(قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين) قال الزجاج: الجبار من الآدميين العاتي وهو الذي يجبر الناس على ما يريد، وأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه فإنه يجبر غيره على ما يريده، يقال أجبره إذا أكرهه، وقيل هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا المصلح لأمر نفسه ثم استعمل في كل من جر إلى نفسه نفعاً بحق أو باطل، وقيل إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه.
قال الفراء: لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين جبار من أجبر، ودرّاك من أدرك، والمراد هنا أنهم قوم عظام طوال متعاظمون قيل هم قوم من بقية قوم عاد، وقيل هم من ولد عيص بن اسحق، وقيل هم من الروم، ويقال إن منهم عوج بن عنق المشهور بالطول المفرط، وعنق بنت آدم، قيل كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع.
قال ابن كثير: وهذا شيء يستحي من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ثم لم يزل الخلق ينقص [[ابن كثير 2/ 38.]].
ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافراً، وأنه كان ولد زنية وأنه امتنع من ركوب السفينة وأن الطوفان لم يصل إلى ركبتيه، وهذا كذب وافتراء فإن الله ذكر أن نوحاً دعا أهل الأرض من الكافرين فقال (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) وقال تعالى (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين) وقال تعالى (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
وإذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر ولد زنية، هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع، ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر والله أعلم اهـ كلامه.
قلت: لم يأت في أمر هذا الرجل ما يقتضى تطويل الكلام في شأنه وما هذه بأول كذبة اشتهرت في الناس، ولسنا بملزومين بدفع الأكاذيب التي وضعها القُصاص ونفقت [[راجت.]] عند من لا يميز بين الصحيح والسقيم، فكم في بطون دفاتر التفاسير من أكاذيب وبلايا وأقاصيص كلها حديث خرافة، وما أحق من لا تمييز عنده لفن الرواية ولا معرفة أن يدع التعرض لتفسير كتاب الله ويضع هذه الحماقات والأضحوكات في المواضع المناسبة لها من كتب القصاص، وهي في الخازن أيضاً عفا الله عنا وعنه.
(وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) من غير صنع من قبلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها (فإن يخرجوا منها) بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها (فإنا داخلون) حينئذ، هذا تصريح بما هو مفهوم من الجملة التي قبل هذه الجملة لبيان أن امتناعهم من الدخول ليس إلا لهذا السبب.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين فسار بمن معه حتى نزل قريباً من المدينة وهي أريحاء فبعث إليهم اثني عشر عيناً [[العين في الجيش وهو بمثابة رجل مخابرات.]] من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم فدخلوا المدينة فرأوا أمراً عظيماً من هيئتهم وجسمهم وعظمهم، فدخلوا حائطاً لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجني الثمار من حائطه فجعل يجني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعهم، فكلما أصاب واحداً منهم أخذه فجعله في كمّه مع الفاكهة حتى التقط الاثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال الملك قد رأيتم شأننا وأمرنا اذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوه من أمرهم، فقال اكتموا عنا فجعل الرجل يخبر أباه وصديقه ويقول اكتم عني، فأشيع ذلك في عسكرهم ولم يكتم منهم إلا رجلان يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وهما اللذان أنزل الله فيهما (قال رجلان من الذين يخافون)، وقد روى نحو هذا مما يتضمن المبالغة في وصف هؤلاء وعظم أجسامهم ولا فائدة في بسط ذلك فغالبه من أكاذيب القصاص كما قدمنا.
{"ayah":"قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّ فِیهَا قَوۡمࣰا جَبَّارِینَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِنَّا دَ ٰخِلُونَ"}