الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ الصَفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللهِ فَمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ومَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإنَّ اللهِ شاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ والهُدى مِنَ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ في الكِتابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ﴾ ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا وأصْلَحُوا وبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أتُوبُ عَلَيْهِمْ وأنا التَوّابُ الرَحِيمُ﴾ ﴿الصَفا والمَرْوَةَ﴾: جَبِيلانِ بِمَكَّةَ. و"الصَفا" جُمِعَ صَفاةٌ، وقِيلَ هُوَ: اسْمٌ مُفْرَدٌ جَمْعُهُ صَفًى وأصْفاءُ، وهي الصَخْرَةُ العَظِيمَةُ، قالَ الراجِزُ:(p-٣٨٩) ؎ ...................................... مَواقِعُ الطَيْرِ عَلى الصَفى وقِيلَ: مِن شُرُوطِ الصَفّا البَياضُ والصَلابَةُ. و"المَرْوَةَ": واحِدَةُ المَرْوِ، وهي الحِجارَةُ الصِغارُ الَّتِي فِيها لِينٌ. ومِنهُ قَوْلُ الَّذِي أصابَ شاتَهُ المَوْتُ مِنَ الصَحابَةِ: فَذَكَّيْتَها بِمَرْوَةَ، ومِنهُ قَوْلُ الأمِينِ: أخْرِجْنِي إلى أخِي، فَإنْ قَتَلَنِي فَمَرْوَةٌ كَسَرَتْ مَرْوَةَ، وصَمْصامَةٌ قَطَعَتْ صَمْصامَةَ، وقَدْ قِيلَ في المُرُوِ: إنَّها الصِلابُ، قالَ الشاعِرُ: ؎ وتَوَلّى الأرْضَ خُفًّا ذابِلًا ∗∗∗ فَإذا ما صادَفَ المَرْوَ رَضَخْ والصَحِيحُ أنَّ المَرْوَ الحِجارَةُ صَلِيبُها ورِخْوُها الَّذِي يَتَشَظّى وتَرِقُّ حاشِيَتُهُ وفي هَذا يُقالُ المَرْوُ أكْثَرُ، وقَدْ يُقالُ في الصَلِيبِ، وتَأمَّلْ قَوْلَ أبِي ذُؤَيْبٍ: ؎ حَتّى كَأنِّي لِلْحَوادِثِ مَرْوَةٌ ∗∗∗ بِصَفا المُشَقَّرِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ وجُبَيْلُ الصَفا بِمَكَّةَ صَلِيبٌ، وجُبَيْلُ المَرْوَةَ إلى اللِينِ ماهِقُ، فَبِذَلِكَ سُمِّيا. قالَ قَوْمٌ: ذَكَرَ الصَفا لِأنَّ آدَمَ وقَفَ عَلَيْهِ، ووَقَفَتْ حَوّاءُ ١ عَلى المَرْوَةِ فَأُنِّثَتْ لِذَلِكَ. (p-٣٩٠)وَقالَ الشَعْبِيُّ: كانَ عَلى الصَفا صَنَمٌ يُدْعى إسافًا وعَلى المَرْوَةِ صَنَمٌ يُدْعى نائِلَةَ فاطَّرَدَ ذَلِكَ في التَذْكِيرِ والتَأْنِيثِ، وقُدِّمَ المُذَكَّرُ. و﴿مِن شَعائِرِ اللهِ﴾ مَعْناهُ: مِن مَعالِمِهِ ومَواضِعِ عِبادَتِهِ، وهي جَمْعُ شُعَيْرَةَ أو شُعارَةَ. وقالَ مُجاهِدٌ: ذَلِكَ راجِعٌ إلى القَوْلِ، أيْ مِمّا أشْعَرَكُمُ اللهُ بِفَضْلِهِ، مَأْخُوذٌ مِن تَشَعَّرْتُ إذا تَحَسَّسْتُ، وشَعُرَتْ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِعارِ وهو ما يَلِي الجَسَدَ مِنَ الثِيابِ، والشِعارُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِعْرِ. ومِن هَذِهِ اللَفْظَةِ هو الشاعِرُ. و"حَجَّ" مَعْناهُ: قَصَدَ وتَكَرَّرَ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وأشْهَدُ مِن عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ∗∗∗ يَحُجُّونَ سَبَّ الزَبْرَقانِ المُزَعْفَرا ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ يَحُجُّ مَأْمُومَةً في قَعْرِها لَجَفٌ ∗∗∗...................................... و"اعْتَمَرَ" زارَ وتَكَرَّرَ، مَأْخُوذٌ مَن عَمَّرْتُ المَوْضِعَ. والـ "جُناحَ": الإثْمُ والمَيْلُ عَنِ الحَقِّ والطاعَةِ. ومِنَ اللَفْظَةِ الجَناحُ لِأنَّهُ في شِقٍّ، ومِنهُ قِيلَ لِلْخِباءِ: جُناحٌ لِتَمايُلِهِ وكَوْنِهِ كَذِي أجْنِحَةٍ، ومِنهُ: ﴿وَإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فاجْنَحْ لَها﴾ [الأنفال: ٦١]. (p-٣٩١)وَ"يَطَّوَّفَ" أصْلُهُ يَتَطَوَّفُ، سَكَنَتِ التاءُ وأُدْغِمَتْ في الطاءِ، وقَرَأ أبُو السَمالِ: "أنْ يُطافَ"، وأصْلُهُ يَطْتُوفُ، تَحَرَّكَتِ الواوُ وانْفَتَحَ ما قَبْلَها فانْقَلَبَتْ ألِفًا فَجاءَ يَطْتافُ، أُدْغِمَتِ التاءُ بَعْدَ الإسْكانِ في الطاءِ عَلى مَذْهَبِ مَن أجازَ إدْغامَ الثانِي في الأوَّلِ كَما جاءَ في "مُدَّكِرٍ"، ومَن لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ قالَ: قُلِبَتِ التاءُ طاءً، ثُمَّ أُدْغِمَتِ الطاءُ في الطاءِ، وفي هَذا نَظَرٌ، لِأنَّ الأصْلِيَّ أُدْغِمَ في الزائِدِ، وذَلِكَ ضَعِيفٌ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وأنَسِ بْنِ مالِكٍ، وشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ أنَّهم قَرَؤُوا: "ألّا يَطَّوَّفَ" وكَذَلِكَ في مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ "ألّا يَطَّوَّفَ"، وقِيلَ: "ألّا يَطُوفَ" بِضَمِّ الطاءِ وسُكُونِ الواوِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الصَفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللهِ﴾ خَبَرٌ يَقْتَضِي الأمْرَ بِما عَهِدَ مِنَ الطَوافِ بِهِما، وقَوْلُهُ: ﴿فَلا جُناحَ﴾، لَيْسَ المَقْصِدُ مِنهُ إباحَةَ الطَوافِ لِمَن شاءَ لِأنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الأمْرِ لا يَسْتَقِيمُ، وإنَّما المَقْصِدُ مِنهُ رَفْعُ ما وقَعَ في نُفُوسِ قَوْمٍ مِنَ العَرَبِ مِن أنَّ الطَوافَ بَيْنَهُما فِيهِ حَرَجٌ، وإعْلامُهم أنَّ ما وقَعَ في نُفُوسِهِمْ غَيْرُ صَوابٍ. واخْتُلِفَ في كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ. فَرُوِيَ أنَّ الجِنَّ كانَتْ تَعْرِفُ وتَطُوفُ بَيْنَهُما في الجاهِلِيَّةِ، فَكانَتْ طائِفَةٌ مِن تِهامَةٍ لا تَطُوفُ بَيْنَهُما في الجاهِلِيَّةِ لِذَلِكَ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ تَحَرَّجُوا مِنَ الطَوافِ، ورُوِيَ عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ ذَلِكَ في الأنْصارِ، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَهِلُّونَ لِمَناةَ الَّتِي كانَتْ بِالمُشَلَّلِ حَذْوَ قَدِيدٍ، ويُعَظِّمُونَها، (p-٣٩٢)فَكانُوا لا يَطُوفُونَ بَيْنَ إسافَ ونائِلَةَ إجْلالًا لِتِلْكَ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ تَحَرَّجُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. ورُوِيَ عَنِ الشَعْبِيِّ أنَّ العَرَبَ الَّتِي كانَتْ تَطُوفُ هُنالِكَ، كانَتْ تَعْتَقِدُ ذَلِكَ السَعْيَ إجْلالًا لِإسافَ ونائِلَةَ، وكانَ الساعِي يَتَمَسَّحُ بِإسافَ، فَإذا بَلَغَ المَرْوَةَ تَمَسَّحَ بِنائِلَةَ، وكَذَلِكَ حَتّى تَتِمَّ أشْواطُهُ فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ كَرِهُوا السَعْيَ هُنالِكَ إذْ كانَ بِسَبَبِ الصَنَمَيْنِ واخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيالسَعْيِ بَيْنَ الصَفا والمَرْوَةَ. فَمَذْهَبُ مالِكٍ والشافِعِيِّ أنَّ ذَلِكَ فَرْضُ رُكْنٍ مِن أرْكانِ الحَجِّ لا يَجْزِي تارِكَهُ أو ناسِيهِ إلّا العَوْدَةُ، ومَذْهَبُ الثَوْرِيِّ وأصْحابُ الرَأْيِ أنَّ الدَمَ يَجْزِي تارِكَهُ، وإنْ عادَ فَحَسَنٌ، فَهو عِنْدُهم نَدْبٌ. ورُوِيَ عن أبِي حَنِيفَةَ: إنْ تَرَكَ أكْثَرَ مِن ثَلاثَةِ أشْواطٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وإنْ تَرَكَ ثَلاثَةً فَأقَلَّ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ شَوْطٍ إطْعامُ مِسْكِينٍ. وقالَ عَطاءٌ: لَيْسَ عَلى تارِكِهِ شَيْءٌ لا دَمٌ ولا غَيْرُهُ، واحْتَجَّ عَطاءٌ بِما في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "ألّا يَطَّوَّفَ بِهِما"، وهي قِراءَةٌ خالَفَتْ مَصاحِفَ الإسْلامِ، وقَدْ أنْكَرَتْها عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها في قَوْلِها لِعُرْوَةَ حِينَ قالَ لَها: أرَأيْتَ قَوْلَ اللهِ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾ فَما نَرى عَلى أحَدٍ شَيْئًا ألّا يَطُوفَ (p-٣٩٣)بِهِما) قالَتْ: يا عُرْيَةُ كَلّا، لَوْ كانَ ذَلِكَ لَقالَ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ ألّا يَطُوفَ بِهِما. وأيْضًا فَإنَّ ما في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْجِعُ إلى مَعْنى "أنْ يَطُوفَ" وتَكُونُ "لا" زائِدَةَ صِلَةٍ في الكَلامِ كَقَوْلِهِ: ﴿ما مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢]، وكَقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ ما كانَ يَرْضى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهم ∗∗∗ والطَيِّبانِ أبُو بَكْرٍ ولا عُمَرَ أيْ: وعُمَرُ. وكَقَوْلِ الآخَرِ: ؎ وما ألُومُ البِيضَ ألّا تَسْخَرا ∗∗∗...................................... ومَذْهَبُ مالِكٍ وأصْحابِهِ في العُمْرَةِ أنَّها سَنَةٌ، إلّا ابْنُ حَبِيبٍ فَإنَّهُ قالَ بِوُجُوبِها. وقَرَأ قَوْمٌ مِنَ السَبْعَةِ وغَيْرِهِمْ: "وَمَن يَطَّوَّعُ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ عَلى الِاسْتِقْبالِ والشَرْطِ، والجَوابُ في قَوْلِهِ: "فَإنَّ". وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عُمَرَ، وعاصِمٌ: "تَطَوَّعَ" عَلى بابِهِ في المُضِيِّ فَـ "مِن" عَلى هَذِهِ القِراءَةِ بِمَعْنى الَّذِي. ودَخَلَتِ الفاءُ في قَوْلِهِ: "فَإنَّ" لِلْإبْهامِ الَّذِي في "مِن". حَكاهُ مَكِّيٌّ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ: يُحْتَمَلُ "تَطَوَّعَ" أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ جَزْمٍ و"مَن" شَرْطِيَّةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "مَن" بِمَعْنى الَّذِي والفِعْلُ صِلَةٌ لا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإعْرابِ، والفاءُ مُؤْذِنَةٌ أنَّ الثانِي وجَبَ لِوُجُوبِ الأوَّلِ. ومَن قالَ بِوُجُوبِ السَعْيِ قالَ: مَعْنى "تَطَوَّعَ" أيْ زادَ بِرًّا بَعْدَ الواجِبِ فَجَعَلَهُ عامًّا في الأعْمالِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: مَعْناهُ: مَن تَطَوَّعَ بِحَجٍّ أو عُمْرَةٍ بَعْدَ حَجَّةِ الفَرِيضَةِ. ومَن لَمْ يُوجِبِ السَعْيَ قالَ: المَعْنى مَن تَطَوَّعَ بِالسَعْيِ بَيْنَهُما. وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَمَن تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ". (p-٣٩٤)وَمَعْنى "شاكِرٌ": أيْ يَبْذُلُ الثَوابَ والجَزاءَ، "عَلِيمٌ" بِالنِيّاتِ والأعْمالِ، لا يَضِيعُ مَعَهُ لِعامِلِ بِرٍّ -وَلا غَيْرُهُ- عَمَلٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ الآيَةُ، المُرادُ بِالَّذِينِ: أحْبارُ اليَهُودِ ورُهْبانُ النَصارى الَّذِينَ كَتَمُوا أمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ، قالَ الطَبَرِيُّ: وقَدْ رُوِيَ أنَّ مُعَيَّنَيْنِ مِنهم سَألَهم قَوْمٌ مِن أصْحابِ النَبِيِّ ﷺ عَمّا في كُتُبِهِمْ مِن أمْرِهِ، فَكَتَمُوا، فَنَزَلَتْ. وتَتَناوَلُ الآيَةُ بَعْدُ، كُلَّ مَن كَتَمَ عِلْمًا مِن دِينِ اللهِ يَحْتاجُ إلى بَثِّهِ، وذَلِكَ مُفَسَّرٌ في قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: «مَن سُئِلَ عن عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ القِيامَةِ بِلِجامٍ مِن نارٍ». وهَذا إذا كانَ لا يَخافُ ولا ضَرَرَ عَلَيْهِ في بَثِّهِ. وهَذِهِ الآيَةُ أرادَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ في قَوْلِهِ: لَوْلا آيَةٌ في كِتابِ اللهِ ما حَدَّثْتُكم حَدِيثًا، وقَدْ تَرَكَ أبُو هُرَيْرَةَ ذَلِكَ حِينَ خافَ فَقالَ: حَفِظْتُ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ وِعاءَيْنِ: أمّا أحَدُهُما فَبَثَثْتُهُ، وأمّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذا البُلْعُومُ، وهَذِهِ الآيَةُ أرادَ عُثْمانُ رَضِيَ اللهُ عنهُ في قَوْلِهِ: لَأحُدِّثَنَّكم حَدِيثًا لَوْلا آيَةٌ في كِتابِ اللهِ ما حَدَّثْتُكُمُوهُ. ومَن رَوى في كَلامِ عُثْمانَ: لَوْلا أنَّهُ في كِتابِ اللهِ. فالمَعْنى غَيْرُ هَذا. و﴿البَيِّناتِ والهُدى﴾ أمْرُ مُحَمَّدٍ ﷺ. ثُمَّ يَعُمُّ بَعْدَ كُلِّ ما يَكْتُمُ مِن خَيْرٍ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "مِن بَعْدِ ما بَيَّنَهُ" عَلى الإفْرادِ. و﴿فِي الكِتابِ﴾ يُرادُ بِهِ التَوْراةُ والإنْجِيلُ بِحُكْمِ سَبَبِ الآيَةِ، وأنَّها في أمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ، (p-٣٩٥)ثُمَّ يَدْخُلُ القُرْآنُ مَعَ تَعْمِيمِ الآيَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى اللَعْنَةِ، واخْتُلِفَ في اللاعِنِينَ، فَقالَ قَتادَةُ، والرَبِيعُ: المَلائِكَةُ والمُؤْمِنُونَ، وهَذا ظاهِرٌ واضِحٌ جارٍ عَلى مُقْتَضى الكَلامِ. وقالَ مُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ: هُمُ الحَشَراتُ والبَهائِمُ يُصِيبُهُمُ الجَدْبُ بِذُنُوبِ عُلَماءِ السُوءِ الكاتِمِينَ فَيَلْعَنُونَهُمْ، وذَكَرُوا بِالواوِ والنُونِ كَمَن يَعْقِلُ، لِأنَّهم أُسْنِدَ إلَيْهِمْ فِعْلُ مَن يَعْقِلُ، كَما قالَ: ﴿رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤]. وقالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ: اللاعِنُونَ" كُلُّ المَخْلُوقاتِ ما عَدا الثَقَلَيْنِ الجِنِّ والإنْسِ، وذَلِكَ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: « "إنَّ الكافِرَ إذا ضُرِبَ في قَبْرِهِ فَصاحَ؛ سَمِعَهُ الكُلُّ إلّا الثَقَلَيْنِ فَلَعَنَهُ كُلُّ سامِعٍ». وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: المُرادُ بِها ما قالَ النَبِيُّ ﷺ: «إنَّ كُلَّ مُتَلاعِنَيْنَ إنِ اسْتَحَقّا اللَعْنَةَ وإلّا انْصَرَفَتْ عَلى اليَهُود»، وهَذِهِ الأقْوالُ الثَلاثَةُ لا يَقْتَضِيها اللَفْظُ، ولا تَثْبُتُ إلّا بِسَنَدٍ يَقْطَعُ العُذْرَ. ثُمَّ اسْتَثْنى اللهُ تَعالى التائِبِينَ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى التَوْبَةِ. و"أصْلَحُوا" أيْ في أعْمالِهِمْ وأقْوالِهِمْ "وَبَيَّنُوا"، قالَ مَن فَسَّرَ الآيَةَ عَلى العُمُومِ: مَعْناهُ بَيَّنُوا تَوْبَتَهم بِمُبْرِزِ العَمَلِ والبُرُوعِ فِيهِ، ومَن فَسَّرَها عَلى أنَّها في كاتِمِي أمْرِ مُحَمَّدٍ قالَ: المَعْنى بَيَّنُوا أمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ فَتَجِيءُ الآيَةُ فِيمَن أسَلَمَ مِنَ اليَهُودِ والنَصارى، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى تَوْبَةِ اللهِ عَلى عَبْدِهِ، وأنَّها رُجُوعُهُ بِهِ عَنِ المَعْصِيَةِ إلى الطاعَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب