الباحث القرآني
الإيمان مبني على ركنين يقين وصبر، وهما الركنان المذكوران في قوله تعالى ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون﴾
فباليقين يعلم حقيقة الأمر والنهي والثواب والعقاب، وبالصبر ينفذ ما أمر به ويكف نفسه عما نهي عنه، ولا يحصل له التصديق بالأمر والنهي إنه من عند الله وبالثواب والعقاب إلا باليقين، ولا يمكنه الدوام على فعل المأمور وكف النفس عن المحظور إلا بالصبر، فصار الصبر نصف الإيمان، والنصف الثاني الشكر بفعل ما أمر به وبترك ما نهي عنه.
* [فَصْلٌ: في مَراتِبُ جِهادِ الشَّيْطانِ]
وَأمّا جِهادُ الشَّيْطانِ فَمَرْتَبَتانِ، إحْداهُما: جِهادُهُ عَلى دَفْعِ ما يُلْقِي إلى العَبْدِ مِنَ الشُّبُهاتِ والشُّكُوكِ القادِحَةِ في الإيمانِ.
الثّانِيَةُ: جِهادُهُ عَلى دَفْعِ ما يُلْقِي إلَيْهِ مِنَ الإراداتِ الفاسِدَةِ والشَّهَواتِ، فالجِهادُ الأوَّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ اليَقِينُ.
والثّانِي: يَكُونُ بَعْدَهُ الصَّبْرُ.
قالَ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٢٤]
فَأخْبَرَ أنَّ إمامَةَ الدِّينِ إنَّما تُنالُ بِالصَّبْرِ واليَقِينِ، فالصَّبْرُ يَدْفَعُ الشَّهَواتِ والإراداتِ الفاسِدَةَ، واليَقِينُ يَدْفَعُ الشُّكُوكَ والشُّبُهاتِ.
* (فائدة)
قَوْله تَعالى عَنْ أصْحابِ مُوسى: ﴿وَجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾
أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ جَعَلَهم أئِمَّةً يَأْتَمُّ بِهِمْ مَن بَعْدَهم لِصَبْرِهِمْ ويَقِينِهِمْ؛ إذْ بِالصَّبْرِ واليَقِينِ تُنالُ الإمامَةُ في الدِّينِ فَإنَّ الدّاعِيَ إلى اللَّهِ تَعالى لا يَتِمُّ لَهُ أمْرُهُ إلّا بِيَقِينِهِ لِلْحَقِّ الَّذِي يَدْعُو إلَيْهِ وبَصِيرَتِهِ بِهِ وصَبْرِهِ عَلى تَنْفِيذِ الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ بِاحْتِمالِ مَشاقِّ الدَّعْوَةِ وكَفِّ النَّفْسِ عَمّا يُوهِنُ عَزْمَهُ ويُضْعِفُ إرادَتَهُ، فَمَن كانَ بِهَذِهِ المَثابَةِ كانَ مِن الأئِمَّةِ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِأمْرِهِ تَعالى، ومِن المَعْلُومِ أنَّ أصْحابَ مُحَمَّدٍ ﷺ أحَقُّ، وأوْلى بِهَذا الوَصْفِ مِن أصْحابِ مُوسى، فَهم أكْمَلُ يَقِينًا، وأعْظَمُ صَبْرًا مِن جَمِيعِ الأُمَمِ، فَهم أوْلى بِمَنصِبِ هَذِهِ الإمامَةِ، وهَذا أمْرٌ ثابِتٌ بِلا شَكٍّ بِشَهادَةِ اللَّهِ لَهم وثَنائِهِ عَلَيْهِمْ، وشَهادَةِ الرَّسُولِ لَهم بِأنَّهم خَيْرُ القُرُونِ، وأنَّهم خِيرَةُ اللَّهِ وصَفْوَتُهُ، ومِن المُحالِ عَلى مَن هَذا شَأْنُهم أنْ يُخْطِئُوا كُلُّهم الحَقَّ، ويَظْفَرَ بِهِ المُتَأخِّرُونَ، ولَوْ كانَ هَذا مُمْكِنًا لانْقَلَبَتْ الحَقائِقُ، وكانَ المُتَأخِّرُونَ أئِمَّةً لَهم يَجِبُ عَلَيْهِمْ الرُّجُوعُ إلى فَتاوِيهِمْ، وأقْوالِهِمْ، وهَذا كَما أنَّهُ مُحالٌ حِسًّا وعَقْلًا فَهو مُحالٌ شَرْعًا، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* (فصل)
وَقد أخبر سُبْحانَهُ أن هَذِه الإمامَة إنَّما تنال بِالصبرِ واليَقِين فَقالَ تَعالى ﴿وَجَعَلنا مِنهُم أئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يوقنون﴾
فبالصبر واليَقِين تنال الإمامَة في الدّين
فَقيل بِالصبرِ عَن الدُّنْيا
وَقيل بِالصبرِ على البلاء
وَقيل بِالصبرِ عَن المناهي
والصَّواب أنه بِالصبرِ عَن ذَلِك كُله بِالصبرِ على أداء فَرائض الله والصَّبْر عَن مَحارمه والصَّبْر على أقداره
وَجمع سُبْحانَهُ بَين الصَّبْر واليَقِين إذْ هما سَعادَة العَبْد وفقدهما يفقده سعادته فَإن القلب تطرقه طوارق الشَّهَوات المُخالفَة لأمر الله وطوارق الشُّبُهات المُخالفَة لخبره فبالصبر يدْفع الشَّهَوات وباليقين يدْفع الشُّبُهات فَإن الشَّهْوَة والشبهة مضادتان للدّين من كل وجه فَلا ينجو من عَذاب الله إلّا من دفع شهواته بِالصبرِ وشبهاته بِاليَقِينِ ولِهَذا أخبر سُبْحانَهُ عَن حبوط أعمال أهل الشَّهَوات والشبهات فَقالَ تَعالى ﴿كالَّذِين من قبلكم كانُوا أشد مِنكُم قُوَّة وأكْثر أمْوالًا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كَما استمتع الَّذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالَّذي خاضُوا﴾ فَهَذا الِاسْتِمْتاع بالخلاق هو استمتاعهم بنصيبهم من الشَّهَوات ثمَّ قالَ ﴿وخضتم كالَّذي خاضُوا﴾ وهَذا هو الخَوْض بِالباطِلِ في دين الله وهو خوض أهل الشُّبُهات ثمَّ قالَ ﴿أُولَئِكَ حبطت أعْمالهم في الدُّنْيا والآخِرَة وأُولَئِكَ هم الخاسرون﴾
فعلق سُبْحانَهُ حبوط الأعْمال والخسران بِاتِّباع الشَّهَوات الَّذِي هو الِاسْتِمْتاع بالخلاق وباتباع الشُّبُهات الَّذِي هو الخَوْض بِالباطِلِ
* (فصل)
وكما أنه سُبْحانَهُ علق الإمامَة في الدّين بِالصبرِ واليَقِين فالآية متضمنة لأصلين آخَرين
أحدهما الدعْوَة إلى الله وهداية خلقه.
الثّانِي هدايتهم بِما أمر بِهِ على لِسان رَسُوله ﷺ لا بِمُقْتَضى عُقُولهمْ وآرائهم وسياساتهم وأذواقهم وتقليد أسلافهم بِغَيْر برهان من الله لِأنَّهُ قالَ ﴿يهْدُونَ بأمرنا﴾
فَهَذِهِ أرْبَعَة أصُول تضمنتها هَذِه الآيَة
أحدها الصَّبْر وهو حبس النَّفس عَن محارم الله وحبسها على فَرائِضه وحبسها عَن التسخط والشكاية لأقداره
الثّانِي اليَقِين وهو الإيمان الجازِم الثّابِت الَّذِي لا ريب فِيهِ ولا تردد ولا شكّ ولا شُبْهَة بِخَمْسَة أصُول ذكرها سُبْحانَهُ في قَوْله تَعالى ﴿لَيْسَ البر أن توَلّوا وُجُوهكُم قبل المشرق والمغْرب ولَكِن البر من آمن بِالله واليَوْم الآخر والمَلائِكَة والكتاب والنبيين﴾
وَفِي قَوْله ﴿وَمن يكفر بِالله ومَلائِكَته وكتبه ورُسُله واليَوْم الآخر فقد ضل ضلالا بَعيدا﴾
وَفِي قَوْله ﴿آمن الرَّسُول بِما أنزل إلَيْهِ من ربه والمؤمنون كل آمن بِالله ومَلائِكَته وكتبه ورُسُله﴾
والإيمان بِالله واليَوْم الآخر داخل في الإيمان بالكتب والرسل
وَجمع بَينهما النَّبِي ﷺ في حَدِيث عمر في قَوْله الإيمان أن تؤمن بِالله ومَلائِكَته وكتبه ورُسُله واليَوْم الآخر
فَهَذِهِ الأُصُول الخمس من لم يُؤمن بها فَلَيْسَ بِمُؤْمِن واليَقِين أن يقوم الإيمان بها حَتّى تصير كَأنَّها مُعاينَة للقلب مُشاهدَة لَهُ نسبتها إلى البصيرة كنسبة الشَّمْس والقَمَر إلى البَصَر ولِهَذا قالَ من قالَ من السّلف اليَقِين الإيمان كُله.
الثّالِث هِدايَة الخلق ودعوتهم إلى الله ورَسُوله قالَ تَعالى ﴿وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعا إلى الله وعمل صالحا وقالَ إنَّنِي من المُسلمين﴾
قالَ الحسن البَصْرِيّ هَذا حبيب الله هَذا ولي الله أسلم لله وعمل بِطاعَتِهِ ودعا الخلق إلَيْهِ فَهَذا النَّوْع أفضل أنْواع الإنْسان وأعْلاهم دَرَجَة عند الله يَوْم القِيامَة
وهم ثنية الله سُبْحانَهُ من الخاسرين قالَ تَعالى ﴿والعصر إن الإنْسان لفي خسر إلّا الَّذين آمنُوا وعمِلُوا الصّالِحات وتَواصَوْا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصبرِ﴾
فأقسم سُبْحانَهُ على خسران نوع الإنْسان إلّا من كمل نَفسه بِالإيمان والعَمَل الصّالح وكمل غَيره بوصيته لَهُ بهما ولِهَذا قالَ الشّافِعِي رَحمَه الله لَو فكر النّاس كلهم في سُورَة العَصْر لكفتهم
وَلا يكون من أتباع الرَّسُول على الحَقِيقَة إلّا من دَعا إلى الله على بَصِيرَة قالَ الله تَعالى ﴿قل هَذِه سبيلي أدْعُو إلى الله على بَصِيرَة أنا ومن اتبعني﴾
فَقَوله ﴿أدْعُو إلى الله﴾ تَفْسِير لسبيله الَّتِي هو عَلَيْها فسبيله وسبيل أتْباعه الدعْوَة إلى الله فَمن لم يدع إلى الله فَلَيْسَ على سَبيله
وَقَوله ﴿على بَصِيرَة﴾ قالَ ابْن الأعرابِي البصيرة الثَّبات في الدّين
وَقيل البصيرة العبْرَة كَما يُقال ألَيْسَ لَك في كَذا بَصِيرَة أي عِبْرَة قالَ الشّاعِر
؎(فِي الذاهبين الأوَّلين ∗∗∗ من القُرُون لنا بصائر)
والتَّحْقِيق: العبْرَة ثَمَرَة البصيرة فَإذا تبصر اعْتبر فَمن عدم العبْرَة فَكَأنَّهُ لا بَصِيرَة لَهُ
وأصل اللَّفْظ من الظُّهُور والبَيان فالقرآن بصائر أي أدِلَّة وهدى وبَيان يَقُود إلى الحق ويهْدِي إلى الرشد
وَلِهَذا يُقال للطريقة من الدَّم الَّتِي يسْتَدلّ بها على الرَّمية بَصِيرَة
فدلت الآيَة أيْضا على أن من لم يكن على بَصِيرَة فَلَيْسَ من أتباع الرَّسُول وأن أتْباعه هم أولو البصائر ولِهَذا قالَ ﴿أنا ومن اتبعني﴾ فَإن كانَ المَعْنى أدعوا إلى الله أنا ومن اتبعني ويكون ﴿وَمن اتبعني﴾ مَعْطُوفًا على الضَّمِير المَرْفُوع في ﴿أدعوا﴾ وحسن العَطف لأجل الفَصْل فَهو دَلِيل على أن أتباع الرَّسُول هم الَّذين يدعونَ إلى الله وإلى رَسُوله
وَإن كانَ مَعْطُوفًا على الضَّمِير المَجْرُور في سبيلي أي هَذِه سبيلي وسبيل من اتبعني فَكَذَلِك
وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فسبيله وسبيل أتْباعه الدعْوَة إلى الله.
الأصْل الرّابِع قَوْله ﴿يهْدُونَ بأمرنا﴾ وفي ذَلِك دَلِيل على اتباعهم ما أنزل الله على رَسُوله وهدايتهم بِهِ وحده دون غَيره من الأقْوال والآراء والنحل والمذاهب بل لا يهْدُونَ إلّا بأمْره خاصَّة.
فَحصل من هَذا أن أئِمَّة الدّين الَّذين يقتدون بهم هم الَّذين جمعُوا بَين الصَّبْر واليَقِين والدعوة إلى الله بِالسنةِ والوَحي لا بالآراء وبالبدع فَهَؤُلاءِ خلفاء الرَّسُول ﷺ في أمته وهم خاصته وأولياؤه ومن عاداهم أو حاربهم فقد عادى الله سُبْحانَهُ وآذنه بِالحَرْبِ.
قالَ الإمام أحْمد رَحمَه الله في خطْبَة كِتابه في الرَّد على الجَهْمِية الحَمد لله الَّذِي جعل في كل زمان فَتْرَة من الرُّسُل بقايا من أهل العلم يدعونَ من ضل إلى الهدى ويصبرون مِنهُم على الأذى يحيون بِكِتاب الله المَوْتى ويبصرون بِنور الله أهل العَمى فكم من قَتِيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فَما أحسن أثَرهم على النّاس وما أقبح أثر النّاس عَلَيْهِم ينفون عَن كتاب الله تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين وتَأْويل الجاهِلين الَّذين عقدوا ألوية البِدْعَة وأطلقوا عنان الفِتْنَة فهم يَخْتَلِفُونَ في الكتاب مخالفون للْكتاب مجمعون على مُفارقَة الكتاب يَقُولُونَ على الله وفي الله وفي كتاب الله بِغَيْر علم يَتَكَلَّمُونَ بالمتشابه من الكَلام ويخدعون جهال النّاس بِما يشبهون عَلَيْهِم فنعوذ بِالله من فتن المضلين
* (فصل)
وَمِمّا يَنْبَغِي الاعتناء بِهِ علما ومَعْرِفَة وقصدا وإرادَة العلم بِأن كل إنْسان بل كل حَيَوان إنَّما يسْعى فِيما يحصل لَهُ اللَّذَّة والنَّعِيم وطيب العَيْش ويندفع بِهِ عَنهُ أضداد ذَلِك وهَذا مَطْلُوب صَحِيح يتَضَمَّن سِتَّة أُمُور
أحدها معرفَة الشَّيْء النافع للْعَبد الملائم لَهُ الَّذِي بحصوله لذته وفرحه وسروره وطيب عيشه
الثّانِي معرفَة الطَّرِيق الموصلة إلى ذَلِك
الثّالِث سلوك تِلْكَ الطَّرِيق
الرّابِع معرفَة الضار المؤذي المنافر الَّذِي ينكد عَلَيْهِ حَياته
الخامِس معرفَة الطَّرِيق الَّتِي إذا سلكها أفضت بِهِ إلى ذَلِك
السّادِس تجنب سلوكها
فَهَذِهِ سِتَّة أُمُور لا تتمّ لَذَّة العَبْد وسروره وفرحه وصَلاح حاله إلّا باستكمالها وما نقص مِنها عاد بِسوء حاله وتنكيد حَياته
وكل عاقل يسْعى في هَذِه الأُمُور لَكِن أكثر النّاس غلط في تَحْصِيل هَذا المَطْلُوب المحبوب النافع إمّا في عدم تصَوره ومعرفته وإمّا في عدم مَعْرفَته الطَّرِيق الموصلة إلَيْهِ فهذان غلطان سببهما الجَهْل ويتخلص مِنهُما بِالعلمِ
وَقد يحصل لَهُ العلم بالمطلوب والعلم بطريقه لَكِن في قلبه إرادات وشهوات تحول بَينه وبَين قصد هَذا المَطْلُوب النافع وسلوك طَرِيقه فَكلما أرادَ ذَلِك اعترضته تِلْكَ الشَّهَوات والإرادات وحالت بَينه وبَينه وهو لا يُمكنهُ تَركها وتَقْدِيم هَذا المَطْلُوب عَلَيْها إلّا بأحد أمرين: إمّا حب مُتَعَلق وإمّا فرق مزعج، فَيكون الله ورَسُوله والدّار الآخِرَة والجنَّة ونَعِيمها أحب إلَيْهِ من هَذِه الشَّهَوات ويعلم أنه لا يُمكنهُ الجمع بَينهما فيؤثر أعلى المحبوبين على أدناهما وإمّا أن يحصل لَهُ علم ما يَتَرَتَّب على إيثار هَذِه الشَّهَوات من المخاوف والآلام الَّتِي ألمها أشد من ألم فَوات هَذِه الشَّهَوات وأبقى فَإذا تمكن من قلبه هَذانِ العلمان أنتجا لَهُ إيثار ما يَنْبَغِي إيثاره وتقديمه على ما سواهُ فَإن خاصية العقل إيثار أعلى المحبوبين على أدناهما واحْتِمال أدنى المكروهين ليتخلص بِهِ من أعلاهما
وَبِهَذا الأصْل تعرف عقول النّاس وتميز بَين العاقِل وغَيره ويظْهر تفاوتهم في العُقُول فَأيْنَ عقل من آثر لَذَّة عاجلة منغصة منكدة إنَّما هي كأضغاث أحْلام أو كطيف يمتع بِهِ من زائِره في المَنام على لَذَّة هي من أعظم اللَّذّات وفرحة ومسرة هي من أعظم المسرات دائمة لا تَزُول ولا تفنى ولا تَنْقَطِع فَباعَها بِهَذِهِ اللَّذَّة الفانية المضمحلة الَّتِي حشيت بالآلام وإنَّما حصلت بالآلام وعاقبتها الآلام فَلَو قايس العاقِل بَين لذتها وألمها ومضرتها ومنفعتها لاستحيا من نَفسه وعقله كَيفَ يسْعى في طلبَها ويضيع زَمانه في اشْتِغاله بها فضلا عَن إيثارها على ما لا عين رَأتْ ولا أذن سَمِعت ولا خطر على قلب بشر
وَقد اشْترى سُبْحانَهُ من المُؤمنِينَ أنفسهم وجعل ثمنها جنته وأجرى هَذا العقد على يَد رَسُوله وخليله وخيرته من خلقه فسلعة رب السَّمَوات والأرْض مشتريها والتمتع بِالنّظرِ إلى وجهه الكَرِيم وسَماع كَلامه مِنهُ في داره ثمنها ومن جري العقد على يَد رَسُوله كَيفَ يَلِيق بالعاقل أن يضيعها ويهملها ويبيعها بِثمن بخس في دار زائلة مضمحلة فانية وهل هَذا إلّا من أعظم الغبن وإنَّما يظْهر لَهُ هَذا الغبن الفاحِش يَوْم التغابن إذا ثقلت مَوازِين المُتَّقِينَ وخفت مَوازِين المبطلين.
* (فصل: في الآثار الواردة عن الصحابة ومن بعدهم في فضيلة الصبر)
قال الإمام أحمد حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن السفر قال مرض أبو بكر رضي الله عنه فعادوه فقالوا ألا ندعو لك الطبيب فقال قد رآني الطبيب قالوا فأى شيء قال لك قال إني فعال لما أريد
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مجاهد قال قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا بالصبر"
وقال أيضا أفضل عيش أدركناه بالصبر ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريما
وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قطع الرأس بار الجسم ثم رفع صوته فقال ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له وقال الصبر مطية لا تكبو.
وقال الحسن الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده وقال عمر بن عبد العزيز ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرا مما انتزعه وقال ميمون بن مهران ما بال أحد شيئا من ختم الخير فما دونه إلا الصبر وقال سليمان بن القاسم كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر قال الله تعالى ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾ قال كالماء المنهمر
وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل وقت ينظر فيها وفيها ﴿واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا﴾
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت
وكان محمد بن شبرمة إذا نزل به بلاء قال سحابة صيف ثم تنقشع
وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا﴾ لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رءوسا
وقيل للأحنف بن قيس ما الحلم قال أن تصبر على ما تكره قليلا.
(قاعِدَة)
في الطّلب لقاح الإيمان، فَإذا اجْتمع الإيمان والطلب أثمر العَمَل الصّالح، وحسن الظَّن بِالله لقاح الافتقار والاضطرار إلَيْهِ، فَإذا اجْتمعا أثمر إجابَة الدُّعاء والخشية لقاح المحبَّة فَإذا اجْتمعا أثمر امْتِثال الأوامِر واجْتناب والنواهي والصَّبْر لقاح اليَقِين فَإذا اجْتمعا أورثا الإمامَة في الدّين قالَ تَعالى ﴿وَجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾
وَصِحَّة الِاقْتِداء بالرسول لقاح الإخْلاص فَإذا اجْتمعا أثمر قبُول العَمَل والاعتداد بِهِ والعَمَل لقاح العلم فَإذا اجْتمعا كانَ الفَلاح والسعادة وإن انْفَرد أحدهما عَن الآخر لم يفد شَيْئا والحلم لقاح العلم فَإذا اجْتمعا حصلت سيادة الدُّنْيا والآخِرَة وحصل الِانْتِفاع بِعلم العالم وإن انْفَرد أحدهما عَن صاحبه فاتَ النَّفْع والِانْتِفاع والعزيمة لقاح البصيرة فَإذا اجْتمعا نالَ صاحبهما خير الدُّنْيا والآخِرَة وبَلغت بِهِ همّته من العلياء كل مَكان فَتخلف الكمالات إمّا من عدم البصيرة وإمّا من عدم العَزِيمَة وحسن القَصْد لقاح لصِحَّة الذِّهْن فَإذا فقدا فقدا الخَيْر كُله، وإذا اجْتمعا أثمرا أنْواع الخيرات وصِحَّة الرَّأْي لقاح الشجاعَة، فَإذا اجْتمعا كانَ النَّصْر والظفر وإن قعدا فالخذلان والخيبة وإن وجد الرَّأْي بِلا شجاعة فالجبن والعجز، وإن حصلت الشجاعَة بِلا رَأْي فالتهوّر والعطب والصَّبْر لقاح البصيرة فَإذا اجْتمعا فالخير في اجْتِماعهما قالَ الحسن إذا شِئْت أن ترى بَصِير إلّا صَبر لَهُ رَأيْته وإذا شِئْت أن ترى صابِرًا إلّا بَصِيرَة لَهُ رَأيْته فَإذا رَأيْت صابِرًا بَصيرًا فَذاك والنصيحة لقاح العقل فَكلما قويت النَّصِيحَة قوي العقل واستنار والتذكّر والتفكّر كل مِنهُما لقاح الآخر إذا اجْتمعا أنتجا الزّهْد في الدُّنْيا والرَّغْبَة في الآخِرَة والتَّقوى لقاح التَّوَكُّل فَإذا اجْتمعا استقام القلب ولقاح أخذ أهبة الاستعداد للقاء قصر الأمل فَإذا اجْتمعا فالخير كُله في اجْتِماعهما والشَّر
فِي فرقتهما ولقاح الهمّة العالِيَة النيّة الصَّحِيحَة فَإذا اجْتمعا بلغ العَبْد غايَة المُراد.
{"ayah":"وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ یَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُوا۟ۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا یُوقِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق