* اللغة:
(بَياتاً) أي: ليلا، وهو في الأصل مصدر، يقال: بات يبيت ويبات بيتا وبيتة وبياتا وبيتوتة ومبيتا ومباتا من بابي فتح وجلس في المكان: أقام فيه الليل.
(قائِلُونَ) نائمون وقت الظهيرة، والقيلولة هي نوم نصف النهار أو استراحة نصفه، وإن لم يكن معها نوم. وهذا مقيل طيب، وهو شروب للقيل، وهو شراب القائلة: وهي نصف النهار. وقالت أمّ تأبّط شرّا: «ما سقيته غيلا، ولا حرمته قيلا» ، وهي رضعة نصف النهار. واقتال الرجل كما تقول: اصطبح واغتبق.
* الإعراب:
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للتحدث عن الأمم الماضية، وماذا كان مصيرها؟ بسبب إعراضها عن الحق وصدوفها عن استماع تعاليمه.
وكم خبرية في موضع رفع على الابتداء، ومن قرية تمييز كم الخبرية، وقد تقدّم حكمه، وجملة أهلكناها خبر «كم» . ويجوز إعراب «كم» على أنها في موضع نصب على الاشتغال بإضمار فعل يفسره ما بعده، وجملة أهلكناها لا محل لها لأنها مفسرة، والفاء عاطفة للترتيب والتعقيب، وسيأتي بحث طريف عنها في باب الفوائد، وجاءها بأسنا فعل ومفعول به وفاعل، والجملة معطوفة على أهلكناها، وبياتا يجوز أن يكون ظرفا باعتبار المعنى، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال، بمعنى بائتين، وعليه أكثر المعربين، والأول أمكن في المعنى، والثاني أقيس في الإعراب. وأو حرف عطف، وهم مبتدأ، وقائلون خبر، والجملة معطوفة على «بياتا» ، فهي حالية. وهنا يرد اعتراض وهو: كيف أتت الجملة حالية من دون واو؟ إذ لا يقال: جاءني زيد هو فارس، بغير واو؟ والجواب سيأتي في باب الفوائد (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) الفاء استئنافية، وما نافية، وكان واسمها، وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بدعواهم، وجملة جاءهم بأسنا في محل جر بالإضافة (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) إلا أداة حصر، وأن وما بعدها في تأويل مصدر كان، وإن واسمها، وجملة كنا ظالمين خبر إن، وجملة إنا وما في حيزها في محل نصب مقول القول (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الفاء عاطفة، والمقصود منها ترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية في الذكر حسب ترتيبها عليها في الوجود. واللام موطّئة للقسم، ونسألن فعل مضارع مبني على الفتح لاقترانه بنون التوكيد الثقيلة وجوبا، كما ستعلم في باب الفوائد، والفاعل مستتر تقديره نحن وجملة لنسألنّ معطوفة والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة أرسل صلة الموصول، وهو بالبناء للمجهول، ونائب الفاعل الجار والمجرور وهو إليهم، ولنسألن المرسلين عطف على ما تقدم. ومعنى سؤل المرسل إليهم التسجيل على الكفار إحجامهم عن الاستماع لما قالوه لهم وأبلغوهم إياه (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) عطف على ما تقدم، وعليهم جار ومجرور متعلقان بنقصنّ، أي: على كل من الرسل والمرسل إليهم ما كان من أمرهم، وبعلم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل نقصنّ، أي: عالمين بمكنونات أحوالهم، ومنطويات سرائرهم، وما ندّت عنه شفاههم. والواو للحال، وما نافية، وكان واسمها، وغائبين خبرها، والجملة في محل نصب على الحال. وجميع هذه الأسئلة والقصص للتوبيخ والتقريع كما يفعل المحقق مع المجرم لإدانته بما فعلته يداه أمامه.
* البلاغة:
المجاز المرسل بقوله وكم من قرية أهلكناها فقد ذكر القرية وأراد أهلها، وهو مجاز علاقته المحلية. وقد تقدمت له نظائر.
* الفوائد:
واو الحال:
هي واو يصحّ وقوع الظرف موقعها، ولها ثلاث أحوال: وجوب الذكر وامتناعه وجوازه. وفيما يلي مواقع تلك الأحوال:
1- وجوب الذّكر:
آ- أن تكون جملة الحال اسمية مجردة من ضمير يربطها بصاحبها، نحو قوله تعالى: «لئن أكله الذئب ونحن عصبة» .
ب- أن تكون جملة الحال مصدرة بضمير صاحبها، نحو:
«لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى» .
2- امتناع الذكر في سبع صور:
آ- أن تقع بعد عاطف نحو: «وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون» .
ب- أن تكون مؤكدة لمضمون الجملة قبلها نحو: «ذلك الكتاب لا ريب فيه» إذا أعربنا جملة «لا ريب» حالية.
ج- أن تكون ماضية بعد إلا نحو: «وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون» .
د- أن تكون ماضية قبل «أو» نحو:
كن للخليل نصيرا جاد أو عدلا ... ولا تشحّ عليه جار أم بخلا
هـ- أن تكون مضارعة مثبتة غير مقترنة ب «قد» ، وحينئذ تربط بالضمير وحده، نحو: «ولا تمنن تستكثر» . وأما قول عنترة:
علقتها عرضا وأقتل قومها ... قسما لعمر أبيك ليس بمزعم
فجملة: «وأقتل قومها» حال من التاء في «علقتها» ، وهي مقترنة بالواو مع المضارع المثبت، واختلف في تخريجها، فقيل:
ضرورة، وقيل: الواو عاطفة، والمضارع مؤوّل بالماضي، والتقدير:
وقتلت قومها، فعدل عن لفظ الماضي إلى لفظ المضارع لحكاية الحال الماضية، ومعناها أن يفرض ما كان في الزمن الماضي واقعا في هذا الزمان، فيعبر عنه بلفظ المضارع. وقيل: هي واو الحال، والمضارع خبر مبتدأ محذوف، أي: وأنا أقتل قومها.
وأن تكون مضارعة منفية ب «ما» ، نحو قوله:
عهدتك ما تصبو وفيك شبيبة ... فما لك بعد الشّيب صبّا متيّما
ز- أن تكون مضارعة منفية ب «لا» نحو: «وما لنا لا نؤمن بالله» ، فإن كانت الجملة المضارعة منفية ب «لم» جاز ارتباطها بالواو كقول النابغة:
سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتّقتنا باليد
وجاز عدم ارتباطها بها، ولكن بالضمير وحده، نحو: «فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء» ، وقول زهير:
كأنّ فتات العهن في كلّ موطن ... نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم
وإن كانت منفية ب «لما» فالمختار ربطها بالواو نحو: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين» ، وقول الشاعر:
أشوقا ولما يمض لي غير ليلة ... فكيف إذا جدّ المطيّ بنا عشرا
3- جواز الذكر وعدمه:
وذلك في غير ما تقدم من صور وجوبها وامتناعها. وهناك تفاصيل أعرضنا عنها، يرجع إليها من شاء في كتب النحو المفصلة.
إذا عرفت هذا أدركت أن اعتراض الزمخشري غير وارد، وإليك التفصيل.
مناقشة ممتعة:
ما يقوله الزمخشري:
ويقول الزمخشري: «فإن قلت: يقال: «جاء زيد هو فارس» بغير واو فما بال قوله تعالى: «أو هم قائلون» ؟ قلت: قدّر بعض النحويين الواو المحذوفة، ورده الزّجّاج وقال: لو قلت: جاءني زيد راجلا أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس، لم يحتج فيه إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا لاجتماع حرفي عطف، لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك: جاز زيد راجلا، أو هو فارس، كلام فصيح وارد على حدّه. وأما: جاءني زيد هو فارس، فخبيث» .
ردّ أبي حيّان على الزمخشري والزجاج:
وقد رد أبو حيان يقول: «فأما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفراء، وأما قول الزمخشري في التمثيلين: لم يحتج فيه إلى الواو لأن الذكر قد عاد إلى الأول، ففيه إبهام، وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الثاني، فانتفاء الاحتياج ليس على حدّ سواء، لأنه في الأول لامتناع الدخول، وفي الثاني لكثرة الدخول، ولا لامتناعه.
وأما قول الزمخشري: والصحيح إلى آخره، فتعليله ليس بصحيح، لأن واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حرفي عطف، لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالا حتى يعطف حال على حال، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكون حالا دليل على أنها ليست واو عطف ولا لحظ فيها معنى العطف. تقول: جاءني زيد والشمس طالعة، فجاء زيد ليس بحال، فتعطف عليه جملة حال، وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال، وهي قسم من أقسام الواو، كما تأتي للقسم، وليست فيه للعطف إذا قلت: والله لتخرجنّ. أما قوله: «فخبيث» فليس بخبيث، وذلك أنه بناه على أن الجملة الاسمية إذا كان فيها ضمير ذي الحال فإن حذف الواو منها شاذ، وتبع في ذلك الفراء، وليس بشاذّ، بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب، نثرها ونظمها، وهو أكثر من رمل يبرين وفلسطين.
وقد ذكرنا كثرة مجيء ذلك في شرح التسهيل. وقد رجع الزمخشري عن هذا المذهب إلى مذهب الجماعة» .
تعقيب على كلام أبي حيان:
أقول: لا يخلو ردّ أبي حيان من تهافت، فقد تعقب عليه بأن أصل الواو العطف، ثم استعيرت لربط الحال بعاملها، كما أن الفاء أصلها العطف، ثم استعيرت لربط الجزاء بالشرط.
الفاء العاطفة:
الفاء للترتيب. وهو إما معنوي كما في: «قام زيد فعمرو» وهو أن يكون ما بعدها حاصلا بعد ما قبلها في الواقع. أو ذكريّ وهو عطف مفصّل على مجمل، نحو: «فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه» . وهو أن يكون ما بعدها حاصلا بعد ما قبلها في اللفظ فقط، وأما في الواقع فتارة يكون حاصلا معه في آن واحد أو قبل ما قبلها. وقال الفراء: إنها لا تفيد الترتيب مطلقا.
واحتج بقوله تعالى: «أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون» .
وأجيب بأن المعنى: أردنا إهلاكها. ولا شك أن إرادة الإهلاك قبل مجيء البأس، فيكون ترتيبا ذكريا إذ هو بيان لقوله: «أهلكناها» إذ هو مجمل. والحاصل أن الجمهور يقولون بإفادتها الترتيب مطلقا، والفراء يمنع ذلك مطلقا. وقال الجرمي: لا تفيد الترتيب في البقاع ولا في الأمصار، بدليل: «بين الدخول فحومل» ، وقولهم: «مطرنا بنوء بمكان كذا» فمكان كذا إذا كان وقوع الأمطار فيهما واحدا.
عودة الضمير:
قد أعربوا المضاف إليه بإعراب المضاف، ولذلك عاد الضمير مؤنثا ومذكرا، والمراد: وكم من أهل قرية، ثم حذف المضاف الذي هو الأهل، وعاد الضمير على الأمرين، فأنّث في قوله: «فجاءها بأسنا» نظرا إلى التأنيث في اللفظ، وهو القرية. وذكّر في قوله: «أو هم قائلون» ملاحظة للمحذوف، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه فباشره العامل فانتصب انتصاب المفعول به، وإن لم يكن إياه في الحقيقة كذلك أعطوه حكمه في غير الإعراب من التأنيث والتذكير، فمن ذلك قول حسان بن ثابت:
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفّق بالرحيق السلسل
والشاهد فيه تذكير الضمير الراجع إلى بردى، وهو مؤنث.
والبريض موضع بأرض دمشق.
{"ayahs_start":4,"ayahs":["وَكَم مِّن قَرۡیَةٍ أَهۡلَكۡنَـٰهَا فَجَاۤءَهَا بَأۡسُنَا بَیَـٰتًا أَوۡ هُمۡ قَاۤىِٕلُونَ","فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَاۤءَهُم بَأۡسُنَاۤ إِلَّاۤ أَن قَالُوۤا۟ إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِینَ","فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِینَ أُرۡسِلَ إِلَیۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِینَ","فَلَنَقُصَّنَّ عَلَیۡهِم بِعِلۡمࣲۖ وَمَا كُنَّا غَاۤىِٕبِینَ"],"ayah":"وَكَم مِّن قَرۡیَةٍ أَهۡلَكۡنَـٰهَا فَجَاۤءَهَا بَأۡسُنَا بَیَـٰتًا أَوۡ هُمۡ قَاۤىِٕلُونَ"}