الباحث القرآني

أيْ: وعْظُكَ وعَدَمُهُ سَواءٌ عِنْدَنا لا نُبالِي بِشَيْءٍ مِنهُ ولا نَلْتَفِتُ إلى ما تَقُولُهُ. وقَدْ رَوى العَبّاسُ عَنْ أبِي عَمْرٍو، ورَوى بِشْرٌ عَنِ الكِسائِيِّ " أوَعَظْتَ " بِإدْغامِ الظّاءِ في التّاءِ وهو بَعِيدٌ، لِأنَّ حَرْفَ الظّاءِ حَرْفُ إطْباقٍ إنَّما يُدْغَمُ فِيما قَرُبَ مِنهُ جِدًّا. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عاصِمٍ، والأعْمَشِ وابْنِ مُحَيْصِنٍ. وقَرَأ الباقُونَ بِإظْهارِ الظّاءِ. ﴿إنْ هَذا إلّا خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ أيْ: ما هَذا الَّذِي جِئْتَنا بِهِ ودَعَوْتَنا إلَيْهِ مِنَ الدِّينِ إلّا خُلُقُ الأوَّلِينَ، أيْ: عادَتُهُمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها. وقِيلَ: المَعْنى: ما هَذا الَّذِي جِئْتَنا بِهِ ودَعَوْتَنا إلَيْهِ مِنَ الدِّينِ إلّا خُلُقُ الأوَّلِينَ وعادَتُهم، وهَذا بِناءٌ عَلى ما قالَهُ الفَرّاءُ وغَيْرُهُ: إنَّ مَعْنى ﴿خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ عادَةُ الأوَّلِينَ. قالَ النَّحّاسُ: خُلُقُ الأوَّلِينَ عِنْدَ الفَرّاءُ بِمَعْنى: عادَةُ الأوَّلِينَ. وحَكى لَنا مُحَمَّدُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ قالَ ﴿خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ مَذْهَبُهم وما جَرى عَلَيْهِ أمْرُهم، والقَوْلانِ مُتَقارِبانِ. قالَ: وحَكى لَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ أنَّ مَعْنى ﴿خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ تَكْذِيبُهم. قالَ مُقاتِلٌ: قالُوا ما هَذا الَّذِي تَدْعُونا إلَيْهِ إلّا كَذِبُ الأوَّلِينَ. قالَ الواحِدِيُّ: وهو قَوْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ ومُجاهِدٌ. قالَ: والخُلُقُ والِاخْتِلاقُ الكَذِبُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وتَخْلُقُونَ إفْكًا﴾ [العنكبوت: ١٧] قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ " خَلْقُ الأوَّلِينَ " بِفَتْحِ الخاءِ وسُكُونِ اللّامِ. وقَرَأ الباقُونَ بِضَمِّ الخاءِ واللّامِ. قالَ الهَرَوِيُّ: مَعْناهُ عَلى القِراءَةِ الأُولى: اخْتِلاقُهم وكَذِبُهم، وعَلى القِراءَةِ الثّانِيَةِ: عادَتُهم، وهَذا التَّفْصِيلُ لا بُدَّ مِنهُ. قالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: الخُلُقُ الدِّينُ، والخُلُقُ الطَّبْعُ، والخُلُقُ المُرُوءَةُ. وقَرَأ أبُو قِلابَةَ بِضَمِّ الخاءِ، وسُكُونِ اللّامِ، وهي تَخْفِيفٌ لِقِراءَةِ الضَّمِّ لَهُما والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالآيَةِ هو قَوْلُ مَن قالَ: ما هَذا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ إلّا عادَةُ الأوَّلِينَ وفِعْلُهم. ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهم: ﴿وما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ أيْ: عَلى ما نَفْعَلُ مِنَ البَطْشِ ونَحْوِهِ مِمّا نَحْنُ عَلَيْهِ الآنَ. ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأهْلَكْناهُمْ﴾ أيْ: بِالرِّيحِ كَما صَرَّحَ القُرْآنُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ بِذَلِكَ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا قَرِيبًا في هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ لَمّا فَرَغَ - سُبْحانَهُ - مِن ذِكْرِ قِصَّةِ هُودٍ وقَوْمِهِ ذَكَرَ قِصَّةَ صالِحٍ وقَوْمِهِ، وكانُوا يَسْكُنُونَ الحِجْرَ، فَقالَ: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في قِصَّةِ هُودٍ المَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذِهِ القِصَّةِ. ﴿أتُتْرَكُونَ في ما هاهُنا آمِنِينَ﴾ الِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ أيْ: أتُتْرَكُونَ في هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أعْطاكُمُ اللَّهُ آمِنِينَ مِنَ المَوْتِ والعَذابِ باقِينَ في الدُّنْيا، ولَمّا أبْهَمَ النِّعَمَ في هَذا فَسَّرَها بِقَوْلِهِ: ﴿فِي جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿وزُرُوعٍ ونَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ﴾ والهَضِيمُ النَّضِيحُ الرَّخْصُ اللِّينُ اللَّطِيفُ، والطَّلْعُ ما يَطْلُعُ مِنَ الثَّمَرِ، وذَكَرَ النَّخْلَ مَعَ دُخُولِهِ تَحْتَ الجَنّاتِ لِفَضْلِهِ عَلى سائِرِ الأشْجارِ، وكَثِيرًا ما يَذْكُرُونَ الشَّيْءَ الواحِدَ بِلَفْظٍ يَعُمُّهُ وغَيْرَهَ كَما يَذْكُرُونَ النَّعَمَ ولا يَقْصِدُونَ إلّا الإبِلَ، وهَكَذا يَذْكُرُونَ الجَنَّةَ، ولا يُرِيدُونَ إلّا (p-١٠٦٤)النَّخْلَ. قالَ زُهَيْرٌ: ؎كَأنَّ عَيْنَيَّ في غَرَبِي مُقَتَّلَةً مِنَ النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا وسُحُقًا جَمْعُ سُحُوقٍ، ولا يُوصَفُ بِهِ إلّا النَّخْلُ. وقِيلَ: المُرادُ بِالجَنّاتِ غَيْرُ النَّخْلِ مِنَ الشَّجَرِ، والأوَّلُ أوْلى. وحَكى الماوَرْدِيُّ في مَعْنى هَضِيمٍ إثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا أحْسَنُها وأوْفَقُها لِلُّغَةِ ما ذَكَرْناهُ. ﴿وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا فارِهِينَ﴾ النَّحْتُ: النَّجْرُ والبَرْيُ، نَحَتَهُ يَنْحِتُهُ بِالكَسْرِ بَراهُ، والنِّحاتَةُ البِرايَةُ، وكانُوا يَنْحِتُونَ بُيُوتَهم مِنَ الجِبالِ لَمّا طالَتْ أعْمارُهم وتَهَدَّمَ بِناؤُهم مِنَ المَدَرِ. قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ ذَكْوانَ " فَرِهِينَ " بِغَيْرِ ألِفٍ، وقَرَأ الباقُونَ " فارِهِينَ " بِالألْفِ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: وهُما بِمَعْنًى واحِدٍ. والفَرَهُ: النَّشاطُ، وفَرَّقَ بَيْنَهُما أبُو عُبَيْدٍ وغَيْرُهُ فَقالُوا فارِهِينَ حاذِقِينَ بِنَحْتِها، وقِيلَ: مُتَجَبِّرِينَ، و" فَرِهِينَ " بَطِرِينَ أشِرِينَ، وبِهِ قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ. وقِيلَ: شَرِهِينَ، وقالَ الضَّحّاكُ: كَيِّسِيِنَ، وقالَ قَتادَةُ: مُعْجَبِينَ ناعِمِينَ آمِنِينَ، وبِهِ قالَ الحَسَنُ، وقِيلَ: فَرِحِينَ، قالَهُ الأخْفَشُ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أقْوِياءُ. ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ ولا تُطِيعُوا أمْرَ المُسْرِفِينَ﴾ أيِ: المُشْرِكِينَ، وقِيلَ: الَّذِينَ عَقَرُوا النّاقَةَ، ثُمَّ وصَفَ هَؤُلاءِ المُسْرِفِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ولا يُصْلِحُونَ﴾ أيْ: ذَلِكَ دَأْبُهم يَفْعَلُونَ الفَسادَ في الأرْضِ ولا يَصْدُرُ مِنهُمُ الصَّلاحُ البَتَّةَ. ﴿قالُوا إنَّما أنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ﴾ أيِ: الَّذِينَ أُصِيبُوا بِالسِّحْرِ قالَهُ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وقِيلَ: المُسَحَّرُ هو المُعَلَّلُ بِالطَّعامِ والشَّرابِ قالَهُ الكَلْبِيُّ وغَيْرُهُ، فَيَكُونُ المُسَحَّرُ الَّذِي لَهُ سَحْرٌ، وهو الرِّئَةُ، فَكَأنَّهم قالُوا إنَّما أنْتَ بَشَرٌ مِثْلُنا تَأْكُلُ وتَشْرَبُ. قالَ الفَرّاءُ: أيْ: إنَّكَ تَأْكُلُ الطَّعامَ والشَّرابَ وتُسَحَّرُ بِهِ، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ أوْ لَبِيَدٍ: ؎فَإنَّ تَسْألِينا فِيمَ نَحْنُ فَإنَّنا ∗∗∗ عَصافِيرُ مِن هَذِهِ الأنامِ المُسَحَّرِ وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ أيْضًا: ؎أرانا مَوْضِعَيْنِ لِحَتْمِ غَيْبٍ ∗∗∗ ونُسْحَرُ بِالطَّعامِ وبِالشَّرابِ قالَ المُؤَرِّجُ: المُسَحَّرُ المَخْلُوقُ بِلُغَةِ رَبِيعَةَ. ﴿ما أنْتَ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ في قَوْلِكَ ودَعْواكَ. ﴿قالَ هَذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَها شِرْبٌ ولَكم شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ أيْ: لَها نَصِيبٌ مِنَ الماءِ ولَكم نَصِيبٌ مِنهُ مَعْلُومٌ لَيْسَ لَكم أنْ تَشْرَبُوا في اليَوْمِ الَّذِي هو نَصِيبُها، ولا هي تَشْرَبُ في اليَوْمِ الَّذِي هو نَصِيبُكم. قالَ الفَرّاءُ: الشِّرْبُ الحَظُّ مِنَ الماءِ. قالَ النَّحّاسُ: فَأمّا المَصْدَرُ، فَيُقالُ: فِيهِ شَرِبَ شُرْبًا وأكْثَرُهُمُ المَضْمُومُ، والشَّرْبُ بِفَتْحِ الشِّينِ جَمْعُ شارِبٍ، والمُرادُ هُنا الشِّرْبُ بِالكَسْرِ، وبِهِ قَرَأ الجُمْهُورُ فِيهِما، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ بِالضَّمِّ فِيهِما. ﴿ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكم عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أيْ: لا تَمَسُّوها بِعَقْرٍ، أوْ ضَرْبٍ، أوْ شَيْءٍ مِمّا يَسُوؤُها، وجَوابُ النَّهْيِ ( فَيَأْخُذَكم ) . ﴿فَعَقَرُوها فَأصْبَحُوا نادِمِينَ﴾ عَلى عَقْرِها، لَمّا عَرَفُوا أنَّ العَذابَ نازِلٌ بِهِمْ، وذَلِكَ أنَّهُ أنْظَرَهم ثَلاثًا، فَظَهَرَتْ عَلَيْهِمُ العَلامَةُ في كُلِّ يَوْمٍ ونَدِمُوا حَيْثُ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ، لِأنَّ ذَلِكَ لا يُجْدِي عِنْدَ مُعايَنَةِ العَذابِ وظُهُورِ آثارِهِ. ﴿فَأخَذَهُمُ العَذابُ﴾ الَّذِي وعَدَهم بِهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ في هَذِهِ السُّورَةِ، وتَقَدَّمَ أيْضًا تَفْسِيرُ قِصَّةِ صالِحٍ وقَوْمِهِ في غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿ونَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ﴾ قالَ: مُعْشِبٌ، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ قالَ: أيْنَعَ وبَلَغَ، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: أرْطَبَ واسْتَرْخى. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿فارِهِينَ﴾ قالَ: حاذِقِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ قالَ: ﴿فارِهِينَ﴾ أشِرِينَ. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: شَرِهِينَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والخَطِيبُ وابْنُ عَساكِرَ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما أنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ﴾ قالَ: مِنَ المَخْلُوقِينَ، وأنْشَدَ قَوْلَهُ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ: فَإنْ تَسْألِينا فِيمَ نَحْنُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . البَيْتَ وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿لَها شِرْبٌ﴾ قالَ: إذا كانَ يَوْمُها أصْدَرَ لَها لَبَنًا ما شاءُوا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب