الباحث القرآني
ثم بيَّنَ جزاءَهم فقال: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البينة ٨]، وهنا قدَّمَ اللَّهُ الثناءَ على المؤمنين الذين عَمِلوا الصالحات على ذِكْر جزائهم؛ لأن ثَنَاء اللهِ عليهم أعظم مرتبةً وأعلى مَنْقبةً، فلذلك قدَّمه على الجزاء الذي هو جزاؤهم في يوم القيامة.
﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ ﴿جَنَّاتُ﴾ جَمَعَها لاختلاف أنواعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إنَّ الجنات «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٨٧٨)، ومسلم (١٨٠ / ٢٩٦)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، لكن بتقديم ذِكْر الفضة على الذهب.]]، وإلى هذا يُشير قول الله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن ٤٦] ثم ذكر أوصافَ هاتين الجنَّتينِ ثم قال: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن ٦٢]، فلهم جنَّات.
والجنات التي ذكرها الله تعالى جزاءً للمؤمنين العاملين الصالحات هي عبارة عن منازل عظيمة أعدَّها الله عز وجل للمؤمنين المتَّقين، «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»[[أخرجه مسلم (٢٨٢٥ / ٥) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.]]، ولا يمكن للإنسان في هذه الدنيا أن يتصوَّر كيف نعيم الآخرة أبدًا؛ لأنه أعلى وأَجَلُّ مما نتصوَّر؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس في الجنَّةِ مِمَّا في الدنيا إلا الأسماء»[[أخرجه هنَّاد في الزهد (٣) عنه، ولفظه: «ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء».]]. لكنَّها تختلف الحقائق اختلافًا عظيمًا.
قال عز وجل: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ العَدْن بمعنى الإقامة في المكان وعَدَم النُّزُوح عنه، ومِن تمام نعيم أهل الجنة أن كلَّ واحدٍ منهم لا يطلب تحوُّلًا عمَّا هو عليه من النعيم؛ لأنه لا يرى أنَّ أحدًا أَكْملُ منه، ولا يُحِسُّ في قلبه أنه في غضاضةٍ بالنسبة لِمَن هو أرقى منه وأكمل؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ [الكهف ١٠٨] أي: لا يبغون تحوُّلًا عمَّا هم عليه؛ لأن الله تعالى قد أقنعهم بما أعطاهم فلا يجدون أحدًا أكمل نعيمًا منهم، ولهذا سَمَّى الله تعالى هذه الجنات جنات عَدْن، أسأل الله أن يجعلني وإيَّاكم من أهلها.
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ قال العلماء: مِن تحت قصورها وأشجارها، وإلا فهو على سَطْحها وليس أسفل، إنما هو من تحت هذه القصور والأشجار، والأنهار التي ذكرها الله عز وجل هنا مُجْمَلة فصَّلها في سورة محمد فقال: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد ١٥]، هذه الأنهار، وقد جاء في الآثار من وَصْف هذه الأنهار «أنها تجري بغير أُخْدودٍ وبغير خنادق»[[أخرج أبو نعيم في الحلية (٦ / ٢٠٥) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «لعلَّكم تظنُّون أنَّ أنهار الجنة أخدودٌ في الأرض، لا واللهِ، إنها لسائحةٌ على وجه الأرض، حافتاها خيام اللؤلؤ، وطينُها المسك الأذفر». قلت: يا رسول الله، وما الأذفر؟ قال: «الذي لا خِلْط معه». وأخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (٦٩) عن أنسٍ موقوفًا.]]؛ بمعنى أن النهر يجري على سطح الأرض يتوجَّه حيث وجَّهَه الإنسانُ، ولا يحتاج إلى شقِّ خنادق ولا إلى بناء أُخدودٍ تمنع سَيَلانَ الماء يمينًا وشِمالًا، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب النونية:
؎أَنْهَارُهَا مِنْ غَيْرِ أُخْدُودٍ جَرَتْ ∗∗∗ سُبْحَانَ مُمْسِكِهَا عَنِ الْفَيَضَانِ
﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [البينة ٨] أي: ماكثين فيها أبدًا؛ لا يموتون، ولا يَمْرضون، ولا يَبْأسُون، ولا يَأْلمون، ولا يحزنون، ولا يَمَسُّهم فيها نَصَبٌ؛ فهُم في أَكْملِ النعيم دائمًا وأبدًا، أَبَدَ الآبدين، اللهم اجعلنا منهم.
﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [البينة ٨] وهذا أَكْملُ نعيمٍ أنَّ الله تعالى يرضى عنهم، فيُحِلُّ عليهم رضوانه فلا يَسْخط بعده أبدًا[[أخرج البخاري (٧٥١٨) ومسلم (٢٨٢٩ / ٩) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّ الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبَّيك ربَّنا وسعدَيْك، والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا من خلْقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأيُّ شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا».]]، بلْ وينظرون إلى الله تبارك وتعالى بأعينهم كما يرون القمر ليلة البدر لا يشُكُّون في ذلك، ولا يمترون في ذلك، ولا يتضامُّون في ذلك[[أخرج البخاري (٥٥٤) ومسلم (٦٣٣ / ٢١١) عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كُنَّا جلوسًا عند رسول الله ﷺ إذْ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «أَمَا إنَّكم سَتَرون ربَّكم كما تَرَون هذا القمر لا تُضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألَّا تُغلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها». يعني العصر والفجر، ثم قرأ جرير: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه: ١٣٠].]]؛ أي: لا ينضمُّ بعضُهم إلى بعضٍ ليُريه الآخَر، بلْ كلُّ إنسانٍ يراه في مكانه حسب ما أراد الله عز وجل.
ثم قال عز وجل: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة ٨] أي: ذلك الجزاء لمن خَشِيَ الله عز وجل، والخشيةُ هي خَوْفُ الله عز وجل المقرونُ بالهيبة والتعظيم، ولا يصدر ذلك إلا من عالِمٍ بالله؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر ٢٨]، وبهذا تَمَّتْ هذه السورة العظيمة، وتم ما تيسَّر لنا من الكلام على تفسيرها، ونسأل الله أن يجعلنا جميعًا مِمَّن يتلون كتاب الله حقَّ تلاوته، إنَّه على كل شيءٍ قدير.
{"ayah":"جَزَاۤؤُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُۚ ذَ ٰلِكَ لِمَنۡ خَشِیَ رَبَّهُۥ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق