الباحث القرآني

﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ ﴿واتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ولا يُقْبَلُ مِنها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾: كَرَّرَ نِداءَ بَنِي إسْرائِيلَ هُنا، وذَكَّرَهم بِنِعَمِهِ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إذْ أعْقَبَ ذَلِكَ النِّداءَ ذِكْرَ نِداءٍ ثانٍ يَلِي ذِكْرَ الطّائِفَتَيْنِ مُتَّبِعِي الهُدى والكافِرِينَ المُكَذِّبِينَ بِالآياتِ. وهَذا النِّداءُ أعْقَبَ ذِكْرَ تِلْكَ الطّائِفَتَيْنِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ. (p-٣٧١)وكانَ ما بَيْنَ النِّداءَيْنِ - قَصَصُ بَنِي إسْرائِيلَ، وما أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وما صَدَرَ مِنهم، مِن أفْعالِهِمُ الَّتِي لا تَلِيقُ بِمَن أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، مِنَ المُخالَفاتِ والكَذِبِ والتَّعَنُّتاتِ، وما جُوزُوا بِهِ في الدُّنْيا عَلى ذَلِكَ، وما أُعِدَّ لَهم في الآخِرَةِ - مَحْشُوًّا بَيْنَ التَّذْكِيرَيْنِ ومَجْعُولًا بَيْنَ الوَعْظَيْنِ والتَّخْوِيفَيْنِ لِيَوْمِ القِيامَةِ. ونَظِيرُ ذَلِكَ في الكَلامِ أنْ تَأْمُرَ شَخْصًا بِشَيْءٍ عَلى جِهَةِ الإجْمالِ، ثُمَّ تُفَصِّلَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ إلى أشْياءَ كَثِيرَةٍ عَدِيدَةٍ، وأنْتَ تَسْرُدُها لَهُ سَرْدًا، وكُلُّ واحِدَةٍ مِنها هي مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ ذَلِكَ الأمْرِ السّابِقِ. ويَطُولُ بِكَ الكَلامُ حَتّى تَكادَ تَتَناسى ما سَبَقَ مِن ذَلِكَ الأمْرِ، فَتُعِيدَهُ ثانِيَةً، لِتَتَذَكَّرَ ذَلِكَ الأمْرَ، وتَصِيرَ تِلْكَ التَّفْصِيلاتُ مَحْفُوفَةً بِالأمْرَيْنِ المَذْكُورَيْنِ بِهِما. ولَمْ تَخْتَلِفْ هَذِهِ الآيَةُ مَعَ تِلْكَ السّابِقَةِ إلّا في قَوْلِهِ هُناكَ: ﴿ولا يُقْبَلُ مِنها شَفاعَةٌ ولا يُؤْخَذُ مِنها عَدْلٌ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٤٨] وقالَ هُنا: ﴿ولا يُقْبَلُ مِنها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ . وقَدْ ذَكَرْنا هُناكَ ما ناسَبَ تَقْدِيمَ الشَّفاعَةِ هُناكَ عَلى العَدْلِ، وتَأْخِيرَها هُنا عَنْهُ، ونِسْبَةَ القَبُولِ هُناكَ لِلشَّفاعَةِ، والنَّفْعَ هُنا لَها، فَيُطالَعُ هُناكَ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الشَّرِيفَةُ الإخْبارَ عَنْ مُجاوَزَةِ الحَدِّ في الظُّلْمِ مِمَّنْ عَطَّلَ بُيُوتَ اللَّهِ مِنَ الذِّكْرِ وسَعى في خَرابِها، مَعَ أنَّها مِن حَيْثُ هي مَنسُوبَةٌ إلى اللَّهِ، وهي مَحالُّ ذِكْرِهِ وإيواءِ عِبادِهِ الصّالِحِينَ، كانَ يَنْبَغِي أنْ لا يَدْخُلُوها إلّا وهم وجِلُونَ خائِفُونَ، مُتَذَكِّرُونَ لِمَن بُنِيَتْ، ولِما يُذْكَرُ فِيها. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ لِأُولَئِكَ الخِزْيَ في الدُّنْيا والعَذابَ العَظِيمَ في الآخِرَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ لَهُ تَعالى المَشْرِقَ والمَغْرِبَ، فَيَنْدَرِجُ في ذَلِكَ المَساجِدُ، وأيُّ جِهَةٍ قَصَدْتُمُوها فاللَّهُ تَعالى حاوِيها ومالِكُها، فَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ ولا مَكانٍ. وخَتَمَ هَذِهِ الجُمْلَةَ بِالوُسْعِ المُنافِي لِوُسْعِ المَقادِيرِ، وبِالعِلْمِ الَّذِي هو دَلِيلُ الإحاطَةِ. ثُمَّ أخْبَرَ عَنْهم بِأفْظَعِ مَقالَةٍ، وهي نِسْبَةُ الوَلَدِ إلى اللَّهِ تَعالى، ونَزَّهَ ذاتَهُ المُقَدَّسَةَ عَنْ ذَلِكَ، وأخْبَرَ أنَّ جَمِيعَ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ مِلْكٌ لَهُ، خاضِعُونَ طائِعُونَ. ثُمَّ ذَكَرَ بَداعَةَ السَّماواتِ والأرْضِ، وأنَّها مَخْلُوقَةٌ عَلى غَيْرِ مِثالٍ، فَكَما أنَّهُ لا مِثالَ لَهُما، فَكَذَلِكَ الفاعِلُ لَهُما لا مِثالَ لَهُ. فَفي ذَلِكَ إشارَةٌ إلى أنَّهُ يَمْتَنِعُ الوَلَدَ، إذْ لَوْ كانَ لَهُ ولَدٌ لَكانَ مِن جِنْسِهِ، والبارِئُ لا شَيْءَ يُشْبِهُهُ، فَلا ولَدَ لَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ مَتى تَعَلَّقَتْ إرادَتُهُ بِما يُرِيدُ أنْ يُحْدِثَهُ، فَلا تَأخُّرَ لَهُ، وفِيهِ إشارَةٌ أيْضًا إلى نَفْيِ الوَلَدِ؛ لِأنَّهُ لا يَكُونُ إلّا عَنْ تَوالُدٍ، ويَقْتَضِي إلى تَعاقُبِ أزْمانٍ، تَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعًا مِن مَقالاتِهِمُ الَّتِي تَعَنَّتُوا بِها أنْبِياءَ اللَّهِ، مِن طَلَبِ كَلامِهِ ومُشافَهَتِهِ إيّاهم، أوْ نُزُولِ آيَةٍ. وقَدْ نَزَلَتْ آياتٌ كَثِيرَةٌ، فَلَمْ يُصْغُوا إلَيْها، وأنَّ هَذِهِ المَقالَةَ اقْتَفَوْا بِها آثارَ مَن تَقَدَّمَهم، وأنَّ أهْواءَهم مُتَماثِلَةٌ في تَعَنُّتِ الأنْبِياءِ، وأنَّهُ تَعالى قَدْ بَيَّنَ الآياتِ وأوْضَحَها، لَكِنْ لِمَن لَهُ فِكْرٌ فَهو يُوقِنُ بِصِحَّتِها ويُؤْمِنُ بِها. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ أرْسَلَهُ بَشِيرًا لِمَن آمَنَ بِالنَّعِيمِ في الآخِرَةِ والظَّفَرِ في الدُّنْيا، ونَذِيرًا لِمَن كَفَرَ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وأنْ لا تَهْتَمَّ بِمَن خُتِمَ لَهُ بِالشَّقاوَةِ، فَكانَ مِن أهْلِ النّارِ، ولا تَغْتَمَّ بِعَدَمِ إيمانِهِ، فَقَدْ أبْلَغْتَ وأعْذَرْتَ. ثُمَّ ذَكَرَ ما عَلَيْهِ اليَهُودُ والنَّصارى مِن شِدَّةِ تَعامِيهِمْ عَنِ الحَقِّ، بِأنَّهم لا يَرْضَوْنَ عَنْكَ حَتّى تُخالِفَ ما جاءَكَ مِنَ الهُدى الَّذِي هو هُدى اللَّهِ، إلى ما هم عَلَيْهِ مِن مِلَّةِ الكُفْرِ واتِّباعِ الأهْواءِ. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ مُتَّبِعَ أهْوائِهِمْ بَعْدَ وُضُوحِ ما وافاهُ مِنَ الدِّينِ والإسْلامِ لا أحَدَ يَنْصُرُهُ ولا يَمْنَعُهُ مِن عَذابِ اللَّهِ. وأنَّ الَّذِينَ آتاهُمُ الكِتابَ واصْطَفاهم لَهُ يَتَّبِعُونَ الكِتابَ، ويَتَتَبَّعُونَ مَعانِيَهُ، فَهم مُصَدِّقُونَ بِما تَضَمَّنَهُ مِمّا غابَ عَنْهم عِلْمُهُ، ولَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ اسْتِفادَتُهُ إلّا مِنهُ، مِن خَبَرٍ ماضٍ أوْ آتٍ، ووَعْدٍ ووَعِيدٍ، وثَوابٍ وعِقابٍ، وأنَّ مَن كَفَرَ بِهِ حَقَّ عَلَيْهِ الخُسْرانُ. ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الآياتِ بِأمْرِ بَنِي إسْرائِيلَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ السّابِقَةِ، وتَفْضِيلِهِمْ عَلى عالَمِي زَمانِهِمْ، وكانَ ثالِثَ نِداءٍ نُودِيَ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ، بِالإضافَةِ إلى أبِيهِمُ الأعْلى، وتَشْرِيفِهِمْ بِوِلادَتِهِمْ مِنهُ. ثُمَّ أعْرَضَ في مُعْظَمِ القُرْآنِ عَنْ نِدائِهِمْ بِهَذا الِاسْمِ، وطَمَسَ (p-٣٧٢)ما كانَ لَهم مِن نُورِ هَذا الوَسْمِ، والثَّلاثُ هي مَبْدَأُ الكَثْرَةِ، وقَدِ اهْتَمَّ بِكَ مَن نَبَّهَكَ وناداكَ مَرَّةً ومَرَّةً ومَرَّةً: ؎لَقَدْ أسْمَعْتَ لَوْ نادَيْتَ حَيًّا ولَكِنْ لا حَياةَ لِمَن تُنادِي
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب