الباحث القرآني
فـ (حنيفًا) هو حال مقررة لمضمون قَوْله ﴿فأقم وجهك للدّين﴾
وَلِهَذا فسرت مخلصًا، فَتكون الآيَة قد تَضَمَّنت الصدْق والإخْلاص.
فَإن إقامَة الوَجْه للدّين هو إفْراد طلبه بِحَيْثُ لا يبْقى في القلب إرادَة لغيره.
والحنيف المُفْرد لا يُرِيد غَيره، فالصدق أن لا يَنْقَسِم طَلَبك، والإفراد أن لا يَنْقَسِم مطلوبك.
الأول تَوْحِيد الطّلب، والثّانِي تَوْحِيد المَطْلُوب.
* (فصل)
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها" ثم قرأ أبو هريرة: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾
وفي لفظ آخر: "ما من مولود إلا يولد على هذه الملة"
وقد اختلف في معنى هذه الفطرة والمراد بها فقال القاضي أبو يعلي في معنى الفطرة: "هاهنا روايتان عن أحمد:
أحدهما الإقرار بمعرفة الله تعالى، وهو العهد الذي أخذه الله عليهم في أصلاب آبائهم حتى مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى.
فليس أحد إلا وهو يقرُّ بأن له صانعا ومدبرا، وإن سماه بغير اسمه قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾
فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول"
قال: وليس الفطرة هنا الإسلام لوجهين:
أحدهما أن معنى الفطرة ابتداء الخلقة ومنه قوله تعالى: ﴿فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أي مبتدئها، وإذ كانت الفطرة هي الابتداء وجب أن تكون تلك هي التي وقعت لأول الخليقة، وجرت في فطرة المعقول وهو استخراجهم ذرية لأن تلك حالة ابتدائهم، ولأنها لو كانت الفطرة هنا الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين أن لا يرثهما ولا يرثانه ما دام طفلا، لأنه مسلم واختلاف الدين يمنع الإرث ولوجب أن لا يصح استرقاقه ولا يحكم بإسلامه بإسلام أبيه لأنه مسلم"
قال: وهذا تأويل ابن قتيبة وذكره ابن بطة في الإبانة.
قال: وليس كل من تثبت له المعرفة حكم بإسلامه كالبالغين من الكفار، فإن المعرفة حاصلة وليسوا بمسلمين.
قال: وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل وفي رواية الميموني فقال الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها فقال له الميموني الفطرة الدين قال نعم
قال القاضي وأراد أحمد بالدين المعرفة التي ذكرناها"
قال والرواية الثانية: "الفطرة هنا ابتداء خلقه في بطن أمه لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم وهو الإقرار بمعرفته حمل للفطرة على الإسلام لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان والمؤمن مسلم ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين أن لا يرثانه ولا يرثهما
قال ولأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقا لله وأصول أهل السنة بخلافه
قال وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية على بن سعيد وقد سأله عن قوله كل مولود يولد على الفطرة فقال على الشقاوة والسعادة ولذلك نقل محمد بن يحيى الكحال أنه سأله فقال هي التي فطر الناس عليها شقي أو سعيد، وكذلك نقل جبيل عنه قال الفطرة التي فطر الله عليها العباد من الشقاوة والسعادة قال وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ها هنا ابتداء خلقه في بطن أمه"
قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية أحمد: "لم يذكر العهد الأول وإنما قال الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها وهي الدين
وقال في غير موضع إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه واستدل بهذا الحديث فدل على أنه فسر الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث ولو لم تكن الفطرة عنده الإسلام لما صح استدلاله بالحديث"
وقوله في موضع آخر: "يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك فإن الله سبحانه قدر السعادة والشقاوة وكتبهما وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل الأبوين فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله أنه يفعل بالمولود والمولود ولد على الفطرة سليما، وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدر سبحانه ذلك وكتبه كما مثل النبي ﷺ ذلك بقوله "كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء"
فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الإنسان وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة سليما ثم يفسده أبواه وذلك أيضا بقضاء الله وقدره.
وإنما قال أحمد وغيره من الأئمة على ما فطر عليه من شقاوة أو سعادة، لأن القدرية يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقضاء الله وقدره بل مما ابتدأ الناس إحداثه، ولهذا قالوا لمالك بن أنس إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث فقال احتجوا عليهم بآخره، وهو قول "الله أعلم بما كانوا عاملين"
فبين الإمام أحمد وغيره أنه لا حجة فيه للقدرية فإنهم لا يقولون إن نفس الأبوين خلقا تهويده وتنصيره بل هو تهود وتنصر باختياره، ولكن كانا سببا في حصول ذلك بالتعليم والتلقين، فإذا أضيف إليهما هذا الاعتبار فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى لأنه سبحانه وإن كان خلقه مولودا على الفطرة سليما فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك كما في الحديث الصحيح
"إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا"
فقوله طبع يوم طبع. أي قدر وقضى في الكتاب أنه يكفر لا أن كفره كان موجودا قبل أن يولد، ولا في حال ولادته، فإنه مولود على الفطرة السليمة، وعلى أنه بعد ذلك يتغير ويكفر من ظن أن الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلب الكفار فهو غالط فإن ذلك لا يقال فيه طبع يوم طبع إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره وقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حماد عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال:
"خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك.
وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه أحمد وغيره.
قال بعث النبي ﷺ سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية فقال لهم النبي ﷺ:
"ما حملكم على قتل الذرية؟
قالوا يا رسول الله أليسوا أولاد المشركين؟
قال أوليس خياركم أولاد المشركين" ثم قام النبي ﷺ خطيبا فقال: "ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه"
فخطبته لهم بهذا الحديث عقيب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين، وقوله لهم "أو ليس خياركم أولاد المشركين"
نص أنه أراد بهم ولدوا غير كفار، ثم الكفر طرأ بعد ذلك.
ولو أراد أن المولود حين يولد يكون إما مسلما وإما كافرا على ما سبق له به القدر لم يكن فيما ذكر حجة على ما قصد من نهيه عن قتل أولاد المشركين.
وقد ظن بعضهم أن معنى قوله "أو ليس خياركم أولاد المشركين"
أنه قد يكون في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز.
وليس هذا معنى الحديث لكن معناه أن خياركم هم السابقون الأولون، وهؤلاء من أولاد المشركين فإن آباءهم كانوا كفارا، ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان مؤمنا، فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه وهو سبحانه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن كما يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي.
(مسألة)
فإن قيل فالغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا، وقال نوح عن قومه ﴿ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا﴾
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي مرفوعا: "إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ويحيي مؤمنا ويموت مؤمنا، ومنهم من يولد كافرا ويحي كافرا ويموت كافرا" .. الحديث؟
قيل: هذا لا يناقض كونه مولودا على الفطرة فإنه طبع وولد مقدرا كفره إذا عقل وإلا ففي حال ولادته لا يعرف كفرا ولا إيمانا فهي حال مقدرة لا مقارنة للعامل فهو مولود على الفطرة، ومولود كافرا باعتبارين صحيحين ثابتين له، هذا بالقبول وإيثار الإسلام لو خلي، وهذا بالفعل والإرادة إذا عقل، فإذا جمعت بين الفطرة السابقة والرحمة السابقة العالية والحكمة البالغة والغنى التام وقرنت بين فطرته ورحمته وحكمته وغناه تبين لك الأمر.
* (فصل)
والله سبحانه قد أنعم على عباده من جملة إحسانه ونعمه بأمرين هما أصل السعادة:
أحدهما: أن خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة فكل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يخرجانه عنها كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ وشبه ذلك بخروج البهيمة صحيحة سالمة حتى يجدعها صاحبها وثبت عنه أنه قال:
"يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا"
فإذا تركت النفس وفطرتها لم تؤثر على محبة باريها وفاطرها وعبادته وحده شيئا ولم تشرك به ولم تجحد كمال ربوبيته وكان أحب شيء إليها وأطوع شيء لها وآثر شيء عندها ولكن يعدها من يقترن بها من شياطين الجن والإنس بتزيينه وإغوائه حتى ينغمس موجبها وحكمها.
الأمر الثاني أنه سبحانه هدى الناس هداية عامة بما أودعه فيهم من المعرفة ومكنهم من أسبابها وبما أنزل إليهم من الكتب وأرسل إليهم من الرسل وعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه ففي كل نفس ما يقتضي معرفتها بالحق ومحبتها له وقد هدى الله كل عبد إلى أنواع من العلم يمكنه التوصل بها إلى سعادة الآخرة وجعل في فطرته محبة لذلك لكن قد يعرض العبد عن طلب علم ما ينفعه فلا يريده ولا يعرفه وكونه لا يريد ذلك ولا يعرفه أمر عدمي فلا يضاف إلى الرب لا هذا ولا هذا فإنه من هذه الحيثية شر والذي يضاف إلى الرب علمه به وقضاؤه له بعدم مشيئته لضده وإبقائه على العدم الأصلي وهو من هذه الجهة خير فإن العلم بالشر خير من الجهل به وعدم رفعه بإثبات ضده إذا كان مقتضى الحكمة كان خيرا وإن كان شرا بالنسبة إلى محله وسيأتي تمام تقرير هذا في باب دخول الشر في القضاء الإلهي إن شاء الله سبحانه.
* [فَصْلٌ في مَعْنى الفِطْرَةِ]
فَإنْ قِيلَ: فَهَذا كُلُّهُ بِناءً مِنكم عَلى أنَّ الفِطْرَةَ الأُولى هي فِطْرَةُ الإسْلامِ، وأحْمَدُ قَدْ نَصَّ عَلى أنَّ الفِطْرَةَ هي ما فُطِرَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّقاوَةِ، والسَّعادَةِ، فَقالَ في رِوايَةِ الحَسَنِ بْنِ ثَوابٍ: كُلُّ مَوْلُودٍ مِن أطْفالِ المُشْرِكِينَ عَلى الفِطْرَةِ، يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْها مِنَ الشَّقاوَةِ، والسَّعادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ في الكِتابِ، ارْجِعْ في ذَلِكَ إلى الأصْلِ هَذا مَعْناهُ.
وَقالَ في رِوايَةِ حَنْبَلٍ، وأبِي الحارِثِ، والفَضْلِ بْنِ زِيادٍ: الفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرَ
العِبادُ عَلَيْها مِنَ الشَّقاوَةِ، والسَّعادَةِ.
وَقالَ في رِوايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، وقَدْ سَألَهُ عَنِ الحَدِيثِ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ» "، قالَ: عَلى السَّعادَةِ والشَّقاوَةِ، وإلَيْهِ يَرْجِعُ عَلى ما خُلِقَ.
وَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى الكَحّالُ: قُلْتُ لِأبِي عَبْدِ اللَّهِ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ» " ما تَفْسِيرُها؟
قالَ: هي الفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النّاسَ عَلَيْها شَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، وإذا كانَ هَذا نَصَّهُ في الفِطْرَةِ، فَكَيْفَ يَكْتُمُ مَعَ مَذْهَبِهِ في الأطْفالِ أنَّهم عَلى الإسْلامِ بِمَوْتِ آبائِهِمْ؟
قِيلَ: هَذا مَوْضِعٌ قَدِ اضْطَرَبَتْ فِيهِ الأقْدامُ، وطالَ فِيهِ النِّزاعُ، والخِصامُ، ونَحْنُ نَذْكُرُ فِيهِ بَعْضَ ما انْتَهى إلَيْنا مِن كَلامِ أئِمَّةِ الإسْلامِ.
قالَ أبُو عُبَيْدٍ القاسِمُ بْنُ سَلّامٍ في كِتابِ " غَرِيبِ الحَدِيثِ " الَّذِي هو لِما بَعْدَهُ مِن كُتُبِ الغَرِيبِ إمامٌ: " سَألْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الحَسَنِ عَنْ تَفْسِيرِ هَذا الحَدِيثِ، فَقالَ: كانَ هَذا في أوَّلِ الإسْلامِ قَبْلَ أنْ تَنْزِلَ الفَرائِضُ، وقَبْلَ أنْ يُؤْمَرَ المُسْلِمُونَ بِالجِهادِ ".
قالَ أبُو عُبَيْدٍ: " فَأمّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ فَإنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَأْوِيلِ هَذا الحَدِيثِ
الآخَرِ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنْ أطْفالِ المُشْرِكِينَ، فَقالَ: " اللَّهُ أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلِينَ».
قالَ أبُو عُبَيْدٍ: فَذَهَبَ إلى أنَّهم يُولَدُونَ عَلى ما يَصِيرُونَ إلَيْهِ مِن كُفْرٍ، أوْ إسْلامٍ.
قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: حَكى أبُو عُبَيْدٍ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ، ولَمْ يُحِلَّ عَلى نَفْسِهِ في هَذا قَوْلًا ولا اخْتِيارًا.
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ في كِتابِ " الرَّدُّ عَلى ابْنِ قُتَيْبَةَ ": فَيُقالُ لَهُ: وما عَلى رَجُلٍ حَكى اخْتِلافًا في شَيْءٍ، ولَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الصَّوابُ فَأمْسَكَ عَنِ التَّقَدُّمِ عَلى ما لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صَوابُهُ، ما عَلى هَذا مِن سَبِيلٍ، بَلْ هو مَحْمُودٌ عَلى التَّوَقُّفِ عَمّا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ عَسى أنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ، بَلِ العَيْبُ المَذْمُومُ مَنِ اجْتَرَأ عَلى القَوْلِ فِيما لا عِلْمَ لَهُ، فَفَسَّرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ تَفْسِيرًا خالَفَ فِيهِ حُكْمَ الكِتابِ، وخَرَجَ مِن قَوْلِ أهْلِ العِلْمِ، وتَرَكَ القِياسَ والنَّظَرَ، فَقالَ قَوْلًا لا يَصْلُحُ في خَبَرٍ، ولا يَقُومُ عَلى نَظَرٍ.
وَهُوَ هَذا العائِبُ عَلى أبِي عُبَيْدٍ: زَعَمَ أنَّ الفِطْرَةَ الَّتِي أخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِأنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَيْها: هي خَلْقُهُ في كُلِّ مَوْلُودٍ مَعْرِفَةً بِرَبِّهِ، وزَعَمَ أنَّهُ عَلى مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢] الآيَةَ، قالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: ٧٨]، فَزَعَمَ هَذا أنَّهم يَعْرِفُونَ أعْظَمَ الأشْياءِ، وهو اللَّهُ تَعالى، فَمَن أعْظَمُ جُرْمًا، وأشَدُّ مُخالَفَةً لِلْكِتابِ مَن سَمِعَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: ٧٨]، فَزَعَمَ أنَّهم يَعْلَمُونَ أعْظَمَ الأشْياءِ، وهَذا هو المُعانِدُ لِرَبِّ العالَمِينَ، والجاهِلُ بِالكِتابِ.
قُلْتُ: إنْ أرادَ أبُو مُحَمَّدٍ " المَعْرِفَةَ " المَعْرِفَةَ الثّانِيَةَ بِالفِعْلِ الَّتِي هي لِلْكِبارِ، فَإنْكارُ أبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ مُتَوَجِّهٌ، وإنْ أرادَ أنَّهُ مُهَيَّأٌ لِلْمَعْرِفَةِ، وأنَّ المَعْرِفَةَ فِيهِ بِالقُوَّةِ كَما هو مُهَيَّأٌ لِلْفِعْلِ والنُّطْقِ لَمْ يَلْزَمْهُ ما ذَكَرَهُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ
كَما إذا قِيلَ: يُولَدُ ناطِقًا عاقِلًا بِحَيْثُ إذا عَقَلَ عَرَفَ رَبَّهُ بِتِلْكَ القُوَّةِ الَّتِي أوْدَعَها اللَّهُ فِيهِ دُونَ الجَماداتِ، بِحَيْثُ لَوْ خُلِّيَ وما فُطِرَ عَلَيْهِ ولَمْ تُغَيَّرْ فِطْرَتُهُ لَكانَ عارِفًا بِرَبِّهِ، مُوَحِّدًا لَهُ، مُحِبًّا لَهُ.
فَإنْ قِيلَ: أبُو عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يُنْكِرْ هَذا، وإنَّما أنْكَرَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالفِطْرَةِ المِيثاقَ الأوَّلَ الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ حِينَ أشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢]، فَأقَرُّوا بِذَلِكَ، ولا رَيْبَ أنَّ هَذِهِ المَعْرِفَةَ، والإقْرارَ غَيْرُ حاصِلَيْنِ مِنَ الطِّفْلِ، فَصَحَّ إنْكارُ أبِي عَبْدِ اللَّهِ.
قِيلَ: ابْنُ قُتَيْبَةَ إنَّما قالَ: الفِطْرَةُ هي خَلْقُهُ في كُلِّ مَوْلُودٍ مَعْرِفَةً بِرَبِّهِ عَلى مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢] الآيَةَ، وهَذا لا يَلْزَمُ مِنهُ أنْ تَكُونَ المَعْرِفَةُ حاصِلَةً في المَوْلُودِ بِالفِعْلِ، وتَشْبِيهُهُ الحَدِيثَ بِالآيَةِ في هَذا المَعْنى لا يَدُلُّ عَلى أنَّ المِيثاقَ الَّذِي ذَكَرَ في الآيَةِ هو المَعْرِفَةُ الفِعْلِيَّةُ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إلى الدُّنْيا أحْياءً ناطِقِينَ، وإنْ كانَ هَذا قَدْ قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ فَلا يَلْزَمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أنْ يَخْتارَ هَذا القَوْلَ، بَلْ هَذا مِن حُسْنِ فَهْمِهِ في القُرْآنِ، والسُّنَّةِ: إذْ حَمَلَ الحَدِيثَ عَلى الآيَةِ، وفَسَّرَ كُلًّا مِنهُما بِالآخَرِ. وقَدْ قالَ هَذا غَيْرُ واحِدٍ مِن أهْلِ العِلْمِ قَبْلَهُ وبَعْدَهُ، وأحْسَنُ ما فُسِّرَتْ بِهِ الآيَةُ قَوْلُهُ ﷺ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ: فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانِهِ» "
فالمِيثاقُ الَّذِي أخَذَهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ، والإشْهادُ الَّذِي أشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ، والإقْرارُ الَّذِي أقَرُّوا بِهِ هو الفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْها؛ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وهو لا يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِما لا يَعْرِفُهُ أحَدٌ مِنهم ولا يَذْكُرُهُ، بَلْ بِما يُشْرَكُونَ في مَعْرِفَتِهِ، والإقْرارِ بِهِ.
وَأيْضًا، فَإنَّهُ قالَ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢]، ولَمْ يَقُلْ " مِن آدَمَ "، ثُمَّ قالَ: ﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢]، ولَمْ يَقُلْ: " مِن ظَهْرِهِمْ "، ثُمَّ قالَ: (ذُرِّيَّتَهُمْ)، ولَمْ يَقُلْ: (ذُرِّيَّتَهُ)، ثُمَّ قالَ: ﴿وَأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢] وهَذا يَقْتَضِي إقْرارَهم بِرُبُوبِيَّتِهِ إقْرارًا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الحُجَّةُ، وهَذا إنَّما هو الإقْرارُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَتْ رُسُلُهم أفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ [إبراهيم: ١٠]، وقَوْلِهِ: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧]،: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: ٢٥]،: ﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ ومَن فِيها إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون: ٨٤-٨٥]، ونَظائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ: يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِما فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنَ الإقْرارِ بِرَبِّهِمْ وفاطِرِهِمْ، ويَدْعُوهم بِهَذا الإقْرارِ إلى عِبادَتِهِ وحْدَهُ، وألّا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَذِهِ طَرِيقَةُ القُرْآنِ.
وَمِن ذَلِكَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي في " الأعْرافِ " وهي قَوْلُهُ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ [الأعراف: ١٧٢] الآيَةَ، ولِهَذا قالَ في آخِرِها: ﴿أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ - أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٢-١٧٣] فاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِما أقَرُّوا بِهِ مِن رُبُوبِيَّتِهِ عَلى بُطْلانِ شِرْكِهِمْ وعِبادَةِ غَيْرِهِ، وألّا يَعْتَذِرُوا، إمّا بِالغَفْلَةِ عَنِ الحَقِّ، وإمّا بِالتَّقْلِيدِ في الباطِلِ، فَإنَّ الضَّلالَ لَهُ سَبَبانِ: إمّا غَفْلَةٌ عَنِ الحَقِّ، وإمّا تَقْلِيدُ أهْلِ الضَّلالِ، فَيُطابِقُ الحَدِيثَ مَعَ الآيَةِ، ويُبَيِّنُ مَعْنى كُلٍّ مِنهُما بِالآخَرِ، فَلَمْ يَقَعِ ابْنُ قُتَيْبَةَ في مُعانَدَةِ رَبِّ العالَمِينَ، ولا جَهِلَ الكِتابَ، ولا خَرَجَ عَنِ المَعْقُولِ، ولَكِنْ لَمّا ظَنَّ أبُو عَبْدِ اللَّهِ أنَّ مَعْنى الآيَةِ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أخْرَجَهم أحْياءً ناطِقِينَ مِن صُلْبِ آدَمَ في آنٍ واحِدٍ، ثُمَّ خاطَبَهُمْ، وكَلَّمَهم وأخَذَ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، ثُمَّ رَدَّهم في ظَهْرِهِ، وأنَّ أبا مُحَمَّدٍ فَسَّرَ الفِطْرَةَ بِهَذا المَعْنى بِعَيْنِهِ ألْزَمَهُ ما ألْزَمَهُ.
ثُمَّ قالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: واحْتَجَّ - يَعْنِي ابْنَ قُتَيْبَةَ - بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ﴾ [فاطر: ١] خالِقِها، وبِقَوْلِهِ تَعالى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ في سُورَةِ يس: ﴿وَما لِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [يس: ٢٢]، أيْ خَلَقَنِي، وبِقَوْلِهِ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]، قالَ: وكانَ أبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُسْرِعُ بِهَذِهِ الآيَةِ عِنْدَ رِوايَتِهِ لِهَذا الحَدِيثِ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ الفِطْرَةَ خِلْقَةٌ.
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: فَيُقالُ لَهُ: لَسْنا نُخالِفُكَ في أنَّ الفِطْرَةَ خِلْقَةٌ في اللُّغَةِ وأنَّ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ خالِقُهُما، ولَكِنْ ما
الدَّلِيلُ عَلى أنَّ هَذِهِ الخِلْقَةَ هي مَعْرِفَةٌ؟ هَلْ عِنْدَكَ مِن دَلِيلٍ مِن كِتابِ اللَّهِ، أوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أنَّ الخِلْقَةَ هي المَعْرِفَةُ؟ فَإنْ أتَيْتَ بِحُجَّةٍ مِن كِتابِ اللَّهِ أوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أنَّ الخِلْقَةَ هي المَعْرِفَةُ، وإلّا فَأنْتَ مُبْطِلٌ في دَعْواكَ، وقائِلٌ ما لا عِلْمَ لَكَ بِهِ.
قُلْتُ: لَمْ يُرِدِ ابْنُ قُتَيْبَةَ ولا مَن قالَ بِقَوْلِهِ: " إنَّ الفِطْرَةَ خِلْقَةٌ " أنَّها مَعْرِفَةٌ حاصِلَةٌ بِالفِعْلِ مَعَ المَوْلُودِ حِينَ يُولَدُ، فَهَذا لَمْ يَقُلْهُ أحَدٌ، وقَدْ قالَ أحْمَدُ في رِوايَةِ المَيْمُونِيِّ: الفِطْرَةُ الأُولى الَّتِي فُطِرَ النّاسُ عَلَيْها، فَقالَ لَهُ المَيْمُونِيُّ: الفِطْرَةُ الدِّينُ؟ قالَ: نَعَمْ.
وَقَدْ نَصَّ في غَيْرِ مَوْضِعٍ أنَّ الكافِرَ إذا ماتَ أبَواهُ، أوْ أحَدُهُما حُكِمَ بِإسْلامِهِ، واسْتَدَلَّ بِالحَدِيثِ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ» " فَفَسَّرَ الحَدِيثَ بِأنَّهُ يُولَدُ عَلى فِطْرَةِ الإسْلامِ كَما جاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ في الحَدِيثِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْناهُ عِنْدَهُ لَما صَحَّ اسْتِدْلالُهُ بَعْدُ في بَعْضِ ألْفاظِهِ " «ما مِن مَوْلُودٍ إلّا يُولَدُ عَلى هَذِهِ المِلَّةِ» ".
وَأمّا قَوْلُ أحْمَدَ في مَواضِعَ أُخَرَ: " يُولَدُ عَلى ما فُطِرَ عَلَيْهِ مِن شَقاوَةٍ، أوْ سَعادَةٍ " فَلا تَنافِيَ بَيْنَهُ، وبَيْنَ قَوْلِهِ: إنَّها الدِّينُ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ قَدَّرَ الشَّقاوَةَ والسَّعادَةَ وكَتَبَهُما، وإنَّها تَكُونُ بِالأسْبابِ الَّتِي تَحْصُلُ بِها كَفِعْلِ الأبَوَيْنِ: فَتَهْوِيدُهُما، وتَنْصِيرُهُما، وتَمْجِيسُهُما، هو بِما قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعالى، والمَوْلُودُ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ مُسْلِمًا، ويُولَدُ عَلى أنَّ هَذِهِ الفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ قَدْ يُغَيِّرُها الأبَوانِ كَما قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ، وكَتَبَهُ، كَما مَثَّلَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " «كَما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ جَمْعاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهِما مِن جَدْعاءَ» ".
فَبَيَّنَ أنَّ البَهِيمَةَ تُولَدُ سَلِيمَةً، ثُمَّ يَجْدَعُها النّاسُ، وذَلِكَ أيْضًا بِقَضاءِ اللَّهِ، وقَدَرِهِ، فَكَذَلِكَ المَوْلُودُ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ مُسْلِمًا، ثُمَّ يُفْسِدُهُ أبَواهُ، وإنَّما قالَ أحْمَدُ وغَيْرُهُ: وُلِدَ عَلى ما فُطِرَ عَلَيْهِ مِن شَقاوَةٍ وسَعادَةٍ؛ لِأنَّ القَدَرِيَّةَ كانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَذا الحَدِيثِ عَلى أنَّ الكُفْرَ والمَعاصِيَ لَيْسَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ، بَلْ بِما فَعَلَهُ النّاسُ؛ لِأنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، وكُفْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النّاسِ، ولِهَذا لَمّا قِيلَ لِمالِكٍ: إنَّ القَدَرِيَّةَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنا بِأوَّلِ الحَدِيثِ.
قالَ: احْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِآخِرِهِ، وهو قَوْلُهُ: " «اللَّهُ أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلِينَ» " فَبَيَّنَ الأئِمَّةُ أنَّهُ لا حُجَّةَ فِيهِ لِلْقَدَرِيَّةِ، فَإنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الأبَوَيْنِ خَلَقا تَهْوِيدَهُ وتَنْصِيرَهُ، والقَدَرِيَّةُ لا تَقُولُ ذَلِكَ بَلْ عِنْدَهم أنَّهُ تَهَوَّدَ وتَنَصَّرَ بِاخْتِيارِهِ، ولَكِنْ كانَ الأبَوانِ سَبَبًا في حُصُولِ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيمِ، والتَّلْقِينِ، وهَذا حَقٌّ لا يَقْتَضِي نَفْيَ القَدَرِ السّابِقِ مِنَ العِلْمِ، والكِتابِ، والمَشِيئَةِ، بَلْ ذَلِكَ مُضافٌ إلى اللَّهِ تَعالى عِلْمًا، وكِتابَةً، ومَشِيئَةً، وإلى الأبَوَيْنِ تَسَبُّبًا، وتَعْلِيمًا، وتَلْقِيَنًا، وإلى الشَّيْطانِ تَزْيِينًا، ووَسْوَسَةً، وإلى العَبْدِ رِضًا، واخْتِيارًا، ومَحَبَّةً.
وَلا يُنافِي هَذا قَوْلَهُ في حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - إنَّ الغُلامَ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كافِرًا، ولَوْ عاشَ لَأرْهَقَ أبَوَيْهِ طُغْيانًا وكُفْرًا "
فَإنَّ مَعْناهُ أنَّهُ قُضِيَ عَلَيْهِ وقُدِّرَ في أُمِّ الكِتابِ أنَّهُ يَكُونُ كافِرًا، فَهي حالٌ مُقَدَّرَةٌ كَقَوْلِهِ: ﴿فادْخُلُوا أبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها﴾ [النحل: ٢٩]، وقَوْلِهِ: ﴿وَبَشَّرْناهُ بِإسْحاقَ نَبِيًّا﴾ [الصافات: ١١٢]، ونَظائِرِ ذَلِكَ، ولَيْسَ المُرادُ: أنَّ كُفْرَهُ كانَ مَوْجُودًا بِالفِعْلِ مَعَهُ حَتّى طُبِعَ، كَما يُقالُ: وُلِدَ مَلِكًا، ووُلِدَ عالِمًا، ووُلِدَ جَبّارًا ومَن ظَنَّ أنَّ " الطَّبْعَ " المَذْكُورَ في الحَدِيثِ هو " الطَّبْعُ " في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [النحل: ١٠٨]، فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا ظاهِرًا، فَإنَّ ذَلِكَ لا يُقالُ فِيهِ: طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ فَإنَّ الطَّبْعَ عَلى القَلْبِ إنَّما يُوجَدُ بَعْدَ كُفْرِهِ.
* [فَصْلٌ الدَّلِيلُ عَلى أنَّ المُرادَ بِالفِطْرَةِ الدِّينُ]
وَيَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ما فَسَّرَ بِهِ الأئِمَّةُ الفِطْرَةَ أنَّها " الدِّينُ " ما رَواهُ مُسْلِمٌ في " صَحِيحِهِ " مِن حَدِيثِ عِياضِ بْنِ حِمارٍ المُجاشِعِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى: " «إنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهم أتَتْهُمُ الشَّياطِينُ فاجْتالَتْهم عَنْ دِينِهِمْ، وحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ ما أحْلَلْتُ لَهُمْ، وأمَرَتْهم أنْ يُشْرِكُوا بِي ما لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا» "
وَهَذا صَرِيحٌ في أنَّهم خُلِقُوا عَلى الحَنِيفِيَّةِ، وأنَّ الشَّياطِينَ اقْتَطَعَتْهم بَعْدَ ذَلِكَ عَنْها، وأخْرَجُوهم مِنها، قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهم مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧]، وهَذا يَتَناوَلُ إخْراجَ الشَّياطِينِ لَهم مِن نُورِ الفِطْرَةِ إلى ظُلْمَةِ الكُفْرِ والشِّرْكِ، ومِنَ النُّورِ الَّذِي جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الهُدى، والعِلْمِ إلى ظُلُماتِ الجَهْلِ والضَّلالِ.
وَفِي " المُسْنَدِ "، وغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ الأسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قالَ:
«بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَرِيَّةً، فَأفْضى بِهِمُ القَتْلُ إلى الذُّرِّيَّةِ، فَقالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: " ما حَمَلَكم عَلى قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ "؟
قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، ألَيْسُوا أوْلادَ المُشْرِكِينَ؟ قالَ: " أوَلَيْسَ خِيارُكم أوْلادَ المُشْرِكِينَ؟ " ثُمَّ قامَ النَّبِيُّ ﷺ خَطِيبًا، فَقالَ: " ألا إنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ حَتّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسانُهُ» فَخُطْبَتُهُ لَهم بِهَذا الحَدِيثِ عَقِيبَ نَهْيِهِ لَهم عَنْ قَتْلِ أوْلادِ المُشْرِكِينَ، وقَوْلُهُ لَهُمْ: " «أوَلَيْسَ خِيارُكم أوْلادَ المُشْرِكِينَ»؟ " نَصَّ أنَّهُ أرادَ أنَّهم وُلِدُوا غَيْرَ كُفّارٍ، ثُمَّ الكُفْرُ طَرَأ بَعْدَ ذَلِكَ، ولَوْ أرادَ: أنَّ المَوْلُودَ حِينَ يُولَدُ يَكُونُ إمّا كافِرًا وإمّا مُسْلِمًا عَلى ما سَبَقَ بِهِ القَدَرُ، لَمْ يَكُنْ فِيما ذَكَرَهُ حُجَّةٌ عَلى ما قَصَدَهُ مِن نَهْيِهِ لَهم عَنْ قَتْلِ أوْلادِ المُشْرِكِينَ.
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُهم أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: " «أوَ لَيْسَ خِيارُكم أوْلادَ المُشْرِكِينَ» " مَعْناهُ: لَعَلَّهُ أنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ أنَّهم لَوْ بَقُوا لَآمَنُوا، فَيَكُونُ النَّهْيُ راجِعًا إلى هَذا المَعْنى مِنَ التَّجْوِيزِ، ولَيْسَ هَذا مَعْنى الحَدِيثِ، ولَكِنْ مَعْناهُ: أنَّ خِيارَكم هُمُ السّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ، والأنْصارِ، وهَؤُلاءِ مِن أوْلادِ المُشْرِكِينَ، فَإنَّ آباؤُهم كانُوا كُفّارًا، ثُمَّ إنَّ البَنِينَ أسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلا يَضُرُّ الطِّفْلَ أنْ يَكُونَ مِن أوْلادِ المُشْرِكِينَ إذا كانَ مُؤْمِنًا، فَإنَّ اللَّهَ إنَّما يَجْزِيهِ بِعَمَلِهِ لا بِعَمَلِ أبَوَيْهِ، وهو سُبْحانَهُ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ، ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ، والمُؤْمِنَ مِنَ الكافِرِ، والكافِرَ مِنَ المُؤْمِنِ.
وَهَذا الحَدِيثُ - وهو حَدِيثُ الفِطْرَةِ - ألْفاظُهُ يُفَسِّرُ بَعْضُها بَعْضًا، فَفي الصَّحِيحَيْنِ - واللَّفْظُ لِلْبُخارِيِّ - عَنِ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
" «ما مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إلّا عَلى الفِطْرَةِ فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، أوْ يُنَصِّرانِهِ، أوْ يُمَجِّسانِهِ كَما تُنْتِجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيها مِن جَدْعاءَ؟ ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ [الروم: ٣٠]، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، أفَرَأيْتَ مَن يَمُوتُ صَغِيرًا؟
قالَ: " اللَّهُ أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلِينَ» ".
وَفِي " الصَّحِيحِ "، قالَ الزُّهْرِيُّ: يُصَلّى عَلى كُلِّ مَوْلُودٍ يُتَوَفّى، وإنْ كانَ لِغَيَّةٍ، مِن أجْلِ أنَّهُ وُلِدَ عَلى فِطْرَةِ الإسْلامِ إذا اسْتَهَلَّ خارِجًا، ولا يُصَلّى عَلى مَن لَمْ يَسْتَهِلَّ مِن أجْلِ أنَّهُ سَقَطَ، وأنَّ أبا هُرَيْرَةَ كانَ يُحَدِّثُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
" «ما مِن مَوْلُودٍ إلّا ويُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، أوْ يُنَصِّرانِهِ، أوْ يُمَجِّسانِهِ كَما تُنْتِجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيها مِن جَدْعاءَ؟ " ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠]».
وَفِي " الصَّحِيحِ " مِن رِوايَةِ الأعْمَشِ: " «ما مِن مَوْلُودٍ إلّا وهو عَلى المِلَّةِ» ".
وَفِي رِوايَةِ أبِي مُعاوِيَةَ عَنْهُ " «إلّا عَلى هَذِهِ المِلَّةِ، حَتّى يُبِينَ عَنْهُ لِسانُهُ» ": فَهَذا صَرِيحٌ في أنَّهُ يُولَدُ عَلى مِلَّةِ الإسْلامِ كَما فَسَّرَهُ ابْنُ شِهابٍ راوِي الحَدِيثِ، واسْتِشْهادُ أبِي هُرَيْرَةَ بِالآيَةِ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ.
قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: وسُئِلَ ابْنُ شِهابٍ عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ: أيُجْزِئُ عَنْهُ الصَّبِيُّ أنْ يُعْتِقَهُ، وهو رَضِيعٌ؟ قالَ: نَعَمْ؛ لِأنَّهُ وُلِدَ عَلى الفِطْرَةِ.
قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وقَدْ ذَكَرَ أقْوالَ النّاسِ في هَذا الحَدِيثِ.
وَقالَ آخَرُونَ: الفِطْرَةُ هاهُنا هي الإسْلامُ. قالُوا: وهو المَعْرُوفُ عِنْدَ عامَّةِ السَّلَفِ، وأهْلُ التَّأْوِيلِ قَدْ أجْمَعُوا في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠]، عَلى أنْ قالُوا: فِطْرَةُ اللَّهِ دِينُ الإسْلامِ.
واحْتَجُّوا بِقَوْلِ أبِي هُرَيْرَةَ في هَذا الحَدِيثِ: " «اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠]».
قالَ: وذَكَرُوا عَنْ عِكْرِمَةَ ومُجاهِدٍ والحَسَنِ وإبْراهِيمَ والضَّحّاكِ وقَتادَةَ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠]، قالُوا: فِطْرَةُ اللَّهِ دِينُ الإسْلامِ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]، قالُوا: لِدِينِ اللَّهِ.
واحْتَجُّوا بِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ يَحْيى بْنِ جابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عائِذٍ الأزْدِيِّ، عَنْ عِياضِ بْنِ حِمارٍ المُجاشِعِيِّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لِلنّاسِ يَوْمًا: " «ألا أُحَدِّثُكم بِما حَدَّثَنِي اللَّهُ في الكِتابِ؟ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وبَنِيهِ حُنَفاءَ مُسْلِمِينَ، وأعْطاهُمُ المالَ حَلالًا لا حَرامَ فِيهِ، فَجَعَلُوا ما أعْطاهُمُ اللَّهُ حَرامًا وحَلالًا» " الحَدِيثَ.
قالَ: وكَذَلِكَ رَوى بَكْرُ بْنُ مُهاجِرٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ بِإسْنادِهِ مِثْلَهُ في هَذا الحَدِيثِ: " «حُنَفاءَ مُسْلِمِينَ» ".
قالَ أبُو عُمَرَ: رُوِيَ هَذا الحَدِيثُ عَنْ قَتادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِياضِ بْنِ حِمارٍ، ولَمْ يَسْمَعْهُ قَتادَةُ مِن مُطَرِّفٍ، ولَكِنْ قالَ: حَدَّثَنِي ثَلاثَةٌ: عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الغافِرِ، ويَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، والعَلاءُ بْنُ زِيادٍ، كُلُّهم يَقُولُ: حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ، عَنْ عِياضٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ فِيهِ: " «وَإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلَّهُمْ» " لَمْ يَقُلْ " مُسْلِمِينَ ".
وَكَذَلِكَ رَواهُ الحَسَنُ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِياضٍ.
وَرَواهُ ابْنُ إسْحاقَ عَمَّنْ لا يُتَّهَمُ، عَنْ قَتادَةَ بِإسْنادِهِ قالَ فِيهِ: " «وَإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلَّهُمْ» "، ولَمْ يَقُلْ " مُسْلِمِينَ ".
قالَ: فَدَلَّ هَذا عَلى حِفْظِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، وإتْقانِهِ، وضَبْطِهِ؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ " مُسْلِمِينَ " في رِوايَتِهِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ لِهَذا الحَدِيثِ، وأسْقَطَهُ مِن رِوايَةِ قَتادَةَ، وكَذَلِكَ رَواهُ النّاسُ عَنْ قَتادَةَ: قَصَّرَ فِيهِ عَنْ قَوْلِهِ " مُسْلِمِينَ " وزادَهُ ثَوْرٌ بِإسْنادِهِ، فاللَّهُ أعْلَمُ.
قالَ أبُو عُمَرَ: والحَنِيفُ في كَلامِ العَرَبِ المُسْتَقِيمُ المُخْلِصُ، ولا اسْتِقامَةَ أكْبَرُ مِنَ الإسْلامِ، قالَ: وقَدْ رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ قالَ: " الحَنِيفِيَّةُ حَجُّ البَيْتِ " وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أرادَ الإسْلامَ، وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الضَّحّاكِ، والسُّدِّيِّ " حُنَفاءَ: حُجّاجًا "، وعَنْ مُجاهِدٍ: " حُنَفاءَ مُتَّبِعِينَ "، قالَ: وهَذا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ الحَنِيفِيَّةَ: الإسْلامُ.
قالَ: وقالَ أكْثَرُ العُلَماءِ: الحَنِيفُ المُخْلِصُ. وقالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ما كانَ إبْراهِيمُ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا ولَكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ [آل عمران: ٦٧] وقالَ تَعالى: ﴿مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ هو سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾ [الحج: ٧٨]، قالَ الرّاعِي:
؎أخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إنّا مَعْشَرٌ ∗∗∗ حُنَفاءُ نَسْجُدُ بُكْرَةً وأصِيلا
؎عَرَبٌ نَرى اللَّهَ في أمْوالِنا ∗∗∗ حَقَّ الزَّكاةِ مُنَزَّلًا تَنْزِيلا
قالَ: فَوَصَفَ الحَنِيفِيَّةَ بِالإسْلامِ، وهو أمْرٌ واضِحٌ لا خَفاءَ بِهِ، قالَ: ومِمّا احْتَجَّ بِهِ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الفِطْرَةَ في هَذا الحَدِيثِ: " الإسْلامُ " قَوْلُهُ ﷺ: " «خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ» "، ويُرْوى: " «عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ» " يَعْنِي: فِطْرَةَ الإسْلامِ. انْتَهى.
قالَ شَيْخُنا: فالأدِلَّةُ الدّالَّةُ عَلى أنَّهُ أرادَ فِطْرَةَ الإسْلامِ كَثِيرَةٌ: كَألْفاظِ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ المُتَقَدِّمَةِ، كَقَوْلِهِ: " «عَلى المِلَّةِ» ": و" «عَلى هَذِهِ المِلَّةِ» " وقَوْلُهُ: " «خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ» "
وَفِي الرِّوايَةِ الأُخْرى: " «حُنَفاءَ مُسْلِمِينَ» "، ومِثْلُ تَفْسِيرِ أبِي هُرَيْرَةَ، وهو أعْلَمُ بِما سَمِعَ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنِ المُرادُ بِالفِطْرَةِ الإسْلامَ لَما سَألُوا عَقِيبَ ذَلِكَ: " «أرَأيْتَ مَن يَمُوتُ مِن أطْفالِ المُشْرِكِينَ وهو صَغِيرٌ»؟ " لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ ما يُغَيِّرُ تِلْكَ الفِطْرَةَ لَما سَألُوهُ، والعِلْمُ القَدِيمُ والكِتابُ السّابِقُ لا يَتَغَيَّرُ.
وَقَوْلُهُ: " «فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، ويُنَصِّرانِهِ ويُمَجِّسانِهِ» " بَيِّنٌ فِيهِ أنَّهم يُغَيِّرُونَ الفِطْرَةَ المَخْلُوقَ عَلَيْها بِذَلِكَ.
وَأيْضًا، فَإنَّهُ شَبَّهَ ذَلِكَ بِالبَهِيمَةِ الَّتِي تُولَدُ مُجْتَمِعَةَ الخَلْقِ لا نَقْصَ فِيها، ثُمَّ تُجْدَعُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أنَّ التَّغَيُّرَ وارِدٌ عَلى الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي وُلِدَ العَبْدُ عَلَيْها.
وَأيْضًا، فالحَدِيثُ مُطابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠]، وهَذا يَعُمُّ جَمِيعَ النّاسِ، فَعُلِمَ أنَّ اللَّهَ فَطَرَ النّاسَ كُلَّهم عَلى فِطْرَتِهِ المَذْكُورَةِ، وفِطْرَةُ اللَّهِ أضافَها إلَيْهِ إضافَةَ مَدْحٍ لا إضافَةَ ذَمٍّ، فَعُلِمَ أنَّها فِطْرَةٌ مَحْمُودَةٌ لا مَذْمُومَةٌ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أنَّهُ قالَ: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠]، وهَذا نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الفِعْلُ الأوَّلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وأصْحابِهِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ إقامَةَ الوَجْهِ لِلدِّينِ حَنِيفًا هو فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها كَما في نَظائِرِهِ مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، وقَوْلِهِ: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ في الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: ٦٢]، فَهَذا عِنْدَهم مَصْدَرٌ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ لازِمٍ إضْمارُهُ دَلَّ عَلَيْهِ الفِعْلُ المُتَقَدِّمُ، كَأنَّهُ قالَ: كَتَبَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، وكَذَلِكَ هُنا فَطَرَ اللَّهُ النّاسَ عَلى ذَلِكَ: عَلى إقامَةِ الدِّينِ حَنِيفًا.
وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ السَّلَفُ، قالَ ابْنُ جَرِيرٍ في هَذِهِ الآيَةِ: يَقُولُ: فَسَدِّدْ وجْهَكَ نَحْوَ الوَجْهِ الَّذِي وجَّهَكَ اللَّهُ يا مُحَمَّدُ لِطاعَتِهِ، وهو الدِّينُ حَنِيفًا، يَقُولُ: " مُسْتَقِيمًا لِدِينِهِ وطاعَتِهِ "، ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠]، يَقُولُ: " صَنْعَةَ اللَّهِ الَّتِي خَلَقَ النّاسَ عَلَيْها " ونَصْبُ فِطْرَةٍ عَلى المَصْدَرِ مِن مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ [الروم: ٣٠]، وذَلِكَ أنَّ مَعْنى الآيَةِ: فَطَرَ اللَّهُ النّاسَ عَلى ذَلِكَ فِطْرَةً.
قالَ: وبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنا في ذَلِكَ قالَ أهْلُ التَّأْوِيلِ، ثُمَّ رَوى عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قالَ: " فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها قالَ: هي الإسْلامُ مُنْذُ خَلَقَهُمُ اللَّهُ مِن آدَمَ جَمِيعًا، يُقِرُّونَ بِذَلِكَ، وقَرَأ: ﴿وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٧٢]، فَهَذا قَوْلُ اللَّهِ: ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ﴾ [بَعْدُ].
ثُمَّ ذَكَرَ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠]، قالَ: الدِّينُ الإسْلامُ.
حَدَّثَنا ابْنُ حُمَيْدٍ، ثَنا يَحْيى بْنُ واضِحٍ، ثَنا يُونُسُ بْنُ أبِي إسْحاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي مَرْيَمَ قالَ: مَرَّ عُمَرُ بِمُعاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَقالَ: ما قِوامُ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قالَ مُعاذٌ: ثَلاثٌ وهُنَّ المُنْجِياتُ: الإخْلاصُ، وهو الفِطْرَةُ ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠]، والصَّلاةُ، وهي المِلَّةُ، والطّاعَةُ، وهي العِصْمَةُ. فَقالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ.
ثُمَّ قالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، ثَنا ابْنُ عُلَيَّةَ، ثَنا أيُّوبُ، عَنْ أبِي قِلابَةَ أنَّ عُمَرَ قالَ لِمُعاذٍ: ما قِوامُ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
قالَ وقَوْلُهُ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]، يَقُولُ: لا تَغْيِيرَ لِدِينِ اللَّهِ، أيْ: لا يَصْلُحُ ذَلِكَ، ولا يَنْبَغِي أنْ يُفْعَلَ.
وَرَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ قالَ: أرْسَلَ مُجاهِدٌ رَجُلًا يُقالُ لَهُ: قاسِمٌ إلى عِكْرِمَةَ يَسْألُهُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]، فَقالَ: لِدِينِ اللَّهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]، قالَ: الإسْلامُ.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٍ، والضَّحّاكِ، وإبْراهِيمَ
النَّخَعِيِّ، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ خِصاءِ البَهائِمِ؟ فَكَرِهَهُ، وقالَ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠].
وَكَذَلِكَ قالَ عِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ في رِوايَةِ لَيْثٍ عَنْهُ.
قالَ شَيْخُنا: ولا مُنافاةَ بَيْنَ القَوْلَيْنِ عَنْهُما، كَما قالَ تَعالى عَنِ الشَّيْطانِ: ﴿وَلَآمُرَنَّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ ولَآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: ١١٩]، فَتَغْيِيرُ ما خَلَقَ اللَّهُ عِبادَهُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ تَغْيِيرٌ لِدِينِهِ، والخِصاءُ وقَطْعُ الأُذُنِ تَغْيِيرٌ لِخَلْقِهِ، ولِهَذا شَبَّهَ النَّبِيُّ ﷺ أحَدَهُما بِالآخَرِ في قَوْلِهِ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، ويُنَصِّرانِهِ، ويُمَجِّسانِهِ كَما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ جَمْعاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيها مِن جَدْعاءَ؟» " فَأُولَئِكَ يُغَيِّرُونَ الدِّينَ، وهَؤُلاءِ يُغَيِّرُونَ الصُّورَةَ بِالجَدْعِ، والخِصاءِ، هَذا يُغَيِّرُ ما خَلَقَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، وهَذا يُغَيِّرُ ما خَلَقَ عَلَيْهِ بَدَنَهُ.
{"ayah":"فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّینِ حَنِیفࣰاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَیۡهَاۚ لَا تَبۡدِیلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق