الباحث القرآني
”﴿وإنَّ إلْياسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿إذْ قالَ لِقَوْمِهِ ألا تَتَّقُونَ﴾ ﴿أتَدْعُونَ بَعْلًا وتَذَرُونَ أحْسَنَ الخالِقِينَ﴾ ﴿اللَّهُ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإنَّهم لَمُحْضَرُونَ﴾ ﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ ﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ﴾ ﴿سَلامٌ عَلى آلِ ياسِينَ﴾ ﴿إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا المُؤْمِنِينَ﴾“ أُتْبِعَ الكَلامُ عَلى رُسُلٍ ثَلاثَةٍ أصْحابِ الشَّرائِعِ: نُوحٍ، وإبْراهِيمَ، ومُوسى بِالخَبَرِ عَنْ ثَلاثَةِ أنْبِياءَ وما لَقُوهُ مِن قَوْمِهِمْ، وذَلِكَ كُلُّهُ شَواهِدُ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ﷺ وقَوارِعُ مِنَ المَوْعِظَةِ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ.
وابْتُدِئَ ذِكْرُ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ بِجُمْلَةِ ﴿وإنَّ إلْياسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ لِأنَّهم سَواءٌ في (p-١٦٦)مَرْتَبَةِ الدَّعْوَةِ إلى دِينِ اللَّهِ، وفي أنَّهم لا شَرائِعَ لَهم. وتَأْكِيدُ إرْسالِهِمْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ لِأنَّهُ قَدْ يُغْفَلُ عَنْهُ إذْ لَمْ تَكُنْ لِهَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ شَرِيعَةٌ خاصَّةٌ.
وإلْياسُ هو (إيلْياءُ) مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ التّابِعِينَ لِشَرِيعَةِ التَّوْراةِ، وأُطْلِقَ عَلَيْهِ وصْفُ الرَّسُولِ لِأنَّهُ أُمِرَ مِن جانِبِ اللَّهِ تَعالى بِتَبْلِيغِ مُلُوكِ إسْرائِيلَ أنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ مِن أجْلِ عِبادَةِ الأصْنامِ، فَإطْلاقُ وصْفِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ مِثْلُ إطْلاقِهِ عَلى الرُّسُلِ إلى أهْلِ أنْطاكِيَّةَ المَذْكُورِينَ في سُورَةِ يس.
و(إذْ) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ ”المُرْسَلِينَ“، أيْ أنَّهُ مِن حِينِ ذَلِكَ القَوْلِ كانَ مُبَلِّغًا رِسالَةً عَنِ اللَّهِ تَعالى إلى قَوْمِهِ.
وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إلْياْسَ في سُورَةِ الأنْعامِ، والمُرادُ بِقَوْمِهِ: بَنُو إسْرائِيلَ وكانُوا قَدْ عَبَدُوا بَعْلًا مَعْبُودَ الكَنْعانِيِّينَ بِسَبَبِ مُصاهَرَةِ بَعْضِ مُلُوكِ يَهُوذا لِلْكَنْعانِيِّينَ ولِذَلِكَ قامَ إلْياسُ داعِيًا قَوْمَهَ إلى نَبْذِ عِبادَةِ بَعْلِ الصَّنَمِ وإفْرادِ اللَّهِ بِالعِبادَةِ.
وقَوْلُهُ ”ألا“ كَلِمَتانِ: هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ لِلْإنْكارِ، و”لا“ النّافِيَةُ، إنْكارٌ لِعَدَمِ تَقْواهم، وحَذْفُ مَفْعُولِ ”تَتَّقُونَ“ لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ.
و(بَعْلٌ) اسْمُ صَنَمِ الكَنْعانِيِّينَ وهو أعْظَمُ أصْنامِهِمْ لِأنَّ كَلِمَةَ بَعْلٍ في لُغَتِهِمْ تَدُلُّ عَلى مَعْنى الذُّكُورَةِ. ثُمَّ دَلَّتْ عَلى مَعْنى السِّيادَةِ، فَلَفْظُ البَعْلِ يُطْلَقُ عَلى الذَّكَرِ، وهو عِنْدَهم رَمْزٌ عَلى الشَّمْسِ ويُقابِلُهُ كَلِمَةُ (تانِيتْ) بِمُثَنّاتَيْنِ، أيِ الأُنْثى وكانَتْ لَهم صَنْعَةٌ تُسَمّى عِنْدَ الفِينِيقِيِّينَ بِقُرْطاجَنَّةَ (تانِيتْ) وهي عِنْدَهم رَمْزُ القَمَرِ وعِنْدَ فِينِيقِيِّيِ أرْضِ فِينِيقِيَّةَ الوَطَنُ الأصْلِيُّ لِلْكَنْعانِيِّينَ تُسَمّى هَذِهِ الصَّنَمَةُ (العَشْتارُوثْ)، وقَدْ أُطْلِقَ عَلى بَعْلٍ في زَمَنِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - اسْمُ (مُولَكْ) أيْضًا، وقَدْ مَثَّلُوهُ بِصُورَةِ إنْسانٍ لَهُ رَأْسُ عِجْلٍ ولَهُ قَرْنانِ وعَلَيْهِ إكْلِيلٌ وهو جالِسٌ عَلى كُرْسِيٍّ مادًّا يَدَيْهِ كَمَن يَتَناوَلُ شَيْئًا، وكانَتْ صُورَتُهُ مِن نُحاسٍ وداخِلُها مُجَوَّفٌ وقَدْ وضَعُوها عَلى قاعِدَةٍ مِن بِناءٍ كالتَّنُّورِ، فَكانُوا يُوقِدُونَ النّارَ في ذَلِكَ التَّنُّورِ حَتّى يُحْمى النُّحاسُ، ويَأْتُونَ بِالقَرابِينِ فَيَضَعُونَها عَلى ذِراعَيْهِ فَتَحْتَرِقُ بِالحَرارَةِ فَيَحْسَبُونَ لِجَهْلِهِمُ الصَّنَمَ تَقَبَّلَها وأكَلَها مِن يَدَيْهِ، وكانُوا يُقَرِّبُونَ لَهُ أطْفالًا مِن أطْفالِ مُلُوكِهِمْ وعُظَماءِ مِلَّتِهِمْ، وقَدْ عَبَدَهُ بَنُو إسْرائِيلَ غَيْرَ مَرَّةٍ تَبَعًا لِلْكَنْعانِيِّينَ، والعَمُونِيِّينَ، (p-١٦٧)والمُؤْبِيِّينَ وكانَ لِبَعْلٍ مِنَ السَّدَنَةِ في بِلادِ السّامِرَةِ، أوْ مَدِينَةِ صِرْفَةَ أرْبَعُمائَةٍ وخَمْسُونَ سادِنًا.
وتُوجَدُ صُورَةُ بَعْلٍ في دارِ الآثارِ بِقَصْرِ اللُّوفَرِ في بارِيسَ مَنقُوشَةٌ عَلى وجْهِ حِجارَةٍ، صَوَّرُوهُ بِصُورَةِ إنْسانٍ عَلى رَأْسِهِ خَوْذَةٌ بِها قَرْنانِ وبِيَدِهِ مِقْرَعَةٌ. ولَعَلَّها صُورَتُهُ عِنْدَ بَعْضِ الأُمَمِ الَّتِي عَبَدَتْهُ، ولا تُوجَدُ لَهُ صُورَةٌ في آثارِ قُرْطاجَنَّةَ الفِينِيقِيَّةِ بِتُونُسَ.
وجِيءَ في قَوْلِهِ ﴿وتَذَرُونَ أحْسَنَ الخالِقِينَ﴾ بِذِكْرِ صِفَةِ اللَّهِ دُونَ اسْمِهِ العَلَمِ تَعْرِيضًا بِتَسْفِيهِ عُقُولِ الَّذِينَ عَبَدُوا بَعْلا بِأنَّهم تَرَكُوا عِبادَةَ الرَّبِّ المُتَّصِفِ بِأحْسَنِ الصِّفاتِ وأكْمَلِها، وعَبَدُوا صَنَمًا ذاتُهُ وخْشٌ فَكَأنَّهُ قالَ: أتَدْعُونَ صَنَمًا بَشِعًا جَمَعَ عُنْصُرَيِ الضَّعْفِ وهُما المَخْلُوقِيَّةُ وقُبْحُ الصُّورَةِ، وتَتْرُكُونَ مَن لَهُ صِفَةُ الخالِقِيَّةِ والصِّفاتُ الحُسْنى.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ”﴿إلْياسَ﴾“ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ في أوَّلِهِ عَلى اعْتِبارِ الألِفِ واللّامِ مِن جُمْلَةِ الِاسْمِ العَلَمِ فَلَمْ يَحْذِفُوا الهَمْزَةَ إذا وصَلُوا (إنَّ) بِها. وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ بِهَمْزَةِ وصْلٍ، فَحَذَفَها في الوَصْلِ مَعَ (إنَّ) عَلى اعْتِبارِ الألِفِ واللّامِ حَرْفًا لِلَمْحِ الأصْلِ. وأنَّ أصْلَ الِاسْمِ ياسُ مُراعاةً لِقَوْلِهِ ﴿سَلامٌ عَلى آلِ ياسِينَ﴾ .
ولِلْعَرَبِ في النُّطْقِ بِالأسْماءِ الأعْجَمِيَّةِ تَصَرُّفاتٌ كَثِيرَةٌ لِأنَّهُ لَيْسَ مِن لُغَتِهِمْ، فَهم يَتَصَرَّفُونَ في النُّطْقِ بِهِ عَلى ما يُناسِبُ أبْنِيَةَ كَلامِهِمْ.
وجُمْلَةُ ”﴿اللَّهُ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾“ قَرَأ الأكْثَرُ بِرَفْعِ اسْمِ الجَلالَةِ وما عُطِفَ عَلَيْهِ فَهو مُبْتَدَأٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا، والخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّنْبِيهِ عَلى الخَطَأِ بِأنْ عَبَدُوا (بَعْلًا) . وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ويَعْقُوبَ وخَلَفٍ بِنَصْبِ اسْمِ الجَلالَةِ عَلى عَطْفِ البَيانِ لِ ﴿أحْسَنَ الخالِقِينَ﴾، والمَقْصُودُ مِنَ البَيانِ زِيادَةُ التَّصْرِيحِ لِأنَّ المَقامَ مَقامُ إيضاحٍ لِأصْلِ الدِّيانَةِ، وعَلى كِلْتا القِراءَتَيْنِ فالكَلامُ مَسُوقٌ لِتَذْكِيرِهِمْ بِأنَّ مِن أُصُولِ دِينِهِمْ أنَّهم لا رَبَّ لَهم إلّا اللَّهُ، وهَذا أوَّلُ أُصُولِ الدِّينِ، فَإنَّهُ رَبُّ آبائِهِمْ فَإنَّ آباءَهم لَمْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ مِن عَهْدِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وهو الأبُ الأوَّلُ، مِن حِينِ تَمَيَّزَتْ أُمَّتُهم عَنْ غَيْرِهِمْ، أوْ هو يَعْقُوبُ قالَ تَعالى ﴿وأوْصى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا (p-١٦٨)تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢]، واحْتِرازٌ بِ ”الأوَّلِينَ“ عَنْ آبائِهِمُ الَّذِينَ كانُوا في زَمانِ مُلُوكِهِمْ بَعْدَ سُلَيْمانَ.
وجُمِعَ هَذا الخَبَرُ تَحْرِيضًا عَلى إبْطالِ عِبادَةِ (بَعْلٍ) لِأنَّ في الطَّبْعِ مَحَبَّةَ الِاقْتِداءِ بِالسَّلَفِ في الخَيْرِ. وقَدْ جَمَعَ إلْياْسُ مَن مَعَهُ مِن أتْباعِهِ وجَعَلَ مَكِيدَةً لِسَدَنَةِ (بَعْلٍ) فَقَتَلَهم عَنْ آخِرِهِمُ انْتِصارًا لِلدِّينِ وانْتِقامًا لِمَن قَتَلَتْهم إيزابِلْ زَوْجَةُ آخابْ.
وفِي مَفاتِيحِ الغَيْبِ: ”أنَّ المُلَقَّبَ بِالرَّشِيدِ الكاتِبِ يَقُولُ لَوْ قِيلَ: أتَدْعُونَ بَعْلًا وتَدَعُونَ أحْسَنَ الخالِقِينَ، أوْهَمَ أنَّهُ أحْسَنُ“، أيْ أوْهَمَ كَلامُ الرَّشِيدِ أنَّهُ لَوْ كانَتْ كَلِمَةُ ”تَدَعُونَ“ عِوَضًا عَنْ ”تَذَرُونَ“ . وأجابَ الفَخْرُ بِأنَّ فَصاحَةَ القُرْآنِ لَيْسَتْ لِأجْلِ رِعايَةِ هَذِهِ التَّكالِيفِ بَلْ لِأجْلِ قُوَّةِ المَعانِي وجَزالَةِ الألْفاظِ اهـ.
وهُوَ جَوابٌ غَيْرُ مُقْنِعٍ إذْ لا سَبِيلَ إلى إنْكارِ حُسْنِ مَوْقِعِ المُحَسِّناتِ البَدِيعِيَّةِ بَعْدَ اسْتِكْمالِ مُقْتَضَياتِ البَلاغَةِ. قالَ السَّكّاكِيُّ: ”وأصْلُ الحُسْنِ في جَمِيعِ ذَلِكَ (أيْ ما ذُكِرَ مِنَ المُحَسِّناتِ البَدِيعِيَّةِ) أنْ تَكُونَ الألْفاظُ تَوابِعَ لِلْمَعانِي لا أنْ تَكُونَ المَعانِي لَها تَوابِعَ، أعْنِي أنْ لا تَكُونَ مُتَكَلَّفَةً“ . فَإذا سَلَّمْنا أنَّ ”تَذَرُونَ“ و”تَدَعُونَ“ مُتَرادِفانِ لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلى إبْطالِ أنَّ إيثارَ ”تَدَعُونَ“ أنْسَبُ.
فالوَجْهُ إمّا أنْ يُجابَ بِما قالَهُ سَعْدُ اللَّهِ مُحَشِّي البَيْضاوِيِّ بِأنَّ الجِناسَ مِنَ المُحَسِّناتِ فَإنَّما يُناسِبُ كَلامًا صادِرًا في مَقامِ الرِّضى لا في مَقامِ الغَضَبِ والتَّهْوِيلِ. يَعْنِي أنَّ كَلامَ إلْياسَ المَحْكِيَّ هُنا مَحْكِيٌّ عَنْ مَقامِ الغَضَبِ والتَّهْوِيلِ فَلا تُناسِبُهُ اللَّطائِفُ اللَّفْظِيَّةُ، يَعْنِي بِالنَّظَرِ إلى حالِ المُخاطَبِينَ بِهِ لِأنَّ كَلامَهُ مَحْكِيٌّ في العَرَبِيَّةِ بِما يُناسِبُ مَصْدَرَهُ في لُغَةِ قائِلِهِ، وذَلِكَ مِن دَقائِقِ التَّرْجَمَةِ، وهو جَوابٌ دَقِيقٌ، وإنْ كابَرَ فِيهِ الخَفاجِيُّ بِكَلامٍ لا يَلِيقُ، وإنْ تَأمَّلْتَهُ جَزَمْتَ بِاخْتِلالِهِ.
وقَدْ أُجِيبَ بِما يَقْتَضِي مَنعَ التَّرادُفِ بَيْنَ فِعْلَيْ ”تَذَرُونَ“ و”تَدَعُونَ“ بِأنَّ فِعْلَ (p-١٦٩)(يَدَعُ) أخَصُّ: إمّا لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى تَرْكِ شَيْءٍ مَعَ الِاعْتِناءِ بِعَدَمِ تَرْكِهِ كَما قالَ سَعْدُ اللَّهِ، وإمّا فِعْلُ يَدَعُ يَدُلُّ عَلى تَرْكِ شَيْءٍ قَبْلَ العِلْمِ، وفِعْلُ (يَذَرُ) يَدُلُّ عَلى تَرْكِ شَيْءٍ بَعْدَ العِلْمِ بِهِ كَما حَكاهُ سَعْدُ اللَّهِ عَنْ بَعْضِ الأيِمَّةِ عازِيًا إيّاهُ لِلْفَخْرِ.
وعِنْدِي: أنَّ مَنعَ التَّرادُفِ هو الوَجْهُ، لَكِنْ لا كَما قالَ سَعْدُ اللَّهِ ولا كَما نُقِلَ عَنِ الفَخْرِ، بَلْ لِأنَّ فِعْلَ (يَدَعُ) قَلِيلُ الِاسْتِعْمالِ في كَلامِ العَرَبِ ولِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ في القُرْآنِ إلّا في قِراءَةٍ شاذَّةٍ لا سَنَدَ لَها خِلافًا لِفِعْلِ (يَذَرُ)، ولا شَكَّ أنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أنَّ فِعْلَ (يَذَرُ) يَدُلُّ عَلى تَرْكٍ مَعَ إعْراضٍ عَنِ المَتْرُوكِ بِخِلافِ (يَدَعُ) فَإنَّهُ يَقْتَضِي تَرْكًا مُؤَقَّتًا، وأشارَ إلى الفَرْقِ بَيْنَهُما كَلامُ الرّاغِبِ فِيهِما.
وهُنالِكَ عِدَّةُ أجْوِبَةٍ أُخْرى، هي بِالإعْراضِ عَنْها أحْرى.
ومَعْنى ”فَكَذَّبُوهُ“ أنَّهم لَمْ يُطِيعُوهُ تَمَلُّقًا لِمُلُوكِهِمُ الَّذِينَ أجابُوا رَغْبَةَ نِسائِهِمُ المُشْرِكاتِ لِإقامَةِ هَياكِلَ لِلْأصْنامِ، فَإنَّ إيزابِلْ ابْنَةَ مَلِكِ الصَّيْدَوَنِيِّينَ زَوْجَةَ أخابْ مَلِكِ إسْرائِيلَ لَمّا بَلَغَها ما صَنَعَ إلْياسُ بِسَدَنَةِ بَعْلٍ ثَأْرًا لِمَن قَتَلَتْهُ إيزابِلْ مِن صالِحِي إسْرائِيلَ، أرْسَلَتْ إلى إلْياسَ تَتَوَعَّدُهُ بِالقَتْلِ فَخَرَجَ إلى مَوْضِعٍ اسْمُهُ (بِئْرُ سَبْعٍ) ثُمَّ ساحَ في الأرْضِ وسَألَ اللَّهَ أنْ يَقْبِضَهُ إلَيْهِ فَأمَرَهُ بِأنْ يَعْهَدَ إلى صاحِبِهِ اليَسَعَ بِالنُّبُوءَةِ مِن بَعْدِهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْ أحَدٌ مَكانَهُ.
وفِي كِتابِ (إيلِياءَ) مِن كُتُبِ اليَهُودِ أنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إلى السَّماءِ في مَرْكَبَةٍ يَجُرُّها فُرْسانٌ، وأنَّ ”اليَسَعَ“ شاهَدَهُ صاعِدًا فِيها، ولِذَلِكَ كانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: إنَّ إلْياسَ هو إدْرِيسُ الَّذِي قالَ اللَّهُ فِيهِ: ”﴿إنَّهُ كانَ صَدِّيقًا نَبِيئًا ورَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: ٥٦]“، وقِيلَ: كانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ ”وإنَّ إدْرِيسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ“ عِوَضَ ”وإنَّ إلْياسَ“، ويَقْرَأُ ”سَلامٌ عَلى إدْراسِينَ“ عَلى أنَّهُ لُغَةٌ في إدْرِيسَ. ولا يَقْتَضِي ما في كُتُبِ اليَهُودِ مِن رَفْعِهِ أنْ يَكُونَ هو إدْرِيسَ لِأنَّ الرَّفْعَ إذا صَحَّ قَدْ يَتَكَرَّرُ وقَدْ رَفَعَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
ومَعْنى ”﴿فَإنَّهم لَمُحْضَرُونَ﴾“ أنَّ اللَّهَ يُحْضِرُهم لِلْعِقابِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ المُحْضَرِينَ﴾ [الصافات: ٥٧] في هَذِهِ السُّورَةِ.
واسْتُثْنِيَ مِن ذَلِكَ عِبادُ اللَّهِ المُخْلَصُونَ وهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا إلْياسَ وأعانُوهُ عَلى قَتْلِ سَدَنَةِ (بَعْلٍ) . وتَقَدَّمَ القَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ”﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾“ فِيما (p-١٧٠)سَبَقَ مِن هَذِهِ السُّورَةِ.
وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ”﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ سَلامٌ عَلى آلِ ياسِينَ﴾“ إلى آخِرِ الآيَةِ، تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ.
وقَوْلُهُ ”آلِ ياسِينَ“ قِيلَ: أُرِيدَ بِهِ إلْياسُ خاصَّةً، وعَبَّرَ عَنْهُ بِ ”ياسِينَ“ لِأنَّهُ يُدْعى بِهِ. قالَ في الكَشّافِ: ولَعَلَّ لِزِيادَةِ الألِفِ والنُّونِ في لُغَتِهِمْ مَعْنًى ويَكُونُ ذِكْرُ ”آلِ“ إقْحامًا كَقَوْلِهِ ﴿أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ [غافر: ٤٦] عَلى أحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِيهِ، وفي قَوْلِهِ ﴿فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ [النساء: ٥٤] .
وقِيلَ: إنَّ ياسِينَ هو أبُو إلْياسَ. فالمُرادُ: سَلامٌ عَلى إلْياسَ وذَوِيهِ مِن آلِ أبِيهِ.
وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ ”﴿إلْ ياسِينَ﴾“ بِهَمْزَةٍ بَعْدَها ألِفٌ عَلى أنَّهُما كَلِمَتانِ (إلْ) و(ياسِينَ) . وقَرَأهُ الباقُونَ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ دُونَ ألِفٍ بَعْدَها وبِإسْكانِ اللّامِ عَلى أنَّها كَلِمَةٌ واحِدَةٌ هي اسْمُ إلْياْسَ وهي مَرْسُومَةٌ في المَصاحِفِ كُلِّها عَلى قِطْعَتَيْنِ ”﴿إلْ ياسِينَ﴾“، ولا مُنافاةَ بَيْنَها وبَيْنَ القِراءَتَيْنِ لِأنَّ آلَ قَدْ تُرْسَمُ مَفْصُولَةً عَنْ مَدْخُولِها.
والأظْهَرُ أنَّ المُرادَ بِ ”آلِ ياسِينَ“ أنْصارُهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وأعانُوهُ كَما قالَ النَّبِيءُ ﷺ: «آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ» . وهَؤُلاءِ هم أهْلُ (جَبَلِ الكَرْمَلِ) الَّذِينَ اسْتَنْجَدَهم إلْياسُ عَلى سَدَنَةِ بَعْلٍ فَأطاعُوهُ وأنْجَدُوهُ وذَبَحُوا سَدَنَةَ بَعْلٍ كَما هو مَوْصُوفٌ بِإسْهابٍ في الإصْحاحِ الثّامِنِ عَشَرَ مِن سِفْرِ المُلُوكِ الأوَّلِ. فَيَكُونُ المَعْنى: سَلامٌ عَلى ياسِينَ وآلِهِ، لِأنَّهُ إذا حَصَلَتْ لَهُمُ الكَرامَةُ لِأنَّهم آلُهُ فَهو بِالكَرامَةِ أوْلى.
وفِي قِصَّةِ إلْياسَ إنْباءٌ بِأنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ أداءُ الرِّسالَةِ ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أنْ يُشاهِدَ عِقابَ المُكَذِّبِينَ ولا هَلاكَهم لِلرَّدِّ عَلى المُشْرِكِينَ الَّذِينَ قالُوا: ﴿مَتى هَذا الفَتْحُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [السجدة: ٢٨]، قالَ تَعالى: ﴿قُلْ رَبِّ إمّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي في القَوْمِ الظّالِمِينَ وإنّا عَلى أنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهم لَقادِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٩٣]، وقالَ تَعالى: ﴿وإمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهم أوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإلَيْنا يُرْجَعُونَ﴾ [غافر: ٧٧] وفي الآيَةِ الأُخْرى " وإلَيْنا يُرْجَعُونَ.
{"ayahs_start":123,"ayahs":["وَإِنَّ إِلۡیَاسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ","إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦۤ أَلَا تَتَّقُونَ","أَتَدۡعُونَ بَعۡلࣰا وَتَذَرُونَ أَحۡسَنَ ٱلۡخَـٰلِقِینَ","ٱللَّهَ رَبَّكُمۡ وَرَبَّ ءَابَاۤىِٕكُمُ ٱلۡأَوَّلِینَ","فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ","إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِینَ","وَتَرَكۡنَا عَلَیۡهِ فِی ٱلۡـَٔاخِرِینَ","سَلَـٰمٌ عَلَىٰۤ إِلۡ یَاسِینَ","إِنَّا كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ","إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"],"ayah":"إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق