الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ نَظَرَ المَلائِكَةِ عَلى الأرْواحِ، ونَظَرَ البَشَرِ عَلى الأشْباحِ، ثُمَّ إنَّ المَلائِكَةَ لَمّا رَأوْا رُوحَكَ مَحَلًّا لِلصِّفاتِ الذَّمِيمَةِ مِنَ الشَّهْوَةِ والغَضَبِ ما قَبِلُوكَ. فَقالُوا: أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ، وأبَواكَ لَمّا رَأوْا قُبْحَ صُورَتِكَ في أوَّلِ الأمْرِ حِينَ كُنْتَ مَنِيًّا وعَلَقَةً ما قَبِلُوكَ أيْضًا، بَلْ أظْهَرُوا النُّفْرَةَ، واسْتَقْذَرُوا ذَلِكَ المَنِيَّ والعَلَقَةَ، وغَسَلُوا ثِيابَهم عَنْهُ، ثُمَّ كَمِ احْتالُوا لِلْإسْقاطِ والإبْطالِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا أعْطاكَ الصُّورَةَ الحَسَنَةَ فالأبَوانِ لَمّا رَأوْا تِلْكَ الصُّورَةَ الحَسَنَةَ قَبِلُوكَ ومالُوا إلَيْكَ، فَكَذا المَلائِكَةُ لَمّا رَأوْا في رُوحِكَ الصُّورَةَ الحَسَنَةَ وهي مَعْرِفَةُ اللَّهِ وطاعَتُهُ أحَبُّوكَ فَنَزَلُوا إلَيْكَ مُعْتَذِرِينَ عَمّا قالُوهُ أوَّلًا، فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ﴾ فَإذا نَزَلُوا إلَيْكَ رَأوْا رُوحَكَ في ظُلْمَةِ لَيْلِ البَدَنِ، وظُلْمَةِ القُوى الجُسْمانِيَّةِ فَحِينَئِذٍ يَعْتَذِرُونَ عَمّا تَقَدَّمَ: ﴿ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافِرٍ: ٧] .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ﴾ يَقْتَضِي ظاهِرُهُ نُزُولَ كُلِّ المَلائِكَةِ، ثُمَّ المَلائِكَةُ لَهم كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ لا تَحْتَمِلُ كُلَّهُمُ الأرْضُ، فَلِهَذا السَّبَبِ اخْتَلَفُوا فَقالَ بَعْضُهم: إنَّها تَنْزِلُ بِأسْرِها إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فَإنْ قِيلَ الإشْكالُ بَعْدُ باقٍ لِأنَّ السَّماءَ مَمْلُوءَةٌ بِحَيْثُ لا تُوجَدُ فِيها مَوْضِعُ إهابٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ، فَكَيْفَ تَسَعُ الجَمِيعَ سَماءٌ واحِدَةٌ ؟ قُلْنا: يُقْضى بِعُمُومِ الكِتابِ عَلى خَبَرِ الواحِدِ، كَيْفَ والمَرْوِيُّ أنَّهم يَنْزِلُونَ فَوْجًا فَوْجًا فَمِن نازِلٍ وصاعِدٍ كَأهْلِ الحَجِّ فَإنَّهم عَلى كَثْرَتِهِمْ يَدْخُلُونَ الكَعْبَةَ بِالكُلِّيَّةِ لَكِنَّ النّاسَ بَيْنَ داخِلٍ وخارِجٍ، ولِهَذا السَّبَبِ مُدَّتْ إلى غايَةِ طُلُوعِ الفَجْرِ فَلِذَلِكَ ذُكِرَ بِلَفْظِ: ”تَنَزَّلُ“ الَّذِي يُفِيدُ المَرَّةَ بَعْدَ المَرَّةِ.
والقَوْلُ الثّانِي: وهو اخْتِيارُ الأكْثَرِينَ أنَّهم يَنْزِلُونَ إلى الأرْضِ وهو الأوْجَهُ، لِأنَّ الغَرَضَ هو التَّرْغِيبُ في إحْياءِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، ولِأنَّهُ دَلَّتِ الأحادِيثُ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ يَنْزِلُونَ في سائِرِ الأيّامِ إلى مَجالِسِ الذِّكْرِ والدِّينِ، فَلِأنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ مَعَ عُلُوِّ شَأْنِها أوْلى، ولِأنَّ النُّزُولَ المُطْلَقَ لا يُفِيدُ إلّا النُّزُولَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ مَن قالَ: يَنْزِلُونَ إلى الأرْضِ عَلى وُجُوهٍ:
أحَدُها: قالَ بَعْضُهم: يَنْزِلُونَ لِيَرَوْا عِبادَةَ البَشَرِ وجِدَّهم واجْتِهادَهم في الطّاعَةِ.
وثانِيها: أنَّ المَلائِكَةَ قالُوا: ﴿وما نَتَنَزَّلُ إلّا بِأمْرِ رَبِّكَ﴾ [مَرْيَمَ: ٦٤] فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ النُّزُولِ فَلا يَدُلُّ عَلى غايَةِ المَحَبَّةِ.
﴿بِإذْنِ رَبِّهِمْ﴾
وأمّا هَذِهِ الآيَةُ وهو قَوْلُهُ: ﴿بِإذْنِ رَبِّهِمْ﴾ فَإنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّهُمُ اسْتَأْذَنُوا أوَّلًا فَأُذِنُوا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى غايَةِ المَحَبَّةِ، لِأنَّهم كانُوا يَرْغَبُونَ إلَيْنا ويَتَمَنَّوْنَ لِقاءَنا. لَكِنْ كانُوا يَنْتَظِرُونَ الإذْنَ، فَإنْ قِيلَ قَوْلُهُ: ﴿وإنّا لَنَحْنُ الصّافُّونَ﴾ [الصّافّاتِ: ١٦٥] يُنافِي قَوْلَهُ: ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ﴾ قُلْنا: نَصْرِفُ الحالَتَيْنِ إلى زَمانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.(p-٣٣)
وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى وعَدَ في الآخِرَةِ أنَّ المَلائِكَةَ: ﴿يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٣] فَهَهُنا في الدُّنْيا إنِ اشْتَغَلْتَ بِعِبادَتِي نَزَلَتِ المَلائِكَةُ عَلَيْكَ حَتّى يَدْخُلُوا عَلَيْكَ لِلتَّسَلُّمِ والزِّيارَةِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”أنَّهم يَنْزِلُونَ لِيُسَلِّمُوا عَلَيْنا ولِيَشْفَعُوا لَنا فَمَن أصابَتْهُ التَّسْلِيمَةُ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ“ .
ورابِعُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ فَضِيلَةَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ في الِاشْتِغالِ بِطاعَتِهِ في الأرْضِ فَهم يَنْزِلُونَ إلى الأرْضِ لِتَصِيرَ طاعاتُهم أكْثَرَ ثَوابًا، كَما أنَّ الرَّجُلَ يَذْهَبُ إلى مَكَّةَ لِتَصِيرَ طاعَتُهُ هُناكَ أكْثَرَ ثَوابًا، وكُلُّ ذَلِكَ تَرْغِيبٌ لِلْإنْسانِ في الطّاعَةِ.
وخامِسُها: أنَّ الإنْسانَ يَأْتِي بِالطّاعاتِ والخَيْراتِ عِنْدَ حُضُورِ الأكابِرِ مِنَ العُلَماءِ والزُّهّادِ أحْسَنَ مِمّا يَكُونُ في الخَلْوَةِ فاللَّهُ تَعالى أنْزَلَ المَلائِكَةَ المُقَرَّبِينَ حَتّى أنَّ المُكَلَّفَ يَعْلَمُ أنَّهُ إنَّما يَأْتِي بِالطّاعاتِ في حُضُورِ أُولَئِكَ العُلَماءِ العُبّادِ الزُّهّادِ فَيَكُونُ أتَمَّ وعَنِ النُّقْصانِ أبْعَدَ.
وسادِسُها: أنَّ مِنَ النّاسِ مَن خَصَّ لَفْظَ المَلائِكَةِ بِبَعْضِ فِرَقِ المَلائِكَةِ، عَنْ كَعْبٍ أنَّ سِدْرَةَ المُنْتَهى عَلى حَدِّ السَّماءِ السّابِعَةِ مِمّا يَلِي الجَنَّةَ، فَهي عَلى حَدِّ هَواءِ الدُّنْيا وهَواءِ الآخِرَةِ، وساقُها في الجَنَّةِ وأغْصانُها تَحْتَ الكُرْسِيِّ فِيها مَلائِكَةٌ لا يَعْلَمُ عَدَدَهم إلّا اللَّهُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ ومَقامُ جِبْرِيلَ في وسَطِها، لَيْسَ فِيها مَلَكٌ إلّا وقَدْ أعْطى الرَّأْفَةَ والرَّحْمَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَنْزِلُونَ مَعَ جِبْرِيلَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فَلا تَبْقى بُقْعَةٌ مِنَ الأرْضِ إلّا وعَلَيْها مَلَكٌ ساجِدٌ أوْ قائِمٌ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ، وجِبْرِيلُ لا يَدَعُ أحَدًا مِنَ النّاسِ إلّا صافَحَهم، وعَلامَةُ ذَلِكَ مَنِ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ ورَقَّ قَلْبُهُ ودَمَعَتْ عَيْناهُ، فَإنَّ ذَلِكَ مِن مُصافَحَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَن قالَ فِيها ثَلاثَ مَرّاتٍ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ غُفِرَ لَهُ بِواحِدَةٍ، ونَجّاهُ مِنَ النّارِ بِواحِدَةٍ، وأدْخَلَهُ الجَنَّةَ بِواحِدَةٍ، وأوَّلُ مَن يَصْعَدُ جِبْرِيلُ حَتّى يَصِيرَ أمامَ الشَّمْسِ فَيَبْسُطُ جَناحَيْنِ أخْضَرَيْنِ لا يَنْشُرُهُما إلّا تِلْكَ السّاعَةَ مِن تِلْكَ اللَّيْلَةِ ثُمَّ يَدْعُو مَلَكًا مَلَكًا، فَيَصْعَدُ الكُلُّ ويَجْتَمِعُ نُورُ المَلائِكَةِ ونُورُ جَناحِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيُقِيمُ جِبْرِيلُ ومَن مَعَهُ مِنَ المَلائِكَةِ بَيْنَ الشَّمْسِ وسَماءِ الدُّنْيا يَوْمَهم ذَلِكَ مَشْغُولِينَ بِالدُّعاءِ والرَّحْمَةِ والِاسْتِغْفارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، ولِمَن صامَ رَمَضانَ احْتِسابًا، فَإذا أمْسَوْا دَخَلُوا سَماءَ الدُّنْيا فَيَجْلِسُونَ حِلَقًا حِلَقًا فَتُجْمَعُ إلَيْهِمْ مَلائِكَةُ السَّماءِ فَيَسْألُونَهم عَنْ رَجُلٍ رَجُلٍ وعَنِ امْرَأةٍ امْرَأةٍ، حَتّى يَقُولُوا: ما فَعَلَ فُلانٌ وكَيْفَ وجَدْتُمُوهُ ؟ فَيَقُولُونَ: وجَدْناهُ عامَ أوَّلٍ مُتَعَبِّدًا، وفي هَذا العامِ مُبْتَدِعًا، وفُلانٌ كانَ عامَ أوَّلٍ مُبْتَدِعًا، وهَذا العامَ مُتَعَبِّدًا، فَيَكُفُّونَ عَنِ الدُّعاءِ لِلْأوَّلِ، ويَشْتَغِلُونَ بِالدُّعاءِ لِلثّانِي، ووَجَدْنا فُلانًا تالِيًا، وفُلانًا راكِعًا، وفُلانًا ساجِدًا، فَهم كَذَلِكَ يَوْمَهم ولَيْلَتَهم حَتّى يَصْعَدُوا السَّماءَ الثّانِيَةَ وهَكَذا يَفْعَلُونَ في كُلِّ سَماءٍ حَتّى يَنْتَهُوا إلى السِّدْرَةِ. فَتَقُولُ لَهُمُ السِّدْرَةُ: يا سُكّانِي حَدِّثُونِي عَنِ النّاسِ فَإنَّ لِي عَلَيْكم حَقًّا، وإنِّي أُحِبُّ مَن أحَبَّ اللَّهَ، فَذَكَرَ كَعْبٌ أنَّهم يَعُدُّونَ لَها الرَّجُلَ والمَرْأةَ بِأسْمائِهِمْ وأسْماءِ آبائِهِمْ، ثُمَّ يَصِلُ ذَلِكَ الخَبَرُ إلى الجَنَّةِ، فَتَقُولُ الجَنَّةُ: اللَّهُمَّ عِجِّلْهم إلَيَّ، والمَلائِكَةُ، وأهْلُ السِّدْرَةِ يَقُولُونَ: آمِينَ آمِينَ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ، كُلَّما كانَ الجَمْعُ أعْظَمَ، كانَ نُزُولُ الرَّحْمَةِ هُناكَ أكْثَرَ، ولِذَلِكَ فَإنَّ أعْظَمَ الجُمُوعِ في مَوْثِقِ الحَجِّ، لا جَرَمَ كانَ نُزُولُ الرَّحْمَةِ هُناكَ أكْثَرَ، فَكَذا في لَيْلَةِ القَدْرِ يَحْصُلُ مَجْمَعُ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ، فَلا جَرَمَ كانَ نُزُولُ الرَّحْمَةِ أكْثَرَ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَكَرُوا في الرُّوحِ أقْوالًا:
أحَدُها: أنَّهُ مَلَكٌ عَظِيمٌ، لَوِ التَقَمَ السَّماواتِ والأرَضِينَ كانَ ذَلِكَ لَهُ لُقْمَةً واحِدَةً.
وثانِيها: طائِفَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ لا تَراهُمُ المَلائِكَةُ إلّا لَيْلَةَ القَدْرِ، كالزُّهّادِ الَّذِينَ لا نَراهم إلّا يَوْمَ العِيدِ.
وثالِثُها: خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ يَأْكُلُونَ ويَلْبَسُونَ لَيْسُوا مِنَ المَلائِكَةِ، ولا مِنَ الإنْسِ، ولَعَلَّهم خَدَمُ أهْلِ الجَنَّةِ.
ورابِعُها: يُحْتَمَلُ أنَّهُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّهُ اسْمُهُ، ثُمَّ إنَّهُ يَنْزِلُ في مُواقَفَةِ المَلائِكَةِ لِيَطَّلِعَ عَلى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.
وخامِسُها: أنَّهُ القُرْآنُ: ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشُّورى: ٥٢] .
وسادِسُها: الرَّحْمَةُ (p-٣٤)قُرِئَ: ﴿ولا تَيْأسُوا مِن رَوْحِ اللَّهِ﴾ [يُوسُفَ: ٨٧] بِالرَّفْعِ كَأنَّهُ تَعالى، يَقُولُ: المَلائِكَةُ يَنْزِلُونَ ورَحْمَتِي تَنْزِلُ في أثَرِهِمْ فَيَجِدُونَ سَعادَةَ الدُّنْيا وسَعادَةَ الآخِرَةِ.
وسابِعُها: الرُّوحُ أشْرَفُ المَلائِكَةِ.
وثامِنُها: عَنْ أبِي نَجِيحٍ: الرُّوحُ هُمُ الحَفَظَةُ والكِرامُ الكاتِبُونَ فَصاحِبُ اليَمِينِ يَكْتُبُ إتْيانَهُ بِالواجِبِ، وصاحِبُ الشِّمالِ يَكْتُبُ تَرْكَهُ لِلْقَبِيحِ، والأصَحُّ أنَّ الرُّوحَ هَهُنا جِبْرِيلُ. وتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِزِيادَةِ شَرَفِهِ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: المَلائِكَةُ في كِفَّةٍ والرُّوحُ في كِفَّةٍ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِإذْنِ رَبِّهِمْ﴾ فَقَدْ ذَكَرْنا أنَّ هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا مُشْتاقِينَ إلَيْنا، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَرْغَبُونَ إلَيْنا مَعَ عِلْمِهِمْ بِكَثْرَةِ مَعاصِينا ؟ قُلْنا: إنَّهم لا يَقِفُونَ عَلى تَفْصِيلِ المَعاصِي رُوِيَ أنَّهم يُطالِعُونَ اللَّوْحَ، فَيَرَوْنَ فِيهِ طاعَةَ المُكَلَّفِ مُفَصَّلَةً، فَإذا وصَلُوا إلى مَعاصِيهِ أُرْخِيَ السِّتْرُ فَلا تَرَوْنَها، فَحِينَئِذٍ يَقُولُ: سُبْحانَ مَن أظْهَرَ الجَمِيلَ، وسَتَرَ عَلى القَبِيحِ، ثُمَّ قَدْ ذَكَرْنا فَوائِدَ في نُزُولِهِمْ ونَذْكُرُ الآنَ فَوائِدَ أُخْرى وحاصِلُها أنَّهم يَرَوْنَ في الأرْضِ مِن أنْواعِ الطّاعاتِ أشْياءَ ما رَأوْها في عالَمِ السَّماواتِ:
أحَدُها: أنَّ الأغْنِياءَ يَجِيئُونَ بِالطَّعامِ مِن بُيُوتِهِمْ فَيَجْعَلُونَهُ ضِيافَةً لِلْفُقَراءِ والفُقَراءُ يَأْكُلُونَ طَعامَ الأغْنِياءِ ويَعْبُدُونَ اللَّهَ، وهَذا نَوْعٌ مِنَ الطّاعَةِ لا يُوجَدُ في السَّماواتِ.
وثانِيها: أنَّهم يَسْمَعُونَ أنِينَ العُصاةِ وهَذا لا يُوجَدُ في السَّماواتِ.
وثالِثُها: «أنَّهُ تَعالى قالَ: ”لَأنِينُ المُذْنِبِينَ أحَبُّ إلَيَّ مِن زَجَلِ المُسَبِّحِينَ» “ فَقالُوا: تَعالَوْا نَذْهَبْ إلى الأرْضِ فَنَسْمَعْ صَوْتًا هو أحَبُّ إلى رَبِّنا مِن صَوْتِ تَسْبِيحِنا، وكَيْفَ لا يَكُونُ أحَبَّ وزَجَلُ المُسَبِّحِينَ إظْهارٌ لِكَمالِ حالِ المُطِيعِينَ، وأنِينُ العُصاةِ إظْهارٌ لِغَفّارِيَّةِ رَبِّ الأرْضِ والسَّماواتِ [وهَذِهِ هي المَسْألَةُ الأُولى] .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى عِصْمَةِ المَلائِكَةِ ونَظِيرُها قَوْلُهُ: ﴿وما نَتَنَزَّلُ إلّا بِأمْرِ رَبِّكَ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٧] وفِيها دَقِيقَةٌ وهي أنَّهُ تَعالى لَمْ يَقُلْ: مَأْذُونِينَ بَلْ قالَ: ﴿بِإذْنِ رَبِّهِمْ﴾ وهو إشارَةٌ إلى أنَّهم لا يَتَصَرَّفُونَ تَصَرُّفًا ما إلّا بِإذْنِهِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأتِهِ إنْ خَرَجْتِ إلّا بِإذْنِي، فَإنَّهُ يُعْتَبَرُ الإذْنُ في كُلِّ خَرْجَةٍ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿رَبِّهِمْ﴾ يُفِيدُ تَعْظِيمًا لِلْمَلائِكَةِ وتَحْقِيرًا لِلْعُصاةِ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: كانُوا لِي فَكُنْتُ لَهم، ونَظِيرُهُ في حَقِّنا: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [يُونُسَ: ٣] وقالَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إذْ قالَ رَبُّكَ﴾ [ص: ٧١] ونَظِيرُهُ ما رُوِيَ أنَّ داوُدَ لَمّا مَرِضَ مَرَضَ المَوْتِ قالَ: إلَهِي كُنْ لِسُلَيْمانَ كَما كُنْتَ لِي، فَنَزَلَ الوَحْيُ وقالَ: قُلْ لِسُلَيْمانَ فَلْيَكُنْ لِي كَما كُنْتَ لِي، ورُوِيَ عَنْ إبْراهِيمَ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ فَقَدَ الضَّيْفَ أيّامًا فَخَرَجَ بِالسُّفْرَةِ لِيَلْتَمِسَ ضَيْفًا فَإذا بِخَيْمَةٍ، فَنادى أتُرِيدُونَ الضَّيْفَ ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقالَ لِلْمُضِيفِ: أيُوجَدُ عِنْدَكَ إدامُ لَبَنٍ أوْ عَسَلٍ ؟ فَرَفَعَ الرَّجُلُ صَخْرَتَيْنِ فَضَرَبَ إحْداهُما بِالأُخْرى فانْشَقّا فَخَرَجَ مِن إحْداهُما اللَّبَنُ ومِنَ الأُخْرى العَسَلُ، فَتَعَجَّبَ إبْراهِيمُ وقالَ: إلَهِي أنا خَلِيلُكَ ولَمْ أجِدْ مِثْلَ ذَلِكَ الإكْرامِ، فَما لَهُ ؟ فَنَزَلَ الوَحْيُ يا خَلِيلِي كانَ لَنا فَكُنّا لَهُ.
* *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن كُلِّ أمْرٍ﴾ فَمَعْناهُ تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها مِن أجْلِ كُلِّ أمْرٍ، والمَعْنى أنْ كُلَّ واحِدٍ مِنهم إنَّما نَزَلَ لِمُهِمٍّ آخَرَ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّهم كانُوا في أشْغالٍ كَثِيرَةٍ فَبَعْضُهم لِلرُّكُوعِ وبَعْضُهم لِلسُّجُودِ، وبَعْضُهم بِالدُّعاءِ، وكَذا القَوْلُ في التَّفَكُّرِ والتَّعْلِيمِ، وإبْلاغِ الوَحْيِ، وبَعْضُهم لِإدْراكِ فَضِيلَةِ اللَّيْلَةِ أوْ لِيُسَلِّمُوا عَلى المُؤْمِنِينَ.
وثانِيها: وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ مِن أجْلِ كُلِّ أمْرٍ قُدِّرَ في تِلْكَ السَّنَةِ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ نُزُولَهم إنَّما كانَ عِبادَةً، فَكَأنَّهم قالُوا: ما نَزَلْنا إلى الأرْضِ لِهَوى أنْفُسِنا، لَكِنْ لِأجْلِ كُلِّ أمْرٍ فِيهِ مَصْلَحَةُ المُكَلَّفِينَ، وعَمَّ لَفْظُ الأمْرِ لِيَعُمَّ خَيْرَ الدُّنْيا والآخِرَةِ بَيانًا مِنهُ أنَّهم يَنْزِلُونَ بِما هو صَلاحُ المُكَلَّفِ في دِينِهِ ودُنْياهُ كَأنَّ السّائِلَ يَقُولُ: مِن أيْنَ جِئْتَ ؟ فَيَقُولُ: ما لَكَ وهَذا الفُضُولُ، ولَكِنْ قُلْ: لِأيِّ أمْرٍ جِئْتَ لِأنَّهُ حَظُّكَ.
وثالِثُها: قَرَأ بَعْضُهم: ”مِن كُلِّ امْرِئٍ“ أيْ مِن أجْلِ كُلِّ إنْسانٍ، ورُوِيَ أنَّهم لا يَلْقَوْنَ مُؤْمِنًا ولا مُؤْمِنَةً إلّا سَلَّمُوا عَلَيْهِ، قِيلَ: ألَيْسَ أنَّهُ قَدْ رُوِيَ أنَّهُ تُقَسَّمُ الآجالُ والأرْزاقُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِن شَعْبانَ، والآنَ تَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَيْلَةَ القَدْرِ ؟ قُلْنا: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«إنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ المَقادِيرَ في لَيْلَةِ البَراءَةِ، فَإذا كانَ لَيْلَةُ القَدْرِ يُسَلِّمُها إلى أرْبابِها» “ وقِيلَ: يُقَدِّرُ لَيْلَةَ البَراءَةِ الآجالَ والأرْزاقَ، ولَيْلَةَ القَدْرِ يُقَدِّرُ الأُمُورَ الَّتِي فِيها الخَيْرُ والبَرَكَةُ والسَّلامَةُ، وقِيلَ: يُقَدِّرُ في لَيْلَةِ القَدْرِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ إعْزازُ الدِّينِ، وما فِيهِ النَّفْعُ العَظِيمُ لِلْمُسْلِمِينَ، وأمّا لَيْلَةَ البَراءَةِ فَيُكْتَبُ فِيها أسْماءُ مَن يَمُوتُ ويُسَلَّمُ إلى مَلَكِ المَوْتِ.
{"ayah":"تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ فِیهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق