الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ وجَعَلْنا مَعَهُ أخاهُ هارُونَ وزِيرًا﴾ ﴿فَقُلْنا اذْهَبا إلى القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهم تَدْمِيرًا﴾ ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمّا كَذَّبُوا الرُسُلَ أغْرَقْناهم وجَعَلْناهم لِلنّاسِ آيَةً وأعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ عَذابًا ألِيمًا﴾ ﴿وَعادًا وثَمُودَ وأصْحابَ الرَسِّ وقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ ﴿وَكُلا ضَرَبْنا لَهُ الأمْثالَ وكُلا تَبَّرْنا تَتْبِيرًا﴾ هَذِهِ الآياتُ الَّتِي ذُكِرَ فِيها الأُمَمُ هي تَمْثِيلٌ لَهم وتَوَعُّدٌ بِأنْ يَحِلَّ بِهِمْ ما حَلَّ بِهَؤُلاءِ المُعَذَّبِينَ، و "الكِتابُ": التَوْراةُ، و "الوَزِيرُ": المُعِينُ، وهو مِن تَحْمُّلِ الوِزْرِ، أيْ ثِقَلِ الحالِ، ومِنَ الوَزَرِ الَّذِي هو المَلْجَأُ، و ﴿القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا﴾ هم فِرْعَوْنُ ومَلَؤُهُ مِنَ القِبْطِ، ثُمْ حُذِفَ مِنَ الكَلامِ كَثِيرٌ دَلَّ عَلَيْهِ ما بَقِيَ، وتَقْدِيرُ المَحْذُوفِ: فَذَهَبا فَأدَّيا الرِسالَةَ فَكَذَّبُوهُما فَدَمَّرْناهم. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، ومَسْلَمَةُ بْنُ مُحارِبٍ: "فَدَمِّرانِّهُمْ"، أيْ: كُونا سَبَبَ ذَلِكَ، قالَ أبُو الفَتْحِ: ألْحَقَ نُونَ التَوْكِيدِ ألِفَ التَثْنِيَةِ، كَما تَقُولُ لِرَجُلٍ: اضْرِبانِّ زَيْدًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "فَدَمِّراهُمْ"، وحَكى عنهم أبُو عَمْرٍو الدانِي: "فَدَمِرْناهُمْ" بِكَسْرِ المِيمِ خَفِيفَةً، قالَ: ورُوِيَ عنهُمْ: "فَدَمِّرُوا بِهِمْ" عَلى الأمْرِ لِجَماعَةٍ وبِزِيادَةِ باءٍ، والَّذِي فَسَّرَ أبُو الفَتْحِ وهْمٌ، وإنَّما القِراءَةُ: "فَدَمِّرُوا بِهِمْ" بِالباءِ، وكَذا ذَكَرَها المَهْدَوِيُّ. (p-٤٣٩)وَنُصِبَ قَوْلُهُ: "قَوْمَ" بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ "أغْرَقْناهُمْ"، وقَوْلُهُ تَعالى: "الرُسُلَ" وهم إنَّما كَذَّبُوا نُوحًا فَقَطْ، مَعْناهُ أنَّ الأُمَّةَ الَّتِي تُكَذِّبُ نَبِيًّا واحِدًا فَفي ضِمْنِ ذَلِكَ تَكْذِيبُ جَمِيعَ الأنْبِياءِ، فَجاءَتِ العِبارَةُ بِما تَضَمَّنَهُ فِعْلُهم تَعْبِيرًا في القَوْلِ عَلَيْهِمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: "آيَةً" أيْ عَلامَةً عَلى سَطْوَةِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى بِكُلِّ كافِرٍ بِأنْبِيائِهِ. "وَعادًا وثَمُودًا" يُصْرَفُ ولا يُصْرَفُ، وجاءَ ها هُنا مَصْرُوفًا، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، والحَسَنُ، وعِيسى: " وعادًا " مَصْرُوفًا. وثَمُودَ غَيْرَ مَصْرُوفٍ. واخْتَلَفَ الناسُ في " أصْحابَ الرَسِّ "، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هم قَوْمٌ مِن ثَمُودَ، وقالَ قَتادَةُ: أهْلُ قَرْيَةٍ مِنَ اليَمامَةِ يُقالُ لَها: الرَسُّ، وقالَ كَعْبٌ، ومُقاتِلٌ، والسُدِّيُّ: الرَسُّ: بِئْرٌ بِأنْطاكِيَةَ الشامِ، قُتِلَ فِيها صاحِبُ ياسِينَ، وقالَ الكَلْبِيُّ: أصْحابُ الرَسِّ قَوْمٌ بُعِثَ إلَيْهِمْ نَبِيٌّ فَقَتَلُوهُ، وقالَ قَتادَةُ: أصْحابُ الرَسِّ وأصْحابُ الأيْكَةِ قَوْمانِ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَلامُ، وقالَهُ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وقالَ عَلِيٌّ -فِي كِتابِ الثَعْلَبِيِّ -: أصْحابُ الرَسِّ قَوْمٌ عَبَدُوا شَجَرَةَ صَنَوْبَرٍ يُقالُ لَها: "شاه درخت" رَسُّوا نَبِيَّهم في بِئْرٍ أو قَبْرٍ أو مَعْدِنٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ سَبَقْتَ إلى فَرَطٍ باهْلٍ تَنابِلَةٍ يَحْفُرُونَ الرِساسا (p-٤٤٠)وَرَوى عِكْرِمَةُ، ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ «عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّ أهْلَ الرَسِّ المُشارَ إلَيْهِمْ في هَذِهِ الآيَةِ: قَوْمٌ أخَذُوا نَبِيَّهم فَرَمَوْهُ في بِئْرٍ وأطْبَقُوا عَلَيْهِ صَخْرَةً، فَكانَ عَبْدٌ أسْوَدُ قَدْ آمَنَ بِهِ، يَجِيءُ بِطَعامٍ إلى تِلْكَ البِئْرِ فَيُعِينُهُ اللهُ عَلى تِلْكَ الصَخْرَةِ فَيَقْلَعُها، وهو مُؤْمِنٌ بِذَلِكَ النَبِيِّ، فَيُعْطِيهِ ما يُغَذِّيهِ، ثُمْ يَرُدُّ تِلْكَ الصَخْرَةَ، إلى أنْ ضَرَبَ اللهُ عَلى أُذُنِ ذَلِكَ الأسْوَدِ بِالنَوْمِ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وأخْرَجَ أهْلُ القَرْيَةِ نَبِيَّهم فَآمَنُوا بِهِ»... في حَدِيثٍ طَوِيلٍ. قالَ الطَبَرِيُّ: فَيُمْكِنُ أنَّهم كَفَرُوا بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَذَكَرَهُمُ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ إيهامٌ لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إلّا اللهُ تَعالى، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ "القَرْنِ"، وكَمْ هُوَ، ومِن هَذا اللَفْظِ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِيما يُرْوى -وَيُرْوى أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قالَهُ-: «كَذَبَ النَسّابُونَ مِن فَوْقِ عَدْنانَ» ؛ لِأنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى أخْبَرَ عن كَثِيرٍ مِنَ الأُمَمِ والخَلْقِ ولَمْ يُخْبِرْ عن غَيْرِهِمْ. ثُمْ قالَ اللهُ تَعالى: إنَّ كُلَّ هَؤُلاءِ ضَرَبَ لَهُ الأمْثالَ لِيَهْتَدِيَ فَلَمْ يَهْتَدِ، فَتَبَّرَهُ اللهُ، أيْ أهْلَكَهُ، والتَبارُ: الهَلاكُ، والتِبْرُ: الذَهَبُ، أيِ: المُكَسَّرُ المُفَتَّتُ، ولِذَلِكَ يُقالُ لِفُتاتِ الرُخامِ والزُجاجِ: تَبْرٌ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: إنَّ أصْلَ الكَلِمَةِ نَبَطِيٌّ، ولَكِنَّ العَرَبَ قَدِ اسْتَعْمَلَتْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب