الباحث القرآني

﴿وإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ فَأنْجَيْناكم وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ هَذا زِيادَةٌ في التَّفْصِيلِ بِذِكْرِ نِعْمَةٍ أُخْرى عَظِيمَةٍ خارِقَةٍ لِلْعادَةِ بِها كانَ تَمامُ الإنْجاءِ مِن آلِ فِرْعَوْنَ وفِيها بَيانُ مِقْدارِ إكْرامِ اللَّهِ تَعالى لَهم ومُعْجِزَةٌ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وتَعْدِيَةُ فِعْلِ ﴿فَرَقْنا﴾ إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ بِواسِطَةِ الحَرْفِ جارٍ عَلى نَحْوِ تَعْدِيَةِ فِعْلِ ﴿نَجَّيْناكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] إلى ضَمِيرِهِمْ كَما تَقَدَّمَ. وفَرَقَ وفَرَّقَ بِالتَّخْفِيفِ والتَّشْدِيدِ بِمَعْنًى واحِدٍ؛ إذِ التَّشْدِيدُ يُفِيدُهُ تَعْدِيَةً ومَعْناهُ الفَصْلُ بَيْنَ أجْزاءِ شَيْءٍ مُتَّصِلِ الأجْزاءِ، غَيْرَ أنَّ فَرَّقَ يَدُلُّ عَلى شِدَّةِ التَّفْرِقَةِ وذَلِكَ إذا كانَتِ الأجْزاءُ المُفَرَّقَةُ أشَدَّ اتِّصالًا وقَدْ قِيلَ إنَّ فَرَّقَ لِلْأجْسامِ وفَرَقَ لِلْمَعانِي، نَقَلَهُ القَرافِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشايِخِهِ وهو غَيْرُ تامٍّ كَما تَقَدَّمَ في المُقَدِّمَةِ الأُولى مِن مُقَدِّماتِ هَذا التَّفْسِيرِ بِدَلِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، فالوَجْهُ أنَّ فَرَّقَ بِالتَّشْدِيدِ لِما فِيهِ عِلاجٌ ومُحاوَلَةٌ وأنَّ المُخَفَّفَ والمُشَدَّدَ كِلَيْهِما حَقِيقَةٌ في فَصْلِ الأجْسامِ وأمّا في فَصْلِ المَعانِي المُلْتَبِسَةِ فَمَجازٌ. وقَدِ اتَّفَقَتِ القِراءاتُ المُتَواتِرَةُ العَشْرُ عَلى قِراءَةِ فَرَقْنا بِالتَّخْفِيفِ والتَّخْفِيفُ مَنظُورٌ فِيهِ إلى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى فَكانَ ذَلِكَ الفَرْقُ الشَّدِيدُ خَفِيفًا. وتَصْغُرُ في عَيْنِ العَظِيمِ العَظائِمُ و(ال) في البَحْرِ وهو البَحْرُ الَّذِي عَهِدُوهُ أعْنِي بَحْرَ القُلْزُمِ المُسَمّى اليَوْمَ بِالبَحْرِ الأحْمَرِ وسَمَّتْهُ التَّوْراةُ بَحْرَ سُوفٍ. والباءُ في بِكم إمّا لِلْمُلابَسَةِ كَما في طارَتْ بِهِ العَنْقاءُ، وعَدا بِهِ الفَرَسُ. أيْ كانَ فَرْقُ البَحْرِ مُلابِسًا لَكم والمُرادُ مِنَ المُلابَسَةِ أنَّهُ يُفْرَقُ وهم يُدْخُلُونَهُ فَكانَ الفَرْقُ حاصِلًا بِجانِبِهِمْ. وجَوَّزَ صاحِبُ الكَشّافِ كَوْنَ الباءِ لِلسَّبَبِيَّةِ أيْ بِسَبَبِكم يَعْنِي لِأجْلِكم. والخِطابُ هُنا كالخِطابِ في قَوْلِهِ ﴿وإذْ نَجَّيْناكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٤٩] وقَوْلُهُ ﴿فَأنْجَيْناكم وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ هو مَحَلُّ المِنَّةِ وذِكْرِ النِّعْمَةَ وهو نَجاتُهم مِنَ الهَلاكِ وهَلاكُ عَدُوِّهِمْ. قالَ الفَرَزْدَقُ: (p-٤٩٥) ؎كَيْفَ تَرانِي قالِيًا مِجَنِّي قَدْ قَتَلَ اللَّهُ زِيادًا عَنِّي فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿وإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ﴾ تَمْهِيدًا لِلْمِنَّةِ لِأنَّهُ سَبَبُ الأمْرَيْنِ: النَّجاةِ والهَلاكِ وهو مَعَ ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. وقَدْ أشارَتِ الآيَةُ إلى ما حَدَثَ لِبَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِن مِصْرَ مِن لِحاقِ جُنْدِ فِرْعَوْنَ بِهِمْ لِمَنعِهِمْ مِن مُغادَرَةِ البِلادِ المِصْرِيَّةِ وذَلِكَ أنَّهم لَمّا خَرَجُوا لَيْلًا إمّا بِإذْنٍ مِن فِرْعَوْنَ كَما تَقُولُ التَّوْراةُ في بَعْضِ المَواضِعِ، وإمّا خُفْيَةً كَما عَبَّرَتْ عَنْهُ التَّوْراةُ بِالهُرُوبِ، حَصَلَ لِفِرْعَوْنَ نَدَمٌ عَلى إطْلاقِهِمْ أوْ أغْراهُ بَعْضُ أعْوانِهِ بِصَدِّهِمْ عَنِ الخُرُوجِ لِما في خُرُوجِهِمْ مِن إضاعَةِ الأعْمالِ الَّتِي كانُوا يُسَخَّرُونَ فِيها أوْ لِأنَّهُ لَمّا رَآهم سَلَكُوا غَيْرَ الطَّرِيقِ المَأْلُوفِ لِاجْتِيازِ مِصْرَ إلى الشّامِ ظَنَّهم يَرُومُونَ الِانْتِشارَ في بَعْضِ جِهاتِ مَمْلَكَتِهِ المِصْرِيَّةِ فَخَشِيَ شَرَّهم إنْ هم بَعُدُوا عَنْ مَرْكَزِ مُلْكِهِ ومُجْتَمَعِ قُوَّتِهِ وجُنْدِهِ. إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ لَمّا خَرَجُوا مِن جِهاتِ حاضِرَةِ مِصْرَ وهي يَوْمَئِذٍ مَدِينَةُ مَنفِيسَ لَمْ يَسْلُكُوا الطَّرِيقَ المَأْلُوفَ لِبِلادِ الشّامِ إذْ تُرِكُوا أنْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ شاطِئِ بَحْرِ الرُّومِ المُتَوَسِّطِ فَيَدْخُلُوا بَرِّيَّةَ سِينا مِن غَيْرِ أنْ يَخْتَرِقُوا البَحْرَ ولا يَقْطَعُوا أكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً أعْنِي مِائَتَيْنِ وخَمْسِينَ مِيلًا وسَلَكُوا طَرِيقًا جَنُوبِيَّةً شَرْقِيَّةً حَوْلَ أعْلى البَحْرِ الأحْمَرِ لِئَلّا يَسْلُكُوا الطَّرِيقَ المَأْلُوفَةَ الآهِلَةَ بِقَوافِلِ المِصْرِيِّينَ وجُيُوشِ الفَراعِنَةِ فَيَصُدُّوهم عَنِ الِاسْتِرْسالِ في سَيْرِهِمْ أوْ يُلْحِقُ بِهِمْ فِرْعَوْنُ مَن يَرُدُّهم لِأنَّ مُوسى عَلِمَ بِوَحْيٍ كَما قالَ تَعالى ﴿وأوْحَيْنا إلى مُوسى أنْ أسْرِ بِعِبادِي إنَّكم مُتَّبَعُونَ﴾ [الشعراء: ٥٢] إنَّ فِرْعَوْنَ لا يَلْبَثُ أنْ يَصُدَّهم عَنِ المُضِيِّ في سَيْرِهِمْ فَلِذَلِكَ سَلَكَ بِهِمْ بِالأمْرِ الإلَهِيِّ طَرِيقًا غَيْرَ مَطْرُوقَةٍ فَكانُوا مُضْطَرِّينَ لِلْوُقُوفِ أمامَ البَحْرِ في مَوْضِعٍ يُقالُ لَهُ فَمُ الحَيْرُوثِ فَهُنالِكَ ظَهَرَتِ المُعْجِزَةُ إذْ فَلَقَ اللَّهُ لَهُمُ البَحْرَ بِباهِرِ قُدْرَتِهِ فَأمَرَ مُوسى أنْ يَضْرِبَهُ بِعَصاهُ فانْفَلَقَ وصارَ فِيهِ طَرِيقٌ يَبَسٌ مَرَّتْ عَلَيْهِ بَنُو إسْرائِيلَ وكانَ جُنْدُ فِرْعَوْنَ قَدْ لَحِقَ بِهِمْ ورامَ اقْتِحامَ البَحْرِ وراءَهم فانْطَبَقَ البَحْرُ عَلَيْهِمْ فَغَرِقُوا. (p-٤٩٦)وقَوْلُهُ ﴿وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ أيْ جُنْدَهُ وأنْصارَهُ. ولَمْ يَذْكُرْ في هاتِهِ الآيَةِ غَرَقَ فِرْعَوْنَ لِأنَّ مَحَلَّ المِنَّةِ هو إهْلاكُ الَّذِينَ كانُوا المُباشِرِينَ لِتَسْخِيرِ بَنِي إسْرائِيلَ وتَعْذِيبِهِمْ والَّذِينَ هم قُوَّةُ فِرْعَوْنَ. وقَدْ ذُكِرَ غَرَقُ فِرْعَوْنَ في آياتٍ أُخْرى نَتَكَلَّمُ عَلَيْها في مَوْضِعِها إنْ شاءَ اللَّهُ وكانَ ذَلِكَ في زَمَنِ المَلِكِ مَنفِتاحَ ويُقالُ لَهُ مَنفِطَةُ أوْ مِينِيتاهْ مِن فَراعِنَةِ العائِلَةِ التّاسِعَةَ عَشْرَةَ في تَرْتِيبِ فَراعِنَةِ مِصْرَ عِنْدَ المُؤَرِّخِينَ. قَوْلُهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مِنَ الفاعِلِ وهو ضَمِيرُ الجَلالَةِ في فَرَقْنا وأنْجَيْنا وأغْرَقْنا مُقَيِّدَةٌ لِلْعَوامِلِ الثَّلاثَةِ عَلى سَبِيلِ التَّنازُعِ فِيها، ولا يُتَصَوَّرُ في التَّنازُعِ في الحالِ إضْمارٌ في الثّانِي عَلى تَقْدِيرِ إعْمالِ الأوَّلِ لِأنَّ الجُمْلَةَ لا تُضْمَرُ كَما لا يُضْمَرُ في التَّنازُعِ في الظَّرْفِ نَحْوَ سَكَنَ وقَرَأ عِنْدَكَ ولَعَلَّ هَذا مِمّا يُوجِبُ إعْمالَ الأوَّلِ وهَذا الحالُ زِيادَةٌ في تَقْرِيرِ النِّعْمَةِ وتَعْظِيمِها فَإنَّ مُشاهَدَةَ المُنْعَمِ عَلَيْهِ لِلنِّعْمَةِ لَذَّةٌ عَظِيمَةٌ لا سِيَّما ومُشاهَدَةَ إغْراقِ العَدُوِّ أيْضًا نِعْمَةٌ زائِدَةٌ كَما أنَّ مُشاهَدَةَ فَرْقِ البَحْرِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ لِما فِيها مِن مُشاهَدَةِ مُعْجِزَةٍ تَزِيدُهم إيمانًا وحادِثٍ لا تَتَأتّى مُشاهَدَتُهُ لِأحَدٍ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ حالًا مِنَ المَفْعُولِ وهو آلُ فِرْعَوْنَ أيْ تَنْظُرُونَهم، ومَفْعُولُ (تَنْظُرُونَ) مَحْذُوفٌ ولا يَسْتَقِيمُ جَعْلُهُ مُنَزَّلًا مَنزِلَةَ اللّازِمِ. وإسْنادُ النَّظَرِ إلَيْهِمْ بِاعْتِبارِ أنَّ أسْلافَهم كانُوا ناظِرِينَ ذَلِكَ لِأنَّ النِّعْمَةَ عَلى السَّلَفِ نِعْمَةٌ عَلى الأبْناءِ لا مَحالَةَ فَضَمِيرُ الخِطابِ مَجازٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب