الباحث القرآني
(p-٥٢٠)﴿ومِن آياتِهِ الجَوارِي في البَحْرِ كالأعْلامِ﴾ ﴿إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ ﴿أوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ويَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾ ﴿ويَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِنا ما لَهم مِن مَحِيصٍ﴾ ﴿فَما أُوتِيتُمْ مِن شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا وما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وأبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَواحِشَ وإذا ما غَضِبُوا هم يَغْفِرُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وأقامُوا الصَّلاةَ وأمْرُهم شُورى بَيْنَهم ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هم يَنْتَصِرُونَ﴾ ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ ﴿ولَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ﴾ ﴿إنَّما السَّبِيلُ عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ ويَبْغُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن ولِيٍّ مِن بَعْدِهِ وتَرى الظّالِمِينَ لَمّا رَأوُا العَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِن سَبِيلٍ﴾ ﴿وتَراهم يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: ٤٥] .
لَمّا ذَكَرَ تَعالى مِن دَلائِلِ وحْدانِيَّتِهِ أنْواعًا، ذَكَرَ بَعْدَها العالَمَ الأكْبَرَ، وهو السَّماواتُ والأرْضُ؛ ثُمَّ العالَمَ الأصْغَرَ، وهو الحَيَوانُ. ثُمَّ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ المَعادِ، أتْبَعَهُ بِذِكْرِ السُّفُنِ الجارِيَةِ في البَحْرِ، لِما فِيها مِن عَظِيمِ دَلائِلِ القُدْرَةِ، مِن جِهَةِ أنَّ الماءَ جِسْمٌ لَطِيفٌ شَفّافٌ يَغُوصُ فِيهِ الثَّقِيلُ، والسُّفُنُ تَشْخَصُ بِالأجْسامِ الثَّقِيلَةِ الكَثِيفَةِ، ومَعَ ذَلِكَ جَعَلَ تَعالى لِلْماءِ قُوَّةً يَحْمِلُها بِها ويَمْنَعُ مِنَ الغَوْصِ، ثُمَّ جَعَلَ الرِّياحَ سَبَبًا لِسَيْرِها، فَإذا أرادَ أنْ تَرْسُوَ، أسْكَنَ الرِّيحَ، فَلا تَبْرَحُ عَنْ مَكانِها. و﴿الجَوارِي﴾ جَمْعُ جارِيَةٍ، وأصْلُهُ السُّفُنُ الجَوارِي، حُذِفَ المَوْصُوفُ وقامَتْ صِفَتُهُ مَقامَهُ، وحَسَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (في البَحْرِ)، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّها صِفَةٌ لِلسُّفُنِ، وإلّا فَهي صِفَةٌ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ، فَكانَ القِياسُ أنْ لا يُحْذَفَ المَوْصُوفُ ويَقُومَ مَقامَهُ. ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّها صِفَةٌ غالِبَةٌ، كالأبْطَحِ، فَجازَ أنْ تَلِيَ العَوامِلَ بِغَيْرِ ذِكْرِ المَوْصُوفِ. وقُرِئَ (الجَوارِي) بِالياءِ ودُونِها، وسُمِعَ مِنَ العَرَبِ الإعْرابُ في الرّاءِ، و(في البَحْرِ) مُتَعَلِّقٌ بِالجَوارِي، و﴿كالأعْلامِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، والأعْلامُ: الجِبالُ، ومِنهُ قَوْلُ الخَنْساءِ أُخْتِ صَخْرٍ ومُعاوِيَةَ:
؎وإنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الهُداةُ بِهِ كَأنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نارُ
ومِنهُ:
؎إذا قَطَعْنَ عَلَمًا بَدا عَلَمُ
وقَرَأ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: (الرِّيحَ) إفْرادًا، ونافِعٌ: جَمْعًا، وقَرَأ الجُمْهُورُ: (فَيَظْلَلْنَ) بِفَتْحِ اللّامِ، وقَرَأ قَتادَةُ: بِكَسْرِها، والقِياسُ الفَتْحُ؛ لِأنَّ الماضِيَ بِكَسْرِ العَيْنِ، فالكَسْرُ في المُضارِعِ شاذٌّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِن ظَلَّ يَظَلُّ ويَظِلُّ، نَحْوَ ضَلَّ يَضَلُّ ويَضِلُّ. انْتَهى.
ولَيْسَ كَما ذُكِرَ؛ لِأنَّ يَضَلُّ بِفَتْحِ العَيْنِ مِن ضَلِلْتُ بِكَسْرِها في الماضِي، ويَضِلُّ بِكَسْرِها مِن ضَلَلْتُ بِفَتْحِها في الماضِي، وكِلاهُما مَقِيسٌ.
﴿لِكُلِّ صَبّارٍ﴾ عَلى بَلائِهِ، (شَكُورٍ) لِنَعْمائِهِ.
﴿أوْ يُوبِقْهُنَّ﴾: يُهْلِكْهُنَّ، أيِ: الجَوارِي، وهو عَطْفٌ عَلى (يُسْكِنِ)، والضَّمِيرُ في (كَسَبُوا) عائِدٌ عَلى رُكّابِ السُّفُنِ، أيْ: بِذُنُوبِهِمْ. وقَرَأ الأعْمَشُ (ويَعْفُو) بِالواوِ، وعَنْ أهْلِ المَدِينَةِ: بِنَصْبِ الواوِ، والجُمْهُورُ (ويَعْفُ) مَجْزُومًا عَطْفًا عَلى (يُوبِقْهُنَّ) . فَأمّا قِراءَةُ الأعْمَشِ، فَإنَّهُ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، أيْ: لا يُؤاخِذُ بِجَمِيعِ ما اكْتَسَبَ الإنْسانُ. وأمّا النَّصْبُ، فَبِإضْمارِ أنْ بَعْدَ الواوِ، وكالنَّصْبِ بَعْدَ الفاءِ في قِراءَةِ مَن قَرَأ ﴿يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] وبَعْدَ الواوِ في قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎فَإنْ يَهْلَكْ أبُو قابُوسِ يَهْلَكْ ∗∗∗ رَبِيعُ النّاسِ والشَّهْرُ الحَرامُ
؎ونَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنابِ عَيْشٍ ∗∗∗ أجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنامُ
رُوِيَ بِنَصْبِ (ونَأْخُذُ) ورَفْعِهِ وجَزْمِهِ.
وفِي هَذِهِ القِراءَةِ يَكُونُ العَطْفُ عَلى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، أيْ: يَقَعُ إيباقٌ وعَفْوٌ عَنْ كَثِيرٍ. وأمّا الجَزْمُ فَإنَّهُ داخِلٌ في حُكْمِ جَوابِ الشَّرْطِ؛ إذْ هو مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وهو راجِعٌ في المَعْنى إلى قِراءَةِ النَّصْبِ، لَكِنَّ هَذا عَطْفُ فِعْلٍ عَلى فِعْلٍ، وفي النَّصْبِ عَطْفُ مَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ عَلى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ.
وقالَ القُشَيْرِيُّ: وقُرِئَ: (ويَعْفُ) بِالجَزْمِ، وفِيها إشْكالٌ؛ لِأنَّ المَعْنى: إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ، فَتَبْقى (p-٥٢١)تِلْكَ السُّفُنُ رَواكِدُ، أوْ يُهْلِكَها بِذُنُوبِ أهْلِها، فَلا يَحْسُنُ عَطْفُ (ويَعْفُ) عَلى هَذِهِ؛ لِأنَّ المَعْنى يَصِيرُ إنْ يَشَأْ يَعْفُ، ولَيْسَ المَعْنى ذَلِكَ، بَلِ المَعْنى: الإخْبارُ عَنِ الغُيُوبِ عَنْ شَرْطِ المَشِيئَةِ، فَهو إذَنْ عُطِفَ عَلى المَجْزُومِ مِن حَيْثُ اللَّفْظِ، لا مِن حَيْثُ المَعْنى.
وقَدْ قَرَأ قَوْمٌ (ويَعْفُو) بِالرَّفْعِ، وهي جَيِّدَةٌ في المَعْنى. انْتَهى، وما قالَهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ إذْ لَمْ يَفْهَمْ مَدْلُولَ التَّرْكِيبِ. والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى إنْ يَشَأْ أهْلَكَ ناسًا وأنْجى ناسًا عَلى طَرِيقِ العَفْوِ عَنْهم.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): عَلامَ عُطِفَ يُوبِقْهُنَّ ؟ (قُلْتُ): عَلى (يُسْكِنِ) لِأنَّ المَعْنى: إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَرْكُدْنَ، أوْ يَعْصِفْها فَيَغْرَقْنَ بِعَصْفِها. انْتَهى.
ولا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أوْ يَعْصِفُها فَيَغْرَقْنَ؛ لِأنَّ إهْلاكَ السُّفُنِ لا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ بِعَصْفِ الرِّيحِ، بَلْ قَدْ يُهْلِكُها تَعالى بِسَبَبٍ غَيْرِ الرِّيحِ، كَنُزُولِ سَطْحِها بِكَثْرَةِ الثِّقَلِ، أوِ انْكِسارِ اللَّوْحِ يَكُونُ سَبَبًا لِإهْلاكِها، أوْ يَعْرِضُ عَدُوٌّ يُهْلِكُ أهْلَها. وقَرَأ الأعْرَجُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (ويَعْلَمُ) بِالرَّفْعِ عَلى القَطْعِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ويَعْلَمَ) بِالنَّصْبِ؛ قالَ أبُو عَلِيٍّ: وحَسُنَ النَّصْبُ إذا كانَ قَبْلَهُ شَرْطٌ وجَزاءٌ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما غَيْرُ واجِبٍ.
وقالَ الزَّجّاجُ: عَلى إضْمارِ أنْ؛ لِأنَّ قَبْلَها جَزاءً. تَقُولُ: ما تَصْنَعُ أصْنَعُ مِثْلَهُ، وأُكْرِمَكَ، وإنْ شِئْتَ: وأكْرِمُكَ، عَلى: وأنا أُكْرِمُكَ، وإنْ شِئْتَ: وأُكْرِمْكَ جَزْمًا.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ، لِما أوْرَدَهُ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ قالَ: واعْلَمْ أنَّ النَّصْبَ بِالفاءِ والواوِ في قَوْلِهِ: إنْ تَأْتِنِي آتِكَ وأُعْطِيكَ ضَعِيفٌ، وهو نَحْوٌ مِن قَوْلِهِ:
؎وألْحَقُ بِالحِجازِ فَأسْتَرِيحا
فَهَذا لا يَجُوزُ، ولَيْسَ بِحَدِّ الكَلامِ ولا وجْهِهِ، إلّا أنَّهُ في الجَزاءِ صارَ أقْوى قَلِيلًا؛ لِأنَّهُ لَيْسَ بِواجِبٍ أنَّهُ يَفْعَلُ إلّا أنْ يَكُونَ مِنَ الأوَّلِ فِعْلٌ.
فَلَمّا ضارَعَ الَّذِي لا يُوجِبُهُ، كالِاسْتِفْهامِ ونَحْوِهِ، أجازُوا فِيهِ هَذا عَلى ضَعْفِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولا يَجُوزُ أنْ تُحْمَلَ القِراءَةُ المُسْتَفِيضَةُ عَلى وجْهٍ ضَعِيفٍ لَيْسَ بِحَدِّ الكَلامِ ولا وجْهِهِ، ولَوْ كانَتْ مِن هَذا البابِ، لَما أخْلى سِيبَوَيْهِ مِنها كِتابَهُ، وقَدْ ذَكَرَ نَظائِرَها مِنَ الآياتِ المُشْكَلَةِ. انْتَهى.
وخَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ النَّصْبَ عَلى أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ، قالَ: تَقْدِيرُهُ: لِيَنْتَقِمَ مِنهم ويَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ، يُكْرَهُ في العَطْفِ عَلى التَّعْلِيلِ المَحْذُوفِ غَيْرُ عَزِيزٍ في القُرْآنِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ﴾ [البقرة: ٢٥٩]، وقَوْلُهُ: ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ﴾ [العنكبوت: ٤٤]، ﴿ولِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [الجاثية: ٢٢] . انْتَهى.
ويَبْعُدُ تَقْدِيرُهُ لِيَنْتَقِمَ مِنها؛ لِأنَّهُ تَرَتَّبَ عَلى الشَّرْطِ إهْلاكُ قَوْمٍ، فَلا يَحْسُنُ لِيَنْتَقِمَ مِنهم. وأمّا الآيَتانِ فَيُمْكِنُ أنْ تَكُونَ اللّامُ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: ﴿ولِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ﴾ [مريم: ٢١]، ﴿ولِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [الجاثية: ٢٢] . فَعَلْنا ذَلِكَ، وكَثِيرًا ما يُقَدَّرُ هَذا الفِعْلُ مَحْذُوفًا قَبْلَ لامِ العِلَّةِ، إذا لَمْ يَكُنْ فِعْلٌ ظاهِرٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ.
وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: (ويَعْلَمَ) قُرِئَ بِالجَزْمِ، (فَإنْ قُلْتَ): فَكَيْفَ يَصِحُّ المَعْنى عَلى جَزْمِ (ويَعْلَمَ) ؟ (قُلْتُ): كَأنَّهُ قالَ: أوْ إنْ يَشَأْ يَجْمَعُ بَيْنَ ثَلاثَةِ أُمُورٍ: هَلاكِ قَوْمٍ، ونَجاةِ قَوْمٍ، وتَحْذِيرِ آخَرِينَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ويَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِنا ما لَهم مِن مَحِيصٍ﴾ يَتَضَمَّنُ تَحْذِيرَهم مِن عِقابِ اللَّهِ، و﴿ما لَهم مِن مَحِيصٍ﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ لِأنَّ (يَعْلَمَ) مُعَلَّقَةٌ، كَقَوْلِكَ: عَلِمْتُ ما زَيْدٌ قائِمٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ في قِراءَةِ النَّصْبِ: وهَذِهِ الواوُ ونَحْوُها الَّتِي تُسَمِّيها الكُوفِيُّونَ واوَ الصَّرْفِ؛ لِأنَّ حَقِيقَةَ واوِ الصَّرْفِ الَّتِي يُرِيدُونَها عَطْفُ فِعْلٍ عَلى اسْمٍ مُقَدَّرٍ، فَيُقَدَّرُ أنْ لِيَكُونَ مَعَ الفِعْلِ بِتَأْوِيلِ المَصْدَرِ، فَيَحْسُنُ عَطْفُهُ عَلى الِاسْمِ. انْتَهى.
ولَيْسَ قَوْلُهُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِمْ: واوُ الصَّرْفِ، إنَّما هو تَقْرِيرٌ لِمَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ. وأمّا الكُوفِيُّونَ فَإنَّ واوَ الصَّرْفِ ناصِبَةٌ بِنَفْسِها، لا بِإضْمارِ أنْ بَعْدَها.
وقالَ أبُو عُبَيْدٍ عَلى الصَّرْفِ كالَّذِي في آلِ عِمْرانَ: ﴿ولَمّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنكم ويَعْلَمَ الصّابِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٢]، ومَعْنى الصَّرْفِ أنَّهُ كانَ عَلى جِهَةٍ فَصُرِفَ إلى غَيْرِها، فَتَغَيَّرَ الإعْرابُ لِأجْلِ الصَّرْفِ. والعَطْفُ لا يُعَيِّنُ الِاقْتِرانَ في الوُجُودِ، كالعَطْفِ في الِاسْمِ، نَحْوُ: جاءَ زَيْدٌ وعَمْرٌو. ولَوْ نُصِبَ (وعَمْرُو) اقْتَضى الِاقْتِرانَ؛ (p-٥٢٢)وكَذَلِكَ واوُ الصَّرْفِ، لِيُفِيدَ مَعْنى الِاقْتِرانِ ويُعَيِّنَ مَعْنى الِاجْتِماعِ، ولِذَلِكَ أُجْمِعَ عَلى النَّصْبِ في قَوْلِهِ: ﴿ويَعْلَمَ الصّابِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٢]، أيْ: ويَعْلَمَ المُجاهِدِينَ والصّابِرِينَ مَعًا.
عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجْتَمَعَ لِأبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مالٌ، فَتَصَدَّقَ بِهِ كُلِّهِ في سَبِيلِ اللَّهِ والخَيْرِ، فَلامَهُ المُسْلِمُونَ وخَطَّأهُ الكافِرُونَ، فَنَزَلَتْ: ﴿فَما أُوتِيتُمْ مِن شَيْءٍ﴾، والظّاهِرُ أنَّهُ خِطابٌ لِلنّاسِ.
وقِيلَ: لِلْمُشْرِكِينَ، وما شَرْطِيَّةٌ مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ (أُوتِيتُمْ)، و(مِن شَيْءٍ) بَيانٌ لِما، والمَعْنى: مِن شَيْءٍ مِن رِياشِ الدُّنْيا ومالِها والسَّعَةِ فِيها، والفاءُ جَوابُ الشَّرْطِ، أيْ: فَهو مَتاعٌ، أيْ: يُسْتَمْتَعُ في الحَياةِ.
(وما عِنْدَ اللَّهِ) أيْ: مِن ثَوابِهِ وما أعَدَّ لِأوْلِيائِهِ، ﴿خَيْرٌ وأبْقى﴾ مِمّا أُوتِيتُمْ؛ لِأنَّهُ لا انْقِطاعَ لَهُ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في الكَبائِرِ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النساء: ٣١]، في النِّساءِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (كَبائِرَ) جَمْعًا هُنا، وفي النَّجْمِ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: بِالإفْرادِ.
﴿والَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ﴾: عُطِفَ عَلى (الَّذِينَ آمَنُوا)، وكَذَلِكَ ما بَعْدَهُ. ووَقَعَ لِأبِي البَقاءِ وهْمٌ في التِّلاوَةِ، اعْتَقَدَ أنَّها الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ بِغَيْرِ واوٍ، فَبَنى عَلَيْهِ الإعْرابَ فَقالَ: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ﴾ [النجم: ٣٢] في مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِنَ (الَّذِينَ آمَنُوا) ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإضْمارٍ، أعْنِي: وفي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى تَقْدِيرِ هم. انْتَهى.
والعامِلُ في (إذا) ﴿يَغْفِرُونَ﴾ وهي جُمْلَةٌ مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ مَعْطُوفَةٌ عَلى (يَجْتَنِبُونَ) ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (هم) تَوْكِيدًا لِلْفاعِلِ في ﴿غَضِبُوا﴾ .
وقالَ أبُو البَقاءِ (هم) مُبْتَدَأٌ، و(يَغْفِرُونَ) الخَبَرُ، والجُمْلَةُ جَوابُ (إذا) . انْتَهى، وهَذا لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ الجُمْلَةَ لَوْ كانَتْ جَوابَ (إذا) لَكانَتْ بِالفاءِ، تَقُولُ: إذا جاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ، ولا يَجُوزُ حَذْفُ الفاءِ إلّا إنْ ورَدَ في شِعْرٍ. وقِيلَ: (هم) مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ (يَغْفِرُونَ) ولَمّا حُذِفَ انْفَصَلَ الضَّمِيرُ، وهَذا القَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ، وهو أنَّ جَوابَ (إذا) يُفَسَّرُ كَما يُفَسَّرُ فِعْلُ الشَّرْطِ بَعْدَها، نَحْوُ: ﴿إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾ [الإنشقاق: ١]، ولا يَبْعُدُ جَوازُ ذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، إذْ جاءَ ذَلِكَ في أداةِ الشَّرْطِ الجازِمَةِ، نَحْوُ: إنْ يَنْطَلِقْ زَيْدٌ يَنْطَلِقُ، فَزِيدٌ عِنْدَهُ فاعِلٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الجَوابُ، أيْ: يَنْطَلِقُ زَيْدٌ، مَنَعَ ذَلِكَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هم يَغْفِرُونَ، أيْ: هُمُ الأخِصّاءُ بِالغُفْرانِ، في حالِ الغَضَبِ لا يَغُولُ الغَضَبُ أحْلامَهم، كَما يَغُولُ حُلُومَ النّاسِ. والمَجِيءُ لَهم وإيقاعُهُ مُبْتَدَأٌ، وإسْنادُ (يَغْفِرُونَ) إلَيْهِ لِهَذِهِ الفائِدَةِ. انْتَهى، وفِيهِ حَضٌّ عَلى كَسْرِ الغَضَبِ.
وفِي الحَدِيثِ: «أوْصِنِي، قالَ: لا تَغْضَبْ، قالَ: زِدْنِي، قالَ: لا تَغْضَبْ، قالَ: زِدْنِي، قالَ: لا تَغْضَبْ» .
﴿والَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ﴾، قِيلَ: نَزَلَتْ في الأنْصارِ، دَعاهُمُ اللَّهُ لِلْإيمانِ بِهِ وطاعَتِهِ فاسْتَجابُوا لَهُ. وكانُوا قَبْلَ الإسْلامِ، وقَبْلَ أنْ يُقْدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ، إذا نابَهم أمْرٌ تَشاوَرُوا، فَأثْنى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لا يَنْفَرِدُونَ بِأمْرٍ حَتّى يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ.
وعَنِ الحَسَنِ: ما تَشاوَرَ قَوْمٌ إلّا هُدُوا لِأرْشَدِ أمْرِهِمْ. انْتَهى.
وفِي الشُّورى اجْتِماعُ الكَلِمَةِ والتَّحابُّ والتَّعاضُدُ عَلى الخَيْرِ. وقَدْ شاوَرَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فِيما يَتَعَلَّقُ بِمَصالِحَ الحُرُوبِ، والصَّحابَةُ بَعْدَهُ في ذَلِكَ، كَمُشاوَرَةِ عُمَرُ لِلْهُرْمُزِ. وفي الأحْكامِ، كَقِتالِ أهْلِ الرِّدَّةِ، ومِيراثِ الحَرْبِيِّ، وعَدَدِ مُدْمِنِي الخَمْرِ، وغَيْرِ ذَلِكَ.
والشُّورى مَصْدَرٌ كالفُتْيا بِمَعْنى التَّشاوُرِ، عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: وأمْرُهم ذُو شُورى بَيْنِهِمْ. و﴿هم يَنْتَصِرُونَ﴾: صِلَةٌ لِلَّذِينِ، وإذا مَعْمُولَةٌ لِـ (يَنْتَصِرُونَ)، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿هم يَنْتَصِرُونَ﴾ جَوابًا لـ (إذا) والجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وجَوابُها صِلَةٌ لِما ذَكَرْناهُ مِن لُزُومِ الفاءِ، ويَجُوزُ هُنا أنْ يَكُونَ (هم) فاعِلًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ عَلى ذَلِكَ القَوْلِ الَّذِي قِيلَ في ﴿هم يَغْفِرُونَ﴾ . وقالَ الحَوْفِيُّ: وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ (هم) تَوْكِيدًا لِلْهاءِ والمِيمِ، يَعْنِي في (أصابَهم) وهو ضَمِيرُ رَفْعٍ، وفي هَذا نَظَرٌ، وفِيهِ الفَصْلُ بَيْنَ المُؤَكَّدِ والتَّوْكِيدِ بِالفاعِلِ، وهو فِعْلٌ، الظّاهِرُ أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ، والِانْتِصارُ: أنْ يَقْتَصِرَ عَلى ما حَدَّهُ اللَّهُ لَهُ ولا يَعْتَدِي.
وقالَ النَّخَعِيُّ: كانُوا يَكْرَهُونَ أنْ يُذِلُّوا أنْفَسَهم، فَتَجْتَرِئُ عَلَيْهِمُ الفُسّاقُ، ومَنِ انْتَصَرَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَهو مُطِيعٌ مَحْمُودٌ. وقالَ مُقاتِلٌ، وهِشامٌ عَنْ عُرْوَةَ: الآيَةُ في المَجْرُوحِ يَنْتَصِفُ مِنَ الجارِحِ بِالقِصاصِ. وقالَ (p-٥٢٣)ابْنُ عَبّاسٍ: تَعَدّى المُشْرِكُونَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعَلى أصْحابِهِ، وأخْرَجُوهم مِن مَكَّةَ، فَأذِنَ اللَّهُ لَهم بِالخُرُوجِ في الأرْضِ، ونَصَرَهم عَلى مَن بَغى عَلَيْهِمْ.
وقالَ الكِيا الطَّبَرِيُّ: ظاهِرُهُ أنَّ الِانْتِصارَ في هَذا المَوْضِعِ أفْضَلُ، ألا تَرى أنَّهُ قَرَنَهُ إلى ذِكْرِ الِاسْتِجابَةِ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ وإقامَةِ الصَّلاةِ ؟ فَهَذا عَلى ما ذَكَرَهُ النَّخَعِيُّ، وهَذا فِيمَن تَعَدّى وأصَرَّ، والمَأْمُورُ فِيهِ بِالعَفْوِ إذا كانَ الجانِي نادِمًا مُقْلِعًا. وقَدْ قالَ عَقِيبَ هَذِهِ الآيَةِ ﴿ولَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾ الآيَةَ، فَيَقْتَضِي إباحَةَ الِانْتِصارِ. وقَدْ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ﴾، وهَذا مَحْمُولٌ، عَلى القُرْآنِ عِنْدَ غَيْرِ المُصِرِّ. فَأمّا المُصِرُّ عَلى البَغْيِ، فالأفْضَلُ الِانْتِصارُ مِنهُ بِدَلِيلِ الآيَةِ قَبْلَها. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: المَعْنى تَناصَرُوا عَلَيْهِ فَأزالُوهُ عَنْهم.
وقالَ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ نَحْوًا مِن قَوْلِ الكِيا.
قالَ الجُمْهُورُ: إذا بَغى مُؤْمِنٌ عَلى مُؤْمِنٍ فَلا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَنْتَصِرَ مِنهُ بِنَفْسِهِ، بَلْ يَرْفَعُ ذَلِكَ إلى الإمامِ أوْ نائِبِهِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: لَهُ ذَلِكَ.
﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾: هَذا بَيانٌ لِلِانْتِصارِ، أيْ: لا يَتَعَدّى فِيما يُجازِي بِهِ مَن بَغى عَلَيْهِ.
قالَ ابْنُ أبِي نَجِيحٍ، والسُّدِّيُّ: إذا شُتِمَ فَلَهُ أنْ يَرُدَّ مِثْلَ ما شُتِمَ بِهِ دُونَ أنْ يَتَعَدّى، وسُمِّيَ القِصاصُ سَيِّئَةً عَلى سَبِيلِ المُقابَلَةِ، أوْ لِأنَّها تَسُوءُ مَنِ اقْتُصَّ مِنهُ، كَما ساءَتِ الحَيْضُ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: (مِثْلُها) المُماثَلَةُ مُطْلَقًا في كُلِّ الأحْوالِ، لا فِيما خَصَّهُ الدَّلِيلُ. والفُقَهاءُ أدْخَلُوا التَّخْصِيصَ في صُوَرٍ كَثِيرَةٍ بِناءً عَلى القِياسِ.
قالَ مُجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ: إذا قالَ لَهُ: أخْزاكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: أخْزاكَ اللَّهُ، وإذا قَذَفَهُ قَذْفًا يُوجِبُ الحَدَّ، بَلِ الحَدُّ الَّذِي أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ.
﴿فَمَن عَفا وأصْلَحَ﴾ أيْ: بَيْنَهُ وبَيْنَ خَصْمِهِ بِالعَفْوِ، ﴿فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾: عِدَةٌ مُبْهَمَةٌ لا يُقاسُ عِظَمُها؛ إذْ هي عَلى اللَّهِ.
﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ أيِ: الخائِنِينَ، وإذا كانَ لا يُحِبُّهُ وقَدْ نُدِبَ إلى العَفْوِ عَنْهُ، فالعَفْوُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ أوْلى أنْ يَعْفِيَ عَنْهُ، أوْ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ مَن تَجاوَزَ واعْتَدى مِنَ المَجْنِيِّ عَلَيْهِمْ، إذا انْتَصَرُوا خُصُوصًا في حالَةِ الحَرْبِ والتِهابِ الحَمِيَّةِ، فَرُبَّما يَظْلِمُ وهو لا يَشْعُرُ.
وفِي الحَدِيثِ: «إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ نادى مُنادٍ: مَن كانَ لَهُ أجْرٌ عَلى اللَّهِ فَلْيَقُمْ، قالَ: فَيَقُومُ خَلْقٌ، فَيُقالُ لَهم: ما أجْرُكم عَلى اللَّهِ ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ عَفَوْنا عَمَّنْ ظَلَمَنا، فَيُقالُ لَهُمُ: ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِإذْنِ اللَّهِ» .
واللّامُ في ﴿ولَمَنِ انْتَصَرَ﴾ لامُ تَوْكِيدٍ. قالَ الحَوْفِيُّ: وفِيها مَعْنى القَسَمِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لامُ التِقاءِ القَسَمِ، يَعْنِيانِ أنَّها اللّامُ الَّتِي يُتَلَقّى بِها القَسَمُ، فالقَسَمُ قَبْلَها مَحْذُوفٌ، ومَن شُرْطِيَّةٌ، وحُمِلَ ﴿انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾ عَلى لَفْظِ (مَن) و(فَأُولَئِكَ) عَلى مَعْنى (مَن) والفاءُ جَوابُ الشَّرْطِ، و(ظُلْمِهِ) مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى المَفْعُولِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويُفَسِّرُهُ قِراءَةُ مَن قَرَأ (بَعْدَ ما ظُلِمَ) .
﴿ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ﴾، قِيلَ أيْ: مِن طَرِيقٍ إلى الحَرَجِ؛ وقِيلَ: مِن سَبِيلٍ لِلْمُعاقِبِ، ولا المُعاتِبِ والعاتِبِ، وهَذِهِ مُبالَغَةٌ في إباحَةِ الِانْتِصارِ.
﴿إنَّما السَّبِيلُ﴾ أيْ: سَبِيلُ الإثْمِ والحَرَجِ، ﴿عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ﴾ أيْ: يَبْتَذِلُونَ بِالظُّلْمِ، ﴿ويَبْغُونَ في الأرْضِ﴾ أيْ: يَتَكَبَّرُونَ فِيها ويَعْلُونَ ويُفْسِدُونَ. وقِيلَ: (ويَظْلِمُونَ النّاسَ) أيْ: يَضَعُونَ الأشْياءَ غَيْرَ مَواضِعِها مِنَ القَتْلِ وأخْذِ المالِ والأذى بِاليَدِ واللِّسانِ.
والبَغْيُ بِغَيْرِ الحَقِّ، فَهو نَوْعٌ مِن أنْواعِ الظُّلْمِ، خَصَّهُ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلى شِدَّتِهِ وسُوءِ حالِ صاحِبِهِ. انْتَهى.
﴿ولَمَن صَبَرَ﴾ أيْ: عَلى الظُّلْمِ والأذى، (وغَفَرَ)، ولَمْ يَنْتَصِرْ. واللّامُ في (ولَمَن) يَجُوزُ أنْ تَكُونَ اللّامَ المُوَطِّئَةَ القَسَمَ المَحْذُوفَ، ومَن شَرْطِيَّةٌ، وجَوابُ القَسَمِ قَوْلُهُ: (إنَّ ذَلِكَ)، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ جَوابِ القَسَمِ عَلَيْهِ.
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اللّامُ لامَ الِابْتِداءِ، ومَن مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً، والجُمْلَةُ المُؤَكَّدَةُ بِإنَّ في مَوْضِعِ الخَبَرِ.
وقالَ الحَوْفِيُّ: (مَن) رُفِعَ بِالِابْتِداءِ وأُضْمِرَ الخَبَرُ، وجَوابُ الشَّرْطِ إنَّ وما تَعَلَّقَتْ بِهِ عَلى حَذْفِ الفاءِ، كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎مِن يَفْعَلُ الحَسَناتِ اللَّهُ يَشْكُرُها
أيْ: فاللَّهُ يَشْكُرُها. انْتَهى، وهَذا لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ حَذْفَ الفاءِ مَخْصُوصٌ بِالشِّعْرِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى ما يُفْهَمُ مِن مَصْدَرِ صَبَرَ وغَفَرَ، والعائِدُ عَلى المَوْصُولِ المُبْتَدَأِ مِنَ الخَبَرِ مَحْذُوفٌ، أيْ: إنَّ ذَلِكَ مِنهُ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ: ﴿لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾، إنْ كانَ ذَلِكَ (p-٥٢٤)إشارَةً إلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ﴾، لَمْ يَكُنْ في ﴿عَزْمِ الأُمُورِ﴾ حَذْفٌ، وإنْ كانَ ذَلِكَ إشارَةً إلى المُبْتَدَأِ، كانَ هو الرّابِطُ، ولا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرٍ مِنهُ، وكانَ في ﴿عَزْمِ الأُمُورِ﴾، أيْ: إنَّهُ لَمِن ذَوِي عَزْمِ الأُمُورِ.
وسَبَّ رَجُلٌ آخَرَ في مَجْلِسِ الحَسَنِ، فَكانَ المَسْبُوبُ يَكْظِمُ ويَعْرَقُ ويَمْسَحُ العَرَقَ، ثُمَّ قامَ فَتَلا الآيَةَ، فَقالَ الحَسَنُ: عَقَلَها واللَّهِ وفَهِمَها لِمَ هَذِهِ ضَيَّعَها الجاهِلُونَ.
والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: (إنَّما السَّبِيلُ) اعْتِراضٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿ولَمَنِ انْتَصَرَ﴾، وقَوْلِهِ: ﴿ولَمَن صَبَرَ﴾ .
﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن ولِيٍّ مِن بَعْدِهِ﴾ أيْ: مِن ناصِرٍ يَتَوَلّاهُ (مِن بَعْدِهِ) أيْ: مِن بَعْدِ إضْلالِهِ، وهَذا تَحْقِيرٌ لِأمْرِ الكَفَرَةِ.
﴿وتَرى الظّالِمِينَ﴾: الخِطابُ لِلرَّسُولِ، والمَعْنى: وتَرى حالَهم وما هم فِيهِ مِنَ الحَيْرَةِ، ﴿لَمّا رَأوُا العَذابَ﴾، يَقُولُونَ: ﴿هَلْ إلى مَرَدٍّ مِن سَبِيلٍ﴾: هَلْ سَبِيلٌ إلى الرَّدِّ لِلدُّنْيا ؟ وذَلِكَ مِن فَظِيعِ ما اطَّلَعُوا عَلَيْهِ، وسُوءِ ما يَحِلُّ بِهِمْ.
﴿وتَراهم يُعْرَضُونَ عَلَيْها﴾ [الشورى: ٤٥] أيْ: عَلى النّارِ، دَلَّ عَلَيْها ذِكْرُ العَذابِ، (خاشِعِينَ) مُتَضائِلِينَ صاغِرِينَ مِمّا يَلْحَقُهم، (مِنَ الذُّلِّ) .
وقَرَأ طَلْحَةُ: (مِنَ الذِّلِّ)، بِكَسْرِ الذّالِ؛ والجُمْهُورُ: بِالضَّمِّ، والخُشُوعُ: الِاسْتِكانَةُ، وهو مَحْمُودٌ. وإنَّما أخْرَجَهُ إلى الذَّمِّ اقْتِرانُهُ بِالعَذابِ. وقِيلَ: (مِنَ الذُّلِّ) مُتَعَلِّقٌ بِـ ﴿يَنْظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: ٤٥] .
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ذَلِيلٍ. انْتَهى.
قِيلَ: ووُصِفَ بِالخَفاءِ؛ لِأنَّ نَظَرَهم ضَعِيفٌ ولَحْظُهم نِهايَةٌ، قالَ الشّاعِرُ:
؎فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِن نُمَيْرٍ
وقِيلَ: يُحْشَرُونَ عُمْيًا. ولَمّا كانَ نَظَرُهم بِعُيُونِ قُلُوبِهِمْ، جَعَلَهُ طَرَفًا خَفِيًّا، أيْ: لا يَبْدُو نَظَرُهم، وهَذا التَّأْوِيلُ فِيهِ تُكَلُّفٌ.
وقالَ السُّدِّيُّ، وقَتادَةُ: المَعْنى يُسارِقُونَ النَّظَرَ لِما كانُوا فِيهِ مِنَ الهَمِّ وسُوءِ الحالِ، لا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ بِجَمِيعِ العَيْنِ، وإنَّما يَنْظُرُونَ مِن بَعْضِها، فَيَجُوزُ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ أنْ يَكُونَ الطَّرْفُ مَصْدَرًا، أيْ: مِن نَظَرٍ خَفِيٍّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: ٤٥]، أيْ: يَبْتَدِئُ نَظَرُهم مِن تَحْرِيكٍ لِأجْفانِهِمْ ضَعِيفٍ خَفِيٍّ بِمُسارَقَةٍ، كَما تَرى المُصَوِّرَ يَنْظُرُ إلى السَّيْفِ، وهَكَذا نَظَرُ النّاظِرِ إلى المَكارِهِ، ولا يَقْدِرُ أنْ يَفْتَحَ أجْفانَهُ عَلَيْها ويَمْلَأ عَيْنَهُ مِنها، كَما يَفْعَلُ في نَظَرِهِ إلى المُتَحابِّ.
{"ayahs_start":32,"ayahs":["وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِی ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَـٰمِ","إِن یَشَأۡ یُسۡكِنِ ٱلرِّیحَ فَیَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورٍ","أَوۡ یُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُوا۟ وَیَعۡفُ عَن كَثِیرࣲ","وَیَعۡلَمَ ٱلَّذِینَ یُجَـٰدِلُونَ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِیصࣲ","فَمَاۤ أُوتِیتُم مِّن شَیۡءࣲ فَمَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ","وَٱلَّذِینَ یَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰۤىِٕرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَ ٰحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا۟ هُمۡ یَغۡفِرُونَ","وَٱلَّذِینَ ٱسۡتَجَابُوا۟ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَیۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ","وَٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغۡیُ هُمۡ یَنتَصِرُونَ","وَجَزَ ٰۤؤُا۟ سَیِّئَةࣲ سَیِّئَةࣱ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ","وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَا عَلَیۡهِم مِّن سَبِیلٍ","إِنَّمَا ٱلسَّبِیلُ عَلَى ٱلَّذِینَ یَظۡلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَیَبۡغُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ","وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَ ٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ","وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن وَلِیࣲّ مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ وَتَرَى ٱلظَّـٰلِمِینَ لَمَّا رَأَوُا۟ ٱلۡعَذَابَ یَقُولُونَ هَلۡ إِلَىٰ مَرَدࣲّ مِّن سَبِیلࣲ"],"ayah":"وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِی ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَـٰمِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق