الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: (p-٣٤٠)﴿ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا﴾ ﴿وجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجًا﴾ ﴿واللَّهُ أنْبَتَكم مِنَ الأرْضِ نَباتًا﴾ ﴿ثُمَّ يُعِيدُكم فِيها ويُخْرِجُكم إخْراجًا﴾ ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِساطًا﴾ ﴿لِتَسْلُكُوا مِنها سُبُلًا فِجاجًا﴾ ﴿قالَ نُوحٌ رَبِّ إنَّهم عَصَوْنِي واتَّبَعُوا مَن لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ووَلَدُهُ إلّا خَسارًا﴾ ﴿ومَكَرُوا مَكْرًا كُبّارًا﴾ ﴿وقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكم ولا تَذَرُنَّ ودًّا ولا سُواعًا ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا﴾ ﴿وقَدْ أضَلُّوا كَثِيرًا ولا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلّا ضَلالًا﴾ ﴿مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهم مِن دُونِ اللَّهِ أنْصارًا﴾ ﴿وقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ ﴿إنَّكَ إنْ تَذَرْهم يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إلّا فاجِرًا كَفّارًا﴾ ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ ولا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلّا تَبارًا﴾ . لَمّا نَبَّهَهم نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى الفِكْرِ في أنْفُسِهِمْ، وكَيْفَ انْتَقَلُوا مِن حالٍ إلى حالٍ، وكانَتِ الأنْفُسُ أقْرَبَ ما يُفَكِّرُونَ فِيهِ مِنهم، أرْشَدَهم إلى الفِكْرِ في العالَمِ عُلْوِهِ وسُفْلِهِ، وما أوْدَعَ تَعالى فِيهِ، أيْ: في العالَمِ العُلْوِيِّ مِن هَذَيْنِ النَّيِّرَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِما قِوامُ الوُجُودِ. وتَقَدَّمَ شَرْحُ (طِباقًا) في سُورَةِ المُلْكِ، والضَّمِيرُ في (فِيهِنَّ) عائِدٌ عَلى السَّماواتِ، ويُقالُ: القَمَرُ في السَّماءِ الدُّنْيا، وصَحَّ كَوْنُ السَّماواتِ ظَرْفًا لِلْقَمَرِ؛ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنَ الظَّرْفِ أنْ يَمْلَأهُ المَظْرُوفُ. تَقُولُ: زَيْدٌ في المَدِينَةِ، وهو في جُزْءٍ مِنها، ولَمْ تُقَيَّدِ الشَّمْسُ بِظَرْفٍ، فَقِيلَ: هي في الرّابِعَةِ، وقِيلَ: في الخامِسَةِ، وقِيلَ: في الشِّتاءِ في الرّابِعَةِ، وفي الصَّيْفِ في السّابِعَةِ، وهَذا شَيْءٌ لا يُوقَفُ عَلى مَعْرِفَتِهِ إلّا مِن عِلْمِ الهَيْئَةِ. ويَذْكُرُ أصْحابُ هَذا العِلْمِ أنَّهُ يَقُومُ عِنْدَهُمُ البَراهِينُ القاطِعَةُ عَلى صِحَّةِ ما يَدَّعُونَهُ، وأنَّ في مَعْرِفَةِ ذَلِكَ دَلالَةً واضِحَةً عَلى عَظَمَةِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ وباهِرِ مَصْنُوعاتِهِ. (سِراجًا) يَسْتَضِيءُ بِهِ أهْلُ الدُّنْيا، كَما يَسْتَضِيءُ النّاسُ بِالسِّراجِ في بُيُوتِهِمْ، ولَمْ يَبْلُغِ القَمَرُ مَبْلَغَ الشَّمْسِ في الإضاءَةِ؛ ولِذَلِكَ جاءَ هو الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً والقَمَرَ نُورًا، والضِّياءُ أقْوى مِنَ النُّورِ. والإنْباتُ اسْتِعارَةٌ في الإنْشاءِ، أنْشَأ آدَمَ مِنَ الأرْضِ وصارَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنهُ، فَصَحَّ نِسْبَتُهم كُلُّهم إلى أنَّهم أُنْبِتُوا مِنها. وانْتِصابُ (نَباتًا) بِـ (أنْبَتَكم) مَصْدَرًا عَلى حَذْفِ الزّائِدِ، أيْ إنْباتًا، أوْ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ، أيْ: فَنَبَتُمْ نَباتًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المَعْنى أنْبَتَكم فَنَبَتُمْ، أوْ نُصِبَ بِـ (أنْبَتَكم) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى نَبَتُمْ. انْتَهى. ولا أعْقِلُ مَعْنى هَذا الوَجْهِ الثّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ. ﴿ثُمَّ يُعِيدُكم فِيها﴾ أيْ: يُصَيِّرُكم فِيها مَقْبُورِينَ ﴿ويُخْرِجُكم إخْراجًا﴾ أيْ: يَوْمَ القِيامَةِ، وأكَّدَهُ بِالمَصْدَرِ، أيْ: ذَلِكَ واقِعٌ لا مَحالَةَ. (بِساطًا) تَتَقَلَّبُونَ عَلَيْها كَما يَتَقَلَّبُ الرَّجُلُ عَلى بِساطِهِ. وظاهِرُهُ أنَّ الأرْضَ لَيْسَتْ كُرَوِيَّةً، بَلْ هي مَبْسُوطَةٌ (سُبُلًا): طُرُقًا (فِجاجًا): مُتَّسِعَةً، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الفَجِّ في سُورَةِ (p-٣٤١)الحَجِّ. ولَمّا أصَرُّوا عَلى العِصْيانِ وعامَلُوهُ بِأقْبَحِ الأقْوالِ والأفْعالِ ﴿قالَ نُوحٌ رَبِّ إنَّهم عَصَوْنِي﴾: الضَّمِيرُ لِلْجَمِيعِ، وكانَ قَدْ قالَ لَهم: (وأطِيعُونِ) وكانَ قَدْ أقامَ فِيهِمْ ما نَصَّ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ ﴿ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا﴾ [العنكبوت: ١٤] وكانُوا قَدْ وسَّعَ عَلَيْهِمْ في الرِّزْقِ بِحَيْثُ كانُوا يَزْرَعُونَ في الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ. (واتَّبَعُوا) أيْ: عامَّتُهم وسَفَلَتُهم، إذْ لا يَصِحُّ عَوْدُهُ عَلى الجَمِيعِ في عِبادَةِ الأصْنامِ. ﴿مَن لَمْ يَزِدْهُ﴾ أيْ: رُؤَساؤُهم وكُبَراؤُهم، وهُمُ الَّذِينَ كانَ ما تَأثَّلُوهُ مِنَ المالِ وما تَكَثَّرُوا بِهِ مِنَ الوَلَدِ سَبَبًا في خَسارَتِهِمْ في الآخِرَةِ؛ وكانَ سَبَبُ هَلاكِهِمْ في الدُّنْيا. وقَرَأ ابْنُ الزُّبَيْرِ والحَسَنُ والنَّخَعِيُّ والأعْرَجُ، ومُجاهِدٌ والأخَوانِ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ونافِعٌ، في رِوايَةِ خارِجَةَ: (ووَلْدُهُ) بِضَمِّ الواوِ وسُكُونِ اللّامِ. والسُّلَمِيُّ والحَسَنُ أيْضًا، وأبُو رَجاءٍ وابْنُ وثّابٍ وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ ونافِعٌ وعاصِمٌ وابْنُ عامِرٍ: بِفَتْحِهِما، وهُما لُغَتانِ، كـَ (بُخْلٍ وبُخُلٍ) . والحَسَنُ أيْضًا والجَحْدَرِيُّ وقَتادَةُ وزِرٌّ، وطَلْحَةُ وابْنُ أبِي إسْحاقَ وأبُو عَمْرٍو، في رِوايَةٍ: كَسْرُ الواوِ وسُكُونُ اللّامِ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الوُلُدُ بِالضَّمِّ جَمْعُ الوَلَدِ، كَخَشَبٍ وخُشُبٍ، وقَدْ قالَ حَسّانُ بْنُ ثابِتٍ: ؎يا بَكْرَ آمِنَةَ المُبارَكَ بِكْرُها مِن ولَدِ مُحْصَنَةٍ بِسَعْدِ الأسْعَدِ (ومَكَرُوا): يَظْهَرُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى صِلَةِ (مَن)، وجُمِعَ الضَّمِيرُ في (ومَكَرُوا) (وقالُوا) عَلى المَعْنى. ومَكْرُهم: احْتِيالُهم في الدِّينِ وتَحْرِيشُ النّاسِ عَلى نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (كُبّارًا) بِتَشْدِيدِ الباءِ، وهو بِناءٌ فِيهِ مُبالَغَةٌ كَثِيرٌ. قالَ عِيسى بْنُ عُمَرَ: هي لُغَةٌ يَمانِيَّةٌ، وعَلَيْها قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎والمَرْءُ يُلْحِقُهُ بِفِتْيانِ النَّدى ∗∗∗ خُلُقُ الكَرِيمِ ولَيْسَ بِالوُضّاءِ (وقَوْلُ الآخَرِ): ؎بَيْضاءُ تَصْطادُ القُلُوبَ وتَسْتَبِي ∗∗∗ بِالحُسْنِ قَلْبَ المُسْلِمِ القُرّاءِ ويُقالُ: حُسّانٌ وطُوّالٌ وجُمّالٌ. وقَرَأ عِيسى وابْنُ مُحَيْصِنٍ وأبُو السَّمّالِ: بِخَفِّ الباءِ، وهو بِناءُ مُبالِغَةٍ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ، فِيما رَوى عَنْهُ أبُو الأُخَيْرِطِ وهْبُ بْنُ واضِحٍ: (كِبّارًا)، بِكَسْرِ الكافِ وفَتْحِ الباءِ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: هو جَمْعٌ كَبِيرٌ، كَأنَّهُ جَعَلَ مَكْرًا مَكانَ ذُنُوبٍ أوْ أفاعِيلَ. انْتَهى، يَعْنِي فَلِذَلِكَ وصَفَهُ بِالجَمْعِ. (وقالُوا) أيْ: كُبَراؤُهم لِأتْباعِهِمْ، أوْ قالُوا، أيْ: جَمِيعُهم بَعْضُهم لِبَعْضٍ ﴿لا تَذَرُنَّ﴾: لا تَتْرُكُنَّ (آلِهَتَكم) أيْ: أصْنامَكم، وهو عامٌّ في جَمِيعِ أصْنامِهِمْ، ثُمَّ خُصُّوا بَعْدَ أكابِرِ أصْنامِهِمْ، وهو ودٌّ وما عُطِفَ عَلَيْهِ. ورُوِيَ أنَّها أسْماءُ رِجالٍ صالِحِينَ كانُوا في صَدْرِ الزَّمانِ. قالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: كانُوا بَنِي آدَمَ، وكانَ ودٌّ أكْبَرَهم وأبَرَّهم بِهِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ومُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ: كانُوا بَنِي آدَمَ ونُوحٍ - عَلَيْهِما السَّلامُ - ماتُوا فَصُوِّرَتْ أشْكالُهم لِتُذَكِّرَ أفْعالَهُمُ الصّالِحَةَ، ثُمَّ هَلَكَ مَن صَوَّرَهم وخَلَفَ مَن يُعَظِّمُها، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتّى عُبِدَتْ. قِيلَ: ثُمَّ انْتَقَلَتْ تِلْكَ الأصْنامُ بِأعْيانِها. وقِيلَ: بَلِ الأسْماءُ فَقَطْ إلى قَبائِلَ مِنَ العَرَبِ. فَكانَ ودٌّ لِكَلْبٍ بِدُومَةِ الجَنْدَلِ، وسُواعٌ لِهُذَيْلٍ، وقِيلَ: لِهَمْدانَ، ويَغُوثُ لِمُرادٍ، وقِيلَ: لِمَذْحِجٍ، ويَعُوقُ لِهَمْدانَ، وقِيلَ: لِمُرادٍ، ونَسْرٌ لِحِمْيَرَ، وقِيلَ: لِذِي الكُلاعِ مِن حِمْيَرَ. ولِذَلِكَ سَمَّتِ العَرَبُ بِعَبْدِ ودٍّ وعَبْدِ يَغُوثَ. وما وقَعَ مِن هَذا الخِلافِ في سُواعٍ ويَغُوثَ ويَعُوقَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما صَنَمٌ يُسَمّى بِهَذا الِاسْمِ، إذْ يَبْعُدُ بَقاءُ أعْيانِ تِلْكَ الأصْنامِ، فَإنَّما بَقِيَتِ الأسْماءُ فَسَمُّوا أصْنامَهم بِها. قالَ أبُو عُثْمانَ النَّهْدِيُّ: رَأيْتُ يَغُوثَ، وكانَ مِن رَصاصٍ، يُحْملُ عَلى جَمَلٍ أجْرَدٍ يَسِيرُونَ مَعَهُ لا يُهَيِّجُونَهُ حَتّى يَكُونَ هو الَّذِي يَبْرُكُ، فَإذا بَرَكَ نَزَلُوا وقالُوا: قَدْ رَضِيَ لَكُمُ المُنْزِلَ، فَيَنْزِلُونَ حَوْلَهُ ويَضْرِبُونَ لَهُ بِناءً. انْتَهى. وقالَ الثَّعْلَبِيُّ: كانَ يَغُوثُ لَكَهْلانَ مِن سَبَأٍ، يَتَوارَثُونَهُ حَتّى صارَ في هَمْدانَ، وفِيهِ يَقُولُ مالِكُ بْنُ نَمَطٍ الهَمْدانِيُّ:(p-٣٤٢) ؎يَرِيشُ اللَّهُ في الدُّنْيا ويَبْرِي ∗∗∗ ولا يَبْرِي يَغُوثُ ولا يَرِيشُ وقالَ الماوَرْدِيُّ: ودٌّ اسْمُ صَنَمٍ مَعْبُودٍ. سُمِّيَ ودًّا لِوِدِّهِمْ لَهُ. انْتَهى. وقِيلَ: كانَ ودٌّ عَلى صُورَةِ رَجُلٍ، وسُواعٌ عَلى صُورَةِ امْرَأةٍ، ويَغُوثُ عَلى صُورَةِ أسَدٍ، ويَعُوقُ عَلى صُورَةِ فَرَسٍ، ونَسْرٌ عَلى صُورَةِ نَسْرٍ، وهَذا مُنافٍ لِما تَقَدَّمَ مِن أنَّهم صَوَّرُوا صُوَرَ ناسٍ صالِحِينَ. وقَرَأ نافِعٌ وأبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ، بِخِلافٍ عَنْهم: وُدًّا، بِضَمِّ الواوِ. والحَسَنُ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ وباقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِها، قالَ الشّاعِرُ: ؎حَيّاكَ ودٌّ فَإنّا لا يَحِلُّ لَنا ∗∗∗ لَهْوُ النِّساءِ وأنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَما (وقالَ آخَرُ): ؎فَحَيّاكِ ودٌّ مِن هَواكِ لَقِيتُهُ ∗∗∗ وخوصٌ بِأعْلى ذِي طُوالَةَ هُجَّدِ قِيلَ: أرادَ ذَلِكَ الصَّنَمَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ﴾ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَإنْ كانا عَرَبِيَّيْنِ، فَمَنعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ ووَزْنِ الفِعْلِ، وإنْ كانا عَجَمِيَّيْنِ، فَلِلْعُجْمَةِ والعَلَمِيَّةِ. وقَرَأ الأشْهَبُ: ولا (يَغُوثًا ويَعُوقًا) بِتَنْوِينِهِما. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: جَعَلَهُما فَعُولًا، فَلِذَلِكَ صَرَفَهُما. فَأمّا في العامَّةِ فَإنَّهُما صِفَتانِ مِنَ الغَوْثِ والعَوْقِ بِفِعْلٍ مِنهُما، وهُما مَعْرِفَتانِ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ الصَّرْفُ لِاجْتِماعِ الفِعْلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُما تَعْرِيفٌ ومُشابَهَةُ الفِعْلِ المُسْتَقْبَلِ. انْتَهى، وهَذا تَخْبِيطٌ. أمّا أوَّلًا، فَلا يُمْكِنُ أنْ يَكُونا فَعُولًا؛ لِأنَّ مادَّةَ يَغُثُّ مَفْقُودَةٌ وكَذَلِكَ يَعُقُّ. وأمّا ثانِيًا، فَلَيْسا بِصِفَتَيْنِ مِنَ الغَوْثِ والعَوْقِ؛ لِأنَّ يَفْعَلا لَمْ يَجِئِ اسْمًا ولا صِفَةً، وإنَّما امْتَنَعا مِنَ الصَّرْفِ لِما ذَكَرْناهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَرَأ الأعْمَشُ: (ولا يَغُوثًا ويَعُوقًا) بِالصَّرْفِ، وذَلِكَ وهْمٌ؛ لِأنَّ التَّعْرِيفَ لازِمٌ ووَزْنُ الفِعْلِ. انْتَهى. ولَيْسَ ذَلِكَ بِوَهْمٍ، ولَمْ يَنْفَرِدِ الأعْمَشُ بِذَلِكَ، بَلْ قَدْ وافَقَهُ الأشْهَبُ العُقَيْلِيُّ عَلى ذَلِكَ، وتَخْرِيجُهُ عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ، أحَدُهُما: أنَّهُ جاءَ عَلى لُغَةِ مَن يَصْرِفُ جَمِيعَ ما لا يَنْصَرِفُ عِنْدَ عامَّةِ العَرَبِ، وذَلِكَ لُغَةٌ وقَدْ حَكاها الكِسائِيُّ وغَيْرُهُ. والثّانِي: أنَّهُ صُرِفَ لِمُناسَبَةِ ما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ مِنَ المُنَوَّنِ، إذْ قَبْلُهُ ﴿ودًّا ولا سُواعًا﴾ وبَعْدَهُ (ونَسْرًا) كَما قالُوا في صَرْفِ (سَلاسَلًا) و(قَوارِيرًا قَوارِيرًا) لِمَن صَرَفَ ذَلِكَ لِلْمُناسَبَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذِهِ قِراءَةٌ مُشْكَلَةٌ؛ لِأنَّهُما إنْ كانا عَرَبِيَّيْنِ أوْ أعْجَمِيَّيْنِ فَفِيهِما مَنعُ الصَّرْفِ، ولَعَلَّهُ قَصَدَ الِازْدِواجَ فَصَرَفَهُما لِمُصادَفَتِهِ أخَواتِهِما مُنْصَرِفاتٍ (ودًّا وسُواعًا ونَسْرًا) كَما قُرِئَ: (وضُحاها) بِالإمالَةِ لِوُقُوعِهِ مَعَ المُمالاتِ لِلِازْدِواجِ. انْتَهى. وكانَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمْ يَدْرِ أنَّ ثَمَّ لُغَةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ تَصْرِفُ كُلَّ ما لا يَنْصَرِفُ عِنْدَ عامَّتِهِمْ، فَلِذَلِكَ اسْتَشْكَلَها. ﴿وقَدْ أضَلُّوا﴾ أيِ: الرُّؤَساءُ المَتْبُوعُونَ (كَثِيرًا): مِن أتْباعِهِمْ وعامَّتِهِمْ، وهَذا إخْبارٌ مَن نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَنْهم بِما جَرى عَلى أيْدِيهِمْ مِنَ الضَّلالِ. وقالَ الحَسَنُ: ﴿وقَدْ أضَلُّوا﴾ أيِ: الأصْنامُ، عادَ الضَّمِيرُ عَلَيْها كَما يَعُودُ عَلى العُقَلاءِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ﴾ [إبراهيم: ٣٦] ويُحَسِّنُهُ عَوْدُهُ عَلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ، ولَكِنْ عَوْدُهُ عَلى الرُّؤَساءِ أظْهَرُ، إذْ هُمُ المُحَدَّثُ عَنْهم، والمَعْنى فِيهِمْ أمْكَنُ. ولَمّا أخْبَرَ أنَّهم قَدْ ضَلُّوا كَثِيرًا، دَعا عَلَيْهِمْ بِالضَّلالِ، فَقالَ: ﴿ولا تَزِدِ﴾: وهي مَعْطُوفَةٌ عَلى ﴿وقَدْ أضَلُّوا﴾ إذْ تَقْدِيرُهُ: وقالَ وقَدْ أضَلُّوا كَثِيرًا، فَهي مَعْمُولَةٌ لِـ (قالَ) المُضْمَرَةُ المَحْكِيُّ بِها قَوْلُهُ: ﴿وقَدْ أضَلُّوا﴾ ولا يُشْتَرَطُ التَّناسُبُ في عَطْفِ الجُمَلِ، بَلْ قَدْ يَعْطِفُ، جُمْلَةَ الإنْشاءِ عَلى جُمْلَةِ الخَبَرِ، والعَكْسُ، خِلافًا لِمَن يَدَّعِي التَّناسُبَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ما مُلَخَّصُهُ: عَطَفَ (ولا تَزِدِ) عَلى ﴿رَبِّ إنَّهم عَصَوْنِي﴾ أيْ: قالَ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ. ﴿إلّا ضَلالًا﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ جازَ أنْ يُرِيدَ لَهُمُ الضَّلالَ ويَدْعُوَ (p-٣٤٣)اللَّهُ بِزِيادَتِهِ ؟ (قُلْتُ): المُرادُ بِالضَّلالِ أنْ يُخْذَلُوا ويُمْنَعُوا الألْطافَ؛ لِتَصْمِيمِهِمْ عَلى الكُفْرِ ووُقُوعِ اليَأْسِ مِن إيمانِهِمْ، وذَلِكَ حَسَنٌ جَمِيلٌ يَجُوزُ الدُّعاءُ بِهِ، بَلْ لا يَحْسُنُ الدُّعاءُ بِخِلافِهِ. انْتَهى، وذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ الِاعْتِزالِ. قالَ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالضَّلالِ الضَّياعُ والهَلاكُ، كَما قالَ: ﴿ولا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلّا تَبارًا﴾ . وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: ﴿إلّا ضَلالًا﴾: إلّا عَذابًا، قالَ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضَلالٍ وسُعُرٍ﴾ [القمر: ٤٧] . وقِيلَ: إلّا خُسْرانًا. وقِيلَ: إلّا ضَلالًا في أمْرِ دُنْياهم وتَرْوِيجِ مَكْرِهِمْ وحِيَلِهِمْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿مِمّا خَطِيئاتِهِمْ﴾ جَمْعًا بِالألِفِ والتّاءِ مَهْمُوزا. وأبُو رَجاءٍ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ أبْدَلَ الهَمْزَةَ ياءً وأدْغَمَ فِيها ياءَ المَدِّ. والجَحْدَرِيُّ وعُبَيْدٌ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: عَلى الإفْرادِ مَهْمُوزًا. والحَسَنُ وعِيسى والأعْرَجُ: بِخِلافٍ عَنْهم. وأبُو عَمْرٍو: خَطاياهم جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وهَذا إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بِأنَّ دَعْوَةَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَدْ أُجِيبَتْ. وما زائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. و(مِن) قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِابْتِداءِ الغايَةِ، ولا يَظْهَرُ إلّا أنَّها لِلسَّبَبِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: مِن خَطِيئاتِهِمْ ما أُغْرِقُوا، بِزِيادَةِ (ما) بَيْنَ أُغْرِقُوا وخَطِيئاتِهِمْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (أُغْرِقُوا) بِالهَمْزَةِ. وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: غُرِّقُوا بِالتَّشْدِيدِ وكَلاهُما لِلنَّقْلِ، وخَطِيئاتُهُمُ الشِّرْكُ وما انْجَرَّ مَعَهُ مِنَ الكَبائِرِ ﴿فَأُدْخِلُوا نارًا﴾ أيْ: جَهَنَّمُ، وعَبَّرَ عَنِ المُسْتَقْبَلِ بِالماضِي لِتَحَقُّقِهِ، وعَطَفَ بِالفاءِ عَلى إرادَةِ الحُكْمِ، أوْ عَبَّرَ بِالدُّخُولِ عَنْ عَرْضِهِمْ عَلى النّارِ غُدُوًّا وعِشِيًّا، كَما قالَ: ﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها﴾ [غافر: ٤٦] . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ أُرِيدَ عَذابُ القَبْرِ. انْتَهى. وقالَ الضَّحّاكُ: كانُوا يُغْرَقُونَ مِن جانِبٍ ويُحْرَقُونَ بِالنّارِ مِن جانِبٍ. ﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهم مِن دُونِ اللَّهِ أنْصارًا﴾ تَعْرِيضٌ بِانْتِفاءِ قُدْرَةِ آلِهَتِهِمْ عَنْ نَصْرِهِمْ، ودُعاءُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بَعْدَ أنْ أُوحِيَ إلَيْهِ أنَّهُ ﴿لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦] قالَهُ قَتادَةُ. وعَنْهُ أيْضًا: ما دَعا عَلَيْهِمْ إلّا بَعْدَ أنْ أخْرَجَ اللَّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنَ الأصْلابِ، وأعْقَمَ أرْحامَ نِسائِهِمْ، وهَذا لا يَظْهَرُ لِأنَّهُ قالَ: ﴿إنَّكَ إنْ تَذَرْهم يُضِلُّوا عِبادَكَ﴾ الآيَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ولا يَلِدُوا إلّا فاجِرًا كَفّارًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يُعْقِمْ أرْحامَ نِسائِهِمْ، وقالَهُ أيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ والرَّبِيعُ، وابْنُ زَيْدٍ، ولا يَظْهَرُ كَما قُلْنا، وقَدْ كانَ قَبْلَ ذَلِكَ طامِعًا في إيمانِهِمْ عاطِفًا عَلَيْهِمْ. وفي الحَدِيثِ: «أنَّهُ رُبَّما ضَرَبَهُ ناسٌ مِنهم أحْيانًا حَتّى يُغْشى عَلَيْهِ، فَإذا أفاقَ قالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإنَّهم لا يَعْلَمُونَ» . (ودَيّارًا): مِن ألْفاظِ العُمُومِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ في النَّفْيِ وما أشْبَهَهُ، ووَزْنُهُ فَيْعالٌ، أصْلُهُ دِيوارٌ، اجْتَمَعَتِ الياءُ والواوُ وسُبِقَتْ إحْداهُما بِالسُّكُونِ فَأُدْغِمَتْ، ويُقالُ: مِنهُ دَوّارٌ ووَزْنُهُ فَعّالٌ، وكِلاهُما مِنَ الدَّوَرانِ، كَما قالُوا: قِيامٌ وقِوامٌ، والمَعْنى مَعْنى أحَدٍ. وعَنِ السُّدِّيِّ: مِن سَكَنَ دارًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو فَيْعالٌ مِنَ الدَّوْرِ أوْ مِنَ الدّارِ. انْتَهى. والدّارُ أيْضًا مِنَ الدَّوْرِ، وألِفُها مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واوٍ. ﴿ولا يَلِدُوا إلّا فاجِرًا كَفّارًا﴾: وصَفَهم وهم حالَةَ الوِلادَةِ بِما يَصِيرُونَ إلَيْهِ مِنَ الفُجُورِ والكُفْرِ. ولَمّا دَعا عَلى الكُفّارِ، اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَبَدَأ بِنَفَسِهِ ثُمَّ بِمَن وجَبَ بِرُّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَكَأنَّ هو ووالِداهُ انْدَرَجُوا في المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (ولِوالِدَيَّ)، والظّاهِرُ أنَّهُما أبُوهُ لَمَكُ بْنُ مَتُّوشَلَخَ وأُمُّهُ شَمْخاءُ بِنْتُ أنُوشٍ. وقِيلَ: هُما آدَمُ وحَوّاءُ. وقَرَأ ابْنُ جُبَيْرٍ والجَحْدَرِيُّ: (ولِوالِدِي) بِكَسْرِ الدّالِ، فَإمّا أنْ يَكُونَ خَصَّ أباهُ الأقْرَبَ، أوْ أرادَ جَمِيعَ مَن ولَدُوهُ إلى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمْ يَكْفُرْ لِـ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أبٌ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقَرَأ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ والنَّخَعِيُّ والزُّهْرِيُّ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (ولِوَلَدايَ) تَثْنِيَةُ ولَدٍ، يَعْنِي سامًا وحامًا. ﴿ولِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والجُمْهُورُ: مَسْجِدِي. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا: شَرِيعَتِي، اسْتَعارَ لَها بَيْتًا، كَما قالُوا: قُبَّةُ الإسْلامِ وفِسْطاطُهُ. وقِيلَ: سَفِينَتُهُ. وقِيلَ: دارُهُ. ﴿ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ دَعا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنَةٍ في كُلِّ أُمَّةٍ. والتَّبارُ: الهَلاكُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب