الباحث القرآني
(p-١٠٥)﴿ومِن آياتِهِ الجَوارِي في البَحْرِ كالأعْلامِ﴾ ﴿إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّياحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ ﴿أوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ويَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾
لَمّا جَرى تَذْكِيرُهم بِأنَّ ما أصابَهم مِن مُصِيبَةٍ هو مُسَبَّبٌ عَنِ اقْتِرافِ أعْمالِهِمْ، وتَذْكِيرِهِمْ بِحُلُولِ المَصائِبِ تارَةً وكَشْفِها تارَةً أُخْرى بَقَوْلِهِ: ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، وأعْقَبَ بِأنَّهم في الحالَتَيْنِ غَيْرُ خارِجِينَ عَنْ قَبْضَةِ القُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ سِيقَ لَهم ذِكْرُ هَذِهِ الآيَةِ جامِعَةً مِثالًا لِإصابَةِ المَصائِبِ وظُهُورِ مَخائِلِها المُخِيفَةِ المُذَكِّرَةِ بِما يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ والَّتِي قَدْ تَأْتِي بِما أُنْذِرُوا بِهِ وقَدْ تَنْكَشِفُ عَنْ غَيْرِ ضُرٍّ، ودَلِيلًا عَلى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وأنَّهُ لا مَحِيصَ عَنْ إصابَةِ ما أرادَهُ، وإدْماجًا لِلتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ السَّيْرِ في البَحْرِ وتَسْخِيرِ البَحْرِ لِلنّاسِ فَإنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ، قالَ تَعالى: ﴿والفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي في البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ﴾ [البقرة: ١٦٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ، فَكانَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ اعْتِراضًا مِثْلَ جُمْلَةِ ﴿ومِن آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الشورى: ٢٩] .
والآياتُ: الأدِلَّةُ الدّالَّةُ عَلى الحَقِّ.
والجَوارِي: جَمْعُ جارِيَةٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ البَحْرِ، أيِ السُّفُنُ الجَوارِي في البَحْرِ كَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الحاقَّةِ ﴿إنّا لَمّا طَغى الماءُ حَمَلْناكم في الجارِيَةِ﴾ [الحاقة: ١١] . وعَدَلَ عَنِ: الفُلْكِ إلى الجِوارِ إيماءً إلى مَحَلِّ العِبْرَةِ لِأنَّ العِبْرَةَ في تَسْخِيرِ البَحْرِ لِجَرْيِها وتَفْكِيرِ الإنْسانِ في صُنْعِها.
والأعْلامُ: جَمْعُ عَلَمٍ وهو الجَبَلُ، والمُرادُ: بِالجَوارِي السُّفُنُ العَظِيمَةُ الَّتِي تَسَعُ ناسًا كَثِيرِينَ، والعِبْرَةُ بِها أظْهَرُ والنِّعْمَةُ بِها أكْثَرُ.
وكُتِبَتْ كَلِمَةُ الجِوارِ في المُصْحَفِ بِدُونِ ياءٍ بَعْدَ الرّاءِ ولَها نَظائِرُ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ في الرَّسْمِ والقِراءَةِ، ولِلْقُرّاءِ في أمْثالِها اخْتِلافٌ وهي الَّتِي تُدْعى عِنْدَ عُلَماءِ القِراءاتِ بِالياءاتِ الزَّوائِدِ.
وقَرَأ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو وأبُو جَعْفَرٍ (الجَوارِي) في هَذِهِ السُّورَةِ بِإثْباتِ الياءِ في (p-١٠٦)حالَةِ الوَصْلِ وبِحَذْفِها في حالَةِ الوَقْفِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ويَعْقُوبُ بِإثْباتِ الياءِ في الحالَيْنِ. وقَرَأ الباقُونَ بِحَذْفِها في الحالَيْنِ.
وإسْكانُ الرِّياحِ: قَطْعُ هُبُوبِها، فَإنَّ الرِّيحَ حَرَكَةٌ وتَمَوُّجٌ في الهَواءِ فَإذا سَكَنَ ذَلِكَ التَّمَوُّجُ فَلا رِيحَ.
وقَرَأ نافِعٌ (الرِّياحَ) بِلَفْظِ الجَمْعِ. وقَرَأهُ الباقُونَ الرِّيحَ بِلَفْظِ المُفْرَدِ. وفي قِراءَةِ الجُمْهُورِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الرِّيحَ قَدْ تُطْلَقُ بِصِيغَةِ الإفْرادِ عَلى رِيحِ الخَيْرِ، وما قِيلَ: إنَّ الرِّياحَ لِلْخَيْرِ والرِّيحَ لِلْعَذابِ في القُرْآنِ هو غالِبٌ لا مُطَّرِدٌ. وقَدْ قُرِئَ في آياتٍ أُخْرى الرِّياحَ والرِّيحَ في سِياقِ الخَيْرِ دُونَ العَذابِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ يَشَأْ بِهَمْزَةٍ ساكِنَةٍ. وقَرَأهُ ورْشٌ عَنْ نافِعٍ مِن طَرِيقِ الأصْفَهانِيِّ بِألَفٍ عَلى أنَّهُ تَخْفِيفٌ لِلْهَمْزَةِ.
والرَّواكِدُ: جَمْعُ راكِدَةٍ، والرُّكُودُ: الِاسْتِقْرارُ والثُّبُوتُ.
والظَّهْرُ: الصُّلْبُ لِلْإنْسانِ والحَيَوانِ، ويُطْلَقُ عَلى أعْلى الشَّيْءِ إطْلاقًا شائِعًا. يُقالُ: ظَهْرُ البَيْتِ، أيْ سَطْحُهُ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَيْسَ البِرُّ بِأنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِها﴾ [البقرة: ١٨٩] . وأصْلُهُ: اسْتِعارَةٌ فَشاعَتْ حَتّى قارَبَتِ الحَقِيقَةَ، فَظَهْرُ البَحْرِ سَطْحُ مائِهِ البادِي لِلنّاظِرِ، كَما أُطْلِقَ ظَهْرُ الأرْضِ عَلى ما يَبْدُو مِنها، قالَ تَعالى: ﴿ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِن دابَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥] .
وجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ لِأنَّ في الحالَتَيْنِ خَوْفًا ونَجاةً، والخَوْفُ يَدْعُو إلى الصَّبْرِ، والنَّجاةُ تَدْعُو إلى الشُّكْرِ. والمُرادُ: أنَّ في ذَلِكَ آياتٍ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مُتَخَلِّقٍ بِخُلُقِ الصَّبْرِ عَلى الضَّرّاءِ والشُّكْرِ لِلسَّرّاءِ، فَهو يَعْتَبِرُ بِأحْوالِ الفُلْكِ في البَحْرِ اعْتِبارًا يُقارِنُهُ الصَّبْرُ أوِ الشُّكْرُ.
وإنَّما جَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِتِلْكَ الآيَةِ فَيَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالإلَهِيَّةِ بِخِلافِ المُشْرِكِينَ فَإنَّها تَمُرُّ بِأعْيُنِهِمْ فَلا يَعْتَبِرُونَ بِها.
وقَوْلُهُ أوْ يُوبِقْهُنَّ عَطْفٌ عَلى جَزاءِ الشَّرْطِ.
ويُوبِقْهُنَّ: يُهْلِكُهُنَّ. والإيباقُ: الإهْلاكُ، وفِعْلُهُ وبَقَ كَوَعَدَ. والمُرادُ بِهِ (p-١٠٧)هُنا الغَرَقُ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ جَماعَةِ الإناثِ عائِدًا إلى الجَوارِ عَلى أنْ يُسْتَعارَ الإيباقِ لِلْإغْراقِ لِأنَّ الإغْراقَ إتْلافٌ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عائِدًا إلى الرّاكِبِينَ عَلى تَأْوِيلِ مُعادِ الضَّمِيرِ بِالجَماعاتِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بِما كَسَبُوا فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: ٢٧] ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج: ٢٨] .
والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وهو في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ بِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠] .
ويَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ عَطْفٌ عَلى يُوبِقْهُنَّ فَهو في مَعْنى جَزاءٍ لِلشَّرْطِ المُقَدَّرِ، أيْ وإنْ يَشَأْ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ فَلا يُوبِقُهم مَعَ اسْتِحْقاقِهِمْ أنْ يُوبَقُوا. وهَذا العَطْفُ اعْتِراضٌ.
{"ayahs_start":32,"ayahs":["وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِی ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَـٰمِ","إِن یَشَأۡ یُسۡكِنِ ٱلرِّیحَ فَیَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورٍ","أَوۡ یُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُوا۟ وَیَعۡفُ عَن كَثِیرࣲ"],"ayah":"وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِی ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَـٰمِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق