الباحث القرآني
.
قَوْلُهُ: ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً﴾ قَدْ قَدَّمْنا أنَّ ( ضَرَبَ ) مُضَمَّنٌ مَعْنى ( جَعَلَ ) حَتّى تَكُونَ قَرْيَةً المَفْعُولَ الأوَّلَ ومَثَلًا المَفْعُولَ الثّانِي، وإنَّما تَأخَّرَتْ قَرْيَةً لِئَلّا يَقَعُ الفَصْلُ بَيْنَها وبَيْنَ صِفاتِها، وقَدَّمْنا أيْضًا أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ( ضَرَبَ ) عَلى بابِهِ غَيْرَ مُضَمَّنٍ ويَكُونُ مَثَلًا مَفْعُولَهُ الأوَّلَ وقَرْيَةً بَدَلًا مِنهُ.
وقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ هَلِ المُرادُ بِهَذِهِ القَرْيَةِ قَرْيَةٌ مُعَيَّنَةٌ، أوِ المُرادُ قَرْيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ كُلُّ قَوْمٍ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ ؟ فَذَهَبَ الأكْثَرُ إلى الأوَّلِ وصَرَّحُوا بِأنَّها مَكَّةُ، وذَلِكَ لَمّا دَعا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقالَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطْأتَكَ عَلى مُضَرَ واجْعَلْها عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ»، فابْتُلُوا بِالقَحْطِ حَتّى أكَلُوا العِظامَ.
والثّانِي أرْجَحُ لِأنَّ تَنْكِيرَ قَرْيَةٍ يُفِيدُ ذَلِكَ، ومَكَّةُ تَدْخُلُ في هَذا العُمُومِ البَدَلِيِّ دُخُولًا أوَّلِيًّا، وأيْضًا يَكُونُ الوَعِيدُ أبْلَغَ، والمَثَلُ أكْمَلَ، وغَيْرُ مَكَّةَ مِثْلُها، وعَلى فَرْضِ إرادَتِها فَفي المَثَلِ إنْذارٌ لِغَيْرِها مِن مِثْلِ عاقِبَتِها، ثُمَّ وصَفَ القَرْيَةَ بِأنَّها ﴿كانَتْ آمِنَةً﴾ غَيْرَ خائِفَةٍ مُطْمَئِنَّةً غَيْرَ مُنْزَعِجَةٍ، أيْ لا يَخافُ أهْلُها ولا يَنْزَعِجُونَ ﴿يَأْتِيها رِزْقُها﴾ أيْ ما يَرْتَزِقُ بِهِ أهْلُها رَغَدًا واسِعًا مِن كُلِّ مَكانٍ مِنَ الأمْكِنَةِ الَّتِي يُجْلَبُ ما فِيها إلَيْها فَكَفَرَتْ أيْ كَفَرَ أهْلُها﴿بِأنْعُمِ اللَّهِ﴾ الَّتِي أنْعَمَ بِها عَلَيْهِمْ، والأنْعُمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ كالأشُدِّ جَمْعُ شِدَّةٍ، وقِيلَ جَمْعُ نُعْمى مِثْلُ بُؤْسى وأبْؤُسٌ، وهَذا الكُفْرُ مِنهم هو كُفْرُهم بِاللَّهِ سُبْحانَهُ وتَكْذِيبُ رُسُلِهِ ﴿فَأذاقَها اللَّهُ﴾ أيْ أذاقَ أهْلَها ﴿لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ﴾ سُمِّيَ ذَلِكَ لِباسًا لِأنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الهُزالِ وشُحُوبَةِ اللَّوْنِ وسُوءِ الحالِ ما هو كاللِّباسِ، فاسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُهُ وأُوقِعَ عَلَيْهِ الإذاقَةُ، وأصْلُها الذَّوْقُ بِالفَمِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ لِمُطْلَقِ الِاتِّصالِ مَعَ إنْبائِها بِشِدَّةِ الإصابَةِ لِما فِيها مِنِ اجْتِماعِ الإدْراكَيْنِ: إدْراكُ اللَّمْسِ، والذَّوْقِ.
رُوِيَ أنَّ ابْنَ الرّاوَنْدِيِّ الزِّنْدِيقَ قالَ لِابْنِ الأعْرابِيِّ إمامِ اللُّغَةِ والأدَبِ: هَلْ يُذاقُ اللِّباسُ ؟ فَقالَ لَهُ ابْنُ الأعْرابِيِّ: لا بَأْسَ أيُّها النَّسْناسُ، هَبْ أنَّ مُحَمَّدًا ما كانَ نَبِيًّا أما كانَ عَرَبِيًّا ؟ كَأنَّهُ طَعَنَ في الآيَةِ بِأنَّ المُناسِبَ أنْ يُقالَ: فَكَساها اللَّهُ لِباسَ الجُوعِ أوْ فَأذاقَها اللَّهُ طَعْمَ الجُوعِ.
فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الأعْرابِيِّ.
وقَدْ أجابَ عُلَماءُ البَيانِ أنَّ هَذا مِن تَجْرِيدِ الِاسْتِعارَةِ، وذَلِكَ أنَّهُ اسْتَعارَ اللِّباسَ لِما غَشِيَ الإنْسانَ مِن بَعْضِ الحَوادِثِ كالجُوعِ والخَوْفِ لِاشْتِمالِهِ عَلَيْهِ اشْتِمالَ اللِّباسِ عَلى اللّابِسِ، ثُمَّ ذُكِرَ الوَصْفُ مُلائِمًا لِلْمُسْتَعارِ لَهُ وهو الجُوعُ والخَوْفُ، لِأنَّ إطْلاقَ الذَّوْقِ عَلى إدْراكِ الجُوعِ والخَوْفِ جَرى عِنْدَهم مَجْرى الحَقِيقَةِ، فَيَقُولُونَ ذاقَ فُلانٌ البُؤْسَ والضُّرَّ وأذاقَهُ غَيْرُهُ، فَكانَتِ الِاسْتِعارَةُ مُجَرَّدَةً، ولَوْ قالَ فَكَساها كانَتْ مُرَشَّحَةً.
قِيلَ: وتَرْشِيحُ الِاسْتِعارَةِ وإنْ كانَ مُسْتَحْسَنًا مِن جِهَةِ المُبالَغَةِ إلّا أنَّ لِلتَّجْرِيدِ تَرْجِيحًا مِن حَيْثُ إنَّهُ رُوعِيَ جانِبُ المُسْتَعارِ لَهُ فازْدادَ الكَلامُ وُضُوحًا. وقِيلَ إنَّ أصْلَ الذَّوْقِ بِالفَمِ ثُمَّ قَدْ يُسْتَعارُ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ التَّعَرُّفِ والِاخْتِبارِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎ومَن يَذُقِ الدُّنْيا فَإنِّي طَعِمْتُها وسِيقَ إلَيْنا عَذْبُها وعَذابُها
وقَرَأ حَفْصُ بْنُ غِياثٍ، ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وأبُو عَمْرٍو فِيما رَوى عَنْهُ عَبْدُ الوارِثِ بِنَصْبِ الخَوْفِ عَطْفًا عَلى لِباسٍ، وقَرَأ الباقُونَ بِالضَّمِّ عَطْفًا عَلى الجُوعِ.
قالَ الفَرّاءُ: كُلُّ الصِّفاتِ أُجْرِيَتْ عَلى القَرْيَةِ إلّا قَوْلَهُ: يَصْنَعُونَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ المُرادَ في الحَقِيقَةِ أهْلُها.
﴿ولَقَدْ جاءَهُمْ﴾ يَعْنِي أهْلَ مَكَّةَ ﴿رَسُولٌ مِنهُمْ﴾ مِن جِنْسِهِمْ يَعْرِفُونَهُ ويَعْرِفُونَ نَسَبَهُ، فَأمَرَهم بِما فِيهِ نَفْعُهم ونَهاهم عَمّا فِيهِ ضُرُّهم فَكَذَّبُوهُ فِيما جاءَ بِهِ ﴿فَأخَذَهُمُ العَذابُ﴾ النّازِلُ بِهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ، والحالُ أنَّهم في حالِ أخْذِ العَذابِ لَهم ظالِمُونَ لِأنْفُسِهِمْ بِإيقاعِها في العَذابِ الأبَدِيِّ ولِغَيْرِهِمْ بِالإضْرارِ بِهِمْ وصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وهَذا (p-٨٠٦)الكَلامُ مِن تَمامِ المَثَلِ المَضْرُوبِ.
وقِيلَ إنَّ المُرادَ بِالعَذابِ هُنا هو الجُوعُ الَّذِي أصابَهم، وقِيلَ القَتْلُ يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمَّ لَمّا وعَظَهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِما ذَكَرَهُ مِن حالِ أهْلِ القَرْيَةِ المَذْكُورَةِ أمَرَهم أنْ يَأْكُلُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الغَنائِمِ ونَحْوِها، وجاءَ بِالفاءِ لِلْإشْعارِ بِأنَّ ذَلِكَ مُتَسَبِّبٌ عَنْ تَرْكِ الكُفْرِ.
والمَعْنى: أنَّكم لَمّا آمَنتُمْ وتَرَكْتُمُ الكُفْرَ فَكُلُوا الحَلالَ الطَّيِّبَ وهو الغَنِيمَةُ واتْرُكُوا الخَبائِثَ وهو المَيْتَةُ والدَّمُ ﴿واشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ الَّتِي أنْعَمَ بِها عَلَيْكم واعْرِفُوا حَقَّها ﴿إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ ولا تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، أوْ إنْ صَحَّ زَعْمُكم أنَّكم تَقْصِدُونَ بِعِبادَةِ الآلِهَةِ الَّتِي زَعَمْتُمْ عِبادَةَ اللَّهِ تَعالى، وقِيلَ إنَّ الفاءَ في ( فَكُلُوا ) داخِلَةٌ عَلى الأمْرِ بِالشُّكْرِ، وإنَّما أُدْخِلَتْ عَلى الأمْرِ بِالأكْلِ لِأنَّ الأكْلَ ذَرِيعَةٌ إلى الشُّكْرِ.
﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ كَرَّرَ سُبْحانَهُ ذِكْرَ هَذِهِ المُحَرَّماتِ في البَقَرَةِ والمائِدَةِ والأنْعامِ وفي هَذِهِ السُّورَةِ قَطْعًا لِلْأعْذارِ وإزالَةً لِلشُّبْهَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الرُّخْصَةَ في تَناوُلِ شَيْءٍ مِمّا ذَكَرَ فَقالَ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى جَمِيعِ ما هو مَذْكُورٌ هُنا مُسْتَوْفًى.
ثُمَّ زَيَّفَ طَرِيقَةَ الكُفّارِ في الزِّيادَةِ عَلى هَذِهِ المُحَرَّماتِ كالبَحِيرَةِ والسّائِبَةِ وفي النُّقْصانِ عَنْها كَتَحْلِيلِ المَيْتَةِ والدَّمِ فَقالَ: ﴿ولا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ﴾ قالَ الكِسائِيُّ، والزَّجّاجُ: ما هُنا مَصْدَرِيَّةٌ وانْتِصابُ الكَذِبَ بِـ لا تَقُولُوا، أيْ: لا تَقُولُوا الكَذِبَ لِأجْلِ وصْفِ ألْسِنَتِكم، ومَعْناهُ: لا تُحَرِّمُوا ولا تُحَلِّلُوا لِأجْلِ قَوْلٍ تَنْطِقُ بِهِ ألْسِنَتُكم مِن غَيْرِ حُجَّةٍ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ( ما ) مَوْصُولَةً والكَذِبَ مُنْتَصِبٌ بِـ تَصِفُ، أيْ: لا تَقُولُوا لِلَّذِي تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ فِيهِ ﴿هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ﴾ فَحَذَفَ لَفْظَةَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ﴾ بَدَلًا مِنَ الكَذِبَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في الكَلامِ حَذْفٌ بِتَقْدِيرِ القَوْلِ، أيْ: ولا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكم فَتَقُولُ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ، أوْ قائِلَةٌ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ، ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ الكَذِبَ أيْضًا بِـ تَصِفُ وتَكُونُ ( ما ) مَصْدَرِيَّةً، أيْ: لا تَقُولُوا هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ لِوَصْفِ ألْسِنَتِكُمُ الكَذِبَ.
وقُرِئَ: ( الكُذُبُ )، بِضَمِّ الكافِ والذّالِ والباءِ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِلْألْسِنَةِ، وقَرَأ الحَسَنُ بِفَتْحِ الكافِ وكَسْرِ الذّالِ والباءِ نَعْتًا لِ ( ما ) .
وقِيلَ عَلى البَدَلِ مِن ( ما )، أيْ: ولا تَقُولُوا الكَذِبَ الَّذِي تَصِفُهُ ألْسِنَتُكم هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ، واللّامُ في ﴿لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ هي لامُ العاقِبَةِ لا لامُ العَرْضِ، أيْ: فَيَتَعَقَّبُ ذَلِكَ افْتِراؤُكم عَلى اللَّهِ الكَذِبَ بِالتَّحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ، وإسْنادُ ذَلِكَ إلَيْهِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ مِنهُ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ أيَّ افْتِراءٍ كانَ لا يُفْلِحُونَ بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ الفَلاحِ وهو الفَوْزُ بِالمَطْلُوبِ.
وارْتِفاعُ مَتاعٌ قَلِيلٌ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
قالَ الزَّجّاجُ، أيْ: مَتاعُهم مَتاعٌ قَلِيلٌ، أوْ هو مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أيْ: لَهم مَتاعٌ قَلِيلٌ ﴿ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ يُرَدُّونَ إلَيْهِ في الآخِرَةِ.
ثُمَّ خَصَّ مُحَرَّماتِ اليَهُودِ بِالذِّكْرِ فَقالَ: ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا﴾ أيْ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ خاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ ﴿ما قَصَصْنا عَلَيْكَ﴾ بِقَوْلِنا: ﴿حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ومِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما﴾ [الأنعام: ١٤٦]، الآيَةَ، ومِن قَبْلُ مُتَعَلِّقٌ بِـ قَصَصْنا أوْ بِـ حَرَّمْنا ﴿وما ظَلَمْناهُمْ﴾ بِذَلِكَ التَّحْرِيمِ بَلْ جَزَيْناهم بِبَغْيِهِمْ ﴿ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ حَيْثُ فَعَلُوا أسْبابَ ذَلِكَ فَحَرَّمْنا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الأشْياءَ عُقُوبَةً لَهم.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ الِافْتِراءَ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ ومُخالَفَةَ أمْرِهِ لا يَمْنَعُهم مِنَ التَّوْبَةِ وحُصُولِ المَغْفِرَةِ فَقالَ: ﴿ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ﴾ أيْ مُتَلَبِّسِينَ بِجَهالَةٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ النِّساءِ ﴿ثُمَّ تابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أيْ مِن بَعْدِ عَمَلِهِمْ لِلسُّوءِ، وفِيهِ تَأْكِيدٌ فَإنَّ ( ثُمَّ ) قَدْ دَلَّتْ عَلى البَعْدِيَّةِ فَأكَّدَها بِزِيادَةِ ذِكْرِ البَعْدِيَّةِ وأصْلَحُوا أعْمالَهُمُ الَّتِي كانَ فِيها فَسادٌ بِالسُّوءِ الَّذِي عَمِلُوهُ، ثُمَّ كَرَّرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا وتَقْرِيرًا فَقالَ: ﴿إنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِها﴾ أيْ مِنَ بَعْدِ التَّوْبَةِ ﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ كَثِيرُ الغُفْرانِ واسِعُ الرَّحْمَةِ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً﴾ قالَ: يَعْنِي مَكَّةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَطِيَّةَ في الآيَةِ مِثْلَهُ وزادَ فَقالَ: ألا تَرى أنَّهُ قالَ: ﴿ولَقَدْ جاءَهم رَسُولٌ مِنهم فَكَذَّبُوهُ﴾ .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهابٍ قالَ: القَرْيَةُ الَّتِي قالَ اللَّهُ ﴿كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾ هي يَثْرِبُ.
قُلْتُ: ولا أدْرِي أيَّ دَلِيلٍ دَلَّهُ عَلى هَذا التَّعْيِينِ، ولا أيَّ قَرِينَةٍ قامَتْ لَهُ عَلى ذَلِكَ، ومَتى كَفَرَتْ دارُ الهِجْرَةِ ومَسْكَنُ الأنْصارِ بِأنْعُمِ اللَّهِ، وأيَّ وقْتٍ أذاقَها اللَّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ، وهي الَّتِي تَنْفِي خَبَثَها كَما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ كَما صَحَّ ذَلِكَ عَنِ الصّادِقِ المَصْدُوقِ.
وصَحَّ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ: «والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ﴾ الآيَةَ. قالَ: في البَحِيرَةِ والسّائِبَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي نَضْرَةَ قالَ: قَرَأْتُ هَذِهِ الآيَةَ في سُورَةِ النَّحْلِ ﴿ولا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، فَلَمْ أزَلْ أخافُ الفُتْيا إلى يَوْمِي هَذا.
قُلْتُ: صَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَتَناوَلُ بِعُمُومِ لَفْظِها فُتْيا مَن أفْتى بِخِلافِ ما في كِتابِ اللَّهِ أوْ في سُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ كَما يَقَعُ كَثِيرًا مِنَ المُؤْثِرِينَ لِلرَّأْيِ المُقَدِّمِينَ لَهُ عَلى الرِّوايَةِ، أوِ الجاهِلِينَ لِعِلْمِ الكِتابِ والسُّنَّةِ كالمُقَلِّدَةِ، وإنَّهم لَحَقِيقُونَ بِأنْ يُحالَ بَيْنَهم وبَيْنَ فَتاوِيهِمْ ويُمْنَعُوا مِن جَهالَتِهِمْ، فَإنَّهم أفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنِيرٍ فَضَلُّوا وأضَلُّوا، فَهم ومَن يَسْتَفْتِيهِمْ كَما قالَ القائِلُ:
؎كَبَهِيمَةٍ عَمْياءَ قادَ زِمامَها ∗∗∗ أعْمى عَلى عِوَجِ الطَّرِيقِ الجائِرِ
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: عَسى رَجُلٌ أنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ أمَرَ بِكَذا أوْ نَهى عَنْ كَذا، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لَهُ: كَذَبْتَ، أوْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ كَذا أوْ أحَلَّ كَذا، فَيَقُولُ اللَّهُ (p-٨٠٧)لَهُ: كَذَبْتَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ﴾ قالَ: في سُورَةِ الأنْعامِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ، وقالَ حَيْثُ يَقُولُ: ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿وإنّا لَصادِقُونَ﴾ [الأنعام: ١٤٦] .
{"ayahs_start":112,"ayahs":["وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا قَرۡیَةࣰ كَانَتۡ ءَامِنَةࣰ مُّطۡمَىِٕنَّةࣰ یَأۡتِیهَا رِزۡقُهَا رَغَدࣰا مِّن كُلِّ مَكَانࣲ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَ ٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُوا۟ یَصۡنَعُونَ","وَلَقَدۡ جَاۤءَهُمۡ رَسُولࣱ مِّنۡهُمۡ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَهُمۡ ظَـٰلِمُونَ","فَكُلُوا۟ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلࣰا طَیِّبࣰا وَٱشۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِیَّاهُ تَعۡبُدُونَ","إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَیۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِیرِ وَمَاۤ أُهِلَّ لِغَیۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَیۡرَ بَاغࣲ وَلَا عَادࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ","وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلࣱ وَهَـٰذَا حَرَامࣱ لِّتَفۡتَرُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا یُفۡلِحُونَ","مَتَـٰعࣱ قَلِیلࣱ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ","وَعَلَى ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ حَرَّمۡنَا مَا قَصَصۡنَا عَلَیۡكَ مِن قَبۡلُۖ وَمَا ظَلَمۡنَـٰهُمۡ وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ","ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِینَ عَمِلُوا۟ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَـٰلَةࣲ ثُمَّ تَابُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ وَأَصۡلَحُوۤا۟ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورࣱ رَّحِیمٌ"],"ayah":"مَتَـٰعࣱ قَلِیلࣱ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق