحَصِيدُ وَقَالَ آخَرُ [[البيت للطرماح كما في اللسان.]]: إِنَّمَا نَحْنُ مِثْلُ خَامَةِ زَرْعٍ ... فَمَتَى يَأْنِ يَأْتِ مُحْتَصِدُهْ قَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: حَصِيدٌ أَيْ مَحْصُودٌ، وَجَمْعُهُ حَصْدَى وَحِصَادٌ مِثْلَ مَرْضَى وَمِرَاضٍ، قَالَ: يَكُونُ فِيمَنْ يَعْقِلُ حَصْدَى، مِثْلِ قَتِيلِ وَقَتْلَى. (وَما ظَلَمْناهُمْ) أَصْلُ الظُّلْمِ فِي اللُّغَةِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ١ ص ٣٠٩ وما بعدها.]] مُسْتَوْفًى. (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ يُقَالُ: ظَلَمَ إِيَّاهُ (فَما أَغْنَتْ) أَيْ دَفَعَتْ. (عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ، أي يدعون. (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) أَيْ غَيْرَ تَخْسِيرٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ لَبِيَدٌ: فَلَقَدْ بَلِيتُ وَكُلُّ صَاحِبِ جِدَّةٍ ... لِبِلًى يَعُودُ وَذَاكُمُ التَّتْبِيبُ وَالتَّبَابُ الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ مَا زَادَتْهُمْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، أَيْ كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهَا قَدْ خَسَّرَتْهُمْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ. (قَوْلُهُ تَعَالَى:) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) أَيْ كَمَا أَخَذَ هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي كَانَتْ لِنُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ يَأْخُذُ جَمِيعَ الْقُرَى الظَّالِمَةِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ "وَكَذَلِكَ أَخَذَ رَبُّكَ إِذْ أَخَذَ الْقُرَى" وَعَنِ الْجَحْدَرِيِّ أَيْضًا "وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ" كالجماعة "إذ أخذ القرى". قَالَ الْمَهْدَوِيُّ مَنْ قَرَأَ: "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذْ أَخَذَ" فَهُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي إِهْلَاكِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ، وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ مَنْ أَخَذَهُ مِنَ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ إِذْ أَخَذَهُمْ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ مَنْ أَرَادَ إِهْلَاكَهُ مَتَى أَخَذَهُ، فَإِذْ لِمَا مَضَى، أَيْ حِينَ أَخَذَ الْقُرَى، وَإِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أَيْ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ مِثْلُ: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢]. (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أَيْ عُقُوبَتَهُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ مُوجِعَةٌ غَلِيظَةٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" ثُمَّ قَرَأَ "وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى " الْآيَةَ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ أَيْ لَعِبْرَةً وَمَوْعِظَةً. (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ). (ذلِكَ يَوْمٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. (مَجْمُوعٌ) مِنْ نَعْتِهِ. (لَهُ النَّاسُ) اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ مَجْمُوعُونَ، فَإِنْ قَدَّرْتَ ارْتِفَاعَ "النَّاسُ" بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرَ "مَجْمُوعٌ لَهُ" فَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: مَجْمُوعُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، لِأَنَّ "لَهُ" يَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَالْجَمْعُ الْحَشْرُ، أَيْ يُحْشَرُونَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ. (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أَيْ يَشْهَدُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَيَشْهَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَيْنَ الِاسْمَيْنِ مَعَ غَيْرِهِمَا مِنْ أسماء القيامة في كتاب "التذكرة" وبينا هما والحمد الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما نُؤَخِّرُهُ﴾ أَيْ مَا نُؤَخِّرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أَيْ لِأَجَلٍ سَبَقَ بِهِ قَضَاؤُنَا، وَهُوَ مَعْدُودٌ عِنْدَنَا. (يَوْمَ يَأْتِ) وقرى "يَوْمَ يَأْتِ" لِأَنَّ الْيَاءَ تُحْذَفُ إِذَا كَانَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ، تَقُولُ: لَا أَدْرِ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: قَرَأَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْإِدْرَاجِ، وَحَذْفِهَا فِي الوقف، وروي أن أبيا وابن مسعود قرءا "يَوْمَ يَأْتِي" بِالْيَاءِ فِي الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ "يَوْمَ يَأْتِ" بِغَيْرِ يَاءٍ فِي الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: الْوَجْهُ فِي هَذَا أَلَّا يُوقَفَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُوصَلَ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: لَا تُحْذَفُ الْيَاءُ، وَلَا يُجْزَمُ الشَّيْءُ بِغَيْرِ جَازِمٍ، فَأَمَّا الْوَقْفُ بِغَيْرِ يَاءٍ فَفِيهِ قَوْلٌ لِلْكِسَائِيِّ، قَالَ: لِأَنَّ الْفِعْلَ السَّالِمَ يُوقَفُ عَلَيْهِ كَالْمَجْزُومِ، فَحَذَفَ الْيَاءَ، كَمَا تُحْذَفُ الضَّمَّةُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فَقَدِ احْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ لِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ بِحُجَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا- أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْإِمَامِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ إِنَّهُ مُصْحَفُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِغَيْرِ يَاءٍ. وَالْحُجَّةُ الْأُخْرَى- أَنَّهُ حَكَى أَنَّهَا لُغَةُ هُذَيْلٍ، تَقُولُ: مَا أَدْرِ، قَالَ النَّحَّاسُ: أَمَّا حُجَّتُهُ بِمُصْحَفِ عُثْمَانَ رضي الله عنه فشى يَرُدُّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَأَلْتُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقِيلَ لِي ذَهَبَ، وَأَمَّا حُجَّتُهُ بِقَوْلِهِمْ: "مَا أَدْرِ" فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ هَذَا الْحَذْفَ قَدْ حَكَاهُ النَّحْوِيُّونَ الْقُدَمَاءُ، وَذَكَرُوا عِلَّتَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ فِي حَذْفِ الْيَاءِ: كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمًا ... جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا أَيْ تُعْطِي. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: لَا أَدْرِ، فَتَحْذِفُ الْيَاءَ وَتَجْتَزِئُ بِالْكَسْرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْأَجْوَدُ فِي النَّحْوِ إِثْبَاتُ الْيَاءِ، قَالَ: وَالَّذِي أَرَاهُ اتِّبَاعَ الْمُصْحَفِ وَإِجْمَاعَ الْقُرَّاءِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. (لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الْأَصْلُ تَتَكَلَّمُ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا. وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ لَا تَتَكَلَّمُ فِيهِ نَفْسٌ إِلَّا بِالْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُمْ مُلْجَئُونَ إِلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَكَلَّمُ بِحُجَّةٍ وَلَا شَفَاعَةٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ لَهُمْ فِي الْمَوْقِفِ وَقْتًا يُمْنَعُونَ فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَكْثَرُ مَا يَسْأَلُ عَنْهَا أَهْلُ الْإِلْحَادِ فِي الدِّينِ. فَيَقُولُ لِمَ قَالَ: "لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ" وَ "هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ"» [المرسلات: ٣٦]. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ ذِكْرِ الْقِيَامَةِ: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ﴾[[راجع ج ١٥ ص ٧٣ فما بعد، في الأصول "يَتَلاوَمُونَ" وليست في المعنى المراد هنا.]] [الصافات: ٢٧]. وَقَالَ: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها﴾[[راجع ج ١٠ ص ١٩٣.]] [النحل: ١١١]. وقال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾[[راجع ج ١٥ ص ٧٣ فما بعد، في الأصول "يَتَلاوَمُونَ" وليست في المعنى المراد هنا.]] [الصافات: ٢٤]. وقال: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ﴾[[راجع ج ١٧ ص ١٧٣.]] [الرحمن: ٣٩]. وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ تَجِبُ لَهُمْ وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْإِقْرَارِ بِذُنُوبِهِمْ، وَلَوْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَطَرْحِ بَعْضِهِمُ الذُّنُوبَ عَلَى بَعْضٍ، فَأَمَّا التَّكَلُّمُ وَالنُّطْقُ بِحُجَّةٍ لَهُمْ فَلَا، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلَّذِي يُخَاطِبُكَ كَثِيرًا، وَخِطَابُهُ فَارِغٌ عن الْحُجَّةِ: مَا تَكَلَّمْتَ بِشَيْءٍ، وَمَا نَطَقْتَ بِشَيْءٍ، فَسُمِّيَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلَا حُجَّةٍ فِيهِ لَهُ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ. وَقَالَ: قَوْمٌ: ذَلِكَ الْيَوْمُ طَوِيلٌ، وَلَهُ مَوَاطِنُ وَمَوَاقِفُ فِي بَعْضِهَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْكَلَامِ، وَفِي بَعْضِهَا يُطْلَقُ لَهُمُ الْكَلَامُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أَيْ مِنَ الْأَنْفُسِ، أو من الناس، وقد ذكرهم قَوْلِهِ: "يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ". وَالشَّقِيُّ الَّذِي كُتِبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ. وَالسَّعِيدُ الَّذِي كُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّعَادَةُ، قَالَ لَبِيَدٌ: فَمِنْهُمْ سَعِيدٌ آخِذٌ بِنَصِيبِهِ ... وَمِنْهُمْ شَقِيٌّ بِالْمَعِيشَةِ قَانِعُ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ "فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ" سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَعَلَامَ نَعْمَلُ؟ عَلَى شي قد فرغ منه، أو على شي لم يفرغ منه؟ فقال: "بل على شي قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ يَا عُمَرُ وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ". قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْأَعْرَافِ" [[راجع ج ٧ ص ٣١٤.]]. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا﴾ ابْتِدَاءٌ. (فَفِي النَّارِ) فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَكَذَا (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الزَّفِيرُ مِنَ الصَّدْرِ. وَالشَّهِيقُ مِنَ الْحَلْقِ، وَعَنْهُ أَيْضًا ضِدُّ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الزَّفِيرُ مِنْ شِدَّةِ الْأَنِينِ، وَالشَّهِيقُ مِنَ الْأَنِينِ الْمُرْتَفِعِ جِدًّا، قَالَ: وَزَعَمَ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الزَّفِيرَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ صَوْتِ الْحَمِيرِ فِي النَّهِيقِ، وَالشَّهِيقَ بِمَنْزِلَةِ [آخِرِ] صَوْتِ الْحِمَارِ فِي النَّهِيقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَكْسَهُ، قَالَ: الزَّفِيرُ الصَّوْتُ الشَّدِيدِ، وَالشَّهِيقُ الصَّوْتُ الضَّعِيفُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: الزَّفِيرُ مِثْلُ أَوَّلِ نَهِيقِ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقُ مِثْلُ آخِرِهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَوْتِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ [[هو العجاج والبيت من قصيدة له يصف فيها المفازة مطلعها: قاتم الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقْ ... مُشْتَبِهِ الْأَعْلَامِ لَمَّاعِ الْخَفَقْ]]: حَشْرَجَ فِي الْجَوْفِ سَحِيلًا [[في ع: في الصدر، والسحيل: الصوت الذي يطور في صدر الحمار.]] أَوْ شَهَقْ ... حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهَقْ وَقِيلَ: الزَّفِيرُ إِخْرَاجُ النَّفَسِ، وَهُوَ أَنْ يَمْتَلِئَ الْجَوْفُ غَمًّا فَيَخْرُجُ بِالنَّفَسِ، وَالشَّهِيقُ رَدُّ النَّفَسِ وَقِيلَ: الزَّفِيرُ تَرْدِيدُ النَّفَسِ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّفْرِ وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى الظَّهْرِ لِشِدَّتِهِ، وَالشَّهِيقُ النَّفَسُ الطَّوِيلُ الْمُمْتَدُّ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَبَلٌ شَاهِقٌ، أَيْ طَوِيلٌ [[قال في النهاية: شاهق عال.]]. وَالزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ مِنْ أَصْوَاتِ الْمَحْزُونِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ﴾ "مَا دامَتِ" فِي مَوْضِعِ نصب على الظرف، أي دوام السموات وَالْأَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقْتَ ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا، فَقَالَتْ. طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ: الْمَعْنَى مَا دامت سموات الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَرْضُهُمَا وَالسَّمَاءُ كُلُّ مَا عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ، وَالْأَرْضُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَدَمُكَ، وَفِي التَّنْزِيلِ: ﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ﴾[[راجع ج ١٥ ص ٢٧٤.]] [الزمر: ٧٤]. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ الْمَعْهُودَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَأَجْرَى ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِخْبَارِ. عَنْ دَوَامِ الشَّيْءِ وَتَأْبِيدِهِ، كَقَوْلِهِمْ: لَا آتِيكَ مَا جَنَّ لَيْلٌ، أَوْ سَالَ سَيْلٌ، وَمَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَمَا نَاحَ الْحَمَامُ، وما دامت السموات وَالْأَرْضُ، وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا يُرِيدُونَ بِهِ طُولًا مِنْ غَيْرِ نِهَايَةٍ، فَأَفْهَمَهُمُ اللَّهُ تَخْلِيدَ الْكَفَرَةِ بذلك. وإن كان قد أخبر بزوال السموات وَالْأَرْضِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ المخلوقة أصلها من نور العرش، وأن السموات وَالْأَرْضَ فِي الْآخِرَةِ تُرَدَّانِ إِلَى النُّورِ الَّذِي أُخِذَتَا مِنْهُ، فَهُمَا دَائِمَتَانِ أَبَدًا فِي نُورِ الْعَرْشِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ﴾ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ عَشَرَةٍ: الْأُولَى- أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: "فَفِي النَّارِ" كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ تَأْخِيرِ قَوْمٍ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلٌ رَوَاهُ أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ مَنْ شَاءَ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْعَدَدُ لَا الْأَشْخَاصُ، كَقَوْلِهِ: ﴿ما طابَ لَكُمْ﴾[[راجع ج ٥ ص ١٢.]] [النساء: ٣]. وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ "إِلَّا مَنْ شَاءَ أَلَّا يُدْخِلَهُمْ وَإِنْ شَقُوا بِالْمَعْصِيَةِ". الثَّانِي- أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِلْعُصَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِخْرَاجِهِمْ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ النَّارِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: "فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا" عَامًّا فِي الْكَفَرَةِ وَالْعُصَاةِ، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ "خالِدِينَ"، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو سِنَانٍ وَغَيْرُهُمْ. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:" يَدْخُلُ نَاسٌ جَهَنَّمَ حَتَّى إِذَا صَارُوا كَالْحُمَمَةِ [[الحمم: الرماد والفحم وكل ما احترق من النار، والواحدة حمة.]] أُخْرِجُوا مِنْهَا وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ فَيُقَالُ هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ "وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" النِّسَاءِ" [[راجع ج ٥ ص ٣٣٢.]] وَغَيْرِهَا. الثَّالِثُ- أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ، أَيْ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْهُ، وَكَذَلِكَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ مَا ذُكِرَ، وَمَا لَمْ يُذْكَرْ. حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. الرَّابِعُ- قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ" لَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَلَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا "إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ" وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ النَّارَ فَتَأْكُلُهُمْ وَتُفْنِيَهُمْ، ثُمَّ يُجَدِّدُ خَلْقَهُمْ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ خَاصٌّ بِالْكَافِرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَهُ فِي الْأَكْلِ، وَتَجْدِيدِ الْخَلْقِ. الْخَامِسُ- أَنَّ "إِلَّا" بِمَعْنَى "سِوَى" كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: مَا مَعِي رَجُلٌ إِلَّا زَيْدٌ، وَلِي عَلَيْكَ أَلْفَا دِرْهَمٍ إِلَّا الْأَلْفَ الَّتِي لِي عَلَيْكَ [[وعبارة البحر: لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك بعني سوى تلك الألف.]]. قِيلَ: فَالْمَعْنَى مَا دامت السموات وَالْأَرْضُ سِوَى مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الْخُلُودِ. السَّادِسُ- أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْإِخْرَاجِ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْهَا. كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: أَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ أَشَاءَ غَيْرَهُ، وَأَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ لَأَخْرَجَهُمْ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا، ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الزَّجَّاجُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ: وَلِأَهْلِ الْمَعَانِي قَوْلَانِ آخَرَانِ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: "خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ" مِنْ مِقْدَارِ مَوْقِفِهِمْ عَلَى رَأْسِ قُبُورِهِمْ، وَلِلْمُحَاسَبَةِ، وَقَدْرِ مُكْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْبَرْزَخِ، وَالْوُقُوفِ لِلْحِسَابِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ- وُقُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ، وَتَقْدِيرُهُ: "خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ" مِنْ زِيَادَةِ النَّعِيمِ لِأَهْلِ النَّعِيمِ، وَزِيَادَةِ الْعَذَابِ لِأَهْلِ الْجَحِيمِ. قُلْتُ: فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الزِّيَادَةِ مِنَ الْخُلُودِ عَلَى مُدَّةِ كَوْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْمَعْهُودَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَاخْتَارَهُ التِّرْمِذِيُّ [[يلاحظ أنه لم يذكر المصنف السابع ولعله هو هذا.]] الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَيْ خَالِدِينَ فيها مقدار دوام السموات وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ مُدَّةُ الْعَالَمِ، وَلِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقْتٌ يَتَغَيَّرَانِ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ﴾[[راجع ص ٣٨٢ من هذا الجزء]] [إبراهيم: ٤٨] فَخَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآدَمِيِّينَ وَعَامَلَهُمْ، وَاشْتَرَى مِنْهُمْ أنفسهم وأموالهم الجنة، وَعَلَى ذَلِكَ بَايَعَهُمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، فَمَنْ وَفَّى بِذَلِكَ الْعَهْدِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ ذَهَبَ بِرَقَبَتِهِ يخلد في النار بمقدار دوام السموات وَالْأَرْضِ، فَإِنَّمَا دَامَتَا لِلْمُعَامَلَةِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فِي الْجَنَّةِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ وَقَعَ الْجَمِيعُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ﴾[[راجع ج ١٦ ص ١٤٧ وص ٢٨٩.]] [الدخان: ٣٩] فَيَخْلُدُ أَهْلُ الدَّارَيْنِ بِمِقْدَارِ دَوَامِهِمَا، وَهُوَ حَقُّ الرُّبُوبِيَّةِ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ مِنَ الْعَظَمَةِ، ثُمَّ أَوْجَبَ لَهُمُ الْأَبَدَ فِي كِلْتَا الدَّارَيْنِ لِحَقِّ الْأَحَدِيَّةِ، فَمَنْ لَقِيَهُ مُوَحِّدًا لِأَحَدِيَّتِهِ بَقِيَ فِي دَارِهِ أَبَدًا، وَمَنْ لَقِيَهُ مُشْرِكًا بِأَحَدِيَّتِهِ إِلَهًا بَقِيَ فِي السِّجْنِ أَبَدًا، فَأَعْلَمَ اللَّهُ الْعِبَادَ مِقْدَارَ الْخُلُودِ، ثُمَّ قَالَ: "إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ" مِنْ زِيَادَةِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَعْجَزُ الْقُلُوبُ عَنْ إِدْرَاكِهَا لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لَهَا، فَبِالِاعْتِقَادِ دَامَ خُلُودُهُمْ فِي الدَّارَيْنِ أَبَدًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ "إِلَّا" بِمَعْنَى الْوَاوِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَبَعْضُ أَهْلِ النظر وهوالثامن- وَالْمَعْنَى: وَمَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الخلود على مدة دوام السموات وَالْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾[[راجع ج ٢ ص ١٢٨.]] [البقرة: ١٥٠] أَيْ وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقَالَ الشَّاعِرُ [[البيت لعمرو ابن معدى كرب. وقيل هو لحضرمي بن عامر. ويجوز أن تكون "إِلَّا" هنا بمعنى غير. قال سيبويه: كأنه قال وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، فقد نعت "كلا" بها.]]: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرِ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ أَيْ وَالْفَرْقَدَانِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ: وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ تَكُونَ "إِلَّا" بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقَدْ مَضَى فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٢ ص ١٢٨.]] بَيَانُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَمَا شَاءَ رَبُّكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ﴾[[راجع ج ٥ ص ١٠٣.]] [النساء: ٢٢] أي كما قد سلف، وهوالتاسع، الْعَاشِرُ- وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: "إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ" إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي كُلِّ كَلَامٍ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾[[راجع ج ١٦ ص ١٤٧ وص ٢٨٩.]] [الفتح: ٢٧] فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ فِي وَاجِبٍ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ كَذَلِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ شَاءَ رَبُّكَ، فَلَيْسَ يُوصَفُ بِمُتَّصِلٍ وَلَا مُنْقَطِعٍ، وَيُؤَيِّدُهُ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: تَقَدَّمَتْ عَزِيمَةُ الْمَشِيئَةِ من الله تعالى في خلود الْفَرِيقَيْنِ فِي الدَّارَيْنِ، فَوَقَعَ لَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْعَزِيمَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْخُلُودِ، قَالَ: وَهَذَا مِثْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [الفتح: ٢٧] وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهُ حَتْمًا، فَلَمْ يُوجِبِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ خِيَارًا، إِذِ الْمَشِيئَةُ قَدْ تقدمة، بِالْعَزِيمَةِ فِي الْخُلُودِ فِي الدَّارَيْنِ وَالدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَنَحْوُهُ عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقَوْلٌ: حَادِيَ عَشَرَ- وَهُوَ أَنَّ الْأَشْقِيَاءَ هُمُ السُّعَدَاءُ، وَالسُّعَدَاءُ هُمُ الْأَشْقِيَاءُ لَا غَيْرُهُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ، وَبَيَانُهُ أَنَّ "مَا" بِمَعْنَى "مَنْ" اسْتَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي النَّارِ الْمُخَلَّدِينَ فِيهَا الَّذِينَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي الْجَنَّةِ الْمُخَلَّدِينَ فِيهَا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ. وَهُمُ الَّذِينَ وَقَعَ عَلَيْهِمُ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي، كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: "فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ" أَلَّا يُخَلِّدَهُ فِيهَا، وَهُمُ الْخَارِجُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِإِيمَانِهِمْ وَبِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَهُمْ بِدُخُولِهِمُ النَّارَ يُسَمَّوْنَ الْأَشْقِيَاءَ، وَبِدُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ يُسَمَّوْنَ السُّعَدَاءَ، كَمَا رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ: الَّذِينَ سَعِدُوا شَقُوا بِدُخُولِ النَّارِ ثُمَّ سَعِدُوا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا وَدُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا" بِضَمِّ السِّينِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سَعِدُوا أَنَّ الْأَوَّلَ شَقُوا وَلَمْ يَقُلْ أُشْقُوا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَرَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ "سُعِدُوا" مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ! إِذْ كَانَ هَذَا لَحْنًا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: سَعِدَ فُلَانٌ وَأَسْعَدَهُ اللَّهُ، وَأَسْعَدَ مِثْلُ أَمْرَضَ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ الْكِسَائِيُّ بِقَوْلِهِمْ: مَسْعُودٌ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَكَانٌ مَسْعُودٌ فِيهِ، ثُمَّ يُحْذَفُ فِيهِ ويسمى به. قال الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ ضَمَّ السِّينَ مِنْ "سُعِدُوا" فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلِهِمْ: مَسْعُودٌ وَهُوَ شَاذٌّ قَلِيلٌ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: سَعِدَهُ اللَّهُ، إِنَّمَا يُقَالُ: أَسْعَدَهُ اللَّهُ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: "سُعِدُوا" بِضَمِّ السِّينِ أَيْ رُزِقُوا السَّعَادَةَ، يُقَالُ: سَعِدَ وَأَسْعَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ "سُعِدُوا" بِفَتْحِ السِّينِ قِيَاسًا عَلَى "شَقُوا" وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالسَّعَادَةُ خِلَافُ الشَّقَاوَةِ، تَقُولُ: مِنْهُ سَعِدَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ سَعِيدٌ، مِثْلُ سَلِمَ فَهُوَ سَلِيمٌ، وَسَعِدَ فَهُوَ مَسْعُودٌ، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: مُسْعَدٌ، كَأَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِمَسْعُودٍ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ: وَقَدْ وَرَدَ سَعِدَهُ اللَّهُ فَهُوَ مَسْعُودٌ، وَأَسْعَدَهُ اللَّهُ فَهُوَ مُسْعَدٌ، فَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ الْكُوفِيِّينَ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يُقَالُ سَعِدَ فُلَانٌ كَمَا لَا يُقَالُ شَقِيَ فُلَانٌ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَعَدَّى. (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، مِنْ جَذَّهُ يَجُذُّهُ أَيْ قَطَعَهُ، قَالَ النَّابِغَةُ: تَجُذُّ السَّلُوقِيَّ الْمُضَاعَفَ نَسْجُهُ ... وَتُوقِدُ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ [[البيت للنابغة الذبياني يصف فيه السيوف. ويروى (تقد- ويوقدن). والسلوقي: الدرع المنسوب إلى سلوق، قرية باليمن. والمضاعف: الذي نسج حلقتين. والصفاح: الحجارة العراض. والحباحب: ذباب له شعاع بالليل، وقيل: نار الحباحب ما اقتدح من شرر النار في الهواء بتصادم حجرين.]] قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلا تَكُ﴾ جَزْمٌ بِالنَّهْيِ، وَحُذِفَتِ النُّونُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. (فِي مِرْيَةٍ) أَيْ فِي شَكٍّ. (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) مِنَ الْآلِهَةِ أَنَّهَا بَاطِلٌ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا: أَيْ قُلْ يا محمد لكل من شك "فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ" أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَهَا كَمَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ تَقْلِيدًا لَهُمْ. (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا- نَصِيبُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، قَالَهُ أبو العالية. الثاني- نصيبهم من العذاب، قال ابْنُ زَيْدٍ. الثَّالِثُ- مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب