الباحث القرآني

وهي مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، والحَسَنِ، وعِكْرِمَةَ. ومَدَنِيَّةٌ في أحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ، والضَّحّاكِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ ﴿ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: أُنْزِلَتْ ﴿ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ بِالمَدِينَةِ. وقَدْ ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ جابِرٍ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأ بِهَذِهِ السُّورَةِ، وبِقُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ في رَكْعَتَيِ الطَّوافِ» . وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أيْضًا مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأ بِهِما في رَكْعَتَيِ الفَجْرِ» . وأخْرَجَ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ حِبّانَ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأ في الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الفَجْرِ والرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ بِضْعًا وعِشْرِينَ مَرَّةً، أوْ بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ و﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾» . وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ أُبَيٍّ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُوتِرُ بِـ سَبِّحِ، و﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ و﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾» وأخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، و﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ تَعْدِلُ رُبُعَ القُرْآنِ، وكانَ يَقْرَأُ بِهِما في رَكْعَتَيِ الفَجْرِ» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَن قَرَأ يا أيُّها الكافِرُونَ كانَتْ لَهُ عَدْلَ رُبُعِ القُرْآنِ» . وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ في الصَّغِيرِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «مَن قَرَأ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ فَكَأنَّما قَرَأ رُبُعَ القُرْآنِ، ومَن قَرَأ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فَكَأنَّما قَرَأ ثُلُثَ القُرْآنِ» . وأخْرَجَ أحْمَدُ، وابْنُ الضُّرَيْسِ، والبَغَوِيُّ، وحُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ في تَرْغِيبِهِ عَنْ شَيْخٍ أدْرَكَ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في سَفَرٍ فَمَرَّ بِرَجُلٍ يَقْرَأُ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ فَقالَ أمّا هَذا فَقَدَ بَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ، وإذا آخَرُ يَقْرَأُ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: بِها وجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ» وفي رِوايَةٍ «أمّا هَذا فَقَدْ غُفِرَ لَهُ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ الأنْبارِيِّ في المَصاحِفِ عَنْ أبِيهِ «قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي ما أقُولُ إذا أوَيْتُ إلى فِراشِي قالَ اقْرَأْ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ ثُمَّ نَمْ عَلى خاتِمَتِها فَإنَّها بَراءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» . وأخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الأشْجَعِيِّ عَنْ أبِيهِ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ البَراءِ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِنَوْفَلِ بْنِ مُعاوِيَةَ الأشْجَعِيِّ: إذا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ لِلنَّوْمِ فاقْرَأْ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ فَإنَّكَ إذا قُلْتَها فَقَدْ بَرِئْتَ مِنَ الشِّرْكِ» . وأخْرَجَ أحْمَدُ، والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ عَنِ الحارِثِ بْنِ جَبَلَةَ، وقالَ الطَّبَرانِيُّ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ حارِثَةَ، وهو أخُو زَيْدِ بْنِ حارِثَةَ قالَ: «قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أقُولُهُ عِنْدَ مَنامِي قالَ: إذا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ مِنَ اللَّيْلِ فاقْرَأْ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ حَتّى تَمُرَّ بِآخِرِها فَإنَّها بَراءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» . وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ أنَسٍ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمُعاذٍ: اقْرَأْ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ عِنْدَ مَنامِكَ فَإنَّها بَراءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» . وأخْرَجَ أبُو يَعْلى، والطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ألا أدُلُّكم عَلى كَلِمَةٍ تُنْجِيكم مِنَ الإشْراكِ بِاللَّهِ تَقْرَؤُونَ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ عِنْدَ مَنامِكم» . وأخْرَجَ البَزّارُ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ خَبّابٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إذا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ فاقْرَأْ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ وإنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَأْتِ فِراشَهُ قَطُّ إلّا قَرَأ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ حَتّى يَخْتِمَ» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن لَقِيَ اللَّهَ بِسُورَتَيْنِ فَلا حِسابَ عَلَيْهِ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ و﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾» . وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ في فَضائِلِهِ وابْنُ الضُّرَيْسِ عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصارِيِّ قالَ: مَن قَرَأ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ و﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ في لَيْلَةٍ فَقَدْ أكْثَرَ وأطابَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الألِفُ واللّامُ في ﴿ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ لِلْجِنْسِ، ولَكِنَّها لَمّا كانَتِ الآيَةُ خِطابًا لِمَن سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ أنَّهُ يَمُوتُ عَلى (p-١٦٦٢)كُفْرِهِ كانَ المُرادُ بِهَذا العُمُومِ خُصُوصَ مَن كانَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ مِنَ الكُفّارِ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ مَن أسْلَمَ وعَبَدَ اللَّهَ سُبْحانَهُ. وسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ أنَّ الكُفّارَ سَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهم سَنَةً ويَعْبُدُوا إلَهَهُ سَنَةً. فَأمَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ يَقُولَ لَهم: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ أيْ لا أفْعَلُ ما تَطْلُبُونَ مِنِّي مِن عِبادَةِ ما تَعْبُدُونَ مِنَ الأصْنامِ، قِيلَ والمُرادُ فِيما يَسْتَقْبِلُ مِنَ الزَّمانِ لِأنَّ لا النّافِيَةَ لا تَدْخُلُ في الغالِبِ إلّا عَلى المُضارِعِ الَّذِي في مَعْنى الِاسْتِقْبالِ، كَما أنَّ ما لا تَدْخُلُ إلّا عَلى مُضارِعٍ في مَعْنى الحالِ. ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ أيْ ولا أنْتُمْ فاعِلُونَ في المُسْتَقْبَلِ ما أطْلُبُ مِنكم مِن عِبادَةِ إلَهِي. ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ أيْ ولا أنا قَطُّ فِيما سَلَفَ عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ فِيهِ، والمَعْنى: أنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ مِنِّي ذَلِكَ. ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ أيْ وما عَبَدْتُمْ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ ما أنا عَلى عِبادَتِهِ، كَذا قِيلَ، وهَذا عَلى قَوْلِ ما قالَ إنَّهُ لا تَكْرارَ في هَذِهِ الآياتِ لِأنَّ الجُمْلَةَ الأُولى لِنَفْيِ العِبادَةِ في المُسْتَقْبَلِ لِما قَدَّمْنا مِن أنَّ " لا " لا تَدْخُلُ إلّا عَلى مُضارِعٍ في مَعْنى الِاسْتِقْبالِ، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ أنَّ لَنْ تَأْكِيدٌ لِما تَنْفِيهِ " لا " . قالَ الخَلِيلُ في " لَنْ ": إنَّ أصْلَهُ " لا " فالمَعْنى: لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ في المُسْتَقْبَلِ، ولا أنْتُمْ عابِدُونَ في المُسْتَقْبَلِ ما أطْلُبُهُ مِن عِبادَةِ إلَهِي. ثُمَّ قالَ: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ أيْ ولَسْتُ في الحالِ بِعابِدٍ مَعْبُودَكم، ولا أنْتُمْ في الحالِ بِعابِدِينَ مَعْبُودِي. وقِيلَ بِعَكْسِ هَذا، وهو أنَّ الجُمْلَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ لِلْحالِ، والجُمْلَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ لِلِاسْتِقْبالِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ كَما لَوْ قالَ القائِلُ: أنا ضارِبٌ زَيْدًا، وأنا قاتِلٌ عَمْرًا، فَإنَّهُ لا يُفْهَمُ مِنهُ إلّا الِاسْتِقْبالُ. قالَ الأخْفَشُ، والفَرّاءُ: المَعْنى لا أعْبُدُ السّاعَةَ ما تَعْبُدُونَ، ولا أنْتُمْ عابِدُونَ السّاعَةَ ما أعْبُدُ، ولا أنا عابِدٌ في المُسْتَقْبَلِ ما عَبَدْتُمْ، ولا أنْتُمْ عابِدُونَ في المُسْتَقْبَلِ ما أعْبُدُ. قالَ الزَّجّاجُ: نَفى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِهَذِهِ السُّورَةِ عِبادَةَ آلِهَتِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ في الحالِ وفِيما يُسْتَقْبَلُ، ونَفى عَنْهم عِبادَةَ اللَّهِ في الحالِ وفِيما يُسْتَقْبَلُ. وقِيلَ إنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَصْلُحُ لِلْحالِ والِاسْتِقْبالِ، ولَكِنّا نَخُصُّ أحَدَهُما بِالحالِ، والثّانِي بِالِاسْتِقْبالِ رَفْعًا لِلتَّكْرارِ. وكُلُّ هَذا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ والتَّعَسُّفِ ما لا يَخْفى عَلى مُنْصِفٍ، فَإنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: ولا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ لِلِاسْتِقْبالِ، وإنْ كانَ صَحِيحًا عَلى مُقْتَضى اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، ولَكِنَّهُ لا يَتِمُّ جَعْلُ قَوْلِهِ: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ لِلِاسْتِقْبالِ؛ لِأنَّ الجُمْلَةَ اسْمِيَّةٌ تُفِيدُ الدَّوامَ والثَّباتَ في كُلِّ الأوْقاتِ فَدُخُولُ النَّفْيِ عَلَيْها يَرْفَعُ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الدَّوامِ، والثَّباتِ في كُلِّ الأوْقاتِ، ولَوْ كانَ حَمْلُها عَلى الِاسْتِقْبالِ صَحِيحًا لَلَزِمَ مِثْلُهُ في قَوْلِهِ: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ وفي قَوْلِهِ: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ فَلا يَتِمُّ ما قِيلَ مِن حَمْلِ الجُمْلَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ عَلى الحالِ، وكَما يَنْدَفِعُ هَذا يَنْدَفِعُ ما قِيلَ مِنَ العَكْسِ؛ لِأنَّ الجُمْلَةَ الثّانِيَةَ والثّالِثَةَ والرّابِعَةَ كُلَّها جُمَلٌ اسْمِيَّةٌ مُصَدَّرَةٌ بِالضَّمائِرِ الَّتِي هي المُبْتَدَأُ في كُلِّ واحِدٍ مِنها مُخْبِرٌ عَنْها بِاسْمِ الفاعِلِ العامِلِ فِيما بَعْدَهُ مَنفِيَّةٌ كُلُّها بِحَرْفٍ واحِدٍ، وهو لَفْظُ " لا " في كُلِّ واحِدٍ مِنها، فَكَيْفَ يَصِحُّ القَوْلُ مَعَ هَذا الِاتِّحادِ بِأنَّ مَعانِيَها في الحالِ والِاسْتِقْبالِ مُخْتَلِفَةٌ. وأمّا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنها يَصْلُحُ لِلْحالِ والِاسْتِقْبالِ، فَهو إقْرارٌ مِنهُ بِالتَّكْرارِ؛ لِأنَّ حَمْلَ هَذا عَلى مَعْنًى وحَمْلَ هَذا عَلى مَعْنًى مَعَ الِاتِّحادِ يَكُونُ مِن بابِ التَّحَكُّمِ الَّذِي لا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وإذا تَقَرَّرَ لَكَ هَذا فاعْلَمْ أنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِلِسانِ العَرَبِ، ومِن مَذاهِبِهِمُ الَّتِي لا تُجْحَدُ، واسْتِعْمالاتِهِمُ الَّتِي لا تُنَكَرُ أنَّهم إذا أرادُوا التَّأْكِيدَ كَرَّرُوا، كَما أنَّ مِن مَذاهِبِهِمْ أنَّهم إذا أرادُوا الِاخْتِصارَ أوْجَزُوا، هَذا مَعْلُومٌ لِكُلِّ مِن لَهُ عِلْمٌ بِلُغَةِ العَرَبِ، وهَذا مِمّا لا يُحْتاجُ إلى إقامَةِ البُرْهانِ عَلَيْهِ لِأنَّهُ إنَّما يُسْتَدَلُّ عَلى ما فِيهِ خَفاءٌ ويُبَرْهَنُ عَلى ما هو مُتَنازَعٌ فِيهِ. وأمّا ما كانَ مِنَ الوُضُوحِ والظُّهُورِ والجَلاءِ بِحَيْثُ لا يَشُكُّ فِيهِ شاكٌّ، ولا يَرْتابُ فِيهِ مُرْتابٌ فَهو مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّطْوِيلِ غَيْرُ مُحْتاجٍ إلى تَكْثِيرِ القالِ والقِيلِ. وقَدْ وقَعَ في القُرْآنِ مِن هَذا ما يَعْلَمُهُ كُلُّ مَن يَتْلُو القُرْآنَ، ورُبَّما يَكْثُرُ في بَعْضِ السُّورِ كَما في سُورَةِ الرَّحْمَنِ وسُورَةِ المُرْسَلاتِ وفي أشْعارِ العَرَبِ مِن هَذا ما لا يَأْتِي عَلَيْهِ الحَصْرُ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎يا لَبَكْرٍ انْشُرُوا لِي كُلَيْبًا يا لَبَكْرٍ أيْنَ أيْنَ الفِرارُ وقَوْلُ آخَرَ: ؎هَلّا سَألْتَ جُمُوعَ كِنْ دَةَ يَوْمَ ولَّوْا أيْنَ أيُّنا وقَوْلُ الآخَرِ: ؎يا عَلْقَمَةُ يا عَلْقَمَةُ يا عَلْقَمَةُ ∗∗∗ خَيْرُ تَمِيمٍ كُلِّها وأكْرَمُهُ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ∗∗∗ ثَلاثَ تَحِيّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمِ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎يا جَعْفَرُ يا جَعْفَرُ يا جَعْفَرُ ∗∗∗ إنْ أكْ دَحْداحًا فَأنْتَ أقْصَرُ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎أتاكَ أتاكَ اللّاحِقُونَ احْبِسِ احْبِسِ وقَدْ ثَبَتَ عَنِ الصّادِقِ المَصْدُوقِ، وهو أفْصَحُ مَن نَطَقَ بِلُغَةِ العَرَبِ أنَّهُ كانَ إذا تَكَلَّمَ بِالكَلِمَةِ أعادَها ثَلاثَ مَرّاتٍ، وإذا عَرَفْتَ هَذا فَفائِدَةُ ما وقَعَ في السُّورَةِ مِنَ التَّأْكِيدِ هو قَطْعُ أطْماعِ الكُفّارِ عَنْ أنْ يُجِيبَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى ما سَألُوهُ مِن عِبادَتِهِ آلِهَتَهم، وإنَّما عَبَّرَ سُبْحانَهُ بِـ " ما " الَّتِي لِغَيْرِ العُقَلاءِ في المَواضِعِ الأرْبَعَةِ لِأنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ كَما في قَوْلِهِ: سُبْحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لَنا، ونَحْوِهِ، والنُّكْتَةُ في ذَلِكَ أنْ يَجْرِيَ الكَلامُ عَلى نَمَطٍ واحِدٍ ولا يَخْتَلِفَ. وقِيلَ إنَّهُ أرادَ الصِّفَةَ كَأنَّهُ قالَ: لا أعْبُدُ الباطِلَ ولا تَعْبُدُونَ الحَقَّ. وقِيلَ إنَّ " ما " في المَواضِعِ الأرْبَعَةِ هي المَصْدَرِيَّةُ لا المَوْصُولَةُ: أيْ لا أعْبُدُ عِبادَتَكم ولا أنْتُمْ عابِدُونَ عِبادَتِي إلَخْ. وجُمْلَةُ ﴿لَكم دِينُكُمْ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ قَوْلِهِ: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ كَما أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولِيَ دِينِ﴾ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ في (p-١٦٦٣)المَوْضِعَيْنِ: أيْ إنْ رَضِيتُمْ بِدِينِكم فَقَدْ رَضِيتُ بِدِينِي كَما في قَوْلِهِ: ﴿ولَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكُمْ﴾ [البقرة: ١٣٩] والمَعْنى: أنَّ دِينَكُمُ الَّذِي هو الإشْراكُ مَقْصُورٌ عَلى الحُصُولِ لَكم لا يَتَجاوَزُهُ إلى الحُصُولِ لِي كَما تَطْمَعُونَ، ودِينِي الَّذِي هو التَّوْحِيدُ مَقْصُورٌ عَلى الحُصُولِ لِي لا يَتَجاوَزُهُ إلى الحُصُولِ لَكم. وقِيلَ المَعْنى: لَكم جَزاؤُكم ولِي جَزائِي؛ لِأنَّ الدِّينَ الجَزاءُ. قِيلَ وهَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وقِيلَ لَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ، لِأنَّها أخْبارٌ والأخْبارُ لا يَدْخُلُها النَّسْخُ. قَرَأ الجُمْهُورُ بِإسْكانِ الياءِ مِن قَوْلِهِ " ولِي " وقَرَأ نافِعٌ، وهِشامٌ، وحَفْصٌ، والبَزِّيُّ بِفَتْحِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ أيْضًا بِحَذْفِ الياءِ مِن دِينِي وقْفًا ووَصْلًا، وأثْبَتَها نَصْرُ بْنُ عاصِمٍ، وسَلامٌ، ويَعْقُوبُ وصْلًا ووَقْفًا. قالُوا لِأنَّها اسْمٌ فَلا تُحْذَفُ. ويُجابُ بِأنَّ حَذْفَها لِرِعايَةِ الفَواصِلِ سائِغٌ وإنْ كانَتِ اسْمًا. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ قُرَيْشًا دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إلى أنْ يُعْطُوهُ مالًا فَيَكُونُ أغْنى رَجُلٍ بِمَكَّةَ ويُزَوِّجُوهُ ما أرادَ مِنَ النِّساءِ، فَقالُوا: هَذا لَكَ يا مُحَمَّدُ وكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنا ولا تَذْكُرْها بِسُوءٍ، فَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَإنّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً واحِدَةً ولَكَ فِيها صَلاحٌ، قالَ: ما هي ؟ قالُوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنا سَنَةً ونَعْبُدُ إلَهَكَ سَنَةً، قالَ: حَتّى أنْظُرَ ما يَأْتِينِي مِن رَبِّي، فَجاءَ الوَحْيُ مِن عِنْدِ اللَّهِ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ إلى آخِرِ السُّورَةِ، وأنْزَلَ اللَّهُ ﴿قُلْ أفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أعْبُدُ أيُّها الجاهِلُونَ﴾ [الزمر: ٦٤] إلى قَوْلِهِ: ﴿بَلِ اللَّهَ فاعْبُدْ وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٦]» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ الأنْبارِيِّ في المَصاحِفِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينا مَوْلى أبِي البُحْتُرِيِّ قالَ لَقِيَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، والعاصُ بْنُ وائِلٍ، والأسْوَدُ بْنُ المُطَّلِبِ، وأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالُوا: يا مُحَمَّدُ هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ ما تَعْبُدُ وتَعْبُدْ ما نَعْبُدُ، ونَشْتَرِكْ نَحْنُ وأنْتَ في أمْرِنا كُلِّهِ، فَإنْ كانَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ أصَحَّ مِنَ الَّذِي أنْتَ عَلَيْهِ كُنْتَ قَدْ أخَذْتَ مِنهُ حَظًّا، وإنْ كانَ الَّذِي أنْتَ عَلَيْهِ أصَحَّ مِنَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ كُنّا قَدْ أخَذْنا مِنهُ حَظًّا، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ إلى آخِرِ السُّورَةِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ قُرَيْشًا قالَتْ: لَوِ اسْتَلَمْتَ آلِهَتَنا لَعَبَدْنا إلَهَكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ السُّورَةَ كُلَّها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب