الباحث القرآني

وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ يعني وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ فيما يغيّر ويبدل أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما عدّل من أحكامه قالُوا إِنَّما أَنْتَ يا محمّد مُفْتَرٍ وذلك أن المشركين قالوا: إن محمدا يسجد بأصحابه يأمرهم اليوم ويؤمّرهم غدا ويأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه. قال الله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حقيقة القرآن وبيان الناسخ والمنسوخ من الأحكام قُلْ نَزَّلَهُ يعني القرآن رُوحُ الْقُدُسِ جبرئيل مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا تثبيتا للمؤمنين وتقوية لإيمانهم [.....] [[غير مقروءة في المخطوط.]] تصديقا ويقينا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ آدمي وما هو من عند الله، واختلف العلماء في هذا البشر من هو: قال ابن عبّاس: كان قينا بمكة اسمه بلعام وكان نصرانيا يسمى اللسان وكان المشركون يرون رسول الله ﷺ‎ يدخل عليه ويخرج منه فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عكرمة وقتادة: كان النبي ﷺ‎ يقرّي غلاما لبني المغيرة يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب، [فقالوا] : إنما يعلمه يعيش فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الفراء: قال المشركون إنما يتعلّم محمّد عن مملوك كان لحويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه وكان أعجمي فأنزل الله تعالى هذه الآية [[زاد المسير: 4/ 360.]] . وقال ابن إسحاق: كان رسول الله ﷺ‎ فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني، يقال له: خير، عبد لبعض بني الحضرمي وكان يقرأ الكتب. وقال المشركون: والله ما يعلم محمدا كثيرا ما يأتي به إلّا خير النصراني، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال طلحة بن عمر: بلغني أن خديجة رضى الله عنها كانت تختلف إلى خير فكانت قريش تقول: إن عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة وخديجة، تعلّم محمّدا فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال عبيد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا عبدان من أهل [عين التمر] يقال لأحدهما يسار وللآخر خير، وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن بالتوراة والإنجيل، فربما مرّ بهما النبي ﷺ‎ وهما يقرآن فيقف فيسمع [[زاد المسير: 4/ 360.]] . وقال الضحاك: وكان النبي ﷺ‎ إذا آذاه الكفار يقصد إليهما فيستروح بكلامهما، فقال المشركون: إنما يتعلم محمّد منهما، فنزلت هذه الآية. وقال السدي: كان بمكة رجل نصراني يقال له ابن ميسرة يتكلّم بالرومي، فربما يقعد إليه رسول الله ﷺ‎ فقال الكفار: إنما يتعلم محمّد منه، فنزلت هذه الآية. وروى علي بن الحكم وعبيد بن سليمان عن الضحاك: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ قال: كانوا يقولون: إنما يعلمه سلمان الفارسي، وهذا قول غير مرضي لأن سلمان إنما أتى رسول الله ﷺ‎ بالمدينة وهذه الآية مكية. قال الله تكذيبا لهم [وإلزاما] للحجة عليهم: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أي يميلون إليه ويشيرون إليه. وخص الكسائي هذا الحرف من بين سائره فقرأ بفتح الياء والحاء لأنه كان يحدّثه عن سفيان عن أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله كذلك. أَعْجَمِيٌّ والفرق بين الأعجمي والعجمي، والعربي والإعرابي: أن الأعجمي لا يفصح وأنه كان نازلا بالبادية والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. والإعرابي: البدوي، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحا. وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فصيح، وأراد باللسان القرآن لأن العرب تقول للقصيدة واللغة: لسان، كقول الشاعر: لسان السوء تهديها إلينا ... وحنت ما حسبتك أن تحينا [[مغني اللبيب: 1/ 181.]] يعني باللسان القصيدة والكلمة. إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ثمّ إن الله تعالى بعد ما أخبر عن إغراء المشركين على رسول الله ﷺ‎ فيما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتبين أنهم المفترون دونه، فقال عز من قائل: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ لا محمدا. روى يعلي بن الأشدق عن عبد الله بن حماد قال: قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: «يكون ذلك» . قال: قلت: يا رسول الله المؤمن يسرق؟ قال: «قد يكون ذلك» . قال: قلت: يا رسول الله المؤمن يكذب؟ قال: «لا، قال الله إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ» [[الدعوات للراوندي: 118 ح 275.]] . وروى [سهيل] بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر يقول: إيّاكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان. مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ اختلف النحاة في العامل في (من) في قوله (مَنْ كَفَرَ) ومن يؤله وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً. فقال نحاة الكوفة: جوابهما جميعا في قوله: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ إنّما هذان جزءان إن اجتمعا أحدهما منعقد بالآخر فجوابهما واحد، كقول القائل: من يأتنا فمن يحسن نكرمه، بمعنى من يحسن ممن يأتينا نكرمه [[راجع تفسير الطبري: 14/ 236.]] . وقال أهل البصرة: بل قوله (مَنْ كَفَرَ) مرفوع بالرد على الذي في قوله إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ومعنى الكلام: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، ثمّ استثنى فقال إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. قال ابن عبّاس: نزلت هذه الآية في عمار وذلك، أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قلبها بحربة، وقيل: لما أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام رحمة الله ورضوانه عليهما، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها. قال قتادة: أخذ بنو المغيرة عمارا وغطوه في بئر مصون وقالوا له: أكفر بمحمد [ولم يتعمد] ذلك وقلبه كان مطمئنا فأخبر رسول الله ﷺ‎ بأن عمارا كفر. فقال: «كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه» . فأتى عمار رسول الله ﷺ‎ وهو يبكي، فجعل رسول الله ﷺ‎ يمسح عينيه، وقال: «ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» [9] . فأنزل الله هذه الآية [[أسباب النزول للواحدي: 190.]] . وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمّد: إن هاجروا إلينا فإنا [لا نرى أنكم] منّا حتّى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا كارهين. وروى ابن عون عن محمّد بن سيرين قال: تحدثنا أن هذه الآية نزلت في شأن عياش بن أبي ربيعة، وكان عياش من المهاجرين الأولين [وألجأ يضربه] [[هكذا في الأصل.]] أن يكون بلغ ما بلغ أصحابه هذه [الفعلة] وكان قدم مهاجرا وكان برا بأمه، فحلفت أن لا تأكل خبزا ولا تستظل بظل حتّى يرجع إليها ابنها قال: فقدم عليه أبو جهل وكان أخاه لأمه ورجل آخر فأراد أن يرجع معه فقال له أبو جهل: أمك [لو قد جاعت ما أكلت ولو قد شمست] ما استظلت، فقال ابنها: بلى ألقاها ثمّ أرجع. فقال: أما إذا أتيت فلا [تعطين راحلتك] أحدا، فإنه لا يزال لك من أمرك النصف ما لم تعط راحلتك أحدا فانطلق هو وأبو جهل والرجل، فلما كانوا ببعض الطريق قال أبو جهل: لو تحوّل كل واحد منا على راحلة صاحبه فتحول كل واحد منهم على راحلة صاحبه فساروا. وضربه أبو جهل بالسوط على رأسه وحلّفه باللات والعزى فلم يزل به حتّى أعطاه الذي أراد بلسانه، ثمّ انطلق فرجع، وفيه نزلت هذه الآية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في جبر مولى عامر بن الحضرمي، أكرهه سيّده على الكفر فكفر مكرها وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، وأسلم مولى جبر وحسن إسلامه وهاجر خير مع سيده. وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي فتح صدرا وكفر بالقبول وأتى على اختيار واستحباب فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وفي هذه الآية دليل على أن حقيقة الايمان والكفر تتعلق بالقلب دون اللسان وأن اللسان هو المعبّر والترجمان. حكم الآية اتفق الفقهاء على أن المكره على الكفر، وعلى شتم الرسول ﷺ‎ والأصحاب وترك الصلاة وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات وارتكاب الشبهات بوعيد متلف أو ضرب شديد لا يحتمله إن له أن يفعل ما أكره عليه، وإن أبى ذلك حتى يغضب في الله فهو أفضل له. وأما الإكراه على الطلاق فاختلفوا فيه: فأجاز أهل العراق الطلاق المكره، وكذلك قالوا في الإكراه على النذور والايمان [والرجعة] ونحوها، رأوا ذلك [جائزا] ورووا في ذلك أحاديثا واهية الأسانيد. وأما مالك والأوزاعي والشافعي: فإنهم أبطلوا طلاق المكره وقالوا: لما وجدنا الله سبحانه وتعالى عذر المكره على شيء، ليس [وراءه] في الشر مذهب وهو الكفر ولم يحكم به مع الإكراه، علمنا أن ما دونه أولى بالبطول وأجرى في العذر. وهو قول عمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والقاسم بن مخيمرة وعبيد بن عمير، وللشافعي في هذه المقالة مذهب ثالث: وهو أنه أجاز طلاق المكره إذا كان الإكراه من السلطان، ولم يجوّز ذلك إذا كان الإكراه من غير السلطان.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب