﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَاۤءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِیُّ ٱلۡحَمِیدُ﴾ [فاطر ١٥]
(ياأيُّها النّاسُ أنْتُمُ الفُقَراءُ إلى اللَّهِ واللَّهُ هو الغَنِيُّ الحَمِيدُ (١٥)}
بين سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم، لا ينفك عنهم، كما أن كونه غنيا حميدا ذاتي فغناه وحمده ثابت له لذاته: لا لأمر أوجبه. وفقر من سواه إليه ثابت له لذاته، لا لأمر أوجبه فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان بل هو ذاتي للفقير. فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة. كما أن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأمر أوجب غناه.
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ∗∗∗ كما أن الغنى أبدا وصف له ذاتي
فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة. وكل ما يذكر ويقرر من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة، لا علل لذلك. إذ ما بالذات لا يعلّل لفقير بذاته محتاج إلى الغنى بذاته. فما يذكر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلة على الفقر لا أسباب له.
ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين تذكرهما الفلاسفة والمتكلمون.
فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان. والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث.
والصواب: أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار وفقر العالم إلى الله سبحانه أمر ذاتي لا يعلل فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته.
ثم يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من ادلة على هذا الفقر.
والمقصود: أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه كما أخبر عن ذاته المقدسة، وحقيقته أنه غني حميد.
فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي.
والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرا. ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلّا غنيّا. كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلا عبدا ويستحيل أن يكون الرب إلا ربّا.
* (موعظة)
من أعجب الأشْياء أن تعرفه ثمَّ لا تحبه وأن تسمع داعيه ثمَّ تتأخر عَن الإجابَة، وأن تعرف قدر الرِّبْح في مُعامَلَته ثمَّ تعْمل غَيره.
وَأن تعرف قدر غَضَبه ثمَّ تتعرّض لَهُ، وأن تذوق ألم الوحشة في مَعْصِيَته ثمَّ لا تطلب الأنس بِطاعَتِهِ.
وَأن تذوق عصرة القلب عند الخَوْض في غير حَدِيثه، والحَدِيث عَنهُ ثمَّ لا تشتاق إلى انْشِراح الصَّدْر بِذكرِهِ ومناجاته.
وَأن تذوق العَذاب عند تعلق القلب بِغَيْرِهِ ولا تهرب مِنهُ إلى نعيم الإقبال عَلَيْهِ والإنابة إلَيْهِ.
وأعجب من هَذا علمك أنَّك لا بد لَك مِنهُ، وأنَّك أحْوج شَيْء إلَيْهِ، وأنت عَنهُ معرض، وفِيما يبعدك عَنهُ راغِب.
* (فصل: في أن الله هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه)
قال الله سبحانه:
﴿ياأيّها النّاسُ أنتُمُ الفُقَرَآءُ إلى اللهِ واللهُ هو الغَنِيّ الحَمِيدُ﴾بيَّن سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، كما أن كونه غنيًا حميدًا أمر ذاتي له، فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه، فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان، بل هو ذاتي للفقير: فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة، كما أن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأمر أوجب غناه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازم أبدًا ∗∗∗ كما الغنى أبدًا وصفٌ له ذاتي
فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة، وكل ما يذكر ويقرر من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك، إذ ما بالذات لا يعلل، فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته، فما يذكر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلة على الفقر لا أسباب له، ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث، والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله - عز وجل - أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته، ثم يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأدلة على هذا الفقر.
والمقصود أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه - عز وجل -، كما أخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أنه غنى حميد، فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي، فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرًا، ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلا غنيًا، كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلا عبدًا والرب إلا ربًا.
إذا عرف هذا فالفقر فقران:
فقر اضطراري، وهو فقر عام لا خروج لبرّ ولا فاجر عنه، وهذا لا يقتضي مدحًا ولا ذمًا ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا.
والفقر الثاني فقر اختياري هو نتيجة علمين شريفين: أحدهما معرفة العبد بربه، والثاني معرفته بنفسه. فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا له فقرًا هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته، وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التامّ والحكمة عرف نفسه بالجهل، فالله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئًا ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئًا ولا يقدر على عطاءٍ ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء ألبتة، فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كما له أمرًا مشهودًا محسوسًا لكل أحد، ومعلوم أن هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها.
وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبدًا فقيرًا بذاته إلى بارئه وفاطره.
فلما أسبغ عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرًا وباطنًا، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلمه وأقدره وصرفه وحركه، ومكنه من استخدام بني جنسه، وسخر له الخيل والإبل، وسلطه على دواب الماءِ، واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحش العادية، حفر الأنهار، وغرس الأشجار، وشق الأرض، وتعلية البناءِ، والتحيل على مصالحه، والتحرز والتحفظ لما يؤذيه، ظن المسكين أن له نصيبًا من الملك، وادعى لنفسه ملكًا مع الله سبحانه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأُولى، ونسى ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة، حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج، بل كأن ذلك شخصًا آخر غيره.
كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشي أن رسول الله ﷺ بصق يومًا في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال: "قال اللهُ تعالى: يا ابن آدمَ أنّى تُعْجِزُنِي وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن مثْلِ هَذِهِ حَتّى إذا سَوَّيْتُكَ وعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنَ وللأرْضِ مِنكَ وئِيد، فَجَمَعْتَ ومَنعْتَ حَتّى إذا بَلَغْتَ التَّراقي، قُلْتَ: أتَصَدَّقُ، وأنّى أوانُ الصَّدَقَةِ"،
ومن هاهنا خذل من خذل ووفق من وفق، فحجب المخذول عن حقيقته ونسى نفسه فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى وبغى وعتا فحقت عليه الشقوة، قال تعالى:
﴿كَلاّ إنّ الإنسانَ لَيَطْغىَ أن رّآهُ اسْتَغْنىَ﴾ [العلق: ٦-٧]وقال:
﴿فَأمّا مَن أعْطىَ واتّقىَ وصَدّقَ بِالحُسْنىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرىَ وأمّا مَن بَخِلَ واسْتَغْنىَ وكَذّبَ بِالحُسْنىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرىَ﴾ [الليل: ٥-١٠]فأكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه ﷺ: "أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك"،
وكان يدعو: "يا مقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبِي عَلى دينك".
يعلم ﷺ أن قلبه بيد الرحمن عَزَّ وجَلَّ لا يملك منه شيئًا، وأن الله سبحانه يصرفه كما يشاءُ كيف وهو يتلو قوله تعالى:
﴿وَلَوْلاَ أن ثَبّتْناكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٤]فضرورته ﷺ إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه ومنزلته عنده. وهذا أمر إنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاءِ، ولهذا كان أقرَبَ الخلق إلى الله وسيلة وأعظمهم عنده جاهًا وأرفعهم عنده منزلة، لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه عز وجل، وكان يقول لهم: "أيها النّاسُ، ما أُحبُّ أنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنزِلَتِي إنَّما أنا عَبْدُ"،
وكان يقول: "لا تُطْرونِي كَما أطْرَتِ النصارى المسيح ابن مريم وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
* (فصل: في تفسير الفقر ودرجاته)
وقوله: "الدرجة الثانية: الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث الخلاص من رؤية الأعمال، ويقطع شهود الأحوال ويمحص من أدناس مطالعة المقامات"، فهذه الدرجة أرفع من الأولى وأعلى، والأُولى كالوسيلة إليها، لأن في الدرجة الأولى يتخلى بفقره عن أن يتأله غير مولاه الحق، وأن يضيع أنفاسه في غير مرضاته، وأن يفرق همومه في غير محابه، وأن يؤثر عليه في حال من الأحوال. فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله وخلوص الوداد والمحبة، فيصبح ويمسى ولا هم له غير ربه، قد قطع همه بربه عنه جميع الهموم وعطلت إرادته جميع الإرادات ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه، كما قيل:
لقد كان يسبى القلب في كل ليلة ∗∗∗ ثمانون بل تسعون نفسًا وأرجح
يهيم بهذا ثم يأْلف غيره ∗∗∗ ويسلوهم من فوره حين يصبح
وقد كان قلبي ضائعًا قبل حبكم ∗∗∗ فكان بحب الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه ∗∗∗ فلست أراه عن خبائك يبرح
حرمت الأمانى منك إن كنت كاذبًا ∗∗∗ وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
وإن كان شيء في الوجود سواكم ∗∗∗ يقرَّ به القلب الجريح ويفرح
إذا لعبت أيدي الهوى بمحبكم ∗∗∗ فليس له عن بابكم متزحزح
فإن أدركته غربة عن دياركم ∗∗∗ فحبكم بين الحشا ليس يبرح
وكم مشتر في الخلق قد سام قلبه ∗∗∗ فلم يره إلا لحبك يصلح
هوى غيركم نار تلظى ومحبس ∗∗∗ وحبكم الفردوس أو هو أفسح
فيا ضيم قلب قد تعلق غيركم ∗∗∗ ويا رحمة مما يجول ويكدح
والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه، فبقدر ما يدخل القلب من هم وإرادة وحب يخرج منه هم وإرادة وحب يقابله، فهو إناءٌ واحد والأشربة متعددة، فأى شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره، وإنما يمتليء الإناءُ بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليًا، فأما إذا صادفه ممتلئًا من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه، كما قال بعضهم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ∗∗∗ فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إنائه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة، لأن كل شراب فمسكر ولا بد، و"ما أسكر كثيره فقليله حرام"، وأين سكر الهوى والدنيا من سكر الخمر، وكيف يوضع شراب التسليم -الذي هو أعلى أشربة المحبين -فى إناءٍ ملآن بخمر الدنيا والهوى ولا يفيق من سكره ولا يستفيق، ولو فارق هذا السكر القلب لطار بأجنحة الشوق إلى الله والدار الآخرة، ولكن رضى المسكين بالدون، وباع حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأخس الثمن صفقة خاسر مغبون، فسيعلم أي حظ أضاع إذا فاز المحبون، وخسر المبطلون.
* (فصل: في أن حقيقة الفقر توجه العبد بجميع أحواله إلى الله)
وإذا كان التلوث بالأعراض قيدًا يقيد القلوب عن سفرها إلى بلد حياتها ونعيمها الذي لا سكن لها غيره، ولا راحة لها إلا فيه، ولا سرور لها إلا في منازله، ولا أمن لها إلا بين أهله، فكذلك الذي باشر قلبه روح التألة، وذاق طعم المحبة، وآنس نار المعرفة، له أعراض دقيقة حالية تقيد قلبه عن مكافحة صريح الحق، وصحة الاضطرار إليه والفناءِ التام به، والبقاءِ الدائم بنوره الذي هو المطلوب من السير والسلوك، وهو الغاية التي شمر إليها السالكون، والعلم الذي أمَّه العابدون ودندن حوله العارفون، فجميع ما يحجب عنه أو يقيد القلب نظره وهمه يكون حجابًا يحجب الواصل ويوقف السالك وينكس الطالب، فالزهد فيه على أصحاب الهمم العلية متعين تعين الواجب الذي لا بد منه، وهو كزهد السالك إلى الحج في الظلال والمياه التي يمر بها في المنازل، فالأول مقيد عن الحقائق برؤية الأعراض، والثاني مقيد عن النهايات برؤية الأحوال، فتقيد كل منهما عن الغاية المطلوبة، وترتب على هذا القيد عدم النفوذ، وذلك مؤخر مخلف.
وإذا عرف العبد هذا وانكشف له علمه تعين عليه الزهد في الأحوال والفقر منها، كما تعين عليه الزهد في المال والشرف وخلو قلبه منهما.
* (فصل: في تقسيم الغنى إلى عال وسافل)
ولما كان الفقر إلى الله عز وجل هو عين الغنى به - فأفقر الناس إلى الله أغناهم به، وأذلهم له أعزهم، وأضعفهم بين يديه أقواهم، وأجهلهم عند نفسه أعلمهم بالله وأمقتهم لنفسه أقربهم إلى مرضاة الله - كأن ذكر الغنى بالله مع الفقر إليه متلازمين متناسبين، فنذكر فصلًا نافعًا في الغنى العالي.
واعلم أن الغنى على الحقيقة لا يكون إلا لله الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع، وكما أن كونه مخلوقًا أمر ذاتي له، فكونه فقيرًا أمر ذاتي له كما تقدم بيانه، وغناه أمر نسبى إضافى عارض له، فإنه إنما استغنى بأمر خارج عن ذاته فهو غنى به فقير إليه، ولا يوصف بالغنى على الإطلاق إلا من غناه من لوازم ذاته، فهو الغني بذاته عما سواه، وهو الأحد الصمد الغني الحميد.
والغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عال. فالغنى السافل الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وهذا أضعف الغنى، فإنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع عن قريب إلى أربابها، فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها، وكَأن الغنى بها كان حلمًا فانقضى، ولا همة أضعف من همة من رضي بهذا الغنى الذي هو ظل زائل. وهذا غنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإياه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أحب إلى الشيطان وأبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده.
قال بعض السَلَف: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياءَ: مؤمن قتل مؤمنًا، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر. وهذا الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله، وفقر بعده، وهو كالغفوة بينهما.
فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه، بل إذا حصل له جعله سببًا لغناه الأكبر وسيلة إليه، ويجعله خادمًا من خدمه لا مخدومًا له، وتكون نفسه أعز عليه من أن يعبِّدها لغير مولاه الحق، أو يجعلها خادمة لغيره.
* (فصل: في الغنى العالي)
أما الغنى العالي فقال شيخ الإسلام: "هو على ثلاث درجات: الدرجة الأُولى:
غنى القلب، وهو سلامته من السبب، ومسالمته للحكم، وخلاصه من الخصومة، والدرجة الثانية غنى النفس، وهو استقامتها على المرغوب، وسلامتها من الحظوظ، وبراءَتها من المراءاة.
والدرجة الثالثة: الغنى الحق وهو ثلاث مراتب:
الأُولى شهود ذكره إياك، والثانية: دوام مطالعة أوليته، والثالثة: الفوز بوجوده".
قلت: ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس"، ومتى استغنت النفس استغنى القلب، ولكن الشيخ قسم الغنى إلى هذه الدرجات بحسب متعلقة فقال: "غنى القلب سلامته من السبب، ومسالمته للحكم، وخلاصه من الخصومة ومعلوم أن هذا شرط في الغنى، لا أنه نفس الغنى، بل وجود المنازعة والمخاصمة وعدم المسالمة مانع من الغنى، فهذه السلامة والمسالمة دليل على غنى القلب، لا أن غناه بها نفسها، وإنما غنى القلب بالدرجة الثالثة فقط كما سيأتي بيانه إن شاءَ الله، فالغنى إنما يصير غنيًا بحصول ما يسد فاقته ويدفع حاجته. وفي القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إلا فوزه بحصول الغني الحميد الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته فاته كل شيء. فكما أنه سبحانه الغني على الحقيقة ولا غنى سواه، فالغنى به هو الغنى في الحقيقة ولا غنى بغيره ألبتة، فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح، والله المستعان.
وإنما قدم شيخ الإسلام الكلام على غنى القلب على الكلام على غنى النفس لأن كمال صلاح النفس غناها بالاستقامة من جميع الوجوه، وبلوغها إلى درجة الطمأْنينة لا يكون إلا بعد صلاح القلب، وصلاح النفس متقدم على صلاح القلب هكذا قيل، وفيه ما فيه، لأن صلاح كل واحد منهما مقارن لصلاح الآخر. ولكن لما كان القلب هو الملك وكان صلاحه صلاح جميع رعيته كان أولى بالتقديم، وقد قال النبي ﷺ: "إنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ لَها سائِرُ الجَسَدِ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ لَها سِائِرُ الجَسَدِ، ألا وهِى القلب"، والقلب إذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه وعطاياه السنية خلع على الأُمراءِ والرعية خلعًا تناسبها، فخلع على النفس خلع الطمأْنينة والسكينة والرضا والإخبات، فأدت الحقوق سماحة لا كظمًا بانشراح ورضا ومبادرة، وذلك لأنها جانست القلب حينئذ ووافقته في أكثر أُموره، واتحد مرادهما غالبًا فصارت له وزير صدق، بعد أن كانت عدوًا مبارزًا بالعداوة، فلا تسأل عما أحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأْنينة ولذة عيش ونعيم هو دقيقة من نعيم أهل الجنة. هذا ولم تضع الحرب أوزارها فيما بينهما بل عدتها وسلاحها كامن متوار، لولا قوة سلطان القلب وقهره لحاربت بكل سلاح، فالمرابطة على ثغري الظاهر والباطن فرض متعين مدة أنفاس الحياة.
وتنقضي الحرب محمودًا عواقبها ∗∗∗ للصابرين، وحظ الهارب الندم
وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار، وعلى الوجه خلعة المهابة والنور والبهاءِ، وعلى اللسان خلعة الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة، وعلى العين خلعة الاعتبار في النظر والغض عن المحارم، وعلى الأُذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعُه للعبد في معاشه ومعاده، وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش في الطاعات أين كانت بقوة وأيد، وعلى الفرج خلعة العفة والحفظ. فغدا العبد وراح يرفل في هذه الخلع ويجر لها في الناس أذيالًا وأردانا. فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه، فإذا استغنى سرى الغنى منه إلى النفس. وغنى القلب ما يناسبه من تحقيقه بالعبودية المحضة التي هي أعظم خلعة تخلع عليه، فيستغنى حينئذ بما توجبه هذه العبودية له من المعرفة الخاصة والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل له من آثار الصفات المقدسة وما تقتضيه من الأحكام والعبوديات المتعلقة بكل صفة على الانفراد ومجموعها قائمة بالذات، وهذا أمر تضيق عن شرحه عدة أسفار بل حظ العبد منه علمًا وإرادة كما يدخل إصبعه في اليم، بل الأمر أعظم من ذلك. والله عز وجل:
﴿أنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها﴾ [الرعد: ١٧]، فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذي هو غاية فقره استغنت النفس غنى يناسبها، وذهبت عنها البرودة التي ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى، وصارت برودتها في شهواتها وحظوظها ورعوناتها وذهبت أيضًا عنها اليبوسة المضادة للينها وسرعة انفعالها وقبولها، فإنها إذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال بعيدة القبول لا تكاد تنقاد، فإذا صارت برودتها حرارة، وبوبستها رطوبة وسقيت بماءِ الحياة الذي أنزله الله عَزَّ وجَلَّ من السماء على قلوب أنبيائه وجعلها قرارًا ومعينًا له ففاض منها على قلوب أتباعهم فأنبتت من كل زوج كريم، فحينئذ انقادت بزمام المحبة إلى مولاها الحق مؤدية لحقوقه قائمة بأوامره راضية عنه مرضية له بكمال طمأْنينتها:
﴿يَأيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ ارْجِعِي إلىَ رَبّكِ راضِيَةً مّرْضِيّةً﴾ [الفجر: ٢٧-٢٨].
* (فصل: فيما يغني القلب ويسدُ الفاقة)
إذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما أغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه إليها استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب، وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءاة، ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنا وظاهرا، ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى:
﴿فاستقم كما أمرت﴾ [هود: ١١٢]، وقال سبحانه:
﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ [الأحقاف: ١٣].
وهذه الاستقامة ترقيها إلى الدرجة الثالثة من الغنى، وهو الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه، وهي أعلى درجات الغنى. فأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر الله عَزَّ وجَلَّ إياك قبل ذكرك له، وأنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداءً قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر خلقك ورزقك وعملك وإحسانه إليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئًا ألبتة، وذكرك سبحانه بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله، قال تعالى:
﴿هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾ [الحج: ٧٨]فجعلك أهلًا لما لم تكن أهلًا له قط، وإنما هو الذي أهلك بسابق ذكره، فلولا ذكره لك بكل جميل أولاكه لم يكن لك إليه سبيل، ومن الذي ذكرك سواه باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام؟ ومن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها، وأوقعها في قلبك، وبعث دواعيك عليها، وأحيى عزماتك الصادقة عليها، حتى تُبْتَ إليه وأقبلت عليه، فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها؟ ومن الذي ذكرك سواه بمحبته حتى هاجت من قلبك لواعجها وتوجهت نحوه سبحانه ركائبها، وعمر قلبك بمحبته بعد طول الخراب، وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب ومن تقرب إليك أولًا حتى تقربت إليه، ثم أثابك على هذا التقرب تقربًا آخر فصار التقرب منك محفوفًا بتقربين منه تعالى: تقرب بعده وتقرب قبله، والحب منك محفوفًا بحبين منه: حب قبله وحب بعده، والذكر منك محفوفًا بذكرين: ذكر قبله وذكر بعده، فلولا سابق ذكره إياك لم يكن من ذلك كله شيء، ولا وصل إلى قلبك ذرة مما وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والتقرب إليه، فهذه كلها آثار ذكره لك، ثم إنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس، فله عليك في كل طرفة عين ونفس نعم عديدة ذكرك بها قبل وجودك، وتعرف بها إليك وتحبب بها إليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإنما ذلك مجرد إحسانه وفضله وجوده، إذ هو الجواد المفضل المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاءٍ منك ولا لحاجة دعته إلى ذلك كيف وهو الغني الحميد، فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك لذكره لك بها، فإنه ما حقرك من ذكرك بإحسانه وابتدأك بمعروفه وتحبب إليك بنعمته، هذا كله مع غناه عنك.
فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له، ووصل شاهده إلى قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غنى عال لا يشبهه شيء، وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أُستاذه وسيده يذكره ولا ينساه، فهو يحصل له - بشعوره بذكر أُستاذه له - غنى زائد على إنعام سيده عليه وعطاياه السنية له، فهذا هو غنى ذكر الله للعبد. وقد قال ﷺ، فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: "مَن ذَكرَنِي في نفسه ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، ومَن ذَكَرَنِي في مَلأٍ ذَكرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ مِنهُ"
فهذا ذكر ثان بعد ذكر العبد لربه غير الذكر الأول الذي ذكره به حتى جعله ذاكرًا، وشعور العبد بكلا الذكرين يوجب له غنى زائدًا على إنعام ربه عليه وعطاياه له، وقد ذكرنا في كتاب - الكلم الطيب والعمل الصالح - من فوائد الذكر استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده، وذكرنا قريبًا من مائة فائدة تتعلق بالذكر كل فائدة منها لا نظير لها، وهو كتاب عظيم النفع جدًا.
والمقصود أن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغنى قلبه ويسد فاقته، وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم، فإن الفقر من كل خير حاصل لهم، وما يظنون أنه حاصل لهم من الغنى فهو من أكبر أسباب فقرهم.
* (فصل: في بيان الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عَزَّ وجَلَّ)
الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عَزَّ وجَلَّ دوام شهود أوَّليته تعالى، وهذا الشهود عند أرباب السلوك أعلى مما قبله، والغنى به أتم من الغنى المذكور، لأنه من مبادئ الغنى بالحقيقة، لأن العبد إذا فتح الله لقلبه شهود أوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإلَه الحق الكامل في أسمائه وصفاته، الغني عما سواه، الحميد المجيدُ بذاته قبل أن يخلق من يحمده ويعبده ويمجده، فهو معبود محمود حي قيوم له الملك وله الحمد في الأزل والأبد، لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإنما كان به، وهو تعالى بنفسه ليس بغيره فهو القيوم الذي قيام كل شيء به، ولا حاجة به في قيوميته إلى غيره بوجه من الوجوه.
فإذا شهد العبد سبقه تعالى بالأولية ودوام وجوده الحق وغاب بهذا عما سواه من المحدثات فنى في وجوده من لم يكن كأنه لم يكن وبقي من لم يزل، واضمحلت الممكنات في وجوده الأزلى الدائم بحيث صارت كالظلال التي يبسطها ويمدها ويقبضها، فيستغنى العبد بهذا المشهد العظيم ويتغذى بها عن فاقاته وحاجاته. وإنما كان هذا عندهم أفضل مما قبله لأن الشهود الذي قبله فيه شائبة مشيرة إلى وجود العبد، وهذا الشهود الثاني سائر الموجودات كلها سوى الأول تعالى قد اضمحلت وفنيت فيه، وصارت كأوليتها وهو العدم، فأفنتها أولية الحق تبارك وتعالى، فبقى العبد محوًا صرفًا وعدمًا محضًا، وإن كانت انيته مشخصة مشارًا إليها لكنها لما نسبت إلى أولية الحق عَزَّ وجَلَّ اضمحلت وفنيت وبقى الواحد الحق الذي لم يزل باقيًا، فاضمحل ما دون الحق تعالى في شهود العبد كما هو مضمحل في نفسه، وشهد العبد حينئذ أن كل شيء ما سواى الله باطل، وأن الحق المبين هو الله وحده، ولا ريب أن الغنى بهذا الشهود دائم من الغنى بالذي قبله، وليس هذا مختصًا بشهود أوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب جل جلاله يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها.
فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أخبر به أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إليه مناجيًا له مطرقًا واقفًا بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز. فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه، فيستحى أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والمصرف - من الإماتة والإحياءِ والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاءِ والمنع وكشف البلاءِ وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس - إلى غير ذلك من التصرف في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه، فمراسمه نافذة كما يشاءُ
﴿يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إلى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ﴾ [السجدة: ٥] فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به.
وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال بل أحاط بذلك علمه علمًا تفصيليًا ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإرادته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية لا يخفى عليه منها شيء. وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه تبارك وتعالى لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها وسواء عنده من أسرّ القول ومن جهر به لا يشغله جهرُ من جهرَ عن سمعه لصوت من أسرّ ولا يشغله .. سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة
وكذلك .. إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاتها وسكناتها وتيقن أنها بمرأى منه تبارك وتعالى ومشاهدة لا يغيب عنه منها شئ
وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن إليه وجزاء المسيء إليه وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يضل ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين، وهو مشهد الربوبية.
وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء، وهو شهادة أن لا إله إلا هو وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه كذلك فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلي له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على الحقيقة، والمألوه وحده، وله الحكم وحده، فكل عبودية لغيره باطلة وعناء وضلال، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى لغيره فقر وفاقة، وكل عز بغيره ذل وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وذلة، فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره، فهو الذي انتهت إليه الرغبات وتوجهت نحوه الطلبات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فإن الإله على الحقيقة هو الغني الصمد الكامل في أسمائه وصفاته الذي حاجة كل أحدٍ إليه] ولا حاجة به إلى أحد، وقيام كل شيء به وليس قيامه بغيره، ومن المحال أن يحصل في الوجود اثنان كذلك، ولو كان في الوجود إلهان لفسد نظامه أعظم فساد واختل أعظم اختلال، كما أنه يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل، فإن استقلالهما ينافي استقلالهما واستقلال أحدهما يمنع ربوبية الآخر فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، وذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها، ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية، وكذلك كان عباد الأصنام يقرون به وينكرون توحيد الإلهية ويقولون:
﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلهًا واحِدًا﴾ [ص: ٥]، مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسموات والأرض وما بينهما، وأنه المنفرد بملك ذلك كله، فأرسل الله تعالى الرسل يذكر بما في فطرهم الإقرار به من توحيده وحده لا شريك له وأنهم لو رجعوا إلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه، فمشهد الأُلوهية هو مشهد الحنفاء، وهو مشهد جامع للأسماء والصفات، ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله جل جلاله، فإن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأسماءُ الحسنى كلها إليه فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماءِ الرحمن، قال الله تعالى:
﴿وَللهِ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [الأعراف: ١٨٠] فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه، فإنما هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهية وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإله الحق، وصار من أغنى العباد، ولسان حال مثل هذا يقول:
غنيت بلا مال عن الناس كلهم ∗∗∗ وإن الغنى العالي عن الشيء لا به
فياله من غنى ما أعظم خطره وأجل قدره، تضاءَلت دونه الممالك فما دونها، وصارت بالنسبة إليه كالظل من الحامل له، والطيف الموافى في المنام الذي يأتى به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم.
* (فصل: في بيان الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب)
الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب جل جلاله الفوز بوجوده، هذا الغنى بالغ أعلى درجات الغنى، لأن الغنى الأول والثاني كانا من آثار ذكر الله والتوجه إليه، ففاض على القلب من صدق التوجه أنوار الصفات المقدسة، واستغنى القلب بذلك وحصل أيضًا أنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن وكالته وقيوميته بتدبيره وحسن تدبيره فاستغنت النفس بذلك أيضًا. وأما هذا الغنى الثالث - الذي هو الغنى بالحق - فهو من آثار وجود الحقيقة، وهو إنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات، وإنما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عين اليقين عندما يطلع فجر التوحيد، فهذا أوله وكماله عند طلوع شمسه فينقطع ضباب الوجود الفاني وتشرق شمس الوجود الباقى فينقطع لها كل ضباب، وهذا عبارة عن نور يقذف في القلب يكشف له بذلك النور عن عظمة الذات كما كشف له بالنور الذي قبله عن عظمة الصفات، فإذا كان أثر من آثار صفات الذات أو صفات الأفعال يغنى القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأرواح من أنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغنى العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم، فيا لك من فقر ينقضى ومن غنى يدوم ومن عيش ألذ من المنى، فلا تستعجز نفسك عن البلوغ إلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب، وإنما هي عزمة صادقة ونهضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أن يبيعها بالدون، وقد جاءَ في أثر إلهي يقول الله عَزَّ وجَلَّ: "ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُكَ لِنَفْسِي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ابن آدم أطلبنى تجدني فَإن وجدتَنِي وجَدْتَ كُلَّ شَيءٍ، وإنْ فُتَّكَ فاتَكَ كُل شَيءٍ، وأنا أحَبُّ إلَيْكَ مِن كُلِّ شَيْءٍ"، فمن طلب الله بصدق وجده، ومن وجده أغناه وجوده عن كل شيء، فأصبح حرًا في غنى ومهابة على وجهه أنواره وضياؤه، وإن فاته مولاه جل جلاله تباعد ما يرجو وطال عناؤه، ومن وصل إلى هذا الغنى قرت به كل عين لأنه قد قرت عينه بالله والفوز بوجوده، ومن لم يصل إليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، وقد قال ﷺ: "مَن أصْبَحَ والدُّنْيا أكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وشَتَّتَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ ولَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا ما قُدِّرَ لَهُ، ومَن أصْبَحَ والآخِرَةُ أكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ غِناهُ في قَلْبِهِ، وجَمَعَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وأتَتْهُ الدُّنْيا وهِى راغِمَةٌ، وكانَ اللهُ بِكُلِّ خَيْرٍ إليهِ أسْرَعُ"، فهذا هو الفقر الحقيقى والغنى الحقيقي، وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أكبر همه فكيف من كان الله - عز وجل - أكبر همه، فهذا من باب التنبيه والأولى.
* (فصل: في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى)
قال يحيى بن معاذ: الفقر أن لا تستغني بشيء غير الله ورسمه عدم الأسباب كلها.
قلت: يريد عدمها في الاعتماد عليها والطمأْنينة بها، بل تصير عدمًا بالنسبة إلى سبق مسببها بالأوَلية، وتفرده بالأزلية.
وسئل محمد بن عبد الله الفرغانى عن الافتقار إلى الله تعالى والاستغناء به فقال: إذا صح الافتقار إلى الله تعالى صح الاستغناءُ به، وإذا صح الاستغناءُ به صح الافتقار إليه، فلا يقال أيهما أكمل لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر.
قلت: الاستغناءُ بالله هو عين الفقر إليه، وهما عبارتان عن معنى واحد، لأن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية كمال الافتقار إليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به، فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أحدهما على الآخر، وإنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إليه، فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى "غنى" بالنسبة إلى فراغه عن الموجودات الفانية، و"فقرًا" بالنسبة إلى قصر همته وجمعها على الله - عز وجل -، فهي همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير غنى، وسفرها إلى الله فقر، فإذا وصلت إليه استغنت به بكمال فقرها إليه، إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول، وإنما يكمل فقرها بهذا الوصول. وسئل رويم عن الفقر فقال: إرسال النفس في أحكام الله تعالى. قلت: إن أراد الحكم الديني فصحيح، أو إن أراد الحكم الكونى القدرى فلا يصح هذا الإطلاق بل لا بد فيه من التفصيل كما تقدم بيانه. وإرسال النفس في أحكامه التي يسخطها ويبغضها، وإرسالها في أحكامه التي يجب منازعتها ومدافعتها بأحكامه خروج عن العبودية.
وقيل: نعت الفقير ثلاثة أشياءَ: حفظ سره، وأداءُ فرضه وصيانة فقره ..
قلت: حفظ السر كتمانه صيانة له من الأغيار، وغيرة عليه أن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يؤمن عليه. وأداءُ الفرض قيام بحق العبودية وصيانة الفقر حفظه عن لوث مساكنة الأغيار، وحفظه عن كل سبب يفسده وكتمانه ما استطاع. وقال إبراهيم بن أدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر.
وسئل يحيى بن معاذ عن الغنى فقال: هو الأمن بالله عَزَّ وجَلَّ. وسئل أبو حفص: بماذا ينبغي أن يقدم الفقير على ربه؟ فقال: ما ينبغي للفقير أن يقدم على ربه بشيء سوى فقره.
وقال بعضهم: إن الفقير الصادق ليخشى من الغنى حذرًا أن يدخله فيفسد عليه فقره، كما يخشى الغني الحريص من الفقر أن يدخله فيفسد عليه غناه. وقال بشر بن الحارث: أفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر.
قلت: ومن هاهنا قال القائل:
قالوا: غدا العيد ماذا أنت لابسه؟ ∗∗∗ فقلت: خلعة ساق رحبه جرعا
فقر وصبر هما ثوبان تحتهما ∗∗∗ قلب يرى أُلفة الأعياد والجمعا
الدهر لي مأْتم إن غبت يا أملي ∗∗∗ والعيد ما دمت لي مرَأى ومستمعا
وسئل ابن الجلاءِ: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه. فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له.
قلت: معنى هذا أنه لا يبقى عليه بقية من نفسه، فإذا كان لنفسه فليس لها بل قد أضاع حقها وضيع سعادتها وكمالها. وإذا لم يكن لنفسه بل كان كله لربه فقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادتها فإنه إذا كان لله كان الله له، وإذا لم يكن لله لم يكن الله له فكيف تكون نفسه له؟ فهذا من الذين خسروا أنفسهم.
وقيل: حقيقة الفقر أن لا يستغنى الفقير في فقره بشيء إلا بمن إليه فقره.
وقال أبو حفص: "أحسن ما توسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه على جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال".
وقال بعضهم: "ينبغي للفقير أن لا تسبق همته خطوته".
قلت: يشير إلى تعلق همته بواجب وقته، وأنه لا تتخطى همته واجب الوقت قبل إكماله. وأيضًا يشير إلى قصر أمله، وأن همته غير متعلقة بوقت لا يحدّث نفسه ببلوغه وأيضًا يشير إلى جمع الهمة على حفظ الوقت، وأن لا يضعفها بتقسيمها على الأوقات.
وقيل: أقل ما يلزم الفقير في فقره أربعة أشياءَ: علم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذكر يؤنسه. وقال أبو سهل الخشاب لمنصور المغربى: إنما هو فقر وذل. فقال منصور: بل فقر وعز. فقال أبو سهل: فقر وثرى، فقال منصور: بل فقر وعرش. قلت: أشار أبو سهل إلى البداية ومنصور إلى الغاية.
وقال الجنيد: إذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم، فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه. فقلت: يا أبا القاسم، كيف يكون فقير يوحشه العلم؟ فقال: نعم، الفقير إذا كان صادقًا في فقره، فطرحت عليه العلم ذاب كما يذوب الرصاص في النار. وقال أبو المظفر القرميسينى: الفقير هو الذي لا يكون له إلى الله حاجة.
قال أبو القاسم القشيرى: وهذا اللفظ فيه أدنى غموض على من سمعه على وصف الغفلة عن مرمى القوم، وإنما أشار قائله إلى سقوط المطالبات، وانتفاءِ الاختيار، والرضى بما يجريه الحق سبحانه بتارك وتعالى.
قلت: وبعد فهو كلام مستدرك خطأٌ فإن حاجات هذا العبد إلى الله بعدد الأنفاس إذ حاجته ليست كحاجات غيره من أصحاب الحظوظ والأقسام، بل حاجات هؤلاءِ في حاجة هذا العبد كتفلة في بحر، فإن حاجته إلى الله في كل طرفة عين أن يحفظ عليه حاله ويثبت قلبه ويرقيه في مقامات العبودية ويصرف عنه ما يفسدها عليه ويعرفه منازل الطريق ومكامنها وأوقاتها ويعرفه مواقع رضاه ليفعلها ويعزم عليها ومواقع سخطه ليعزم على تركها ويجتنبها، فأي حاجات أكثر وأعظم من هذه؟ فالصواب أن يقال: الفقير هو الذي حاجاته إلى الله بعدد أنفاسه أو أكثر، فالعبد له في كل نفس ولحظة وطرفة عين عدة حوائج إلى الله لا يشعر بكثير منها، فأفقر الناس إلى الله من شعر بهذه الحاجات وطلبها من معدنها بطريقها، وإن كان لا بد من إطلاق تلك العبارة على أن منها كل بد فيقال: هو الذي لا حاجة له إلى الله تخالف مرضاته وتحطه عن مقام العبودية إلى منزلة الاستغناء، وأما أن يقال لا حاجة له إلى الله فشطح قبيح.
وأما حمل أبِي القاسم لكلامه على إسقاط المطالبات وانتفاءِ الاختيار والرضى بمجارى الأقدار فإنما يحسن في بعض الحالات، وهو في القدر الذي يجرى عليه، بغير اختياره ولا يكون مأْمورًا بدفعه ومنازعته بقدر آخر كما تقدم.
وأما إذا كان مأْمورًا بدفعه ومنازعته بقدر هو أحب إلى الله منه - وهو مأْمور به أمر إيجاب أو استحباب - فإسقاط المطالبات وانتفاءُ الاختيار فيه والسعي عين العجز، والله تعالى يلوم على العجز.
وقال ابن خفيف: الفقر عدم الأملاك، والخروج عن أحكام الصفات، قلت: يريد عدم إضافة شيء إليه إضافة ملك، وأن يخرج عن أحكام صفات نفسه ويبدلها بأحكام صفات مالكه وسيده مثاله أن يخرج عن حكم صفة قدرته واختياره التي توجب له دعوى الملك والتصرف والإضافات ويبقى بأحكام صفة القدرة الأزلية التي توجب له العجز والفقر والفاقة، كما في دعاءِ الاستخارة: "اللَّهم إنى أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب"، فهذا اتصاف بأحكام الصفات العلى في العبد، وخروج عن أحكام صفات النفس.
وقال أبو حفص: لا يصح لأحد الفقر حتى يكون العطاءُ أحب إليه من الأخذ وليس السخاءُ أن يعطي الواجدُ المعدمَ، وإنما السخاءُ أن يعطي المعدمُ الواجدَ.
وقال بعضهم: الفقير الذي لا يرى لنفسه حاجة إلى شيء من الأشياء سوى ربه تبارك وتعالى. وسئل سهل بن عبد الله: متى يستريح الفقير؟ فقال: إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه. وقال أبو بكر ابن طاهر: من حكم الفقير أن لا يكون له رغبة، وإن كان لا بد فلا تجاوز رغبته كفايته وسئل بعضهم عن الفقير الصادق فقال: الذي لا يَملك ولا يُملك وقال ذو النون: دوام الفقر إلى الله مع التخليط أحب إلى من دوام الصفاء مع العجب والله أعلم.