الباحث القرآني

(p-٢٢٢)﴿وإنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ما اتَّخَذَ صاحِبَةً ولا ولَدًا﴾ هَذا مَحْكِيٌّ عَنْ كَلامِ الجِنِّ، قَرَأهُ الجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إنَّهُ) عَلى اعْتِبارِهِ مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِمْ ﴿إنّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن: ١] إذْ يَجِبُ كَسْرُ هَمْزَةِ (إنَّ) إذا حُكِيَتْ بِالقَوْلِ. وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ وأبُو جَعْفَرٍ وخَلَفٌ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ عَلى أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ المَجْرُورِ بِالباءِ في قَوْلِهِ ﴿فَآمَنّا بِهِ﴾ [الجن: ٢] أيْ: وآمَنّا بِأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا. وعَدَمُ إعادَةِ الجارِّ مَعَ المَعْطُوفِ عَلى المَجْرُورِ بِالحَرْفِ مُسْتَعْمَلٌ، وجَوَّزَهُ الكُوفِيُّونَ، عَلى أنَّ حَرْفَ الجَرِّ كَثِيرٌ حَذْفُهُ مَعَ (أنَّ) فَلا يَنْبَغِي أنْ يُخْتَلَفَ في حَذْفِهِ هُنا عَلى التَّأْوِيلِ. قالَ في الكَشّافِ: (﴿أنَّهُ اسْتَمَعَ﴾ [الجن: ١]) بِالفَتْحِ،؛ لِأنَّهُ فاعِلُ (أُوحِيَ) - أيْ: نائِبُ الفاعِلِ - (﴿وإنّا سَمِعْنا﴾ [الجن: ١]) بِالكَسْرِ،؛ لِأنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْكِيٌّ بَعْدَ القَوْلِ ثُمَّ تُحْمَلُ عَلَيْهِما البَواقِي فَما كانَ مِنَ الوَحْيِ فُتِحَ، وما كانَ مِن قَوْلِ الجِنِّ كُسِرَ، وكُلُّهُنَّ مِن قَوْلِهِمْ إلّا الثِّنْتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ: ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ﴾ [الجن: ١٨]، ﴿وأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ﴾ [الجن: ١٩] ومَن فَتَحَ كُلَّهُنَّ فَعَطْفًا عَلى مَحَلِّ الجارِّ والمَجْرُورِ في ﴿آمَنّا بِهِ﴾ [الجن: ١٣] كَأنَّهُ قِيلَ: صَدَّقْناهُ وصَدَّقْنا أنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا، وأنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا، وكَذَلِكَ البَواقِي اهـ. والتَّعالِي: شِدَّةُ العُلُوِّ، جُعِلَ شَدِيدَ العُلُوِّ كالمُتَكَلِّفِ العُلُوِّ لِخُرُوجِ عُلُوِّهُ عَنْ غالِبِ ما تَعارَفَهُ النّاسُ فَأشْبَهَ التَّكَلُّفَ. والجَدُّ، بِفَتْحِ الجِيمِ: العَظَمَةُ والجَلالُ، وهَذا تَمْهِيدٌ وتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ ﴿ما اتَّخَذَ صاحِبَةً ولا ولَدًا﴾؛ لِأنَّ اتِّخاذَ الصّاحِبَةِ لِلِافْتِقارِ إلَيْها لِأُنْسِها وعَوْنِها والِالتِذاذِ بِصُحْبَتِها، وكُلُّ ذَلِكَ مِن آثارِ الِاحْتِياجِ، واللَّهُ تَعالى الغَنِيُّ المُطْلَقُ، وتَعالى جَدُّهُ بِغِناهُ المُطْلَقِ، والوَلَدُ يُرْغَبُ فِيهِ لِلِاسْتِعانَةِ والأُنْسِ بِهِ، مَعَ ما يَقْتَضِيهِ مِنِ انْفِصالِهِ مِن أجْزاءِ والِدَيْهِ وكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الِافْتِقارِ والِانْتِقاصِ. وضَمِيرُ (إنَّهُ) ضَمِيرُ شَأْنٍ، وخَبَرُهُ جُمْلَةُ ﴿تَعالى جَدُّ رَبِّنا﴾ . وجُمْلَةُ ﴿ما اتَّخَذَ صاحِبَةً﴾ إلى آخِرِها بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ﴿تَعالى جَدُّ رَبِّنا﴾ . (p-٢٢٣)وتَأْكِيدُ الخَبَرِ بِـ (إنَّ) سَواءٌ كانَتْ مَكْسُورَةً أوْ مَفْتُوحَةً؛ لِأنَّهُ مَسُوقٌ إلى فَرِيقٍ يَعْتَقِدُونَ خِلافَ ذَلِكَ مِنَ الجِنِّ. والِاقْتِصارُ في بَيانِ تَعالِي جَدِّ اللَّهِ عَلى انْتِفاءِ الصّاحِبَةِ عَنْهُ والوَلَدِ يُنْبِئُ بِأنَّهُ كانَ شائِعًا في عِلْمِ الجِنِّ ما كانَ يَعْتَقِدُهُ المُشْرِكُونَ أنَّ المَلائِكَةَ بَناتُ اللَّهِ مِن سَرَواتِ الجِنِّ، وما اعْتِقادُ المُشْرِكِينَ إلّا ناشِئٌ عَنْ تَلْقِينِ الشَّيْطانِ وهو مِنَ الجِنِّ، ولِأنَّ ذَلِكَ مِمّا سَمِعُوهُ مِنَ القُرْآنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿سُبْحانَهُ أنّى يَكُونُ لَهُ ولَدٌ ولَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ﴾ [الأنعام: ١٠١] في سُورَةِ الأنْعامِ. وإعادَةُ (لا) النّافِيَةِ مَعَ المَعْطُوفِ لِلتَّأْكِيدِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ المَعْطُوفَ مَنفِيٌّ بِاسْتِقْلالِهِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ نَفْيِ المَجْمُوعِ. وضَمِيرُ الجَماعَةِ في قَوْلِهِ (رَبِّنا) عائِدٌ إلى كُلِّ مُتَكَلِّمٍ مَعَ تَشْرِيكِ غَيْرِهِ، فَعَلى تَقْدِيرِ أنَّهُ مِن كَلامِ الجِنِّ فَهو قَوْلُ كُلِّ واحِدٍ مِنهم عَنْ نَفْسِهِ ومَن مَعَهُ مِن بَقِيَّةِ النَّفَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب