الباحث القرآني

﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ ﴿واتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ولا يُقْبَلُ مِنها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ أُعِيدَ نِداءُ بَنِي إسْرائِيلَ نِداءَ التَّنْبِيهِ والإنْذارِ والتَّذْكِيرِ عَلى طَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ في الغَرَضِ الَّذِي سِيقَ الكَلامُ الماضِي لِأجْلِهِ فَإنَّهُ ابْتَدَأ نِداءَهم أوَّلًا بِمِثْلِ هاتِهِ المَوْعِظَةِ في ابْتِداءِ التَّذْكِيرِ (p-٦٩٨)بِأحْوالِهِمُ الكَثِيرَةِ خَيْرِها وشَرِّها عَقِبَ قَوْلِهِ ﴿وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ [البقرة: ٤٦] فَذِكْرُ مِثْلِ هاتِهِ الجُمْلَةِ هُناكَ كَذِكْرِ المَطْلُوبِ في صِناعَةِ المَنطِقِ قَبْلَ إقامَةِ البُرْهانِ، وذِكْرُها هُنا كَذِكْرِ النَّتِيجَةِ في المَنطِقِ عَقِبَ البُرْهانِ تَأْيِيدًا لِما تَقَدَّمَ وفَذْلَكَةً لَهُ وهو مِن ضُرُوبِ رَدِّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ. وقَدْ أُعِيدَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِالألْفاظِ الَّتِي ذُكِرَتْ بِها هُنالِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلى نُكْتَةِ التَّكْرِيرِ لِلتَّذْكِيرِ، ولَمْ يُخالِفْ بَيْنَ الآيَتَيْنِ إلّا في التَّرْتِيبِ بَيْنَ العَدْلِ والشَّفاعَةِ، فَهُنالِكَ قَدَّمَ (﴿ولا يُقْبَلُ مِنها شَفاعَةٌ﴾ [البقرة: ٤٨]) وأخَّرَ (﴿ولا يُؤْخَذُ مِنها عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨]) وهُنا قَدَّمَ ولا يُقْبَلُ مِنها عَدْلٌ وأخَّرَ لَفْظَ الشَّفاعَةِ مُسْنَدًا إلَيْهِ تَنْفَعُها وهو تَفَنُّنٌ، والتَّفَنُّنُ في الكَلامِ تَنْتَفِي بِهِ سَآمَةُ الإعادَةِ مَعَ حُصُولِ المَقْصُودِ مِنَ التَّكْرِيرِ، وقَدْ حَصُلَ مَعَ التَّفَنُّنِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ إذْ جاءَتِ الشَّفاعَةُ في الآيَةِ السّابِقَةِ مُسْنَدًا إلَيْها المَقْبُولِيَّةُ فَقُدِّمَتْ عَلى العَدْلِ بِسَبَبِ نَفْيِ قَبُولِها، ونَفْيُ قَبُولِ الشَّفاعَةِ لا يَقْتَضِي نَفْيَ أخْذِ الفِداءِ، فَعَطَفَ نَفْيَ أخَذِ الفِداءِ لِلِاحْتِراسِ. وأمّا في هَذِهِ الآيَةِ فَقَدَّمَ الفِداءَ لِأنَّهُ أُسْنِدَ إلَيْهِ المَقْبُولِيَّةُ، ونَفْيُ قَبُولِ الفِداءِ لا يَقْتَضِي نَفْيَ نَفْعِ الشَّفاعَةِ، فَعَطَفَ نَفْيَ نَفْعِ الشَّفاعَةِ عَلى نَفْيِ قَبُولِ الفِداءِ لِلِاحْتِراسِ أيْضًا. والحاصِلُ أنَّ الَّذِي نُفِيَ عَنْهُ أنْ يَكُونَ مَقْبُولًا قَدْ جُعِلَ في الآيَتَيْنِ أوَّلًا وذُكِرَ الآخَرُ بَعْدَهُ. وأمّا نَفْيُ القَبُولِ مَرَّةً عَنِ الشَّفاعَةِ ومَرَّةً عَنِ العَدْلِ فَلِأنَّ أحْوالَ الأقْوامِ في طَلَبِ الفِكاكِ عَنِ الجُناةِ تَخْتَلِفُ فَمَرَّةً يُقَدِّمُونَ الفِداءَ فَإذا لَمْ يُقْبَلْ قَدَّمُوا الشُّفَعاءَ. ومَرَّةً يُقَدِّمُونَ الشُّفَعاءَ فَإذا لَمْ تُقْبَلْ شَفاعَتُهم عَرَضُوا الفِداءَ. وقَوْلُهُ ﴿ولا يُقْبَلُ مِنها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ﴾ مُرادٌ مِنهُ أنَّهُ لا عَدْلَ فَيُقْبَلُ ولا شَفاعَةَ شَفِيعٍ يَجِدُونَهُ فَتُقْبَلُ شَفاعَتُهُ لِأنَّ دَفْعَ الفِداءِ مُتَعَذِّرٌ وتَوَسُّطَ الشَّفِيعِ لِمِثْلِهِمْ مَمْنُوعٌ إذْ لا يَشْفَعُ الشَّفِيعُ إلّا لِمَن أذِنَ اللَّهُ لَهُ. قالَ ابْنُ عَرَفَةَ: فَيَكُونُ نَفْيُ نَفْعِ الشَّفاعَةِ هُنا مِن بابِ قَوْلِهِ ؎عَلى لاحِبٍ لا يَهْتَدِي بِمَنارِهِ يُرِيدُ أنَّها كِنايَةٌ عَنْ نَفْيِ المَوْصُوفِ بِنَفْيِ صِفَتِهِ المُلازِمَةِ (p-٦٩٩)لَهُ كَقَوْلِهِمْ ؎ولا تَرى الضَّبَّ بِها يَنْجَحِرُ . وهو ما يُعَبِّرُ عَنْهُ المَناطِقَةُ بِأنَّ السّالِبَةَ تَصْدُقُ مَعَ نَفْيِ المَوْضُوعِ وإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ وأمّا أنْ يَكُونَ اسْتِعْمالًا في أصْلِ العَرَبِيَّةِ فَلا والمَناطِقَةُ تَبِعُوا فِيهِ أسالِيبَ اليُونانِ. والقَوْلُ في بَقِيَّةِ الآياتِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِما تَقَدَّمَ في نَظِيرَتِها. وهُنا خَتَمَ الحِجاجَ مَعَ أهْلِ الكِتابِ في هَذِهِ السُّورَةِ وذَلِكَ مِن بَراعَةِ المَقْطَعِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب