الباحث القرآني
(لطيفة: في منصب الخلة)
وهو منصب لا يقبل المزاحمة بغير المحبوب وأخذ الولد شعبة من شعاب القلب غار الحبيب على خليله أن يسكن غيره في شعبة من شعاب قلبه فأمره بذبحه فلما أسلم للامتثال خرجت تلك المزاحمة وخلصت المحبة لأهلها فجاءته البشرى ﴿وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾
ليس المراد أن يعذب ولكن يبتلي ليهذب.
ليس العجب من أمر الخليل بذبح الولد إنما العجب من مباشرة الذبح بيده، ولولا الاستغراق في حب الأمر لما هان مثل هذا المأمور فلذلك جعلت آثارها مثابة للقلوب تحن إليها أعظم من حنين الطيور إلى أوكارها.
* (فصل)
ثمَّ تَأمل حال أبينا الثّالِث إبْراهِيم إمام الحنفاء، وشَيخ الأنبياء، وعمود العالم، وخليل رب العالمين من بني آدم.
وَتَأمل ما آلت إليه محنته وصَبره وبذله نَفسه لله.
وَتَأمل كَيفَ آل بِهِ بذله لله نَفسه ونَصره دينه إلى أن اتَّخذهُ الله خَلِيلًا لنَفسِهِ، وأمر رَسُوله وخليله مُحَمَّدًا أن يتبع مِلَّته، وأنبهك على خصْلَة واحِدَة مِمّا أكرمه الله بِهِ في محنته بِذبح ولَده فَإن الله تبارك وتَعالى جازاه على تَسْلِيمه ولَده لأمر الله بأن بارك في نَسْله وكَثْرَة حَتّى مَلأ السهل والجبل، فَإن الله تبارك وتَعالى لا يتكرم عَلَيْهِ أحد وهو أكرم الأكرمين.
فَمن ترك لوجهه أمرا أوْ فعله لوجهه بذل الله لَهُ أضعاف ما تَركه من ذَلِك الأمر أضعافا مضاعفة وجازاه بأضعاف ما فعله لأجله أضعافا مضاعفة، فَلَمّا أمر إبْراهِيم بِذبح ولَده فبادر لأمر الله ووافَقَ عَلَيْهِ الوَلَد أباهُ رِضاء مِنهُما وتسليما، وعلم الله مِنهُما الصدْق والوَفاء فداه بِذبح عَظِيم وأعطاهما ما أعطاهما من فَضله، وكانَ من بعض عطاياه أن بارك في ذريتهما حَتّى ملؤا الأرض، فَإن المَقْصُود بِالوَلَدِ إنَّما هو التناسل وتكثير الذُّرِّيَّة، ولِهَذا قالَ إبْراهِيم ﴿رب هَب لي من الصّالِحين﴾
وَقالَ ﴿رب اجْعَلنِي مُقيم الصَّلاة ومن ذريتي﴾
فغاية ما كانَ يحذر ويخشى من ذبح ولَده انْقِطاع نَسْله، فَلَمّا بذل ولَده لله وبذل الوَلَد نَفسه ضاعف الله لَهُ النَّسْل وبارك فِيهِ وكثر حَتّى ملؤا الدُّنْيا وجعل النُّبُوَّة والكتاب في ذُريَّته خاصَّة وأخرج مِنهُم مُحَمَّدًا وقد ذكر أن داوُد عَلَيْهِ السَّلام أراد أن يعلم عدد بني إسْرائِيل فَأمر بإحضارهم وبعث لذَلِك نقباء وعرفاء وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بلغ عَددهمْ فَمَكَثُوا مُدَّة لا يقدرُونَ على ذَلِك فَأوحى الله إلى داوُد أن قد علمت إني وعدت أباك إبْراهِيم لما أمرته بِذبح ولَده فبادر إلى طاعَة امري أن أبارك لَهُ في ذُريَّته حَتّى يصيروا في عدد النُّجُوم واجعلهم بِحَيْثُ لا يُحْصى عَددهمْ وقد اردت أن يُحْصى عددا قدرت أنه لا يُحْصى وذكر باقِي الحَدِيث فَجعل من نَسْله هاتين الأمتين العظيمتين اللَّتَيْنِ لا يُحْصى عَددهمْ إلا الله خالقهم ورازقهم، وهم بَنو إسْرائِيل وبَنُو إسمايعل هَذا سوى ما أكْرمه الله بِهِ من رفع الذّكر والثناء الجَمِيل على السّنة جَمِيع الأمم وفي السَّماوات بَين المَلائِكَة فَهَذا من بعض ثَمَرَة مُعامَلَته فتبا لمن عرفه ثمَّ عامل غَيره ما اخسر صفقته وما أعظم حسرته.
* [فَصْلٌ: كَمالُ المَحَبَّةِ]
ثُمَّ الخُلَّةُ وهي تَتَضَمَّنُ كَمالَ المَحَبَّةِ ونِهايَتَها، بِحَيْثُ لا يَبْقى في القَلْبِ سَعَةٌ لِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ، وهي مَنصِبٌ لا يَقْبَلُ المُشارَكَةَ بِوَجْهٍ ما، وهَذا المَنصِبُ خاصٌّ لِلْخَلِيلَيْنِ - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِما -: إبْراهِيمَ ومُحَمَّدٍ، كَما قالَ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَما اتَّخَذَ إبْراهِيمَ خَلِيلًا».
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِن أهْلِ الأرْضِ خَلِيلًا لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ خَلِيلًا، ولَكِنَّ صاحِبَكم خَلِيلُ اللَّهِ».
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إنِّي أبْرَأُ إلى كُلِّ خَلِيلٍ مِن خُلَّتِهِ»
وَلَمّا سَألَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ الوَلَدَ فَأُعْطِيَهُ، وتَعَلَّقَ حُبُّهُ بِقَلْبِهِ، فَأخَذَ مِنهُ شُعْبَةً، غارَ الحَبِيبُ عَلى خَلِيلِهِ أنْ يَكُونَ في قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهِ، فَأمَرَهُ بِذَبْحِهِ، وكانَ الأمْرُ في المَنامِ لِيَكُونَ َنْفِيذُ المَأْمُورِ بِهِ أعْظَمَ ابْتِلاءً وامْتِحانًا، ولَمْ يَكُنِ المَقْصُودُ ذَبْحَ الوَلَدِ، ولَكِنَّ المَقْصُودَ ذَبْحُهُ مِن قَلْبِهِ؛ لِيَخْلُصَ القَلْبُ لِلرَّبِّ، فَلَمّا بادَرَ الخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى الِامْتِثالِ، وقَدَّمَ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَلى مَحَبَّةِ ولَدِهِ، حَصَلَ المَقْصُودُ فَرُفِعَ الذَّبْحُ، وفُدِيَ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، فَإنَّ الرَّبَّ تَعالى ما أمَرَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ أبْطَلَهُ رَأْسًا، بَلْ لا بُدَّ أنْ يُبْقِيَ بَعْضَهُ أوْ بَدَلَهُ، كَما أبْقى شَرِيعَةَ الفِداءِ، وكَما أبْقى اسْتِحْبابَ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيِ المُناجاةِ، وكَما أبْقى الخَمْسَ الصَّلَواتِ بَعْدَ رَفْعِ الخَمْسِينَ وأبْقى ثَوابَها، وقالَ: «وَلا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، هي خَمْسٌ في الفِعْلِ، وهي خَمْسُونَ في الأجْرِ».
* [فَصْلٌ: المَحَبَّةُ والخُلَّةُ]
وَأمّا ما يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالِطِينَ - أنَّ المَحَبَّةَ أكْمَلُ مِنَ الخُلَّةِ، وأنَّ إبْراهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، ومُحَمَّدًا حَبِيبُ اللَّهِ - فَمِن جَهْلِهِ، فَإنَّ المَحَبَّةَ عامَّةٌ، والخُلَّةَ خاصَّةٌ، والخُلَّةَ نِهايَةُ المَحَبَّةِ، وقَدْ أخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا كَما اتَّخَذَ إبْراهِيمَ خَلِيلًا ونَفى أنْ يَكُونَ لَهُ خَلِيلٌ غَيْرُ رَبِّهِ مَعَ إخْبارِهِ بِحُبِّهِ لِعائِشَةَ ولِأبِيها ولِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وغَيْرِهِمْ.
وَأيْضًا فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ: ﴿يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: ٢٢٢].
و﴿يُحِبُّ الصّابِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٦].
و﴿يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٨].
و﴿يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ [المائدة: ٤٢].
والشّابُّ التّائِبُ حَبِيبُ اللَّهِ، وخُلَّتُهُ خاصَّةٌ بِالخَلِيلَيْنِ، وإنَّما هَذا مِن قِلَّةِ العِلْمِ والفَهْمِ عَنِ اللَّهِ ورَسُولِهِ ﷺ.
* (فصل)
والخُلَّةُ هي المَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتْ رُوحَ المُحِبِّ وقَلْبَهُ، حَتّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِ المَحْبُوبِ، كَما قِيلَ:
؎قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ∗∗∗ ولِذا سُمِّيَ الخَلِيلُ خَلِيلا.
وَهَذا هو السِّرُّ الَّذِي لِأجْلِهِ - واللَّهُ أعْلَمُ - أُمِرَ الخَلِيلُ بِذَبْحِ ولَدِهِ، وثَمَرَةِ فُؤادِهِ وفِلْذَةِ كَبِدِهِ. لِأنَّهُ لَمّا سَألَ الوَلَدَ فَأُعْطِيَهُ، تَعَلَّقَتْ بِهِ شُعْبَةٌ مِن قَلْبِهِ. والخُلَّةُ مَنصِبٌ لا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ والقِسْمَةَ. فَغارَ الخَلِيلُ عَلى خَلِيلِهِ: أنْ يَكُونَ في قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهِ. فَأمَرَهُ بِذَبْحِ الوَلَدِ. لِيُخْرِجَ المُزاحِمَ مِن قَلْبِهِ.
فَلَمّا وطَّنَ نَفْسَهُ عَلى ذَلِكَ، وعَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا جازِمًا: حَصَلَ مَقْصُودُ الأمْرِ. فَلَمْ يَبْقَ في إزْهاقِ نَفْسِ الوَلَدِ مَصْلَحَةٌ. فَحالَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ. وفَداهُ بِالذِّبْحِ العَظِيمِ. وقِيلَ لَهُ: ﴿ياإبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا﴾ [الصافات: ١٠٤] أيْ عَمِلْتَ عَمَلَ المُصَدِّقِ ﴿إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ [الصافات: ٨٠] نَجْزِي مَن بادَرَ إلى طاعَتِنا، فَنُقِرُّ عَيْنَهُ كَما أقْرَرْنا عَيْنَكَ بِامْتِثالِ أوامِرَنا، وإبْقاءِ الوَلَدِ وسَلامَتِهِ ﴿إنَّ هَذا لَهو البَلاءُ المُبِينُ﴾ [الصافات: ١٠٦] وهو اخْتِبارُ المَحْبُوبِ لِمُحِبِّهِ، وامْتِحانُهُ إيّاهُ لِيُؤْثِرَ مَرْضاتَهُ. فَيُتِمَّ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، فَهو بَلاءُ مِحْنَةٍ ومِنحَةٍ عَلَيْهِ مَعًا.
وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ إنَّما دَعا إلَيْها بِها خَواصُّ خَلْقِهِ، وأهْلُ الألْبابِ والبَصائِرِ مِنهم. فَما كَلُّ أحَدٍ يُجِيبُ داعِيها. ولا كُلُّ عَيْنٍ قَرِيرَةً بِها. وأهْلُها هُمُ الَّذِينَ حَصَلُوا في وسَطِ قَبْضَةِ اليَمِينِ يَوْمَ القَبْضَتَيْنِ. وسائِرُ أهْلِ اليَمِينِ في أطْرافِها.
؎فَما كَلُّ عَيْنٍ بِالحَبِيبِ قَرِيرَةً ∗∗∗ ولا كُلُّ مَن نُودِيَ يُجِيبُ المُنادِيا
؎وَمَن لا يُجِبْ داعِيَ هُداكَ فَخَلِّهِ ∗∗∗ يُجِبْ كُلَّ مَن أضْحى إلى الغَيِّ داعِيا
؎وَقُلْ لِلْعُيُونِ الرُّمَّدِ: إيّاكِ أنْ تَرَيْ ∗∗∗ سَنا الشَّمْسِ فاسْتَغْشَيْ ظَلامَ اللَّيالِيا
؎وَسامِحْ نُفُوسًا لَمْ يَهَبْها لِحِبِّهِمْ ∗∗∗ ودَعْها وما اخْتارَتْ ولا تَكُ جافِيا
* [فَصْلُ الغَرَقِ]
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ:
(بابُ الغَرَقِ) قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: ١٠٣]
هَذا اسْمٌ يُشارُ بِهِ في هَذا البابِ إلى مَن تَوَسَّطَ المَقامَ، وجاوَزَ حَدَّ التَّفَرُّقِ.
وَجْهُ اسْتِدْلالِهِ بِإشارَةِ الآيَةِ: أنَّ إبْراهِيمَ ﷺ لَمّا بَلَغَ ما بَلَغَ هو ووَلَدُهُ في المُبادَرَةِ إلى الِامْتِثالِ، والعَزْمِ عَلى إيقاعِ الذَّبْحِ المَأْمُورِ بِهِ: ألْقاهُ الوالِدُ عَلى جَبِينِهِ في الحالِ وأخَذَ الشَّفْرَةَ وأهْوى إلى حَلْقِهِ، أعْرَضَ في تِلْكَ الحالِ عَنْ نَفْسِهِ ووَلَدِهِ،
وَفَنِيَ بِأمْرِ اللَّهِ عَنْهُما، فَتَوَسَّطَ بَحْرَ جَمْعِ السِّرِّ والقَلْبِ والهَمِّ عَلى اللَّهِ، وجاوَزَ حَدَّ التَّفْرِقَةِ المانِعَةِ مِنَ امْتِثالِ هَذا الأمْرِ.
قَوْلُهُ: " ﴿فَلَمّا أسْلَما﴾ " اسْتَسْلَما وانْقادا لِأمْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يَبْقَ هُناكَ مُنازَعَةٌ لا مِنَ الوالِدِ ولا مِنَ الوَلَدِ، بَلِ اسْتِسْلامٌ صِرْفٌ وتَسْلِيمٌ مَحْضٌ.
قَوْلُهُ: " ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾
أيْ: صَرَعَهُ عَلى جَبِينِهِ، وهو جانِبُ الجَبْهَةِ الَّذِي يَلِي الأرْضَ عِنْدَ النَّوْمِ، وتِلْكَ هي هَيْئَةُ ما يُرادُ ذَبْحُهُ.
قَوْلُهُ: " تَوَسَّطَ المَقامَ " لا يُرِيدُ بِهِ مَقامًا مُعَيَّنًا، ولِذَلِكَ أبْهَمَهُ ولَمْ يُقَيِّدْهُ
و" المَقامُ " عِنْدَهُمْ: مَنزِلٌ مِن مَنازِلِ السّالِكِينَ، وهو يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ مَراتِبِهِ، ولَهُ بِدايَةٌ وتَوَسُّطٌ ونِهايَةٌ، فَ " الغَرَقُ " المُشارُ إلَيْهِ: أنْ يَصِيرَ في وسَطِ المَقامِ.
فَإنْ قِيلَ: الغَرَقُ أخَصُّ بِنِهايَةِ المَقامِ مِن تَوَسُّطِهِ؛ لِأنَّهُ اسْتِغْراقٌ فِيهِ بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ قَلْبَهُ وهَمَّهُ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ الشَّيْخُ تَوَسُّطًا فِيهِ؟
قُلْتُ: لَمّا كانَتْ هِمَّةُ الطّالِبِ في هَذِهِ الحالِ مَجْمُوعَةٌ عَلى المَقْصُودِ، وهو مُعْرِضٌ عَمّا سِواهُ، قَدْ فارَقَ مَقامَ التَّفْرِقَةِ، وجاوَزَ حَدَّها إلى مَقامِ الجَمْعِ، فابْتَدَأ في المَقامِ وأوَّلُ كُلِّ مَقامٍ يُشْبِهُ آخِرَ الَّذِي قَبْلَهُ فَلَمّا تَوَسَّطَ فِيهِ اسْتَغْرَقَ قَلْبَهُ وهَمَّهُ وإرادَتَهُ، كَما يَغْرَقُ مَن تَوَسَّطَ اللُّجَّةَ فِيها قَبْلَ وُصُولِهِ إلى آخِرِها.
* (فصل: في أن الذبيح إسماعيل - عليه السلام-)
وَإسْماعِيلُ: هو الذَّبِيحُ عَلى القَوْلِ الصَّوابِ عِنْدَ عُلَماءِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ ومَن بَعْدَهم.
وَأمّا القَوْلُ بِأنَّهُ إسْحاقُ فَباطِلٌ بِأكْثَرَ مِن عِشْرِينَ وجْهًا، وسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: هَذا القَوْلُ إنَّما هو مُتَلَقًّى عَنْ أهْلِ الكِتابِ، مَعَ أنَّهُ باطِلٌ بِنَصِّ كِتابِهِمْ، فَإنَّ فِيهِ: إنَّ اللَّهَ أمَرَ إبْراهِيمَ أنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ بِكْرَهُ، وفي لَفْظٍ: وحِيدَهُ، ولا يَشُكُّ أهْلُ الكِتابِ مَعَ المُسْلِمِينَ أنَّ إسْماعِيلَ هو بِكْرُ أوْلادِهِ، والَّذِي غَرَّ أصْحابَ هَذا القَوْلِ أنَّ في التَّوْراةِ الَّتِي بِأيْدِيهِمْ: اذْبَحِ ابْنَكَ إسْحاقَ، قالَ: وهَذِهِ الزِّيادَةُ مِن تَحْرِيفِهِمْ وكَذِبِهِمْ لِأنَّها تُناقِضُ قَوْلَهُ: اذْبَحْ بِكْرَكَ ووَحِيدَكَ، ولَكِنَّ اليَهُودَ حَسَدَتْ بَنِي إسْماعِيلَ عَلى هَذا الشَّرَفِ وأحَبُّوا أنْ يَكُونَ لَهُمْ، وأنْ يَسُوقُوهُ إلَيْهِمْ ويَحْتازُوهُ لِأنْفُسِهِمْ دُونَ العَرَبِ، ويَأْبى اللَّهُ إلّا أنْ يَجْعَلَ فَضْلَهُ لِأهْلِهِ. وكَيْفَ يَسُوغُ أنْ يُقالَ: إنَّ الذَّبِيحَ إسْحاقُ، واللَّهُ تَعالى قَدْ بَشَّرَ أُمَّ إسْحاقَ بِهِ وبِابْنِهِ يَعْقُوبَ، فَقالَ تَعالى عَنِ المَلائِكَةِ: إنَّهم قالُوا لِإبْراهِيمَ لَمّا أتَوْهُ بِالبُشْرى: ﴿لا تَخَفْ إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمِ لُوطٍ - وامْرَأتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإسْحاقَ ومِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: ٧٠-٧١] فَمُحالٌ أنْ يُبَشِّرَها بِأنَّهُ يَكُونُ لَها ولَدٌ ثُمَّ يَأْمُرَ بِذَبْحِهِ، ولا رَيْبَ أنَّ يَعْقُوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ داخِلٌ في البِشارَةِ، فَتَناوُلُ البِشارَةِ لِإسْحاقَ ويَعْقُوبَ في اللَّفْظِ واحِدٌ، وهَذا ظاهِرُ الكَلامِ وسِياقُهُ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ الأمْرُ كَما ذَكَرْتُمُوهُ لَكانَ " يَعْقُوبُ " مَجْرُورًا عَطْفًا عَلى إسْحاقَ، فَكانَتِ القِراءَةُ ﴿وَمِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ﴾
أيْ: ويَعْقُوبُ مِن وراءِ إسْحاقَ.
قِيلَ لا يَمْنَعُ الرَّفْعُ أنْ يَكُونَ يَعْقُوبُ مُبَشَّرًا بِهِ؛ لِأنَّ البِشارَةَ قَوْلٌ مَخْصُوصٌ، وهي أوَّلُ خَبَرٍ سارٍّ صادِقٍ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: ٧١] جُمْلَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِهَذِهِ القُيُودِ، فَتَكُونُ بِشارَةً، بَلْ حَقِيقَةُ البِشارَةِ هي الجُمْلَةُ الخَبَرِيَّةُ.
وَلَمّا كانَتِ البِشارَةُ قَوْلًا كانَ مَوْضِعُ هَذِهِ الجُمْلَةِ نَصْبًا عَلى الحِكايَةِ بِالقَوْلِ، كَأنَّ المَعْنى: وقُلْنا لَها: مِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبُ، والقائِلُ إذا قالَ: بَشَّرْتُ فُلانًا بِقُدُومِ أخِيهِ وثِقَلِهِ في أثَرِهِ لَمْ يُعْقَلْ مِنهُ إلّا بِشارَتُهُ بِالأمْرَيْنِ جَمِيعًا. هَذا مِمّا لا يَسْتَرِيبُ ذُو فَهْمٍ فِيهِ ألْبَتَّةَ، ثُمَّ يُضْعِفُ الجَرَّ أمْرٌ آخَرُ وهو ضَعْفُ قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ ومِن بَعْدِهِ عَمْرٍو، ولِأنَّ العاطِفَ يَقُومُ مَقامَ حَرْفِ الجَرِّ، فَلا يُفْصَلُ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَجْرُورِ، كَما لا يُفْصَلُ بَيْنَ حَرْفِ الجَرِّ والمَجْرُورِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمّا ذَكَرَ قِصَّةَ إبْراهِيمَ وابْنِهِ الذَّبِيحِ في سُورَةِ (الصّافّاتِ) قالَ: ﴿فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ - ونادَيْناهُ أنْ ياإبْراهِيمُ - قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ - إنَّ هَذا لَهو البَلاءُ المُبِينُ - وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ - وتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ - سَلامٌ عَلى إبْراهِيمَ - كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ - إنَّهُ مِن عِبادِنا المُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات: ١٠٣-١١١].
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وَبَشَّرْناهُ بِإسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [الصافات: ١١٢]. فَهَذِهِ بِشارَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لَهُ شُكْرًا عَلى صَبْرِهِ عَلى ما أُمِرَ بِهِ، وهَذا ظاهِرٌ جِدًّا في أنَّ المُبَشَّرَ بِهِ غَيْرُ الأوَّلِ، بَلْ هو كالنَّصِّ فِيهِ.
فَإنْ قِيلَ: فالبِشارَةُ الثّانِيَةُ وقَعَتْ عَلى نُبُوَّتِهِ، أيْ لَمّا صَبَرَ الأبُ عَلى ما أُمِرَ بِهِ وأسْلَمَ الوَلَدُ لِأمْرِ اللَّهِ جازاهُ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ بِأنْ أعْطاهُ النُّبُوَّةَ.
قِيلَ: البِشارَةُ وقَعَتْ عَلى المَجْمُوعِ: عَلى ذاتِهِ ووُجُودِهِ، وأنْ يَكُونَ نَبِيًّا، ولِهَذا نُصِبَ " نَبِيًّا " عَلى الحالِ المُقَدَّرِ، أيْ: مُقَدَّرًا نُبُوَّتَهُ، فَلا يُمْكِنُ إخْراجُ البِشارَةِ أنْ تَقَعَ عَلى الأصْلِ، ثُمَّ تُخَصُّ بِالحالِ التّابِعَةِ الجارِيَةِ مَجْرى الفَضْلَةِ، هَذا مُحالٌ مِنَ الكَلامِ، بَلْ إذا وقَعَتِ البِشارَةُ عَلى نُبُوَّتِهِ فَوُقُوعُها عَلى وُجُودِهِ أوْلى وأحْرى.
وَأيْضًا فَلا رَيْبَ أنَّ الذَّبِيحَ كانَ بِمَكَّةَ، ولِذَلِكَ جُعِلَتِ القَرابِينُ يَوْمَ النَّحْرِ بِها، كَما جُعِلَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ ورَمْيُ الجِمارِ تَذْكِيرًا لِشَأْنِ إسْماعِيلَ وأُمِّهِ، وإقامَةً لِذِكْرِ اللَّهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ إسْماعِيلَ وأُمَّهُ هُما اللَّذانِ كانا بِمَكَّةَ دُونَ إسْحاقَ وأُمِّهِ، ولِهَذا اتَّصَلَ مَكانُ الذَّبْحِ وزَمانُهُ بِالبَيْتِ الحَرامِ الَّذِي اشْتَرَكَ في بِنائِهِ إبْراهِيمُ وإسْماعِيلُ، وكانَ النَّحْرُ بِمَكَّةَ مِن تَمامِ حَجِّ البَيْتِ الَّذِي كانَ عَلى يَدِ إبْراهِيمَ وابْنِهِ إسْماعِيلَ زَمانًا ومَكانًا، ولَوْ كانَ الذَّبْحُ بِالشّامِ كَما يَزْعُمُ أهْلُ الكِتابِ ومَن تَلَقّى عَنْهم لَكانَتِ القَرابِينُ والنَّحْرُ بِالشّامِ لا بِمَكَّةَ.
وَأيْضًا فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ سَمّى الذَّبِيحَ حَلِيمًا؛ لِأنَّهُ لا أحْلَمَ مِمَّنْ أسْلَمَ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ طاعَةً لِرَبِّهِ. ولَمّا ذَكَرَ إسْحاقَ سَمّاهُ عَلِيمًا، فَقالَ تَعالى: ﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْراهِيمَ المُكْرَمِينَ - إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ [الذاريات: ٢٤-٢٥]
إلى أنْ قالَ: ﴿قالُوا لا تَخَفْ وبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات: ٢٨]
وَهَذا إسْحاقُ بِلا رَيْبٍ لِأنَّهُ مِنَ امْرَأتِهِ، وهي المُبَشَّرَةُ بِهِ، وأمّا إسْماعِيلُ فَمِنَ السُّرِّيَّةِ، وأيْضًا فَإنَّهُما بُشِّرا بِهِ عَلى الكِبَرِ واليَأْسِ مِنَ الوَلَدِ، وهَذا بِخِلافِ إسْماعِيلَ، فَإنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأيْضًا فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أجْرى العادَةَ البَشَرِيَّةَ أنَّ بِكْرَ الأوْلادِ أحَبُّ إلى الوالِدَيْنِ مِمَّنْ بَعْدَهُ، وإبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا سَألَ رَبَّهُ الوَلَدَ ووَهَبَهُ لَهُ تَعَلَّقَتْ شُعْبَةٌ مِن قَلْبِهِ بِمَحَبَّتِهِ، واللَّهُ تَعالى قَدِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا، والخُلَّةُ مَنصِبٌ يَقْتَضِي تَوْحِيدَ المَحْبُوبِ بِالمَحَبَّةِ، وأنْ لا يُشارِكَ بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ فِيها، فَلَمّا أخَذَ الوَلَدُ شُعْبَةً مِن قَلْبِ الوالِدِ جاءَتْ غَيْرَةُ الخُلَّةِ تَنْتَزِعُها مِن قَلْبِ الخَلِيلِ، فَأمَرَهُ بِذَبْحِ المَحْبُوبِ، فَلَمّا أقْدَمَ عَلى ذَبْحِهِ وكانَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ أعْظَمَ عِنْدَهُ مِن مَحَبَّةِ الوَلَدِ خَلَصَتِ الخُلَّةُ حِينَئِذٍ مِن شَوائِبِ المُشارَكَةِ، فَلَمْ يَبْقَ في الذَّبْحِ مَصْلَحَةٌ، إذْ كانَتِ المَصْلَحَةُ إنَّما هي في العَزْمِ وتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَيْهِ، فَقَدْ حَصَلَ المَقْصُودُ فَنُسِخَ الأمْرُ وفُدِيَ الذَّبِيحُ، وصَدَّقَ الخَلِيلُ الرُّؤْيا، وحَصَلَ مُرادُ الرَّبِّ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذا الِامْتِحانَ والِاخْتِبارَ إنَّما حَصَلَ عِنْدَ أوَّلِ مَوْلُودٍ، ولَمْ يَكُنْ لِيَحْصُلَ في المَوْلُودِ الآخَرِ دُونَ الأوَّلِ، بَلْ لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ المَوْلُودِ الآخَرِ مِن مُزاحَمَةِ الخُلَّةِ ما يَقْتَضِي الأمْرَ بِذَبْحِهِ، وهَذا في غايَةِ الظُّهُورِ.
وَأيْضًا فَإنَّ سارة امْرَأةَ الخَلِيلِ ﷺ غارَتْ مِن هاجر وابْنِها أشَدَّ الغَيْرَةِ، فَإنَّها كانَتْ جارِيَةً، فَلَمّا ولَدَتْ إسْماعِيلَ وأحَبَّهُ أبُوهُ اشْتَدَّتْ غَيْرَةُ " سارة " فَأمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ يُبْعِدَ عَنْها " هاجر " وابْنَها ويُسْكِنَها في أرْضِ مَكَّةَ لِتَبْرُدَ عَنْ " سارة " حَرارَةُ الغَيْرَةِ، وهَذا مِن رَحْمَتِهِ تَعالى ورَأْفَتِهِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ سُبْحانَهُ بَعْدَ هَذا أنْ يَذْبَحَ ابْنَها ويَدَعَ ابْنَ الجارِيَةِ بِحالِهِ، هَذا مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ لَها وإبْعادِ الضَّرَرِ عَنْها وجَبْرِهِ لَها، فَكَيْفَ يَأْمُرُ بَعْدَ هَذا بِذَبْحِ ابْنِها دُونَ ابْنِ الجارِيَةِ، بَلْ حِكْمَتُهُ البالِغَةُ اقْتَضَتْ أنْ يَأْمُرَ بِذَبْحِ ولَدِ السُّرِّيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَرِقُّ قَلْبُ السَّيِّدَةِ عَلَيْها وعَلى ولَدِها، وتَتَبَدَّلُ قَسْوَةُ الغَيْرَةِ رَحْمَةً، ويَظْهَرُ لَها بَرَكَةُ هَذِهِ الجارِيَةِ ووَلَدِها، وأنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ بَيْتًا هَذِهِ وابْنُها مِنهُمْ، ولِيُرِيَ عِبادَهُ جَبْرَهُ بَعْدَ الكَسْرِ، ولُطْفَهُ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وأنَّ عاقِبَةَ صَبْرِ " هاجر " وابْنِها عَلى البُعْدِ والوَحْدَةِ والغُرْبَةِ والتَّسْلِيمِ إلى ذَبْحِ الوَلَدِ آلَتْ إلى ما آلَتْ إلَيْهِ مِن جَعْلِ آثارِهِما ومَواطِئِ أقْدامِهِما مَناسِكَ لِعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ، ومُتَعَبَّداتٍ لَهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وهَذِهِ سُنَّتُهُ تَعالى فِيمَن يُرِيدُ رَفْعَهُ مِن خَلْقِهِ أنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِضْعافِهِ وذُلِّهِ وانْكِسارِهِ. قالَ تَعالى: ﴿وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ ونَجْعَلَهم أئِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الوارِثِينَ﴾ [القصص: ٥]
وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ، واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
* (فصل)
وقال في إغاثة اللهفان - نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" -.
قال: في التوراة عندهم: أن الله سبحانه وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام:
"اذبح ولدك بكرك، ووحيدك إسحاق" زيادة منهم في لفظ التوراة.
قلت: وهي باطلة قطعا من عشرة أوجه.
أحدها: أن بكره ووحيده هو إسماعيل باتفاق الملل الثلاث. فالجمع بين كونه مأمور بذبح بكره وتعيينه بإسحاق جمع بين النقيضين.
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم أن ينقل هاجر وابنها إسماعيل عن سارة، ويسكنها في برية مكة، لئلا تغير سارة. فأمر بإبعاد السرية وولدها عنها، حفظا لقلبها، ودفعا لأذى الغيرة عنها. فكيف يأمر سبحانه وتعالى بعد هذا بذبح ابن سارة وإبقاء ابن السرية؟ فهذا مما لا تقتضيه الحكمة.
الثالث: أن قصة الذبح كانت بمكة قطعا، ولهذا جعل الله تعالى ذبح الهدايا والقرابين بمكة، تذكيرا للأمة بما كان من قصة أبيهم إبراهيم مع ولده.
الرابع: أن الله سبحانه بشر سارة أم إسحاق: ﴿بِإسْحاقَ ومِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: ٧١]. فبشرها بهما جمعيا، فكيف يأمر بعد ذلك بذبح إسحاق، وقد بشر أبويه بولد ولده؟
الخامس: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة الذبيح وتسليمه نفسه لله تعالى، وإقدام إبراهيم على ذبحه، وفرغ من قصته، قال بعدها:
﴿وَبَشّرْناهُ بِإسْحقَ نَبِيا مِنَ الصّالحِينَ﴾ [الصافات: ١١٢].
فشكر الله تعالى له استسلامه لأمره، وبذل ولده له، وجعل من إثابته على ذلك: أن آتاه إسحاق. فنجى إسماعيل من الذبح، وزاده عليه إسحاق.
السادس: أن إبراهيم - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - سأل ربه الولد. فأجاب الله دعاءه، وبشره، فلما بلغ معه السعي أمره بذبحه. قال تعالى:
﴿وَقالَ إنِّي ذاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصّالحِينَ فَبَشّرْ ناهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٩٩-١٠١].
فهذا دليل على أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه وسؤاله ربه أن يهب له ولدا، وهذا المبشر به هو المأمور بذبحه قطعا بنص القرآن.
وأما إسحاق فإنما بشر به من غير دعوة منه، بل على كبر السن، وكون مثله لا يولد له، وإنما كانت البشارة به لامرأته سارة، ولهذا تعجبت من حصول الولد منها ومنه.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إبْراهِيمَ بِالبُشْرى قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمّا رَأى أيْدِيَهم لا تَصِلُ إلَيْهِ نَكِرَهم وأوْجَسَ مِنهم خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وامْرَأتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإسْحاقَ ومِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ ياوَيْلَتا أألِدُ وأنا عَجُوزٌ وهَذا بَعْلِي شَيْخًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أتَعْجَبِينَ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾.
فتأمل سياق هذه البشارة وتلك، تجدهما بشارتين، متفاوتتين، مخرج إحداهما غير مخرج الأخرى.
والبشارة الأولى كانت له. والثانية كانت لها.
والبشارة الأولى هي التي أمر بذبح من بشر به فيها، دون الثانية.
السابع: أن إبراهيم عليه السلام لم يقدم بإسحاق إلى مكة ألبتة، ولم يفرق بينه وبين أمه. وكيف يأمره الله تعالى أن يذهب بابن امرأته، فيذبحه بموضع ضرتها في بلدها، ويدع ابن ضرتها؟
الثامن: أن الله تعالى لما اتخذ إبراهيم خليلا. والخلة تتضمن أن يكون قلبه كله متعلقا بربه، ليس فيه شعبة لغيره. فلما سأله الولد، وهبه إسماعيل. فتعلق به شعبة من قلبه. فأراد خليله سبحانه أن تكون تلك الشعبة له، ليست لغيره من الخلق. فامتحنه بذبح ولده. فلما أقدم على الامتثال. خلصت له تلك الخلة، وتمحضت لله وحده. فنسخ الأمر بالذبح، لحصول المقصود وهو العزم، وتوطين النفس على الامتثال.
ومن المعلوم: أن هذا إنما يكون في أول الأولاد، لا في آخرها. فلما حصل هذا المقصود من الولد الأول لم يحتج في الولد الآخر إلى مثله. فإنه لو زاحمت محبة الولد الآخر الخلة لأمر بذبحه. كما أمر بذبح الأول. فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر لكان قد أقره في الأول على مزاحمة الخلة به مدة طويلة. ثم أمره بما يزيل المزاحم بعد ذلك. وهذا خلاف مقتضى الحكمة فتأمله.
التاسع: أن إبراهيم عليه السلام إنما رزق إسحاق عليه السلام على الكبر، وإسماعيل عليه السلام رزقه في عنفوانه وقوته. والعادة أن القلب أعلق بأول الأولاد، وهو إليه أميل وله أحب، بخلاف من يرزقه على الكبر. ومحل الولد بعد الكبر كمحل الشهوة للمرأة.
العاشر: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يفتخر بقوله:
"أنا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ".
يعني أباه عبد الله، وجده إسماعيل.
{"ayahs_start":102,"ayahs":["فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡیَ قَالَ یَـٰبُنَیَّ إِنِّیۤ أَرَىٰ فِی ٱلۡمَنَامِ أَنِّیۤ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ یَـٰۤأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ","فَلَمَّاۤ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِینِ","وَنَـٰدَیۡنَـٰهُ أَن یَـٰۤإِبۡرَ ٰهِیمُ","قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡیَاۤۚ إِنَّا كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ","إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَـٰۤؤُا۟ ٱلۡمُبِینُ","وَفَدَیۡنَـٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِیمࣲ"],"ayah":"إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَـٰۤؤُا۟ ٱلۡمُبِینُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق