الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا تَأْثِيمًا﴾ ﴿إلّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ما الحِكْمَةُ في تَأْخِيرِ ذِكْرِهِ عَنِ الجَزاءِ مَعَ أنَّهُ مِنَ النِّعَمِ العَظِيمَةِ ؟ نَقُولُ: فِيهِ لَطائِفُ:
الأُولى: أنَّ هَذا مِن أتَمِّ النِّعَمِ، فَجَعَلَها مِن بابِ الزِّيادَةِ الَّتِي مِنها الرُّؤْيَةُ عِنْدَ البَعْضِ ولا مُقابِلَ لَها مِنَ الأعْمالِ، وإنَّما قُلْنا: إنَّها مِن أتَمِّ النِّعَمِ؛ لِأنَّها نِعْمَةُ سَماعِ كَلامِ اللَّهِ تَعالى عَلى ما سَنُبَيِّنُ أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿سَلامًا﴾ هو ما قالَ في سُورَةِ يس: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] فَلَمْ يَذْكُرْها فِيما جَعَلَهُ جَزاءً، وهَذا عَلى قَوْلِنا: ﴿أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾ لَيْسَ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى الرُّؤْيَةِ.
الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى بَدَأ بِأتَمِّ النِّعَمِ وهي نِعْمَةُ الرُّؤْيَةِ، وهي الرُّؤْيَةُ بِالنَّظَرِ كَما مَرَّ وخَتَمَ بِمِثْلِها، وهي نِعْمَةُ المُخاطَبَةِ. الثّالِثَةُ: هي أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ النِّعَمَ الفِعْلِيَّةَ وقابَلَها بِأعْمالِهِمْ حَيْثُ قالَ: ﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ذَكَرَ النِّعَمَ القَوْلِيَّةَ في مُقابَلَةِ أذْكارِهِمُ الحَسَنَةِ ولَمْ يَذْكُرُوا اللَّذّاتِ العَقْلِيَّةَ الَّتِي في مُقابَلَةِ أعْمالِ قُلُوبِهِمْ مِن إخْلاصِهِمْ واعْتِقادِهِمْ؛ لِأنَّ العَمَلَ القَلْبِيَّ لَمْ يُرَ ولَمْ يُسْمَعْ، فَما يُعْطِيهِمُ اللَّهُ تَعالى مِنَ النِّعْمَةِ تَكُونُ نِعْمَةً لَمْ تَرَها عَيْنٌ ولا سَمِعَتْها أُذُنٌ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ ﷺ: «فِيها ما لا عَيْنٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ» وقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ولا خَطَرَ إشارَةٌ إلى الزِّيادَةِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى النِّعْمَةِ القَوْلِيَّةِ في مُقابَلَةِ قَوْلِهِمُ الطَّيِّبِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ ألّا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا﴾ [فصلت: ٣٠] إلى قَوْلِهِ: (p-١٣٩)﴿نُزُلًا مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت: ٣٢] .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا تَأْثِيمًا﴾ نَفْيٌ لِلْمَكْرُوهِ لِما أنَّ اللَّغْوَ كَلامٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأنَّهُ عِنْدَ المُعْتَبَرَينَ مِنَ الرِّجالِ مَكْرُوهٌ، ونَفْيُ المَكْرُوهِ لا يُعَدُّ مِنَ النِّعَمِ العَظِيمَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُها، كَيْفَ وقَدْ ذَكَرْتَ أنَّ تَأْخِيرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ لِكَوْنِها أتَمَّ، ولَوْ قالَ: إنَّ فُلانًا في بَلْدَةِ كَذا مُحْتَرَمٌ مُكَرَّمٌ لا يُضْرَبُ ولا يُشْتَمُ فَهو غَيْرُ مُكَرَّمٍ وهو مَذْمُومٌ، والواغِلُ مَذْمُومٌ وهو الَّذِي يَدْخُلُ عَلى قَوْمٍ يَشْرَبُونَ ويَأْكُلُونَ فَيَأْكُلُ ويَشْرَبُ مَعَهم مِن غَيْرِ دُعاءٍ ولا إذْنٍ فَكَأنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ في عَدَمِ الِاعْتِبارِ كَلامٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وهو اللَّغْوُ، وكَذَلِكَ ما يَتَصَرَّفُ مِنهُ مِثْلُ الوُلُوغِ لا يُقالُ إلّا إذا كانَ الوالِغُ كَلْبًا أوْ ما يُشْبِهُهُ مِنَ السِّباعِ، وأمّا التَّأْثِيمُ فَهو النِّسْبَةُ إلى الإثْمِ ومَعْناهُ لا يَذْكُرُ إلّا باطِلًا ولا يَنْسُبُهُ أحَدٌ إلّا إلى الباطِلِ، وأمّا التَّقْدِيمُ فَلِأنَّ اللَّغْوَ أعَمُّ مِنَ التَّأْثِيمِ أيْ يَجْعَلُهُ آثِمًا كَما تَقُولُ: إنَّهُ فاسِقٌ أوْ سارِقٌ ونَحْوُ ذَلِكَ، وبِالجُمْلَةِ فالمُتَكَلِّمُ يَنْقَسِمُ إلى أنْ يَلْغُوَ وإلى أنْ لا يَلْغُوَ والَّذِي لا يَلْغُو يَقْصِدُ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ، فَيَأْخُذُ النّاسَ بِأقْوالِهِمْ وهو لا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَقالَ تَعالى: لا يَلْغُو أحَدٌ ولا يَصْدُرُ مِنهُ لَغْوٌ ولا ما يُشْبِهُ اللَّغْوَ فَيَقُولُ لَهُ: الصّادِقُ لا يَلْغُو ولا يَأْثَمُ ولا شَكَّ في أنَّ الباطِلَ أقْبَحُ ما يُشْبِهُهُ فَقالَ: لا يَأْثَمُ أحَدٌ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ تَعالى في سُورَةِ النَّبَأِ: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا كِذّابًا﴾ فَهَلْ بَيْنَهُما فَرْقٌ ؟ قُلْنا: نَعَمْ، الكِذّابُ كَثِيرُ التَّكْذِيبِ ومَعْناهُ هُناكَ أنَّهم لا يَسْمَعُونَ كَذِبًا ولا أحَدًا يَقُولُ لِآخَرَ: كَذَبْتَ وفائِدَتُهُ أنَّهم لا يَعْرِفُونَ كَذِبًا مِن مُعَيَّنٍ مِنَ النّاسِ ولا مِن واحِدٍ مِنهم غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِتَفاوُتِ حالِهِمْ وحالِ الدُّنْيا، فَإنّا نَعْلَمُ أنَّ بَعْضَ النّاسِ بِأعْيانِهِمْ كَذّابُونَ فَإنْ لَمْ نَعْرِفْ ذَلِكَ نَقْطَعْ بِأنَّ في النّاسِ كَذّابًا؛ لِأنَّ أحَدَهم يَقُولُ لِصاحِبِهِ: كَذَبْتَ فَإنْ صَدَقَ فَصاحِبُهُ كَذّابٌ، وإنْ لَمْ يَصْدُقْ فَهو كاذِبٌ فَيَعْلَمُ أنَّ في الدُّنْيا كَذّابًا بِعَيْنِهِ أوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ولا كَذَلِكَ في الآخِرَةِ فَلا كَذِبَ فِيها، وقالَ هَهُنا: ﴿ولا تَأْثِيمًا﴾ وهو أبْلَغُ مِنَ التَّكْذِيبِ فَإنَّ مَن يَقُولُ في حَقِّ مَن لا يَعْرِفُهُ: إنَّهُ زانٍ أوْ شارِبٌ الخَمْرَ مَثَلًا فَإنَّهُ يَأْثَمُ وقَدْ يَكُونُ صادِقًا، فالَّذِي لَيْسَ عَنْ عِلْمٍ إثْمٌ فَلا يَقُولُ أحَدٌ لِأحَدٍ: قُلْتَ ما لا عِلْمَ لَكَ بِهِ، فالكَلامُ هَهُنا أبْلَغُ؛ لِأنَّهُ قَصَرَ السُّورَةَ عَلى بَيانِ أحْوالِ الأقْسامِ؛ لِأنَّ المَذْكُورِينَ هُنا هُمُ السّابِقُونَ وفي سُورَةِ النَّبَأِ هُمُ المُتَّقُونَ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ السّابِقَ فَوْقَ المُتَّقِي.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ﴿إلّا قِيلًا﴾ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ مُنْقَطِعٌ، فَنَقُولُ: فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: وهو الأظْهَرُ أنَّهُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأنَّ السَّلامَ لَيْسَ مِن جِنْسِ اللَّغْوِ تَقْدِيرُهُ لَكِنْ يَسْمَعُونَ قِيلًا سَلامًا سَلامًا.
ثانِيهِما: أنَّهُ مُتَّصِلٌ ووَجْهُهُ أنْ نَقُولَ: المَجازُ قَدْ يَكُونُ في المَعْنى، ومِن جُمْلَتِهِ أنَّكَ تَقُولُ: ما لِي ذَنْبٌ إلّا أنِّي أُحِبُّكَ فَلِهَذا تُؤْذِينِي، فَتَسْتَثْنِي مَحَبَّتَهُ مِنَ الذَّنْبِ ولا تُرِيدُ المُنْقَطِعَ؛ لِأنَّكَ لا تُرِيدُ بِهَذا القَوْلِ بَيانَ أنَّكَ تُحِبُّهُ إنَّما تُرِيدُ في تَبْرِئَتِكَ عَنِ الذُّنُوبِ ووَجْهُهُ هو أنَّ بَيْنَهُما غايَةَ الخِلافِ وبَيْنَهُما أُمُورٌ مُتَوَسِّطَةٌ، مِثالُهُ: الحارُّ والبارِدُ وبَيْنَهُما الفاتِرُ الَّذِي هو أقْرَبُ إلى الحارِّ مِنَ البارِدِ وأقْرَبُ إلى البارِدِ مِنَ الحارِّ، والمُتَوَسِّطُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ البارِدِ عِنْدَ النِّسْبَةِ إلى الحارِّ فَيُقالُ: هَذا بارِدٌ ويُخْبَرُ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إلى البارِدِ فَيُقالُ: إنَّهُ حارٌّ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُ القائِلِ: ما لِي ذَنْبٌ إلّا أنِّي أُحِبُّكَ، مَعْناهُ لا تَجِدُ ما يُقَرِّبُ مِنَ الذَّنْبِ إلّا المَحَبَّةَ فَإنَّ عِنْدِي أُمُورًا فَوْقَها إذا نَسَبْتَها إلى الذَّنْبِ تَجِدُ بَيْنَها غايَةَ الخِلافِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: دَرَجاتُ الحُبِّ عِنْدِي طاعَتُكَ وفَوْقَها إنَّ أفْضَلَ جانِبٍ أقَلُّ أمْرٍ مِن أُمُورِكَ عَلى جانِبِ الحِفْظِ لِرُوحِي، إشارَةً إلى المُبالَغَةِ كَما يَقُولُ القائِلُ: لَيْسَ هَذا بِشَيْءٍ، مُسْتَحْقَرًا بِالنِّسْبَةِ إلى ما (p-١٤٠)فَوْقَهُ، فَقَوْلُهُ: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا﴾ أيْ يَسْمَعُونَ فِيها كَلامًا فائِقًا عَظِيمَ الفائِدَةِ كامِلَ اللَّذَّةِ، أدْناها وأقْرَبُها إلى اللَّغْوِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: سَلامٌ عَلَيْكَ فَلا يَسْمَعُونَ ما يَقْرُبُ مِنَ اللَّغْوِ إلّا سَلامًا، فَما ظَنُّكَ بِالَّذِي يَبْعُدُ مِنهُ كَما يَبْعُدُ الماءُ البارِدُ الصّادِقُ، والماءُ الَّذِي كَسَرَتِ الشَّمْسُ بُرُودَتَهُ وطُلِبَ مِنهُ ماءٌ حارٌّ، لَيْسَ عِنْدِي ماءٌ حارٌّ إلّا هَذا أيْ لَيْسَ عِنْدِي ما يَبْعُدُ مِنَ البارِدِ الصّادِقِ البُرُودَةِ ويَقْرُبُ مِنَ الحارِّ إلّا هَذا وفِيهِ المُبالَغَةُ الفائِقَةُ والبَلاغَةُ الرّائِقَةُ وحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّغْوُ مَجازًا، والِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا فَإنْ قِيلَ: إذا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِن مَجازٍ وحُمِلَ اللَّغْوُ عَلى ما يَقْرُبُ مِنهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَلْيُحْمَلْ إلّا عَلى لَكِنْ؛ لِأنَّهُما مُشْتَرِكانِ في إثْباتِ خِلافِ ما تَقَدَّمَ، نَقُولُ: المَجازُ في الأسْماءِ أوْلى مِنَ المَجازِ في الحُرُوفِ؛ لِأنَّها تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ في الدَّلالَةِ وتَتَغَيَّرُ في الأحْوالِ، ولا كَذَلِكَ الحُرُوفُ؛ لِأنَّ الحُرُوفَ لا تَصِيرُ مَجازًا إلّا بِالِاقْتِرانِ بِاسْمٍ، والِاسْمُ يَصِيرُ مَجازًا مِن غَيْرِ الِاقْتِرانِ بِحَرْفٍ فَإنَّكَ تَقُولُ: رَأيْتُ أسَدًا يَرْمِي ويَكُونُ مَجازًا ولا اقْتِرانَ لَهُ بِحَرْفٍ، وكَذَلِكَ إذا قُلْتَ لِرَجُلٍ: هَذا أسَدٌ وتُرِيدُ بِأسَدٍ كامِلَ الشَّجاعَةِ، ولِأنَّ عَرْضَ المُتَكَلِّمِ في قَوْلِهِ: ما لِي ذَنْبٌ إلّا أنِّي أُحِبُّكَ، لا يَحْصُلُ بِما ذَكَرْتَ مِنَ المَجازِ، ولِأنَّ العُدُولَ عَنِ الأصْلِ لا يَكُونُ لَهُ فائِدَةٌ مِنَ المُبالَغَةِ والبَلاغَةِ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قِيلًا﴾ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مَصْدَرٌ كالقَوْلِ فَيَكُونُ ”قِيلًا“ مَصْدَرًا، كَما أنَّ القَوْلَ مَصْدَرٌ لَكِنْ لا يَظْهَرُ لَهُ في بابِ فَعَلَ يَفْعُلُ إلّا حَرْفٌ. ثانِيهِما: أنَّهُ اسْمٌ والقَوْلُ مَصْدَرٌ فَهو كالسِّدْلِ والسِّتْرِ بِكَسْرِ السِّينِ اسْمٌ وبِفَتْحِها مَصْدَرٌ وهو الأظْهَرُ، وعَلى هَذا نَقُولُ: الظّاهِرُ أنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِن فِعْلٍ هو: قالَ وقِيلَ لِما لَمْ يُذْكَرْ فاعِلُهُ، وما قِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنِ القِيلِ والقالِ، يَكُونُ مَعْناهُ نَهى عَنِ المُشاجَرَةِ وحِكايَةِ أُمُورٍ جَرَتْ بَيْنَ أقْوامٍ لا فائِدَةَ في ذِكْرِها، ولَيْسَ فِيها إلّا مُجَرَّدُ الحِكايَةِ مِن غَيْرِ وعْظٍ ولا حِكْمَةٍ لِقَوْلِهِ ﷺ: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا قالَ خَيْرًا فَغَنِمَ أوْ سَكَتَ فَسَلِمَ» وعَلى هَذا فالقِيلُ اسْمٌ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قائِلُهُ، والقالُ اسْمٌ لِلْقَوْلِ مَأْخُوذٌ مِن قِيلَ لِما لَمْ يُذْكَرْ فاعِلُهُ، تَقُولُ: قالَ فُلانٌ كَذا، ثُمَّ قِيلَ لَهُ كَذا، فَقالَ كَذا، فَيَكُونُ حاصِلُ كَلامِهِ قِيلَ وقالَ، وعَلى هَذا فالقِيلُ اسْمٌ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قائِلُهُ، والقالُ مَأْخُوذٌ مِن قِيلَ هو قالَ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: هَذا باطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقِيلِهِ يارَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الزخرف: ٨٨] فَإنَّ الضَّمِيرَ لِلرَّسُولِ ﷺ أيْ يَعْلَمُ اللَّهُ قِيلَ مُحَمَّدٍ: ﴿وقِيلِهِ يارَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾، كَما قالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إنَّكَ إنْ تَذَرْهم يُضِلُّوا عِبادَكَ﴾ [نوح: ٢٧]، وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاصْفَحْ عَنْهم وقُلْ سَلامٌ﴾ [الزخرف: ٨٩] إرْشادٌ لَهُ لِئَلّا يَدْعُوَ عَلى قَوْمِهِ عِنْدَ يَأْسِهِ مِنهم كَما دَعا عَلَيْهِمْ نُوحٌ عِنْدَهُ، وإذا كانَ القَوْلُ مُضافًا إلى مُحَمَّدٍ ﷺ فَلا يَكُونُ القِيلُ اسْمًا لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قائِلُهُ ؟ فَنَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ قَوْلَنا: إنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِن قِيلَ المَوْضُوعِ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قائِلُهُ في الأصْلِ لا يُنافِي جَوازَ اسْتِعْمالِهِ في قَوْلِ مَن عُلِمَ بِغَيْرِ المَوْضُوعِ.
وثانِيهِما: وهو الجَوابُ الدَّقِيقُ أنْ نَقُولَ: الهاءُ في: ﴿وقِيلِهِ﴾ ضَمِيرٌ كَما في رَبِّهِ وكالضَّمِيرِ المَجْهُولِ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ وهو ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وعِنْدَ البَصْرِيِّينَ قالَ: ﴿فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ﴾ [الحج: ٤٦] والهاءُ غَيْرُ عائِدٍ إلى مَذْكُورٍ، غَيْرَ أنَّ الكُوفِيِّينَ جَعَلُوهُ لِغَيْرِ مَعْلُومٍ والبَصْرِيِّينَ جَعَلُوهُ ضَمِيرَ القِصَّةِ، والظّاهِرُ في هَذِهِ المَسْألَةِ قَوْلُ الكُوفِيِّينَ، وعَلى هَذا مَعْنى عِبارَتِهِمْ: بَلَغَ غايَةَ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى قِيلُ القائِلِ مِنهم: يا رَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ، إشارَةٌ إلى أنَّ الِاخْتِصاصَ بِذَلِكَ القَوْلِ في كُلِّ أحَدٍ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ لِعِلْمِهِ أنَّهم قائِلُونَ بِهَذا وأنَّهم عالِمُونَ، وأهْلُ السَّماءِ عَلِمُوا بِأنَّ عِنْدَ اللَّهِ عِلْمَ السّاعَةِ يَعْلَمُها فَيَعْلَمُ قَوْلَ مَن يَقُولُ: ﴿وقِيلِهِ يارَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ﴾ مِن غَيْرِ (p-١٤١)تَعْيِينِ قَوْلٍ لِاشْتِراكِ الكُلِّ فِيهِ، ويُؤَيِّدُ هَذا أنَّ الضَّمِيرَ لَوْ كانَ عائِدًا إلى مَعْلُومٍ فَإمّا أنْ يَكُونَ إلى مَذْكُورٍ قَبْلَهُ، ولا شَيْءَ فِيما قَبْلَهُ يَصِحُّ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلَيْهِ، وإمّا إلى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ وهو مُحَمَّدٌ ﷺ لَكِنَّ الخِطابَ بِقَوْلِهِ: ﴿فاصْفَحْ﴾ كانَ يَقْتَضِي أنْ يَقُولَ: وقِيلِكَ يا رَبِّ؛ لِأنَّ مُحَمَّدًا ﷺ هو المُخاطَبُ أوَّلًا بِكَلامِ اللَّهِ، وقَدْ قالَ قَبْلَهُ: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهُمْ﴾ [لقمان: ٢٥] وقالَ مِن قَبْلُ: ﴿قُلْ إنْ كانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ فَأنا أوَّلُ العابِدِينَ﴾ [الزخرف: ٨١] وكانَ هو المُخاطَبَ أوَّلًا، إذا تَحَقَّقَ هَذا نَقُولُ: إذا تَفَكَّرْتَ في اسْتِعْمالِ لَفْظِ القِيلِ في القُرْآنِ تَرى ما ذَكَرْنا مَلْحُوظًا مُراعًى، فَقالَ هَهُنا: ﴿إلّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا﴾ لِعَدَمِ اخْتِصاصِ هَذا القَوْلِ بِقائِلٍ دُونَ قائِلٍ فَيَسْمَعُ هَذا القَوْلَ دائِمًا مِنَ المَلائِكَةِ والنّاسِ كَما قالَ تَعالى: ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ﴾ [الرعد: ٢٣] حَيْثُ كانَ المُسَلِّمُ مُنْفَرِدًا، وهو اللَّهُ كَأنَّهُ قالَ: سَلامٌ قَوْلًا مِنّا، وقالَ تَعالى: ﴿ومَن أحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إلى اللَّهِ وعَمِلَ صالِحًا﴾ [فصلت: ٣٣] وقالَ: ﴿هِيَ أشَدُّ وطْئًا وأقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: ٦]؛ لِأنَّ الدّاعِيَ مُعَيَّنٌ وهُمُ الرُّسُلُ ومَنِ اتَّبَعَهم مِنَ الأُمَّةِ وكُلُّ مَن قامَ لَيْلًا فَإنَّ قَوْلَهُ قَوِيمٌ، ونَهْجَهُ مُسْتَقِيمٌ، وقالَ تَعالى: ﴿وقِيلِهِ يارَبِّ﴾ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ يَقُولُ: إنَّهم لا يُؤْمِنُونَ. أمّا هم فَلِاعْتِرافِهِمْ ولِإقْرارِهِمْ وأمّا غَيْرُهم فَلِكُفْرانِهِمْ بِإسْرافِهِمْ وإصْرارِهِمْ، ويُؤَيِّدُ ما ذَكَرْنا أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا تَأْثِيمًا﴾ والِاسْتِثْناءُ المُتَّصِلُ يُقَرِّبُ إلى المَعْنى بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِهِ وهو قَوْلٌ لا يُعْرَفُ قائِلُهُ، فَقالَ: ﴿إلّا قِيلًا﴾ وهو سَلامٌ عَلَيْكَ، وأمّا قَوْلُ مَن يُعْرَفُ وهو اللَّهُ فَهو الأبْعَدُ عَنِ اللَّغْوِ غايَةَ البُعْدِ وبَيْنَهُما نِهايَةُ الخِلافِ فَقالَ: ﴿سَلامٌ قَوْلًا﴾ .
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: سَلامٌ، فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ صِفَةٌ وصَفَ اللَّهُ تَعالى بِها ﴿قِيلًا﴾ كَما يُوصَفُ الشَّيْءُ بِالمَصْدَرِ حَيْثُ يُقالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ، وقَوْمٌ صَوْمٌ، ومَعْناهُ إلّا قِيلًا سالِمًا عَنِ العُيُوبِ.
وثانِيها: هو مَصْدَرٌ تَقْدِيرُهُ: إلّا أنْ يَقُولُوا سَلامًا.
وثالِثُها: هو بَدَلٌ مِن ﴿قِيلًا﴾، تَقْدِيرُهُ: إلّا سَلامًا.
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: تَكْرِيرُ السَّلامِ هَلْ فِيهِ فائِدَةٌ ؟ نَقُولُ: فِيهِ إشارَةٌ إلى تَمامِ النِّعْمَةِ، وذَلِكَ؛ لِأنَّ أثَرَ السَّلامِ في الدُّنْيا لا يَتِمُّ إلّا بِالتَّسْلِيمِ ورَدِّ السَّلامِ، فَكَما أنَّ أحَدَ المُتَلاقِيَيْنِ في الدُّنْيا يَقُولُ لِلْآخَرِ: السَّلامُ عَلَيْكَ، فَيَقُولُ الآخَرُ: وعَلَيْكَ السَّلامُ، فَكَذَلِكَ في الآخِرَةِ يَقُولُونَ: ﴿سَلامًا سَلامًا﴾ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدٌّ؛ لِأنَّ تَسْلِيمَ اللَّهِ عَلى عَبْدِهِ مُؤَمِّنٌ لَهُ، فَأمّا اللَّهُ تَعالى فَهو مُنَزَّهٌ عَنْ أنْ يُؤَمِّنَهُ أحَدٌ، بَلِ الرَّدُّ إنْ كانَ فَهو قَوْلُ المُؤَمَّنِ: سَلامٌ عَلَيْنا وعَلى عِبادِ اللَّهِ الصّالِحِينَ.
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: ما الفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَلامًا سَلامًا﴾ بِنَصْبِهِما، وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ﴾ ؟ قُلْنا: قَدْ ذَكَرْنا هُناكَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكَ﴾ [مَرْيَمَ: ٤٧ ] أتَمُّ وأبْلَغُ مِن قَوْلِهِمْ سَلامًا عَلَيْكَ، فَإبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ أرادَ أنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالذِّكْرِ ويُجِيبَهم بِأحْسَنِ ما حَيَّوْا، وأمّا هُنا فَلا يَتَفَضَّلُ أحَدٌ مِن أهْلِ الجَنَّةِ عَلى الآخَرِ مِثْلَ التَّفَضُّلِ في تِلْكَ الصُّورَةِ إذْ هم مِن جِنْسٍ واحِدٍ، وهُمُ المُؤْمِنُونَ ولا يَنْسُبُ أحَدٌ إلى أحَدٍ تَقْصِيرًا.
المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: إذا كانَ قَوْلُ القائِلِ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكَ﴾ أتَمَّ وأبْلَغَ فَما بالُ القِراءَةِ المَشْهُورَةِ صارَتْ بِالنَّصْبِ، ومَن قَرَأ (سَلامٌ) لَيْسَ مِثْلَ الَّذِي قَرَأ بِالنَّصْبِ، نَقُولُ ذَلِكَ مِن حَيْثُ اللَّفْظُ والمَعْنى، أمّا اللَّفْظُ فَلِأنَّهُ يُسْتَثْنى مِنَ المَسْمُوعِ وهو مَفْعُولٌ مَنصُوبٌ، فالنَّصْبُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا﴾ وأمّا المَعْنى فَلِأنّا بَيَّنّا أنَّ الِاسْتِثْناءَ مُتَّصِلٌ، وقَوْلُهم: ﴿سَلامٌ﴾ أبْعَدُ مِنَ اللَّغْوِ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿سَلامًا﴾ فَقالَ: ﴿إلّا قِيلًا سَلامًا﴾ لِيَكُونَ أقْرَبَ إلى اللَّغْوِ مِن غَيْرِهِ، وإنْ كانَ في نَفْسِهِ بَعِيدًا عَنْهُ.
{"ayahs_start":25,"ayahs":["لَا یَسۡمَعُونَ فِیهَا لَغۡوࣰا وَلَا تَأۡثِیمًا","إِلَّا قِیلࣰا سَلَـٰمࣰا سَلَـٰمࣰا"],"ayah":"لَا یَسۡمَعُونَ فِیهَا لَغۡوࣰا وَلَا تَأۡثِیمًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق