الباحث القرآني

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿إذْ قالَ لَهم أخُوهم صالِحٌ ألا تَتَّقُونَ﴾ ﴿إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ ﴿وما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أتُتْرَكُونَ في ما هاهُنا آمِنِينَ فِي﴾ ﴿فِي جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿وزُرُوعٍ ونَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ﴾ ﴿وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا فارِهِينَ﴾ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ ﴿ولا تُطِيعُوا أمْرَ المُسْرِفِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ولا يُصْلِحُونَ﴾ ﴿قالُوا إنَّما أنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ﴾ ﴿ما أنْتَ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿قالَ هَذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ ولَكم شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ ﴿ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكم عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿فَعَقَرُوها فَأصْبَحُوا نادِمِينَ﴾ ﴿فَأخَذَهُمُ العَذابُ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ . (أتُتْرَكُونَ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ إنْكارًا لِأنْ يُتْرَكُوا مُخَلَّدِينَ في نَعِيمِهِمْ لا يَزُولُونَ عَنْهُ، وأنْ يَكُونَ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ في تَخْلِيَةِ اللَّهِ إيّاهم وما يَتَنَعَّمُونَ فِيهِ مِنَ الجَنّاتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ الأمْنِ والدَّعَةِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَخْوِيفٌ لَهم، بِمَعْنى: أتَطْمَعُونَ إنْ كَفَرْتُمْ في النِّعَمِ عَلى مَعاصِيكم ؟ وقِيلَ: أتُتْرَكُونَ ؟ اسْتِفْهامٌ في مَعْنى التَّوْبِيخِ، أيْ أيَتْرُكُكم رَبُّكم ؟ (فِيما هاهُنا) أيْ فِيما أنْتُمْ عَلَيْهِ في الدُّنْيا (آمِنِينَ) لا تَخافُونَ بَطْشَهُ. انْتَهى. وما مَوْصُولَةٌ، وهاهُنا إشارَةٌ إلى المَكانِ الحاضِرِ القَرِيبِ، أيْ في الَّذِي اسْتَقَرَّ في مَكانِكم هَذا مِنَ النَّعِيمِ. وفي جَنّاتٍ: بَدَلٌ مِن ما هاهُنا، أجْمَلَ ثُمَّ فَصَّلَ، كَما أجْمَلَ هُودٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في قَوْلِهِ: ﴿أمَدَّكم بِما تَعْلَمُونَ﴾ [الشعراء: ١٣٢] ثُمَّ فَصَّلَ في قَوْلِهِ: ﴿أمَدَّكم بِأنْعامٍ وبَنِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٣] وكانَتْ أرْضُ ثَمُودَ كَثِيرَةَ البَساتِينِ والماءِ والنَّخْلِ. والهَضِيمُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إذا أيْنَعَ وبَلَغَ. وقالَ الزُّهْرِيُّ: الرَّخْصُ اللَّطِيفُ أوَّلَ ما يَخْرُجُ. وقالَ الزَّجّاجُ: الَّذِي رُطَبُهُ بِغَيْرِ نَوًى. وقالَ الضَّحّاكُ: المُنَضَّدُ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ. وقِيلَ: الرُّطَبُ المُذَنَّبُ. وقِيلَ: النَّضِيجُ مِنَ الرُّطَبِ. وقِيلَ: الرُّطَبُ المُتَفَتِّتُ. وقِيلَ: الحُمّاضُ الطَّلْعُ، ويُقارِبُ قِشْرَتَهُ مِنَ الجانِبَيْنِ مِن قَوْلِهِمْ: خَصْرٌ هَضِيمٌ. وقِيلَ: العِذْقُ المُتَدَلِّي. وقِيلَ: الجُمّارُ الرِّخْوُ. وجاءَ قَوْلُهُ: (ونَخْلٍ) بَعْدَ قَوْلِهِ: (في جَنّاتٍ) وإنْ كانَتِ الجَنَّةُ تَتَناوَلُ النَّخْلَ أوَّلَ شَيْءٍ، ويُطْلِقُونَ الجَنَّةَ، ولا يُرِيدُونَ بِها إلّا النَّخْلَ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎كَأنَّ عَيْنَيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ مِنَ النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقا أرادَ هُنا النَّخْلَ. والسُّحُقُ جَمْعُ سَحُوقٍ، وهي الَّتِي ذَهَبَتْ بِجَرْدَتِها صَعَدًا فَطالَتْ. فَأفْرَدَ (ونَخْلٍ) بِالذِّكْرِ بَعْدَ انْدِراجِهِ في لَفْظِ جَنّاتٍ، تَنْبِيهًا عَلى انْفِرادِهِ عَنْ شَجَرِ الجَنَّةِ بِفَضْلِهِ. أوْ أرادَ ”بِجَنّاتٍ“ غَيْرَ النَّخْلِ مِنَ الشَّجَرِ، لِأنَّ اللَّفْظَ صالِحٌ لِهَذِهِ الإرادَةِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ ”ونَخْلٍ“، ذَكَّرَهم - تَعالى - في أنْ وهَبَ لَهم أجْوَدَ النَّخْلِ وأيْنَعَهُ، لِأنَّ الإناثَ ولّادَةٌ التَّمْرَ، وطَلْعُها فِيهِ لُطْفٌ، والهَضِيمُ: اللَّطِيفُ الضّامِرُ، والبَرْنِيُّ ألْطَفُ مِن طَلْعِ اللَّوْنِ. ويَحْتَمِلُ اللُّطْفَ في الطَّلْعِ أنْ يَكُونَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الحِمْلِ، فَإنَّهُ مَتى كَثُرَ لَطُفَ فَكانَ هَضِيمًا، وإذا (p-٣٥)قَلَّ الحِمْلُ جاءَ التَّمْرُ فاخِرًا. ولَمّا كانَتْ مَنابِتُ النَّخْلِ جَيِّدَةً، وكانَ السَّقْيُ لَها كَثِيرًا، وسَلِمَتْ مِنَ العاهَةِ، كَبِرُ الحِمْلِ بِلُطْفِ الحَبِّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وتَنْحِتُونَ﴾ بِالتّاءِ لِلْخِطابِ وكَسْرِ الحاءِ؛ وأبُو حَيْوَةَ، وعِيسى، والحَسَنُ: بِفَتْحِها، وتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وعَنْهُ بِألِفٍ بَعْدِ الحاءِ إشْباعًا. وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أبِيهِ: بِالياءِ مِن أسْفَلَ وكَسْرِ الحاءِ. وعَنْ أبِي حَيْوَةَ، والحَسَنِ أيْضًا: بِالياءِ مِن أسْفَلَ وفَتْحِ الحاءِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وابْنُ عَبّاسٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، والكُوفِيُّونَ، وابْنُ عامِرٍ: فارِهِينَ بِألِفٍ، وباقِي السَّبْعَةِ: بِغَيْرِ ألِفٍ؛ ومُجاهِدٌ: مُتَفَرِّهِينَ، اسْمُ فاعِلٍ مِن تَفَرَّهَ، والمَعْنى: نَشِطِينَ مُهْتَمِّينَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: شَرِهِينَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أقْوِياءُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، وأبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: أشِرِينَ بَطِرِينَ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدّادٍ: بِمَعْنى مُسْتَفْرِهِينَ، أيْ مُبالِغِينَ في اسْتِجادَةِ المَغاراتِ لِيَحْفَظُوا أمْوالَهم فِيها. وقالَ قَتادَةُ: آمِنِينَ. وقالَ الكَلْبِيُّ: مُتَجَبِّرِينَ. وقالَ خُصَيْفٌ: مُعْجَبِينَ. وقالَ عِكْرِمَةُ: ناعِمِينَ. وقالَ الضَّحّاكُ: كَيِّسِينَ. وقالَ أبُو صالِحٍ: حاذِقِينَ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: قادِرِينَ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مَرِحِينَ. وظاهِرُ هَذِهِ الآياتِ أنَّ الغالِبَ عَلى قَوْمِ هُودٍ: اللَّذّاتُ الخَيالِيَّةُ مِن طَلَبِ الِاسْتِعْلاءِ والبَقاءِ والتَّفَرُّدِ والتَّجَبُّرِ، وعَلى قَوْمِ صالِحٍ: اللَّذّاتُ الحِسِّيَّةُ مِنَ المَأْكُولِ والمَشْرُوبُ والمَساكِنِ الطَّيِّبَةِ الحَصِينَةِ. ﴿ولا تُطِيعُوا﴾ خِطابُ الجُمْهُورِ قَوْمِهِ. والمُسْرِفُونَ: هم كُبَراؤُهم وأعْلامُهم في الكُفْرِ والإضْلالِ، وكانُوا تِسْعَةَ رَهْطٍ. ﴿يُفْسِدُونَ في الأرْضِ﴾ أيْ أرْضِ ثَمُودَ. وقِيلَ: في الأرْضِ كُلِّها، لِأنَّ بِمَعاصِيهِمُ امْتِناعَ الغَيْثِ. ولَمّا كانُوا ”يُفْسِدُونَ“ دَلالَتُهُ دَلالَةُ المُطْلَقِ، أتى بِقَوْلِهِ: ﴿ولا يُصْلِحُونَ﴾ فَنَفى عَنْهُمُ الصَّلاحَ، وهو نَفْيٌ لِمُطْلَقِ الصَّلاحِ، فَيَلْزَمُ مِنهُ نَفْيُ الصَّلاحِ كائِنًا ما كانَ، فَلا يَحْصُلُ مِنهم صَلاحٌ ألْبَتَّةَ. والمُسَحَّرُ: الَّذِي سُحِرَ كَثِيرًا حَتّى غُلِبَ عَلى عَقْلِهِ. وقِيلَ: مِنَ السَّحْرِ، وهو الرِّئَةُ، أيْ أنْتَ بَشَرٌ لا تَصْلُحُ لِلرِّسالَةِ. ويُضْعِفُ هَذا القَوْلَ قَوْلُهم بَعْدُ: ﴿ما أنْتَ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ إذْ تَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ تَوْكِيدًا لِما قَبْلَها، والأصْلُ التَّأْسِيسُ. ومَثَّلْنا: أيْ في الأكْلِ والشُّرْبِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن صِفاتِ البَشَرِ، فَلا اخْتِصاصَ لَكَ بِالرِّسالَةِ. ﴿فَأْتِ بِآيَةٍ﴾ أيْ بِعَلامَةٍ عَلى صِحَّةِ دَعْواكَ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: قالَ آتِي بِها، قالُوا: ما هي ؟ (قالَ هَذِهِ ناقَةُ. . .) رُوِيَ أنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ ناقَةً عُشَراءَ تَخْرُجُ مِن هَذِهِ الصَّخْرَةِ تَلِدُ سَقْبًا. فَقَعَدَ صالِحٌ يَتَفَكَّرُ، فَقالَ لَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وسَلْ رَبَّكَ النّاقَةَ، فَفَعَلَ؛ فَخَرَجَتِ النّاقَةُ وبَرَكَتْ بَيْنَ أيْدِيهِمْ، ونُتِجَتْ سَقْبًا مِثْلَها في العِظَمِ. وتَقَدَّمَ في الأعْرافِ طَرَفٌ مِن قِصَّةِ ثَمُودَ والنّاقَةِ، والشِّرْبُ: النَّصِيبُ المَشْرُوبُ مِنَ الماءِ نَحْوُ السَّقْيِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: شُرْبٌ، بِضَمِّ الشِّينِ فِيهِما، وظاهِرُ هَذا العَذابِ أنَّهُ في الدُّنْيا، وكَذا وقَعَ وصْفُهُ بِالعِظَمِ لِحُلُولِ العَذابِ فِيهِ، ووَصْفُهُ بِهِ أبْلَغُ مِن وصْفِ العَذابِ بِهِ، لِأنَّ الوَقْتَ إذا عَظُمَ بِسَبَبِ العَذابِ، كانَ مَوْقِعُ العَذابِ مِنَ العِظَمِ أشَدَّ. ونُسِبَ العَقْرُ إلى جَمِيعِهِمْ، لِكَوْنِهِمْ راضِينَ بِذَلِكَ، حَتّى رُوِيَ أنَّهُمُ اسْتَرْضَوُا المَرْأةَ في خِدْرِها والصِّبْيانَ، فَرَضُوا جَمِيعًا. ﴿فَأصْبَحُوا نادِمِينَ﴾ لا نَدَمَ تَوْبَةٍ، بَلْ نَدَمَ خَوْفٍ أنْ يَحِلَّ بِهِمُ العَذابُ عاجِلًا، وذَلِكَ عِنْدَ مُعايَنَةِ العَذابِ في غَيْرِ وقْتِ التَّوْبَةِ. أصْبَحُوا وقَدْ تَغَيَّرَتْ ألْوانُهم حَسْبَما كانَ أخْبَرَهم بِهِ صالِحٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وكانَ العَذابُ صَيْحَةً خَمَدَتْ لَها أبْدانُهم، وانْشَقَّتْ قُلُوبُهم، وماتُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وصُبَّ عَلَيْهِمْ حِجارَةٌ خِلالَ ذَلِكَ. وقِيلَ: كانَتْ نَدامَتُهم عَلى تَرْكِ عَقْرِ الوَلَدِ، وهو قَوْلٌ بَعِيدٌ. و”أل“ في: ﴿فَأخَذَهُمُ العَذابُ﴾ لِلْعَهْدِ في العَذابِ السّابِقِ، عَذابُ ذَلِكَ اليَوْمِ العَظِيمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب