الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [المائدة ٤٠] ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ الخطاب لكل من يصح توجه الخطاب إليه، كل من يصح توجه الخطاب إليه فإنه داخل في قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾؛ لأنا نرى أن خطاب المفرد في القرآن الكريم يشمل كل من يتأتى خطابه أو نقول: كل من يصح توجيه الخطاب إليه،إلا إذا دل الدليل على أنه خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام فيكون خاصًّا به، فمثلًا ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح ١] مَن؟ * الطلبة: خاص. * الشيخ: هذا خاص، لكن إذا جاء من غير أن يكون هناك دليل على أنه خاص بالرسول فإن القرآن يخاطب كل الناس، فإنه يحمل على أيش؟ أنه موجه إلى كل من يصح توجه الخطاب إليه. وقد ذكرنا فيما سبق الخلاف في هذا هل هو موجه إلى الرسول أولًا ثم لغيره ثانيًا، أو لغيره أولًا ثم لغيره تأسيًا، أو لكل من يصح منه الخطاب، وهذا هو الأولى. ألم تعلم أيها المخاطب أن الله له ملك السماوات والأرض، وأتى بهذه الآية في مكانها اللائق؛ لأن ما سبق كله في إقامة حدود، فلعل النفس تقول: لماذا هذه الشدة؟ لماذا هذه الغلظة؟ فقال الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، والاستفهام هنا لأيش؟ للتقرير، ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إذا كان له ملك السماوات والأرض فإنه يحكم بما شاء ويفعل ما شاء؛ ولهذا قال: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ في هذه الآية قُدِّم التعذيب على المغفرة، في آية أخرى؟ * الطلبة: المغفرة. * الشيخ: قدم المغفرة على التعذيب، والمناسبة واضحة، يعني هنا الكلام على أيش؟ على الحدود والعقوبات، فناسب أن يقدم التعذيب على المغفرة. وقوله عز وجل: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ لا تظن أن الله إذا قال: يفعل ما يشاء، يحكم ما يشاء، يحكم ما يريد، لا تظن أن الأمر على غير حكمة، بل يعذب من يشاء إذا اقتضت الحكمة تعذيبه، ويغفر لمن يشاء إذا اقتضت الحكمة أن يغفر الله له؛ ولهذا قال الله عز وجل: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير ٢٨]، قال الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان ٣٠]. وقوله: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ختم بهذه الآية، ومن قدرته عز وجل أن أمر بعقوبة الجناة على الوجه المذكور. القدرة هي فعل الشيء بدون عجز، فالله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء بدون عجز، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر ٤٤]، فهو سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، القوة ويش ضدها؟ * طلبة: الضعف. * الشيخ: الضعف، نعم. قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾ [الروم ٥٤]، لكن القدرة ضدها العجز، ما الفرق بينهما؟ الفرق بينهما أن القدرة لا تكون إلا من ذي إرادة، والقوة تكون من ذي الإرادة وغيرها، فالإنسان يقال: قادر، ويقال: قوي، الجدار يقال: قوي ولا يقال: قادر؛ لأن القدرة لا تكون إلا من ذي إرادة. ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ * في هذه الآية الكريمة من الفوائد: * أولًا: تقرير عموم ملك الله عز وجل؛ لقوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. * ومن فوائدها: أن الملك العام للسماوات والأرض خاص بالله، دليله تقديم الخبر في قوله: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، قال علماء البلاغة: وتقديم ما حقه التأخير أيش؟ يفيد الحصر والاختصاص. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن ملك السماوات والأرض لله لا يشاركه فيه أحد، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ [فاطر ١٣]، وقال تعالى: ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ [سبأ ٢٢]. فإذا قال قائل: كيف نجمع بين هذه الآية الكريمة واختصاص ملك السماوات والأرض بالله وبين قول الله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ [النور ٦١] ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء ٣] وما أشبه ذلك من إثبات الملك للمخلوق؟ فالجواب سهل: ملك الله عز وجل عام، يتصرف كما يشاء وفي كل شيء، ملك الإنسان خاص ومقيد أيضًا، لا يتصرف الإنسان في ملكه كما يشاء، أليس كذلك؟ ممنوع من الربا، ممنوع من الغش، ممنوع من المعاوضة المجهولة، بل ممنوع من أن يتلف ماله، فالملك إذن قاصر تصرفًا وعينًا، حتى الأعيان ما يملك الإنسان منها كل شيء، يملك ملكه الخاص، لكن ملك الله عز وجل عام في كل شيء في الأعيان والتصرف فيها؛ ولذلك ليس لنا الحق أن نتصرف فيما ملَّكَنا الله إلا بإذن الله. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات العقوبة والمغفرة لله عز وجل؛ وذلك لكمال سلطانه، لكن اجزمْ أنه لن يعذب أحدًا إلا بذنب يستحق العذاب عليه. * ومن فوائدها: إثبات المشيئة لله؛ لقوله: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾، ولا شك أن الله عز وجل له المشيئة التامة، يقول المسلمون كلهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فإن قال قائل: مشيئة الله في أفعاله واضحة، يعني كونه ينزل المطر، وينبت النبات، ويخلق السماوات والأرض، ويحيي ويميت، هذا واضح، لكن هل له مشيئة في أفعال العباد؟ أجيبوا. * الطلبة: نعم. * الشيخ: نعم، له مشيئة في أفعال العباد، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ [البقرة ٢٥٣] كررها مرتين؛ ليبين أن فعلهم بمشيئة الله عز وجل. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات قدرة الله عز وجل على كل شيء؛ لقوله: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، فهو سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض. وهل يستثنى من هذا العموم شيء؟ أبدًا، لا يستثنى شيء، هو قادر على كل شيء ولا استثناء (...). * طالب: (...) وعليه، فإذا أراد بعد قطعها أن يعيدها إلى ما كانت عليه لا يمكن من ذلك، إذا كان العبرة في حد الزاني وهو الرجم إتلاف نفسه وقتلها، وورد في بعض حديث ماعز أنه لما أراد يتوب بُلِّغ النبي ﷺ ذلك قال: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ»[[أخرجه أبو داود (٤٤١٩)، والنسائي (٧١٦٧) من حديث نعيم بن هزال، واللفظ لهما، وأصله في الصحيحين.]]، فإذا قال قائل: لو قطعت يده ثم أراد أن يعيدها يعيدها؟ * الشيخ: ما يعيدها، إذا عاد ما صار لها فائدة، ما صار نكالًا؛ لأنه ذكر: ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا﴾ [المائدة ٣٨]، فإذا أعيدت يده ما تبين أن هذا سارق وأنه تقطع يد السارق فلم تكن نكالًا، أما قصة ماعز فقال: «تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ»، وهذه المسألة إحنا ذكرنا فيما سبق بالنسبة لعدم قطع ذكر الزاني قلنا: لأنه فيه حدًّا معلومًا بالشرع فلا يتعدى، فيه أيضًا معنى آخر: يد السارق إذا قطعت صارت نكالًا؛ لأنها ظاهرة كل يراها، لكن قطع الذكر من الزاني مستور لا يعلم عنه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب