الباحث القرآني
قَوْلُهُ: ﴿فَإذا مَسَّ الإنْسانَ﴾ المُرادُ بِالإنْسانِ هُنا الجِنْسُ بِاعْتِبارِ بَعْضِ أفْرادِهِ أوْ غالِبِها، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ الكُفّارُ فَقَطْ والأوَّلُ أوْلى، ولا يَمْنَعُ مِن حَمْلِهِ عَلى الجِنْسِ خُصُوصُ (p-١٢٨٧)سَبَبِهِ؛ لِأنَّ الِاعْتِبارَ بِعُمُومُ اللَّفْظِ وفاءٌ بِحَقِّ النَّظْمِ القُرْآنِيِّ ووَفاءٌ بِمَدْلُولِهِ، والمَعْنى: أنَّ شَأْنَ غالِبِ نَوْعِ الإنْسانِ أنَّهُ إذا مَسَّهُ ضُرٌّ مِن مَرَضٍ أوْ فَقْرٍ أوْ غَيْرِهِما دَعا اللَّهَ وتَضَرَّعَ إلَيْهِ في رَفْعِهِ ودَفْعِهِ ﴿ثُمَّ إذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا﴾ أيْ: أعْطَيْناهُ نِعْمَةً كائِنَةً مِن عِنْدِنا ﴿قالَ إنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ﴾ مِنِّي بِوُجُوهِ المَكاسِبِ، أوْ عَلى خَيْرٍ عِنْدِي، أوْ عَلى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ بِفَضْلِي.
وقالَ الحَسَنُ: عَلى عِلْمٍ عَلَّمَنِي اللَّهُ إيّاهُ، وقِيلَ: قَدْ عَلِمْتُ أنِّي إذا أُوتِيتُ هَذا في الدُّنْيا أنَّ لِي عِنْدَ اللَّهِ مَنزِلَةً وجاءَ بِالضَّمِيرِ في أُوتِيتُهُ مُذَكَّرًا مَعَ كَوْنِهِ راجِعًا إلى النِّعْمَةِ لِأنَّها بِمَعْنى الإنْعامِ.
وقِيلَ: إنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ إلى ما، وهي مَوْصُولَةٌ، والأوَّلُ أوْلى ﴿بَلْ هي فِتْنَةٌ﴾ هَذا رَدٌّ لِما قالَهُ أيْ: لَيْسَ ذَلِكَ الَّذِي أعْطَيْناكَ لِما ذَكَرْتَ، بَلْ هو مِحْنَةٌ لَكَ واخْتِبارٌ لِحالِكَ أتَشْكُرُ أمْ تَكْفُرُ ؟ قالَ الفَرّاءُ: أنَّثَ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ هي لِتَأْنِيثِ الفِتْنَةِ، ولَوْ قالَ بَلْ هو فِتْنَةٌ لَجازَ. وقالَ النَّحّاسُ: بَلْ عَطِيَّتُهُ فِتْنَةٌ. وقِيلَ: تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبارِ لَفْظِ الفِتْنَةِ، وتَذْكِيرُ الأوَّلِ في قَوْلِهِ أُوتِيتُهُ بِاعْتِبارِ مَعْناها ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ ذَلِكَ اسْتِدْراجٌ لَهم مِنَ اللَّهِ وامْتِحانٌ لِما عِنْدَهم مِنَ الشُّكْرِ أوِ الكُفْرِ.
﴿قَدْ قالَها الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أيْ: قالَ هَذِهِ الكَلِمَةَ الَّتِي قالُوها وهي قَوْلُهم: إنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَقارُونَ وغَيْرِهِ، فَإنَّ قارُونَ قالَ: ﴿إنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: ٧٨]، ﴿فَما أغْنى عَنْهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما هَذِهِ نافِيَةً أيْ: لَمْ يُغْنِ عَنْهم ما كَسَبُوا مِن مَتاعِ الدُّنْيا شَيْئًا، وأنْ تَكُونَ اسْتِفْهامِيَّةً أيْ: أيُّ شَيْءٍ أغْنى عَنْهم ذَلِكَ.
﴿فَأصابَهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا﴾ أيْ: جَزاءُ سَيِّئاتِ كَسْبِهِمْ، أوْ أصابَهم سَيِّئاتٌ هي جَزاءُ كَسْبِهِمْ، وسُمِّيَ الجَزاءُ سَيِّئاتٍ لِوُقُوعِها في مُقابَلَةِ سَيِّئاتِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن بابِ المُشاكَلَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠]، ثُمَّ أوْعَدَ - سُبْحانَهُ - الكُفّارَ في عَصْرِهِ فَقالَ: ﴿والَّذِينَ ظَلَمُوا مِن هَؤُلاءِ﴾ المَوْجُودِينَ مِنَ الكُفّارِ ﴿سَيُصِيبُهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا﴾ كَما أصابَ مَن قَبْلَهم، وقَدْ أصابَهم في الدُّنْيا ما أصابَهم مِنَ القَحْطِ والقَتْلِ والأسْرِ والقَهْرِ ﴿وما هم بِمُعْجِزِينَ﴾ أيْ: بِفائِتِينَ عَلى اللَّهِ بَلْ مَرْجِعُهم إلَيْهِ يَصْنَعُ بِهِمْ ما شاءَ مِنَ العُقُوبَةِ.
﴿أوَلَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ﴾ أيْ: يُوَسِّعُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ أنْ يُوَسِّعَهُ لَهُ ويَقْدِرُ أيْ: يَقْبِضُهُ لِمَن يَشاءُ أنْ يَقْبِضَهُ ويُضَيِّقَهُ عَلَيْهِ.
قالَ مُقاتِلٌ: وعَظَهُمُ اللَّهُ لِيَعْتَبِرُوا في تَوْحِيدِهِ، وذَلِكَ حِينَ مُطِرُوا بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ، فَقالَ: أوَلَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يُوَسِّعُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويُقَتِّرُ عَلى مَن يَشاءُ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ﴾ أيْ: في ذَلِكَ المَذْكُورِ لَدَلالاتٍ عَظِيمَةً وعَلاماتٍ جَلِيلَةً ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وخَصَّ المُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّهُمُ المُنْتَفِعُونَ بِالآياتِ المُتَفَكِّرُونَ فِيها ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - ما ذَكَرَهُ مِنَ الوَعِيدِ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وعَظِيمِ مَغْفِرَتِهِ.
وأمَرَ رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ يُبَشِّرَهم بِذَلِكَ فَقالَ: ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ المُرادُ بِالإسْرافِ الإفْراطُ في المَعاصِي والِاسْتِكْثارُ مِنها.
ومَعْنى ﴿لا تَقْنَطُوا﴾: لا تَيْأسُوا ﴿مِن رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ مِن مَغْفِرَتِهِ.
ثُمَّ لَمّا نَهاهم عَنِ القُنُوطِ أخْبَرَهم بِما يَدْفَعُ ذَلِكَ ويَرْفَعُهُ ويَجْعَلُ الرَّجاءَ مَكانَ القُنُوطِ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ .
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ أرْجى آيَةٍ في كِتابِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - لِاشْتِمالِها عَلى أعْظَمِ بِشارَةٍ، فَإنَّهُ أوَّلًا أضافَ العِبادَ إلى نَفْسِهِ لِقَصْدِ تَشْرِيفِهِمْ ومَزِيدِ تَبْشِيرِهِمْ، ثُمَّ وصَفَهم بِالإسْرافِ في المَعاصِي والِاسْتِكْثارِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ القُنُوطِ مِنَ الرَّحْمَةِ لِهَؤُلاءِ المُسْتَكْثِرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ، فالنَّهْيُ عَنِ القُنُوطِ لِلْمُذْنِبِينَ غَيْرِ المُسْرِفِينَ مِن بابِ الأوْلى وبِفَحْوى الخِطابِ، ثُمَّ جاءَ بِما لا يُبْقِي بَعْدَهُ شَكٌّ ولا يَتَخالَجُ القَلْبَ عِنْدَ سَماعِهِ ظَنٌّ، فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ﴾ فالألِفُ واللّامُ قَدْ صَيَّرَتِ الجَمْعَ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ لِلْجِنْسِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ اسْتِغْراقَ أفْرادِهِ، فَهو في قُوَّةِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ كُلَّ ذَنْبٍ كائِنًا ما كانَ، إلّا ما أخْرَجَهُ النَّصُّ القُرْآنِيُّ وهو الشِّرْكُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨، ١١٦] ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِما أخْبَرَ عِبادَهُ بِهِ مِن مَغْفِرَةِ كُلِّ ذَنْبٍ، بَلْ أكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعًا فَيا لَها مِن بِشارَةٍ تَرْتاحُ لَها قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ المُحْسِنِينَ ظَنَّهم بِرَبِّهِمُ الصّادِقِينَ في رَجائِهِ. الخالِعِينَ لِثِيابِ القُنُوطِ الرّافِضِينَ لِسُوءِ الظَّنِّ بِمَن لا يَتَعاظَمُهُ ذَنْبٌ، ولا يَبْخَلُ بِمَغْفِرَتِهِ ورَحْمَتِهِ عَلى عِبادِهِ المُتَوَجِّهِينَ إلَيْهِ في طَلَبِ العَفْوِ المُلْتَجِئِينَ بِهِ في مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ وما أحْسَنَ ما عَلَّلَ - سُبْحانَهُ - بِهِ هَذا الكَلامَ قائِلًا ﴿إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ .
أيْ: كَثِيرُ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ عَظِيمُهُما بَلِيغُهُما واسِعُهُما، فَمَن أبى هَذا التَّفَضُّلَ العَظِيمَ والعَطاءَ الجَسِيمَ، وظَنَّ أنَّ تَقْنِيطَ عِبادِ اللَّهِ وتَأْيِيسَهم مِن رَحْمَتِهِ أوْلى بِهِمْ مِمّا بَشَّرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، فَقَدْ رَكِبَ أعْظَمَ الشَّطَطِ وغَلِطَ أقْبَحَ الغَلَطِ، فَإنَّ التَّبْشِيرَ وعَدَمَ التَّقْنِيطِ الَّذِي جاءَتْ بِهِ مَواعِيدُ اللَّهِ في كِتابِهِ العَزِيزِ، والمَسْلَكَ الَّذِي سَلَكَهُ رَسُولُهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - كَما صَحَّ عَنْهُ مِن قَوْلِهِ «يَسِّرُّوا ولا تُعَسِّرُوا وبَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا» .
وإذا تَقَرَّرَ لَكَ هَذا فاعْلَمْ أنَّ الجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ١١٦، ٤٨] وهو أنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كائِنًا ما كانَ ما عَدا الشِّرْكَ بِاللَّهِ مَغْفُورٌ لِمَن شاءَ اللَّهُ أنْ يَغْفِرَ لَهُ، عَلى أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ إخْبارَهُ لَنا بِأنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَشاءُ غُفْرانَها جَمِيعًا، وذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أنَّهُ يَشاءُ المَغْفِرَةَ لِكُلِّ المُذْنِبِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ تَعارُضٌ مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ.
وأمّا ما يَزْعُمُهُ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ مِن تَقْيِيدِ هَذِهِ الآيَةِ بِالتَّوْبَةِ وأنَّها لا تَغْفِرُ إلّا ذُنُوبَ التّائِبِينَ، وزَعَمُوا أنَّهم قالُوا ذَلِكَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الآياتِ.
فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الضَّبِّ والنُّونِ، وبَيْنَ المَلّاحِ والحادِي، وعَلى نَفْسِها بَراقِشُ تَجْنِي، ولَوْ كانَتْ هَذِهِ البِشارَةُ العَظِيمَةُ مُقَيَّدَةً بِالتَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ لَها كَثِيرُ مَوْقِعٍ، فَإنَّ التَّوْبَةَ مِنَ المُشْرِكِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ بِها ما فَعَلَهُ مِنَ الشِّرْكِ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ، وقَدْ قالَ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ١١٦، ٤٨] (p-١٢٨٨)فَلَوْ كانَتِ التَّوْبَةُ قَيْدًا في المَغْفِرَةِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّنْصِيصِ عَلى الشِّرْكِ فائِدَةٌ، وقَدْ قالَ - سُبْحانَهُ -: ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ﴾ [الرعد: ٦] قالَ الواحِدِيُّ: المُفَسِّرُونَ كُلُّهم قالُوا: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ في قَوْمٍ خافُوا إنْ أسْلَمُوا أنْ لا يَغْفِرَ لَهم ما جَنَوْا مِنَ الذُّنُوبِ العِظامِ، كالشِّرْكِ وقَتْلِ النَّفْسِ ومُعاداةِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - .
قُلْتُ: هَبْ أنَّها في هَؤُلاءِ القَوْمِ، فَكانَ ماذا ؟ فَإنَّ الِاعْتِبارَ بِما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ العُمُومِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَما هو مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ، ولَوْ كانَتِ الآياتُ القُرْآنِيَّةُ والأحادِيثُ النَّبَوِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِأسْبابِها غَيْرَ مُتَجاوِزَةٍ لَها لارْتَفَعَتْ أكْثَرُ التَّكالِيفِ عَنِ الأُمَّةِ إنْ لَمْ تَرْتَفِعْ كُلُّها، واللّازِمُ باطِلٌ بِالإجْماعِ، فالمَلْزُومُ مِثْلُهُ.
وفِي السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ مِنَ الأحادِيثِ الثّابِتَةِ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما في هَذا البابِ ما إنْ عَرَفَهُ المُطَّلِعُ عَلَيْهِ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وقَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ عَلِمَ صِحَّةَ ما ذَكَرْناهُ وعَرَفَ حَقِيَقَةَ ما حَرَّرْناهُ.
قَرَأ الجُمْهُورُ " يا عِبادِي " بِإثْباتِ الياءِ وصْلًا ووَقْفًا، ورَوى أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: أنَّهُ يَقِفُ بِغَيْرِ ياءٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ تَقْنَطُوا بِفَتْحِ النُّونِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ بِكَسْرِها.
﴿وأنِيبُوا إلى رَبِّكم وأسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَكُمُ العَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾ أيِ: ارْجِعُوا إلَيْهِ بِالطّاعَةِ. لَمّا بَشَّرَهم - سُبْحانَهُ - بِأنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، أمَرَهم بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ بِفِعْلِ الطّاعاتِ واجْتِنابِ المَعاصِي، ولَيْسَ في هَذا ما يَدُلُّ عَلى تَقْيِيدِ الآيَةِ الأُولى بِالتَّوْبَةِ لا بِمُطابَقَةٍ ولا تَضَمُّنٍ ولا التِزامٍ، بَلْ غايَةُ ما فِيها أنَّهُ بَشَّرَهم بِتِلْكَ البِشارَةِ العُظْمى، ثُمَّ دَعاهم إلى الخَيْرِ وخَوَّفَهم مِنَ الشَّرِّ، عَلى أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ خِطابًا لِلْكُفّارِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وأسْلِمُوا لَهُ﴾ جاءَ بِها لِتَحْذِيرِ الكُفّارِ وإنْذارِهِمْ بَعْدَ تَرْغِيبِ المُسْلِمِينَ بِالآيَةِ الأُولى وتَبْشِيرِهِمْ، وهَذا وإنْ كانَ بَعِيدًا ولَكِنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ بِهِ، والمَعْنى عَلى ما هو الظّاهِرُ: أنَّ اللَّهَ جَمَعَ لِعِبادِهِ بَيْنَ التَّبْشِيرِ العَظِيمِ، والأمْرِ بِالإنابَةِ إلَيْهِ والإخْلاصِ لَهُ والِاسْتِسْلامِ لِأمْرِهِ والخُضُوعِ لِحُكْمِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَكُمُ العَذابُ﴾ أيْ: عَذابُ الدُّنْيا كَما يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَكُمُ﴾ فَلَيْسَ في ذَلِكَ ما يَدُلُّ عَلى ما زَعَمَهُ الزّاعِمُونَ وتَمَسَّكَ بِهِ القانِطُونَ المُقَنِّطُونَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
﴿واتَّبِعُوا أحْسَنَ ما أُنْزِلَ إلَيْكم مِن رَبِّكم﴾ يَعْنِي القُرْآنَ، يَقُولُ: أحِلُّوا حَلالَهُ وحَرِّمُوا حَرامَهُ، والقُرْآنُ كُلُّهُ حَسَنٌ. قالَ الحَسَنُ: التَزِمُوا طاعَتَهُ واجْتَنِبُوا مَعاصِيَهُ. وقالَ السُّدِّيُّ: الأحْسَنُ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ في كِتابِهِ.
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي المُحْكَماتِ وكِلُوا عِلْمَ المُتَشابِهِ إلى عالِمِهِ.
وقِيلَ: النّاسِخُ دُونَ المَنسُوخِ. وقِيلَ: العَفْوُ دُونَ الِانْتِقامِ بِما يَحِقُّ فِيهِ الِانْتِقامُ، وقِيلَ: أحْسَنَ ما أُنْزِلَ إلَيْكم مِن أخْبارِ الأُمَمِ الماضِيَةِ ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَكُمُ العَذابُ بَغْتَةً وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ أيْ: مِن قَبْلِ أنْ يُفاجِئَكُمُ العَذابُ وأنْتُمْ غافِلُونَ عَنْهُ لا تَشْعُرُونَ بِهِ، وقِيلَ: أرادَ أنَّهم يَمُوتُونَ بَغْتَةً فَيَقَعُونَ في العَذابِ.
والأوَّلُ أوْلى لِأنَّ الَّذِي يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً هو العَذابُ في الدُّنْيا بِالقَتْلِ والأسْرِ والقَهْرِ والخَوْفِ والجَدْبِ، لا عَذابُ الآخِرَةِ ولا المَوْتُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُسْنِدِ الإتْيانَ إلَيْهِ.
﴿أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ﴾ قالَ البَصْرِيُّونَ: أيْ: حَذَرًا أنْ تَقُولَ. وقالَ الكُوفِيُّونَ: لِئَلّا تَقُولَ. قالَ المُبَرِّدُ: بادِرُوا خَوْفَ أنْ تَقُولَ، أوْ حَذَرًا مِن أنْ تَقُولَ نَفْسٌ. وقالَ الزَّجّاجُ: خَوْفَ أنْ تَصِيرُوا إلى حالٍ تَقُولُونَ فِيها: يا حَسْرَتا عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ، قِيلَ: والمُرادُ بِالنَّفْسِ هُنا النَّفْسُ الكافِرَةُ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ التَّكْثِيرُ كَما في قَوْلِهِ: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أحْضَرَتْ﴾ [التكوير: ١٤] .
قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿ياحَسْرَتا﴾ بِالألِفِ بَدَلًا مِنَ الياءِ المُضافِ إلَيْها، والأصْلُ: يا حَسْرَتِي، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ " يا حَسْرَتاهُ " بِهاءِ السَّكْتِ وقْفًا، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ " يا حَسْرَتِي " بِالياءِ عَلى الأصْلِ.
والحَسْرَةُ: النَّدامَةُ، ومَعْنى ﴿عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ﴾ عَلى ما فَرَّطْتُ في طاعَةِ اللَّهِ، قالَهُ الحَسَنُ.
وقالَ الضَّحّاكُ: عَلى ما فَرَّطْتُ في ذِكْرِ اللَّهِ، ويَعْنِي بِهِ: القُرْآنَ والعَمَلَ بِهِ.
وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ ﴿فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ أيْ: في ثَوابِ اللَّهِ.
وقالَ الفَرّاءُ: الجَنْبُ: القُرْبُ والجِوارُ أيْ: في قُرْبِ اللَّهِ وجِوارِهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿والصّاحِبِ بِالجَنْبِ﴾ [النساء: ٣٦] والمَعْنى عَلى هَذا القَوْلِ، عَلى ما فَرَّطْتُ في طَلَبِ جَنْبِ اللَّهِ أيْ: في طَلَبِ جِوارِهِ وقُرْبِهِ وهو الجَنَّةُ، وبِهِ قالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ وقالَ الزَّجّاجُ أيْ: فَرَّطْتُ في الطَّرِيقِ الَّذِي هو طَرِيقُ اللَّهِ مِن تَوْحِيدِهِ والإقْرارِ بِنُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وعَلى هَذا فالجَنْبُ بِمَعْنى الجانِبِ أيْ: قَصَّرْتُ في الجانِبِ الَّذِي يُؤَدِّي إلى رِضا اللَّهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎لِلنّاسِ جَنْبٌ والأمِيرُ جَنْبُ
أيِ: النّاسُ مِن جانِبٍ والأمِيرُ مِن جانِبٍ ﴿وإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ﴾ أيْ: وما كُنْتُ إلّا مِنَ المُسْتَهْزِئِينَ بِدِينِ اللَّهِ في الدُّنْيا، ومَحَلُّ الجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلى الحالِ.
قالَ قَتادَةُ: لَمْ يَكْفِهِ أنْ ضَيَّعَ طاعَةَ اللَّهِ حَتّى سَخِرَ مِن أهْلِها.
﴿أوْ تَقُولَ لَوْ أنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ﴾ أيْ: لَوْ أنَّ اللَّهَ أرْشَدَنِي إلى دِينِهِ لَكُنْتُ مِمَّنْ يَتَّقِي الشِّرْكَ والمَعاصِيَ، وهَذا مِن جُمْلَةِ ما يَحْتَجُّ بِهِ المُشْرِكُونَ مِنَ الحُجَجِ الزّائِفَةِ، ويَتَعَلَّلُونَ بِهِ مِنَ العِلَلِ الباطِلَةِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] فَهي كَلِمَةُ حَقٍّ يُرِيدُونَ بِها باطِلًا.
ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - مُقالَةً أُخْرى مِمّا قالُوا فَقالَ: ﴿أوْ تَقُولَ حِينَ تَرى العَذابَ لَوْ أنَّ لِي كَرَّةً﴾ أيْ: رَجْعَةً إلى الدُّنْيا ﴿فَأكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ المُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ المُوَحِّدِينَ لَهُ، المُحْسِنِينَ في أعْمالِهِمْ، وانْتِصابُ أكُونَ إمّا لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلى كَرَّةٍ فَإنَّها مَصْدَرٌ، وأكُونُ في تَأْوِيلِ المَصْدَرِ: كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎لَلُبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرُّ عَيْنِي ∗∗∗ أحَبُّ إلَيَّ مِن لُبْسِ الشُّفُوفِ
وأنْشَدَ الفَرّاءُ عَلى هَذا:
؎فَما لَكَ مِنها غَيْرُ ذِكْرى وخَشْيَةٍ ∗∗∗ وتَسْألُ عَنْ رُكْبانِها أيْنَ يَمَّمُوا
وإمّا لِكَوْنِهِ جَوابَ التَّمَنِّي المَفْهُومَ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَوْ أنَّ لِي كَرَّةً﴾ .
ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - جَوابَهُ عَلى هَذِهِ النُّفُوسِ المُتَمَنِّيَةِ (p-١٢٨٩)المُتَعَلِّلَةِ بِغَيْرِ عِلَّةٍ فَقالَ: ﴿بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها واسْتَكْبَرْتَ وكُنْتَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ .
المُرادُ بِالآياتِ هي الآياتُ التَّنْزِيلِيَّةُ وهو القُرْآنُ.
ومَعْنى التَّكْذِيبِ بِها قَوْلُهُ: إنَّها لَيْسَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وتَكَبُّرٌ عَنِ الإيمانِ بِها، وكانَ مَعَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ والِاسْتِكْبارِ مِنَ الكافِرِينَ بِاللَّهِ.
وجاءَ - سُبْحانَهُ - بِخِطابِ المُذَكَّرِ في قَوْلِهِ: جاءَتْكَ وكَذَّبْتَ واسْتَكْبَرْتَ وكُنْتَ؛ لِأنَّ النَّفْسَ تُطْلَقُ عَلى المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ.
قالَ المُبَرِّدُ: تَقُولُ العَرَبُ: نَفْسٌ واحِدٌ أيْ: إنْسانٌ واحِدٌ، وبِفَتْحِ التّاءِ في هَذِهِ المَواضِعِ قَرَأ الجُمْهُورُ.
وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ، وأبُو حَيْوَةَ ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ بِكَسْرِها في جَمِيعِها، وهي قِراءَةُ أبِي بَكْرٍ وابْنَتِهِ عائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ.
﴿ويَوْمَ القِيامَةِ تَرى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللَّهِ وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ﴾ أيْ: تَرى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللَّهِ بِأنَّ لَهُ شُرَكاءَ وصاحِبَةً ووَلَدًا وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ لِما أحاطَ بِهِمْ مِنَ العَذابِ، وشاهَدُوهُ مِن غَضَبِ اللَّهِ ونِقْمَتِهِ، وجُمْلَةُ ﴿وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ.
قالَ الأخْفَشُ: تَرى غَيْرَ عامِلٍ في ﴿وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ﴾، إنَّما هو مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، والأوْلى أنْ تَرى إنْ كانَتْ مِنَ الرُّؤْيَةِ البَصَرِيَّةِ، فَجُمْلَةُ ﴿وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ﴾ حالِيَّةٌ، وإنْ كانَتْ قَلْبِيَّةً فَهي في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى أنَّها المَفْعُولُ الثّانِي لِتَرى، والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ: ﴿ألَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ لِلتَّقْرِيرِ أيْ: لَيْسَ فِيها مَقامٌ لِلْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ طاعَةِ اللَّهِ، والكِبْرُ هو بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النّاسِ كَما ثَبَتَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
﴿ويُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ أيِ: اتَّقَوُا الشِّرْكَ ومَعاصِيَ اللَّهِ، والباءُ في بِمَفازَتِهِمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ هو حالٌ مِنَ المَوْصُولِ أيْ: مُلْتَبِسِينَ بِمَفازَتِهِمْ.
قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿بِمَفازَتِهِمْ﴾ بِالإفْرادِ عَلى أنَّها مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، والفَوْزُ: الظَّفَرُ بِالخَيْرِ والنَّجاةُ مِنَ الشَّرِّ.
قالَ المُبَرِّدُ: المَفازَةُ مَفْعَلَةٌ مِنَ الفَوْزِ وهو السَّعادَةُ، وإنْ جُمِعَ فَحَسُنٌ: كَقَوْلِكَ السَّعادَةُ والسَّعاداتُ.
والمَعْنى: يُنْجِيهِمُ اللَّهُ بِفَوْزِهِمْ أيْ: بِنَجاتِهِمْ مِنَ النّارِ وفَوْزِهِمْ بِالجَنَّةِ.
وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ " بِمَفازاتِهِمْ " جَمْعُ مَفازَةٍ، وجَمْعُها مَعَ كَوْنِها مَصْدَرًا لِاخْتِلافِ الأنْواعِ، وجُمْلَةُ ﴿لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ المَوْصُولِ، وكَذَلِكَ جُمْلَةُ ﴿ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ أيْ: يَنْفِي السُّوءَ والحُزْنَ عَنْهم، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الباءُ في " بِمَفازَتِهِمْ " لِلسَّبَبِيَّةِ أيْ: بِسَبَبِ فَوْزِهِمْ مَعَ انْتِفاءِ مَساسِ السُّوءِ لَهم وعَدَمِ وُصُولِ الحُزْنِ إلى قُلُوبِهِمْ لِأنَّهم رَضُوا بِثَوابِ اللَّهِ وأمِنُوا مِن عِقابِهِ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ قالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أُنْزِلَتْ ﴿قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا﴾ الآيَةَ في مُشْرِكِي أهْلِ مَكَّةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: كُنّا نَقُولُ لَيْسَ لِمُفْتَتِنٍ تَوْبَةٌ وما اللَّهُ بِقابِلٍ مِنهُ شَيْئًا، عَرَفُوا اللَّهَ وآمَنُوا بِهِ وصَدَّقُوا رَسُولَهُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ لِبَلاءٍ أصابَهم، وكانُوا يَقُولُونَهُ لِأنْفُسِهِمْ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - المَدِينَةَ أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ ﴿ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا﴾ الآياتِ، قالَ ابْنُ عُمَرَ: فَكَتَبْتُها بِيَدِي، ثُمَّ بَعَثْتُ بِها إلى هِشامِ بْنِ العاصِي.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ قالَ: لَمّا أسْلَمَ وحْشِيٌّ أنْزَلَ اللَّهُ ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ [الفرقان: ٦٨] قالَ وحْشِيٌّ وأصْحابُهُ: قَدِ ارْتَكَبْنا هَذا كُلَّهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا﴾ الآيَةَ.
وأخْرَجَ البُخارِيُّ في الأدَبِ المُفْرَدِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَلى رَهْطٍ مِن أصْحابِهِ وهم يَضْحَكُونَ ويَتَحَدَّثُونَ فَقالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، ثُمَّ انْصَرَفَ وأبْكى القَوْمَ، وأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: يا مُحَمَّدُ لِمَ تُقَنِّطُ عِبادِي فَرَجَعَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: أبْشِرُوا وسَدِّدُوا وقارِبُوا» .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّها نَزَلَتْ فِيمَن أُفْتِنَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ في مُشْرِكِي مَكَّةَ لَمّا قالُوا: إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ لَهم ما قَدِ اقْتَرَفُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وقَتْلِ الأنْفُسِ وغَيْرِ ذَلِكَ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ ثَوْبانَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَقُولُ: «ما أُحِبُّ أنَّ لِيَ الدُّنْيا وما فِيها بِهَذِهِ الآيَةِ ﴿ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، فَقالَ رَجُلٌ ومَن أشْرَكَ ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: ألا، ومَن أشْرَكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ الأنْبارِيِّ في المَصاحِفِ والحاكِمُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أسْماءَ بِنْتِ يَزِيدَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَقْرَأُ «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ولا يُبالِي إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ أبِي الدُّنْيا في حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ مَرَّ عَلى قاضٍ يُذَكِّرُ النّاسَ فَقالَ: يا مُذَكِّرَ النّاسِ لا تُقَنِّطِ النّاسَ، ثُمَّ قَرَأ ﴿ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا﴾ الآيَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قالَ: قالَ عَلِيٌّ: أيُّ آيَةٍ أوْسَعُ ؟ فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ آياتٍ مِنَ القُرْآنِ ﴿ومَن يَعْمَلْ سُوءًا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ [النساء: ١١] الآيَةَ ونَحْوَها، فَقالَ عَلِيٌّ: ما في القُرْآنِ أوْسَعُ مِن يا عِبادِيَ الآيَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ الآيَةَ قالَ: قَدْ دَعا اللَّهُ إلى مَغْفِرَتِهِ مَن زَعَمَ أنَّ المَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ، ومَن زَعَمَ أنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، ومَن زَعَمَ أنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، ومَن زَعَمَ أنَّ يَدَ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، ومَن زَعَمَ أنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ يَقُولُ لِهَؤُلاءِ ﴿أفَلا يَتُوبُونَ إلى اللَّهِ ويَسْتَغْفِرُونَهُ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٧٤] ثُمَّ دَعا إلى تَوْبَتِهِ مَن هو أعْظَمُ قَوْلًا مِن هَؤُلاءِ مَن ﴿فَقالَ أنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ [النازعات: ٢٤] وقالَ ﴿ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ومَن آيَسَ العِبادَ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدَ هَذا فَقَدْ جَحَدَ كِتابَ اللَّهِ، ولَكِنْ لا يَقْدِرُ العَبْدُ أنْ (p-١٢٩٠)يَتُوبَ حَتّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ تَقُولَ نَفْسٌ﴾ قالَ: أخْبَرَ اللَّهُ ما العِبادُ قائِلُونَ قَبْلَ أنْ يَقُولُوا، وعَلَّمَهم قَبْلَ أنْ يَعْلَمُوا.
{"ayahs_start":51,"ayahs":["فَأَصَابَهُمۡ سَیِّـَٔاتُ مَا كَسَبُوا۟ۚ وَٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مِنۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ سَیُصِیبُهُمۡ سَیِّـَٔاتُ مَا كَسَبُوا۟ وَمَا هُم بِمُعۡجِزِینَ","أَوَلَمۡ یَعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ","۞ قُلۡ یَـٰعِبَادِیَ ٱلَّذِینَ أَسۡرَفُوا۟ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُوا۟ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِیعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِیمُ","وَأَنِیبُوۤا۟ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَأَسۡلِمُوا۟ لَهُۥ مِن قَبۡلِ أَن یَأۡتِیَكُمُ ٱلۡعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ","وَٱتَّبِعُوۤا۟ أَحۡسَنَ مَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبۡلِ أَن یَأۡتِیَكُمُ ٱلۡعَذَابُ بَغۡتَةࣰ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ","أَن تَقُولَ نَفۡسࣱ یَـٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِی جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِینَ","أَوۡ تَقُولَ لَوۡ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَىٰنِی لَكُنتُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِینَ","أَوۡ تَقُولَ حِینَ تَرَى ٱلۡعَذَابَ لَوۡ أَنَّ لِی كَرَّةࣰ فَأَكُونَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ","بَلَىٰ قَدۡ جَاۤءَتۡكَ ءَایَـٰتِی فَكَذَّبۡتَ بِهَا وَٱسۡتَكۡبَرۡتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ","وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِینَ كَذَبُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسۡوَدَّةٌۚ أَلَیۡسَ فِی جَهَنَّمَ مَثۡوࣰى لِّلۡمُتَكَبِّرِینَ","وَیُنَجِّی ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ بِمَفَازَتِهِمۡ لَا یَمَسُّهُمُ ٱلسُّوۤءُ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ"],"ayah":"أَوَلَمۡ یَعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق