الباحث القرآني
أخبر تبارك وتعالى أن الشفاعة لمن له ملك السماوات والأرض، وهو الله وحده.
فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده. فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه.
فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده.
وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهي التي أبطلها الله سبحانه في كتابه، بقوله تعالى:
﴿واتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ شَيْئًا ولا يُقْبَلُ مِنها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُها شفاعَةٌ﴾ [البقرة: ١٢٣] وقوله ﴿يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا أنُفْقِوا مِمّا رَزَقْناكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يوْمٌ لا بَيْعٌ فِيه ولا خُلّةُ ولا شَفاعَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥٤] وقال تعالى: ﴿وَأنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخافُونَ أنْ يُحْشَرُوا إلى رَبهِمْ لَيْسَ لَهم مِن دُونِهِ ولِى ولا شَفِيعٌ لَعَلّهم يَتّقُونَ﴾ [الأنعام: ٥١] وقال: ﴿اللهُ الّذِي خَلَقَ السَّموات والأرْضَ بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ ثم اسْتَوى عَلى العَرْشِ مالَكم مِن دُونِهِ مِن ولِىٍّ ولا شَفِيعٍ﴾ [السجدة: ٤].
فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه. كما قال تعالى:
﴿ما مِن شَفِيعٍ إلا مِن بَعْدِ إذْنِهِ﴾ [يونس: ٣].
وقال: ﴿مَن ذا الّذِي يَشْفَعَ عِنْدَهُ إلا بِإذْنِه﴾ [البقرة: ٢٥٥] فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيع من دونه، بل شفيع بإذنه.
والفرق بين الشفيعين، كالفرق بين الشريك والعبد المأمور.
فالشفاعة التي أبطلها الله: شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتي أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له. ويقول: اشفع في فلان. ولهذا كان أسعد الناس بشفاعته سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه.
قال تعالى: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إلا لَمِنِ ارْتَضى﴾ [الأنبياء: ٢٨]، وقال: ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحمنُ ورَضِى لَهُ قَوْلًا﴾ [طه: ١٠٩]
فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.
وسر ذلك: أن الله له الأمر كله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده: هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئًا إلا بعد إذنه لهم، وأمرهم. ولاسيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه. فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظنًا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له ويمتنع عليه فإن هذا محال ممتنع، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج.
وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي.
والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغنى والفقير، والذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره.
فالشفعاء عند المخلوقين: هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم، فتنتقض طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم. فلا يجدون بدًا من قبول شفاعتهم على الكره والرضى.
فأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته. وكل من في السماوات والأرض عبد له، مقهورون بقهره، مصرفون. بمشيئته. لو أهلكهم جميعًا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قالُوا إنَّ اللهَ هو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إنْ أرادَ أنْ يُهْلِكَ الَمْسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ ومَن في الأرْضِ جَمِيعًا وللهِ مُلْكُ السَّمواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما يخلق ما يشاء واللهُ عَلى كَل شَئٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة: ١٧]، وقال سبحانه في سيدة آي القرآن: آية الكرسى: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وقال: ﴿قل لله الشّفاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الزمر: ٤٤].
فأخبر أن حال ملكه للسماوات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحدًا لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محض، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض.
فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة، بناءً على أنها هي المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فإنه الذي أذن، والذي قبل، والذي رضى عن المشفوع والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله.
فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رجاءه، ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه.
قال تعالى: ﴿أمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعاءَ﴾، إلى قوله: ﴿قُلْ للهِ الشّفاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٤٣-٤٤]،
وقال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ما لاَ يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم ويَقُولُونَ هؤلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ الله قُلْ أتُنَبئُونَ اللهَ بما لا يعْلمُ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: ١٨]، فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم، وإنما تحصل بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع.
وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقًا، ولا أمرًا، ولا إذنًا، بل هو سبب محرك له من خارج، كسائر الأسباب التي تحرك الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه فى أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع. وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع، فيردها ولا يقبلها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى مترددًا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضى القبول، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح، فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله: هي سعى في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به، ولو على كره منه، فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يشفع يأمر غيره، أو يكرهه على الفعل، إما بقوة وسلطان، وإما يرغبه شفاعته، فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع بها، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته.
وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه، فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده لحاجة الرب إليه، ولا لرهبته منه، ولا لرغبته فيما لزمه، وإنما يشفع عنده مجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة، مطيع بامتثال الأمر، فإن أحدًا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله تعالى، وخلقه، فالرب سبحانه وتعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه، ولو كان مملوكه وعبده. فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر، والمعاونة وغير ذلك، كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه: من رزق، أو نصر، أو غيره، فكل منهما محتاج إلى الآخر.
ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله، ﴿وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نورًا فماله مِن نُورٍ﴾ [النور: ٤٠].
{"ayahs_start":43,"ayahs":["أَمِ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَاۤءَۚ قُلۡ أَوَلَوۡ كَانُوا۟ لَا یَمۡلِكُونَ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَعۡقِلُونَ","قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَـٰعَةُ جَمِیعࣰاۖ لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ ثُمَّ إِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ"],"ayah":"قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَـٰعَةُ جَمِیعࣰاۖ لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ ثُمَّ إِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق