الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿والأرْضَ وضَعَها لِلْأنامِ﴾ فِيهِ مَباحِثُ: الأوَّلُ: هو أنَّهُ قَدْ مَرَّ أنَّ تَقْدِيمَ الِاسْمِ عَلى الفِعْلِ كانَ في مَواضِعِ عَدَمِ الِاخْتِصاصِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلْأنامِ﴾ يَدُلُّ عَلى الِاخْتِصاصِ، فَإنَّ اللّامَ لِعَوْدِ النَّفْعِ. نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: ما قِيلَ: إنَّ الأنامَ يَجْمَعُ الإنْسانَ وغَيْرَهُ مِنَ الحَيَوانِ، فَقَوْلُهُ ﴿لِلْأنامِ﴾ لا يُوجِبُ الِاخْتِصاصَ بِالإنْسانِ. ثانِيهِما: أنَّ الأرْضَ مَوْضُوعَةٌ لِكُلِّ ما عَلَيْها، وإنَّما خَصَّ الإنْسانَ بِالذِّكْرِ لِأنَّ انْتِفاعَهُ بِها أكْثَرُ فَإنَّهُ يَنْتَفِعُ بِها وبِما فِيها وبِما عَلَيْها، فَقالَ ﴿لِلْأنامِ﴾ لِكَثْرَةِ انْتِفاعِ الأنامِ بِها، إذا قُلْنا إنَّ الأنامَ هو الإنْسانُ، وإنْ قُلْنا إنَّهُ الخَلْقُ فالخَلْقُ يُذْكَرُ ويُرادُ بِهِ الإنْسانَ في كَثِيرٍ مِنَ المَواضِعِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِيها فاكِهَةٌ والنَّخْلُ ذاتُ الأكْمامِ﴾ إشارَةٌ إلى الأشْجارِ، وقَوْلُهُ: ﴿والحَبُّ ذُو العَصْفِ﴾ [الرحمن: ١٢] إشارَةٌ إلى النَّباتِ الَّذِي لَيْسَ بِشَجَرٍ. والفاكِهَةُ ما تَطِيبُ بِهِ النَّفْسُ، وهي فاعِلَةٌ إمّا عَلى طَرِيقَةِ: ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ [القارعة: ٧] أيْ ذاتُ رِضًى يَرْضى بِها كُلُّ أحَدٍ، وإمّا عَلى تَسْمِيَةِ الآلَةِ بِالفاعِلِ يُقالُ: راوِيَةٌ لِلْقِرْبَةِ الَّتِي يُرْوى بِها العَطْشانُ، وفِيهِ مَعْنى المُبالَغَةِ كالرّاحِلَةِ لِما يُرْحَلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ صارَ اسْمًا لِبَعْضِ الثِّمارِ وُضِعَتْ أوَّلًا مِن غَيْرِ اشْتِقاقِ، والتَّنْكِيرُ لِلْتَكْثِيرِ، أيْ كَثِيرَةٌ كَما يُقالُ لِفُلانٍ مالٌ أيْ عَظِيمٌ، وقَدْ ذَكَرْنا وجْهَ دَلالَةِ التَّنْكِيرِ عَلى التَّعْظِيمِ. وهو أنَّ القائِلَ كَأنَّهُ يُشِيرُ إلى أنَّهُ عَظِيمٌ لا يُحِيطُ بِهِ مَعْرِفَةُ كُلِّ أحَدٍ فَتَنْكِيرُهُ إشارَةٌ إلى أنَّهُ خارِجٌ عَنْ أنْ يُعْرَفَ كُنْهُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والنَّخْلُ ذاتُ الأكْمامِ﴾ إشارَةٌ إلى النَّوْعِ الآخَرِ مِنَ الأشْجارِ، لِأنَّ الأشْجارَ المُثْمِرَةَ أفْضَلُ الأشْجارِ وهي مُنْقَسِمَةٌ إلى أشْجارِ ثِمارٍ هي فَواكِهُ لا يُقْتاتُ بِها وإلى أشْجارِ ثِمارٍ هي قُوتٌ وقَدْ يُتَفَكَّهُ بِها، كَما أنَّ الفاكِهَةَ قَدْ يُقْتاتُ بِها، فَإنَّ الجائِعَ إذا لَمْ يَجِدْ غَيْرَ الفَواكِهِ يَتَقَوَّتُ بِها ويَأْكُلُ غَيْرَ مُتَفَكِّهٍ بِها، وفِيهِ مَباحِثُ: (p-٨٣)الأوَّلُ: ما الحِكْمَةُ في تَقْدِيمِ الفاكِهَةِ عَلى القُوتِ ؟ نَقُولُ: هو بابُ الِابْتِداءِ بِالأدْنى والِارْتِقاءِ إلى الأعْلى، والفاكِهَةُ في النَّفْعِ دُونَ النَّخْلِ الَّذِي مِنهُ القُوتُ، والتَّفَكُّهُ وهو دُونَ الحَبِّ الَّذِي عَلَيْهِ المَدارُ في سائِرِ المَواضِعِ، وبِهِ يَتَغَذّى الأنامُ في جَمِيعِ البِلادِ، فَبَدَأ بِالفاكِهَةِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّخْلَ ثُمَّ ذَكَرَ الحَبَّ الَّذِي هو أتَمُّ نِعْمَةٍ لِمُوافَقَتِهِ مِزاجَ الإنْسانِ، ولِهَذا خَلَقَهُ اللَّهُ في سائِرِ البِلادِ وخَصَّصَ النَّخْلَ بِالبِلادِ الحارَّةِ. البَحْثُ الثّانِي: ما الحِكْمَةُ في تَنْكِيرِ الفاكِهَةِ وتَعْرِيفِ النَّخْلِ ؟ وجَوابُهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ القُوتَ مُحْتاجٌ إلَيْهِ في كُلِّ زَمانٍ مُتَداوَلٌ في كُلِّ حِينٍ وأوانٍ، فَهو أعْرَفُ والفاكِهَةُ تَكُونُ في بَعْضِ الأزْمانِ وعِنْدَ بَعْضِ الأشْخاصِ. وثانِيها: هو أنَّ الفاكِهَةَ عَلى ما بَيَّنّا ما يُتَفَكَّهُ بِهِ وتَطِيبُ بِهِ النَّفْسُ، وذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ بِحَسَبِ كُلِّ وقْتٍ شَيْءٌ، فَمَن غَلَبَ عَلَيْهِ حَرارَةٌ وعَطَشٌ، يُرِيدُ التَّفَكُّهَ بِالحامِضِ وأمْثالِهِ، ومِنَ النّاسِ مَن يُرِيدُ التَّفَكُّهَ بِالحُلْوِ وأمْثالِهِ، فالفاكِهَةُ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ فَنَكَّرَها والنَّخْلُ والحَبُّ مُعْتادانِ مَعْلُومانِ فَعَرَّفَهُما. وثالِثُها: النَّخْلُ وحْدَها نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَعَلَّقَتْ بِها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ، وأمّا الفاكِهَةُ فَنَوْعٌ مِنها كالخَوْخِ والإجّاصِ مَثَلًا لَيْسَ فِيهِ عَظِيمُ النِّعْمَةِ كَما في النَّخْلِ، فَقالَ: (فاكِهَةٌ) بِالتَّنْكِيرِ لَيَدُلُّ عَلى الكَثْرَةِ وقَدْ صَرَّحَ بِالكَثْرَةِ في مَواضِعَ أُخَرَ، فَقالَ: ﴿يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ [ص: ٥١] وقالَ: ﴿وفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ ﴿لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ﴾ [الواقعة: ٣٢، ٣٣]، فالفاكِهَةُ ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى ووَصَفَها بِالكَثْرَةِ صَرِيحًا وذَكَرَها مُنَكَّرَةً، لِتُحْمَلَ عَلى أنَّها مَوْصُوفَةٌ بِالكَثْرَةِ اللّائِقَةِ بِالنِّعْمَةِ في النَّوْعِ الواحِدِ مِنها بِخِلافِ النَّخْلِ. البَحْثُ الثّالِثُ: ما الحِكْمَةُ في ذِكْرِ الفاكِهَةِ بِاسْمِها لا بِاسْمِ أشْجارِها، وذِكْرِ النَّخْلِ بِاسْمِها لا بِاسْمِ ثَمَرِها ؟ نَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ في سُورَةِ: (يس) حَيْثُ قالَ تَعالى: ﴿مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ﴾ [يس: ٣٤] وهو أنَّ شَجَرَةَ العِنَبِ، وهي الكَرْمُ بِالنِّسْبَةِ إلى ثَمَرَتِها وهي العِنَبُ حَقِيرَةٌ، وشَجَرَةُ النَّخْلِ بِالنِّسْبَةِ إلى ثَمَرَتِها عَظِيمَةٌ، وفِيها مِنَ الفَوائِدِ الكَثِيرَةِ عَلى ما عُرِفَ مِنَ اتِّخاذِ الظُّرُوفِ مِنها والِانْتِفاعِ بِجُمّارِها وبِالطَّلْعِ والبُسْرِ والرُّطَبِ وغَيْرِ ذَلِكَ، فَثَمَرَتُها في أوْقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَأنَّها ثَمَراتٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَهي أتَمُّ نِعْمَةً بِالنِّسْبَةِ إلى الغَيْرِ مِنَ الأشْجارِ، فَذَكَرَ النَّخْلَ بِاسْمِهِ وذَكَرَ الفاكِهَةَ دُونَ أشْجارِها، فَإنَّ فَوائِدَ أشْجارِها في عَيْنِ ثِمارِها. البَحْثُ الرّابِعُ: ما مَعْنى: ﴿ذاتُ الأكْمامِ﴾ ؟ نَقُولُ: فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: الأكْمامُ كُلُّ ما يُغَطِّي، جَمْعُ كُمٍّ بِضَمِّ الكافِ، ويَدْخُلُ فِيهِ لِحاؤُها ولِيفُها ونَواها والكُلُّ مُنْتَفَعٌ بِهِ، كَما أنَّ النَّخْلَ مُنْتَفَعٌ بِها وأغْصانِها وقَلْبِها الَّذِي هو الجُمّارُ. ثانِيهِما: الأكْمامُ جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الكافِ وهو وِعاءُ الطَّلْعِ فَإنَّهُ يَكُونُ أوَّلًا في وِعاءٍ فَيَنْشَقُّ ويَخْرُجُ مِنهُ الطَّلْعُ، فَإنْ قِيلَ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ: ﴿ذاتُ الأكْمامِ﴾ في ذِكْرِها فائِدَةٌ لِأنَّها إشارَةٌ إلى أنْواعِ النِّعَمِ، وأمّا عَلى الوَجْهِ الثّانِي فَما فائِدَةُ ذِكْرِها ؟ نَقُولُ: الإشارَةُ إلى سُهُولَةِ جَمْعِها والِانْتِفاعِ بِها فَإنَّ النَّخْلَةَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لا يُمْكِنُ هَزُّها لِتَسْقُطَ مِنها الثَّمَرَةُ فَلا بُدَّ مِن قَطْفِ الشَّجَرَةِ فَلَوْ كانَ مِثْلَ الجُمَّيْزِ الَّذِي يُقالُ: إنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الشَّجَرَةِ مُتَفَرِّقًا واحِدَةً واحِدَةً لَصَعُبَ قِطافُها، فَقالَ: ﴿ذاتُ الأكْمامِ﴾ أيْ يَكُونُ في كِمٍّ شَيْءٌ كَثِيرٌ إذا أُخِذَ عُنْقُودٌ واحِدٌ مِنهُ كَفى رَجُلًا واثْنَيْنِ كَعَناقِيدِ العِنَبِ، فانْظُرْ إلَيْها فَلَوْ كانَ العِنَبُ حَبّاتُها في الأشْجارِ مُتَفَرِّقَةٌ كالجُمَّيْزِ والزُّعْرُورِ لَمْ يُمْكِنْ جَمْعُهُ بِالهَزِّ مَتى أُرِيدَ جَمْعُهُ، فَخَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى عَناقِيدَ مُجْتَمِعَةً، كَذَلِكَ الرُّطَبُ فَكَوْنُها ﴿ذاتُ الأكْمامِ﴾ مِن جُمْلَةِ إتْمامِ الإنْعامِ. (p-٨٤)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب